إسلام ويب

أمر الله عز وجل من أراد من الصحابة أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم صدقة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الانشغال ويشق عليه أن ينفرد بكل من أراد أن يسر له بشيء، فشرع الله هذا الأمر، ولما شق ذلك على الصحابة أنزل الله عز وجل نسخ هذا الأمر رحمة بصحابة رسول الله رضوان الله عليهم وبالأمة من بعدهم.

ملخص لما جاء في النداء السابق

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. اللهم آمين.

أذكركم بمحتوى النداء الذي سمعناه أمس من موالانا عز وجل: إنه يحمل تربية ربانية إسلامية، وهي: أننا إذا كنا في مجلس علم كهذا وجاء من يرغب في العلم ويطلبه، وهو من مكان بعيد فإذا قال المربي: تفسحوا لأخيكم أو لإخوانكم؛ ليجلسوا معكم لطلب الحكمة والكتاب وجب أن نتفسح، وإذا قال المربي: ليقم فلان وفلان، وليجلس فلان وفلان؛ للحاجة إلى جلوسهما، ولعدمها من فلان وفلان وجب أن نطيع المربي، وأن نقوم، ويجلس من أراد المربي جلوسه؛ لأنه لا يأمر إلا بما هو في صالح الدعوة.

وهذا النداء هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [المجادلة:11]. والجزاء من الله: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. هذه هي التربية الربانية، وقد حرمها المؤمنون والمسلمون لما أعرضوا عن كتاب الله، وعن الاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله، واستبدلوا بذلك الأهواء والمقاهي والملاعب والأباطيل، فحرموا هذا النور، فهم في الظلام، إلا من شاء الله إنقاذه.

هذا هو النداء السابق.

قبل هذا النداء نداء آخر، فيه من الآداب الرفيعة والأخلاق السامية ما لا يوجد عند غيرنا، وهي: أنك إذا أردت أن تتناجى مع أخ لك فاذهب بعيداً، ولا تتناجى معه إذا كان أخوكم الثالث يسمع، ولا يدري ماذا تقولان فيما بينكما؛ إذ هذه الحال من شأنها أن توجد حزناً وهماً وكرباً في نفس هذا المؤمن، وكذلك هو ولي الله، ولا يرضى الله أن يؤذى وليه، وقد قال الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).

وهذه المناجاة يدفع إليها إبليس العدو؛ ليحزن الذين آمنوا، وقد قال تعالى في هذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10]. وهذا معناه المحافظة على المجتمع الإسلامي، ومراعاة حقوق الأخوة الإيمانية. وهذا معناه: أنه لا أذى بين المؤمنين، حتى في حال كهذه، فلا يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا خمسة دون السادس؛ لأنكم إن تحدثتم سراً بينكم وهو لا يدري ما تقولون فإن هذا يحزنه ويكربه ويؤلمه، ولا يجوز والله أن تؤذي مؤمناً، ولا أن تدخل عليه الحزن والأذى.

واليوم انتشر الأذى بين المؤمنين، وهم يصبونه على إخوانهم صباً، وانتشر السب والشتم والتعيير والتقبيح والطعن والنقد، بل وإراقة الدماء وكسر العظام، وليس هذا هو الإيمان، وليس هؤلاء هم المؤمنون،. فلنعد إلى الاجتماع على الكتاب والسنة في بيوت الرب بنسائنا وأطفالنا ورجالنا طول العام وعلى مدى الحياة؛ ليرحل الجهل وظلمته، ويحل العلم ونوره، ونعود إلى ما كنا عليه، لا فسق ولا فجور، ولا خيانة ولا خداع، ولا كذب ولا باطل.

وقد ضاع المسلمون من يوم أن حولهم العدو عن دراسة الكتاب والحكمة، وعن قراءة القرآن على الموتى، ومن يوم أن هجرنا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحنا ندرسها للبركة، ونكتفي بالمصنف الفلاني وما كتبه فلان. وهذه هي آلام المؤمنين التي ضيعتهم اليوم.

