إسلام ويب

بعد بدر كادت قلوب رجالات قريش تذوب كمداً وحنقاً على رسول الله والمؤمنين، فجهزوا جيشاً لملاقاة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم، فلما سمع النبي بذلك جمع أصحابه ليستشيرهم في أمر القوم، فرأى الشيوخ أن ينتظروا عدوهم في المدينة، ورأى الشباب والمتخلفون عن بدر الخروج لملاقاتهم خارج المدينة، فأجابهم النبي إلى ذلك، فخرج في ألف مقاتل ليواجه جيش أبي سفيان والذي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، والتقوا عند جبل أحد الذي عرفت المعركة باسمه.

تابع غزوة أحد

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فلنقض ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى غزوة أحد، وقد سبق أن عرفنا عوامل هذه الغزوة القاسية الشديدة، وحقاً إنها غزوة قاسية شديدة، ويكفي من قساوتها أن يستشهد فيها حمزة عم رسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم من ذلك أن تكسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشج وجهه، ويصاب في أنفه، وكلها آلام شديدة، ولهذا كانت الغزوة غزوة قاسية شديدة.

وعرفنا عوامل هذه الغزوة وهي -أولاً-: أن قريشاً لما أصيبت بهزيمة مُرّة في غزوة بدر من السنة الثانية للهجرة، وبعد تلك النكبة أو المصيبة تهيأت لأن تنتقم وتثأر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقد طلب أبو سفيان -وكان رئيس قريش- من أهل العير الذين نجت عيرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا تلك الأموال لتغزى بها المدينة النبوية، وكان هذا من أبرز العوامل التي اقتضت غزوة أحد.

وثاني العوامل: أن المؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين لم يحضروا غزوة بدر ولا شهدوها ولا فازوا بما فيها، تمنوا على الله وسألوه أن يُوجد لهم غزاة أخرى يفرغون فيها ما في نفوسهم، ويقاتلون فيها في سبيل الله. هذان العاملان هما الباعثان على غزوة أحد.

وفي شوال من السنة الثالثة من الهجرة المباركة خرجت قريش برجالها ونسائها وأحابيشها، والأحابيش: هم الذين تعاهدوا عند جبل على أن يقاتلوا كل من يقاتلهم، فيقال للرجل منهم حبيش، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروج قريش، وأنها عازمة على قتاله وأصحابه من المؤمنين، فاستشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في هل من اللائق أن نخرج إلى قريش خارج المدينة ونقاتلها هناك، أم أن يبقوا في المدينه ويقاتلونهم من داخلها، من على السطوح والمنازل، واختار صلى الله عليه وسلم قتال قريش من داخل المدينة، لكن الذين رغبوا في أن يستردوا ما فاتهم من غزوة بدر، قالوا: لا. نقاتلهم خارج المدينة، كيف نسمح لهم بالدخول؟

وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم قصدهم ورغبتهم وما أرادوه، وكان لم يوح إليه شيء في هذا، وإنما اجتهاد منه فقط، وكان ذاك اليوم يوم جمعة، فدخل حجرته ولبس لأمته وخرج يرصف في الحديد، فما إن رآه أصحابه على تلك الحال حتى ندموا وتأسفوا، وقالوا: علنا ألزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وهو لا يريده! فتأسفوا وتحسروا وطلبوا منه الرجوع، لكنه صلى الله عليه وسلم واجههم بهذه الكلمات الخالدة وهي: ( ما ينبغي لنبي أن يضع لأمته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وقد دعوتكم إلى هذا فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا ). وهذا يدل على صدق عزم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه شأنه شأن الأنبياء، إذا أعلنوا الحرب لا يطفئونها حتى يحكم الله بينهم وبين أعدائهم.

واستخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وخرج في ألف مقاتل -كما سبق- وسلك بمن معه من المؤمنين على البدائع في حرة بني حارثة، ودليله في هذا أبو خيثمة أخو بني حارثة، ومروا بحائط لـمربع بن قيظي ، وكان منافقاً؛ فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين -أي حركة مشيهم- رفع حفنة من تراب، وقال: والله لو أعلم ألا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك!!. أعوذ بالله من هذا المنافق! متغيظ متألم كيف يتجاوز الرسول وأصحابه بستانه!!