ونداءات الرحمن هذه تسعون نداء، وأقسم بالله لو دقت ساعة دعوتنا وإقبالنا على الله؛ لنعرف ونعلم ونكمل ونسعد لكان هذا الكتاب قد أخذ، وترجم في خلال أربع وعشرين ساعة، ووزع في العالم الإسلامي، واجتمع النساء والأطفال عليه، وعلى رأسهم المسئولون في المدينة والقرية؛ ليتعلم الكل كيف يعرف الله، ويعرف ما يحب وما يكره؛ ليمتثل الأمر ويجتنب النهي، ولكن مادامت الساعة لم تدق فنحن نصرخ من قبل ثلاثة أشهر أو أربعة ولم نحصل على شيء، ولم نسمع عالماً يدعو إلى قراءة هذا الكتاب، أو يرغب فيه، أو يحمل الناس عليه، فضلاً أن يأخذ أو يجمع أهل القرية في قريتهم ليتعلموا الهدى، وليسموا ويعلوا، ويطهروا ويكملوا. وتفسير هذه الظاهرة يا علماء النفس! أنه ما زال مكتوباً علينا البقاء على الخلاف والتناطح والأذى والحسد والبغضاء، ولا يسلم منا إلا من سلمه الله، وقليل ما هم، فأولئك هم السالمون الناجون.

بيان حكم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم صدقة قبلها ونسخ ذلك تخفيفاً

هذا هو [ النداء السابع والسبعون ] ومضمونه ومحتواه وما يدعو إليه ويحققه: هو [ في بيان حكم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديم صدقة قبلها، ونسخ ذلك تخفيفاً، و] في [ وجوب إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهيا نتغنى بالنداء السابع والسبعين، وليس بأغاني فريد الأطرش وأم كلثوم وفلان وفلانة، فهذه لا تجوز، وذاك لا بأس به، وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ( من لم يتغن بالقرآن فليس منا )، أي: من لم يحسن صوته بالقرآن فليس منا؛ لأن القرآن كلام الله الرحمن الرحيم، وهو يحمل الهدى والنور، فالتغني به وتكرار ذلك يورث حبه، ويساعد على فهمه والإقبال عليه.

قال: [ الآيتان (12 ، 13) من سورة المجادلة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:12-13] ] وإذا جلس أهل المسجد في الحي أو القرية وأهل البيت في البيت ربع ساعة أو نصف ساعة يتغنون بهاتين الآيتين فإنهم يحفظونهما، وإذا حفظتا أصبحتا نوراً في القلب، فإذا شرحتا لهم فهموهما، وعرفوا مراد الله منهما، وكانوا أهلاً لأن يعملوا بأمر الله، ولكننا حرمنا من هذا.

حث المسلمين على تطهير بيوتهم

(95%) من أهل البيت والسامعون يجتمعون على شاشة التلفاز والعاهرة ترقص وتغني، وهم يتضاحكون، والعياذ بالله، وهذا ليس بيت مسلم، فليس في بيت المسلم فيديو ولا شاشة تلفاز يعرضان الشيء المجرم، أو الكافر وهو يرفع يديه ويتبجح بالكلام، أو الممثل، والمرأة تنظر إليه، وكذلك البنات والأولاد، فهذا والله ليس بيت مسلم.

ولا تقولوا: يا شيخ! هذه مبالغة، وإياكم أن تفهموا أننا نكذب ونضلل الناس في مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي في قلبه هذا المرض يخرج من المسجد، فهذا ليس محط الكذب والتضليل، بل هذا محط النور المحمدي.

وهذه الصديقة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر حب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتلك والله حجرتها، وفيها رسول الله وأبوها وعمر رضي الله عنهما- دخل عليها رسول الله في ساعة حق لها، وإذا بخرقة من قماش لها منسوجة من صوف، فيها صورة إنسان، وكما تعرفون كانت النساء ينسجن بأيديهن، ويرسمن الصور، ولم يكن لهذه الصور ملامح ولا تقاطيع؛ لأنها في القماش، وسترت بها سهوة في الجدار وراء بعض أمتعتها، ولم يكن عندها صندوقاً ولا خزانة ولا دولاباً كما عندنا، ( فلما دخل الحجرة وشاهد الصورة غضب وتمعر وجهه، وظهر الغضب على وجهه، فإذا بها تقول: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟! فيقول: أزيلي عني قرامك يا عائشة ! ) . أي: أبعديه عني؛ ( فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ). وإذا رحلت الملائكة وجبريل وميكائيل من بيتك يا عبد الله المسلم! حل محلهم الشياطين، وإذا حلت الشياطين في البيت دعوا إلى إثارة الغرائز والشهوات والأطماع والتكالب على الدنيا، هذا الذي يدعون إليه، فيصبح راتبك والله لا يكفيك، فتأخذ الرشوة وتكذب وتسرق؛ لأنك بحاجة إلى توفير حاجاتك، وراتبك لا يكفيك؛ لأن الشيطان يزين لك أنواع الطعام والشراب، واللباس واللهو والباطل. وإذا حلت الشياطين محل الملائكة فلابد من أن تظهر رائحة العهر والكذب والإسراف، ويتحول البيت إلى بؤرة من بؤر الشياطين. وهذا واقع من 95% من المسلمين. ونحن نريد أن يسموا ويكملوا ويرتفعوا، وأن لا يظهر فيهم خيانة ولا خداع، ولا كذب ولا ربا، ولا زنا ولا فجور، ولن يتم هذا والشياطين هي التي تؤانسهم وتجالسهم وتضحك معهم. فطهروا بيوتكم أيها الفحول! ولا تقولوا: لا نستطيع أن نفعل هذا، أو أن هذا رجعية وتخلف، مع أنكم تعلمون ما ينشره ويبثه الصحن الهوائي، حتى أصبح أهل البيت ينزو بعضهم على بعض كالحيوانات، ويتعلمون ذلك مما تبثه هذه الصحون. واليهود يخططون ويرسمون، ونحن كالبهائم نجري وراءهم، والشياطين تقودنا؛ لأننا أعرضنا عن كتاب الله، والله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]. والذي يحشر أعمى لن يدخل الجنة والله، ولن يشم رائحتها، ولن يصل إليها وهو أعمى، بل يسقط في جهنم.

ونحن نبكي ونبكيكم؛ رجاء أن يعفو الله عنا وعنكم. فهيا نغير وضع حياتنا، فنحن لسنا يهوداً ولا نصارى، ولا بوذيين ولا مجوساً، ولا مشركين. بل نحن والحمد لله مؤمنون مسلمون، ونور الله بين أيدينا، فلا نضل ونعمى.

وألفت أنظار السامعين والسامعات إلى أن حكم تقديم الصدقة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] منسوخ؛ لأنه كان أيام حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ...)

إليكم شرحاً موجزاً لهذه الآية: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:12] فلنقل: لبيك اللهم لبيك! إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: إذا أراد أحدكم أن يناجي رسول الله -أي: يتحدث معه سراً في أمر يتعلق بحياته، ويخلو به- فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ [المجادلة:12] هذه النجوى صَدَقَةً [المجادلة:12]. كأن تضع ريالاً في يد مؤمن، أو درهماً في يد فقير، أو عرجوناً من التمر، أو شيئاً من الدقيق، ثم تدخل على الرسول وتتكلم معه بكلام خاص في بيته أو في حجرته إذا أردت هذا، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: عزمتم على المناجاة فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ [المجادلة:12]. لا أن تقدمه أمس وتناجيه غداً، بل الآن، بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]. وهذا لأن الله يريد أن يخفف عن رسوله، فقد كانوا لا يشعرون بهذا ولا يحسون به، بل كان كل واحد يريد أن يجلس مع الرسول، والرسول بشر، لا يستطيع أن يجلس مع كل واحد. هذه آداب الله، ولا إله إلا الله! فهو يريد أن يعلمهم، فقال لهم: إذا أردتم المناجاة الخاصة والمسارة بالكلام مع رسولنا، وهو بشر واحد لا يستطيع أن يناجي كل واحد من أهل المدينة والضيوف وغيرهم فمن أراد منكم أن يختص بالرسول وحده ويتكلم معه دقيقة أو عشراً فليتصدق أولاً، فلما نزلت هذه الآية وقفوا؛ لأنهم أولاً: في حالة حرب وفقر، فلا يستطيعون هذا، وثانياً: أن أكثر المناجاة كما نعرفها ليس لها ضرورة أو فائدة، بل المهم أن يجلس مع الرسول. وهذا فيه أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يستطيع مناجاة كل أحد، وزمان اليوم والليلة أربع وعشرين ساعة، فارحموا رسولكم صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت الآية وقفوا، وفهموا المراد، فقال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [المجادلة:12] ما تتصدقون به فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12].