فبدره سعد بن زيد بضربة شج بها رأسه، وابتدره أيضاً رجال ليقتلوه، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم: ( دعوه لا تقتلوه؛ فإنه أعمى القلب والبصر ) أي: لو كان قلبه سليماً بصيراً ما كان يكفر وينافق ويعلن عن كفره، فالذي يحلف أنه لو أمكنه أن يضرب وجه رسول الله بالتراب لضربه ليس بمؤمن أبداً، بل من شر الكفار وأخبثهم، وتجلت هنا الرحمة المحمدية، فعندما ابتدره رجال ليقتلوه -وحق لهم ذلك- قال لهم النبي ما قال، حتى لا يقال أن محمداً قتل من سبه أو توعده، فحلم وصبر صلى الله عليه وسلم. هذا ما سبق أن قرأناه ..

ما وقع من أحداث أثناء مسيره صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد

قال: [وساروا] مشوا [حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنهم عبد الله بن أبي بثلث الناس] بثلاثمائة رجل؛ إذ كانوا ألفاً، وأبو سفيان جاء بثلاثة آلاف [وكان لعنه الله] وكان عبد الله بن أبي رئيس المنافقين يتطلع للملك قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقد عزم الأوس والخزرج على أن يتوجوه بتاج الملك ويملكوه عليهم، ولكن ضاعت الفرصة عليه بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، ووقف الأنصار دون ذلك.

قال: كان [رأيه عدم الخروج، مثل رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم] كان رأي ابن أبي ألا يخرج أهل المدينة لقتال أبي سفيان ولكن يقاتلون من داخلها، ووافق رأيه رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم [فلذا قال هنا: أطاعهم وعصاني؟] أي: أطاع الأنصار والمهاجرين الذين أمروه أن يخرج إلى قتال أبي سفيان خارج المدينة وعصاه هو [ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟!] وهذه كلمة هذا المنافق، أو رئيس المنافقين؛ إذ قال: أطاعهم وعصاني! ثم قال: لا ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟! [وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ] أي مشى وراءهم، ليردهم أو ليعظهم ويذكرهم [يقول لهم: يا قوم! أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال] هذا عذرهم [فلما استعصوا وأبوا إلا الانصراف] من جيش الرسول إلى المدينة [قال لهم صلى الله عليه وسلم: ( أبعدكم الله -أعداء الله- فسيغني الله عنكم نبيه )] لما عزموا على الرجوع عائدين إلى المدينة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم داعياً عليهم: ( أبعدكم الله أعداء الله ) وصفهم بأنهم أعداء الله ( فسيغني الله عنكم نبيه ).

قال: [وفيهم نزل قول الله تعالى من سورة آل عمران] وهي السورة التي احتوت على غزوة أحد بكاملها [ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]] أي: في صدورهم. هذه نزلت في ابن أبي رئيس المنافقين، والثلاثمائة الذين عادوا معه إلى المدينة، وتركوا رسول الله ورجاله في طريقهم إلى المعركة.

قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167] قالها لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] عن أنفسكم وإخوانكم؛ يعني: إذا لم تقاتلوا في سبيل الله قاتلوا لتدفعوا العدو عنكم وعن إخوانكم، فرد عليه -كما سمعتم- ابن أبي ورجاله: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]، وما يكتمون هو أنهم يريدون هزيمة رسول الله والمؤمنين؛ لأنهم منافقون.

قال: [ولما هموا بالانصراف] عن معسكر الرسول عائدين إلى المدينة [قال بعض المسلمين: هيا نقاتلهم] لما شاهدوهم قد عزموا العودة إلى المدينة وترك الرسول ورجاله قال بعض المسلمين: هيا نقاتلهم! [وقال آخرون: ذروهم] اتركوهم [يعودوا إلى ديارهم، فنزل فيهم قول الله تعالى من سورة النساء: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]] هذه الآية من سورة النساء نزلت فيهم: فَمَا لَكُمْ [النساء:88] أيها المؤمنون! فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88]؛ إذ فئة قالت: هيا نقاتلهم، وأخرى قالت: اتركوهم يعودوا إلى ديارهم، واختلفوا فيهم، فأنزل تعالى قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] بذنوبهم وكفرهم ونفاقهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].

قال: [وهنا اضطرب المؤمنون] وحق لهم أن يضطربوا [وهمَّ بنو سلمة وبنو حارثة بالفشل، إلا أن الله ثبتهم فثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] بنو حارثة وبنو سلمة من الأوس والخزرج لما عاد من عاد من المنافقين همّوا بالفشل؛ لأن ثلث الجيش رجع، فكيف يقاتلون وقد جاءت قريش بأحابيشها ونسائها ورجالها؟! [وفيهم نزل قوله تعالى من سورة آل عمران: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]] إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122] أي: من بني سلمة وبني حارثة وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] ولهذا لم يتركهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] وفعلاً توكلوا وعادوا إلى السير في موكب النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله.