ثم قال لهم تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ [المجادلة:13]، أي: خفتم من الصدقة؟ وتقرأ ( آشفقتم)؟ ثم قال تعالى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]. ويكفي. فإذا أردت أن تتكلم مع الرسول فتكلم، ولكن ارحم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا يستطيع أن يخلو بكل واحد. فنسخ عز وجل هذا الحكم.

وتقول الأخبار السليمة والصحيحة: أنه لم يحقق هذا ويعمل به قبل النسخ إلا علي رضي الله عنه؛ لأنه اضطر إلى أن يتكلم مع الرسول في مسألة سياسية لابد منها، فقد كان جنرال حرب، فدفع الصدقة ودخل على الرسول وتكلم، ووقف الآخرون، ثم مر يوم واحد أو يومان ونسخ الله هذا الحكم بعد أن عرفوا سببه، وهو إذا لم يكن لك أمر ضروري فلا تكلف الرسول هذا، وليس كلما أردت أن تقول للرسول كلمة تخلو به؛ لأنه لا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحمل هذا؛ إذ له أزواجه وسياسته وآدابه والوحي الذي يتلقاه، فلذلك لا يستطيع.

وينبغي أن يكون هذا مع المربين، مثل مربي القرية وشيخهم ومهذبهم ومعلمهم أيضاً، فهو لا يستطيع أن يخلو بكل واحد، ولا يتسع لهذا. والذي أدبنا هذه الآداب هو الله ربنا، فقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] لنفوسكم. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [المجادلة:12] ما تتصدقون به. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:12-13]؟ فقالوا: نعم، فقال: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13] وعرفتم أنكم تؤذون رسول الله بالمناجاة في كل لحظة وكل ساعة فالبديل: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13]. فإنكم تسمون وترتفعون وتسعدون وتكملون.

سبب الأمر بتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم

[ الشرح ] والآن هيا مع الشرح: [ اعلم أيها القارئ الكريم! ] وهذا القارئ الكريم هو كل من يعرف القراءة والكتابة، ويفهم إذا قرأ، فهذا يجب أن يكون عنده هذه النداءات. ولا تقل: إني أوجب ما لم يوجبه الله؛ لأني أقول: لا يجوز أن يناديك مولاك وأنت تؤمن بأنه ناداك ثم تعرض ولا تسمع؛ لأنه يناديك ليأمرك، وأنت لا تعرف ما يأمرك به، ويناديك لينهاك، وأنت لا تعرف ما ينهاك عنه، فأدباً لا يجوز الإعراض، وشرعاً الذي لا يلم بهذه النداءات فلن يعرف ثلاثة أرباع الشريعة، ولن يسمع بها؛ إذ هذه النداءات الإلهية التسعون ما تركت فريضة ولا واجباً، ولا أدباً ولا سياسة في الحرب أو في السلم، ولا اقتصاداً ولا غير ذلك إلا جاءت ونصت عليه. والمسلمون مشغولون بالسياسات الشيطانية الإبليسية، الخارجة عن نور الله وشرعه، ولهذا هم هابطون إلى الحضيض.