قال: [وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وكانوا سبعمائة رجل بينهم فارسان لا غير] ما معهم إلا فرسان [رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر] وهذا الآخر هو أبو بردة [ساروا حتى نزلوا بالشعب من أحد، وجعل ظهره بجبل أحد، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال )] أي: لا يقاتل أحد منكم أيها المؤمنون حتى آمره بالقتال. فلابد من النظام!

بين معسكر التوحيد والشرك

قال: [واستعرض الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جيشه] لما اصطفوا ووقفوا وجعلوا ظهورهم إلى الجبل جبل أحد، واستقبلوا المشركين بوجوههم استعرض صلى الله عليه وسلم جيشه- فرد عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت والبراء بن عازب ] ردهم إلى المدينة قال: أنتم عودوا؛ لأنهم كانوا صغار السن لا يستطيعون الصمود في القتال [في فتيان لم يبلغوا سن التكليف] كانوا لم يبلغوا بعد الخامسة عشرة من أعمارهم، فليسوا أهلاً لأن يقاتلوا ويثبتوا [وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج وقد بلغا من العمر الخامسة عشرة، وكانا قويين] في بدنهما [وتعبأت قريش، وذلك صبيحة يوم السبت، وكان جيش قريش ثلاثة آلاف مقاتل بينهم مائتا فارس] وما في عسكر المؤمنين إلا فارسان، رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر [فجعلوا خالد بن الوليد على ميمنة الخيل] خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان كافراً يومها ليس بمؤمن، وهو الملقب: بسيف الله في الأرض، كان يضرب به المثل، وعند أوروبا أيضاً، وإن كان في آخرهم جحدوا [و عكرمة بن أبي جهل على ميسرتها] كان التنظيم هكذا في ذلك الوقت: الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة.

وعكرمة أيضاً -رضي الله عنه- كان كافراً يومها، جاء ينتقم لأبيه، فـأبو جهل قتل في بدر، فدفع الحماس عكرمة -أيضاً- لينتقم، ولكن شاء الله أن يكون من أهل الجنة، وإلا كان يتغيظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تمكن منه لأكله.

وسبب إسلامه هو أنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة، ومعه اثنا عشر ألف مقاتل، اجتمعت قريش في المسجد، ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفه وقال: ( ما تظنون يا معشر قريش! أني فاعل بكم، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!! )، فـعكرمة ما استطاع أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يبقى معه، فهرب مع مجموعة إلى ساحل البحر، فوجد سفينة أوشكت على أن تقلع فركبها؛ ليهرب من الحجاز إلى الحبشة أو إلى الهند، فلما مشت السفينة جاءت أمواج بحرية واضطربت السفينة، فقال لهم ربانها أو ملاحها: ادعوا الله، وسلوه الله أن ينقذكم من الغرق!!

فقال عكرمة : من هذا هربنا والآن نُطالب به؟ والله لتردني حتى أؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن ما هربنا إلا من كلمة التوحيد، والآن في عرض البحر تقول: لا تدعوا إلا الله وحده!!. ورده إلى الميناء وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مطأطئاً رأسه، ما استطاع أن يفتح عينيه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأصبح الرسول أحب ما يملك بين يديه. هذا هو عكرمة رضي الله عنه الذي جاء في أحد منتقماً لأبيه.

قال: [وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم] ما أعطاهم إياه [حتى قام إليه أبو دجانة سماك ابن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: (أن تضرب به العدو حتى ينحني)، فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة شجاعاً يختال عند الحرب، وله عصابة حمراء، فلفها على رأسه ومشى يختال بين الصفوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رآه يتبختر في مشيته] ويختال [بين الصفوف: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن)] ليظهر قوته وأنه لا يبالي بالشجعان والأبطال في زهو وكبرياء. فتلك المشية لا يحبها الله، وهي عنده مكروهة، إلا في مثل هذا الموطن.

[هذا هو الموقف في معسكر التوحيد قبل الهجوم، أما معسكر الشرك فإن أبا سفيان بعد ترتيب الصفوف قام -يخاطب بني عبد الدار- فقال: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهتفوا به وتوعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع؟!

وهذا الذي أراده أبو سفيان بن حرب ] هيجهم من أجل أن يثير حفائظهم [وهو تحميسهم للقتال، واستعدادهم له وشدتهم فيه].

التحام الصفين

قال: [ولما التقى الجمعان وتقابل الرجال] المعسكران، جمع رسول الله، وجمع أبي سفيان [قامت هند امرأة أبي سفيان ] فالسلطان معه امرأته أيضاً، وهي أشد منه، رضي الله عنهما ويا ليتنا مثلهما [تحرض على القتال في نسوة معها يضربن بالدف خلف الرجال؛ تحريضاً لهم على القتال، وهذه بعض الأبيات التي كن ينشدنها للتحريض:

ويها بني عبد الدارويها حماة الأدبار

ضرباً بكل بتارنحن بنات طارق

إن تقبلوا نعانقونفرش النمارق

أو تدبروا نفارقفراق غير وامق] يغنين ويدففن، يشجعن رجالهم، وهن عربيات قرشيات.

عودة إلى معسكر التوحيد والإيمان

قال: [ونعود الآن إلى معسكر التوحيد والإيمان:

أخذ أبو دجانة السيف، ولف العصابة على رأسه -علامة الموت- ورمى بنفسه في المعركة وهو يقول:

أنا الذي عاهدني خليليونحن بالسفح لدى النخيل

ألا أقوم الدهر في الكيول] والكيول: هو آخر الصفوف.

[...........أضرب بسيف الله والرسول] كان ينشد رضي الله عنه: (أنا الذي عاهدني خليلي) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم. (ونحن بالسفح لدى النخيل): في المدينة (ألا أقوم الدهر في الكيول): لا أقف في آخر الصفوف أبداً، بل دائماً في أولها (أضرب بسيف الله والرسول).

[فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله] لا يواجه أحداً إلا قتله [ورأى أبو دجانة مقاتلاً من المشركين يخمش الناس خمشاً شديداً] يثير الحماسة في نفوسهم [فقصد له] واتجه نحوه [فلما حمل عليه السيف ولول، فإذا به امرأة هي هند ، فأكرم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب به امرأة] أليس السيف سيف رسول الله؟ فأكرمه أن يضرب به امرأة، وهي التي كانت تحمس الناس على القتال.

قال: [ودارت رحى المعركة، واستعرت نارها وتأجج لهبها، وكان حمزة فيها أسداً يهد الرجال هدّاً، وكان وراءه وحشي غلام جبير بن مطعم يترصده؛ إذ أوعز إليه سيده بأنه إذا قتل حمزة يعتقه، وكان وحشي بارعاً في الضرب بالرماح، ضربته لا تكاد تخطئ، وكانت هند موتورة بموت أبيها ببدر] لأن والدها مات في بدر [كلما مرت فيه تقول له: يا أبا دسمة ! استشف واشف، تحرضه على قتل حمزة رضي الله عنه، فقال وحشي : ما زلت أتبع حمزة وهو كالجمل الأورق إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فقال له حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور] ومقطعة البظور هي الخاتنة التي تختن البنات، والبظر هو: ما يقطع من فرج البنت [فضربه ضربة ما أخطأت رأسه فقتله] إلى جهنم [ثم هززت حربتي] هذا الآن وحشي يتكلم [حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته] والثنة ما بين السرة والعانة من الإنسان [حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغُلب فوقع، فأمهلته حتى مات فجئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى المعسكر، ولم تكن لي في شيء حاجة غيره] يعني كانت مهمته أن يقتل حمزة فقط، فلما مات أخذ حربته وعاد إلى المعسكر [وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى اللواء مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقتل مصعب ، فأعطاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتقدم علي باللواء، وهو يقول: أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة -وهو صاحب لواء المشركين- قائلاً: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال علي : نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه، ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه، فقيل له: أفلا أجهزت عليه؟ [قال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله] يعني ما استطاع أن ينظر إليه، وهي حيلة من المشرك، فلما وقع من الضربة كشف عن سوأته، حتى لا يجهز عليه علي ، فقالوا لـعلي : أفلا أجهزت عليه؟ قال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. فلا يحتاج إلى قتل.

قال: [والتقى -والمعركة دائرة- حنظلة بن أبي عامر بـأبي سفيان بن حرب ، فلما علاه حنظلة بالسيف رآه شداد بن الأوس فضربه -أي شداد الكافر- فقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم لتغسله الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه)، فسئلت امرأته فقالت: إنه كان في ليلة عرسه، فسمع الهاتف بالجهاد فخرج ولم يغتسل؛ فلذا غسلته الملائكة، وأنزل الله تعالى نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسموهم بالسيف حسماً حتى كشفوهم عن المعسكر، وكان الهزيمة لا شك فيها، حتى قال الزبير بن العوام رضي الله عنه، والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها وهن مشمرات هوارب] والخدم هو: الخلخال في الرجل.

قال: [وفي هذا يقول الله تعالى من سورة آل عمران: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:151-152]] إلى آخر الآيات.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 59 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net