فعلى هذا القارئ الكريم أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي كان يحمل حكماً شرعياً، وهو أن من أراد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلو بالرسول صلى الله عليه وسلم ليناجيه سراً دون غيره ] من الناس [ وجب عليه أن يتصدق بصدقة على فقير، ثم يتفضل فيناجي الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها ] وهذا حكم الله [ إلا أنهم لظروف الحرب والاحتياج الشديد ما أقدموا على هذا المطلوب، كما شعروا أن هذا كان من باب تأديبهم وتربيتهم؛ إذ رغبة كل واحد ] منهم [ في مناجاة الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ تحقيقها أمر صعب، وأصعب منه ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم من تعب ومضايقة ] إذ الحرب والجهاد والدولة والقضاء والإفتاء وغير ذلك كلها مرتبطة به، ولن يستطيع القيام بكل هذا، ولولا الله لما قدر على شيء، فارحموه يا عباد الله!

حكم مناجاة الرسول في قبره

إياكم أن تفهموا أنه بإمكانكم الآن أن تناجوا الرسول، إلا إذا أرد أحد أن ينسلخ من دينه فإنه يفعل هذا، فالرسول قد انتهت وقت مناجاته، وليس هناك الآن إلا أن تطعه، وتسمع أمره ونهيه، وأن تتوسل إلى الله بحبه والإيمان به، وبفعل سنته ونصرة دينه وأوليائه. وأما أن تأتي إلى قبر الرسول وتقول: يا رسول الله! امرأتي بها كذا، وابني حصل له كذا، وأنا كذا فهذا باطل، وهو من الشرك. ولولا حماية الله له برجال الهيئة لرأيت العجب. وهنا الآن امرأة تشتكي لي وتقول: إنهم يأتون بالرسائل وبالأشياء ويرمونها في حجرة الرسول. وهؤلاء بهاليل. فهم يكتبون الكتب ويرمونها على شقوق الحجرة. والرسول قد بين لهم كل شيء، وما مات حتى بين كل شيء للأمة، ولم يترك شيئاً هي في حاجة إليه إلا بينه، وسلمان الفارسي يحلف بالله ويقول: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ). فأهل الطهر لابد وأن يتعلموا، وأما أهل النجاسات والقاذورات فيبولون ويتغوطون وهم قيام، ولا يمسحون حتى برازهم، وأولئك أنجاس الخلق، وأما أهل الإيمان أولياء الرحمن الذين لا تفارقهم الملائكة فإنهم لا يسمحون بقطرة البول، ولا بأدنى وسخ؛ لأنهم أطهار، والله يحب الطاهرين.

والرسول علمنا كيف ندخل المرحاض، وهو: أن نستعيذ بالله من الخبث والخبائث والرجس النجس، وهو الشيطان الرجيم، ثم نقدم رجلنا اليسرى لا اليمنى، ثم إذا جلسنا لا نرفع ثيابنا حتى نجلس على الكرسي، وإذا جلسنا وتبولنا وتغوطنا فإننا نستنجي بالماء، أو بما هو منجٍ ومطهر. وهذه الآداب لن نجدها في قانون في فرنسا ولا إيطاليا، فهم والله لا يعرفونها.

وعندما نعود إلى بيوت الله كهذه العودة ونتعلم الكتاب والحكمة فإننا نتخرج ربانيين؛ نساء وأطفالاً ورجالاً، ولن يكون هناك خبث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد، ولكن العدو غللنا وكبلنا، وقيدنا بأنواع من الشيطنة العجيبة، ومنعنا من دخول المساجد، وحرمنا من الاجتماع على الكتاب والسنة، ونحن مددنا أعناقنا إليه.

الطريق للعودة إلى الإيمان والعلم والمعرفة

رجال أوربا إذا دقت الساعة السادسة لم يبق عمل عندهم، بل تغلق المعامل والمصانع والمتاجر، ويذهبون بنسائهم وأطفالهم إلى المقاهي والملاهي، والمراقص والملاعب ودور السينما، ويسهرون إلى نصف الليل، والمسلمون أهل الكتاب والسنة هداة البشرية وقادة العالم وأولياء الله إذا دقت الساعة السادسة عليهم أن يذهبوا إلى بيوت الرب، وهي توجد في كل قرية وفي كل حي، ويحملون أطفالهم ونساءهم ويأتون بهم إلى المسجد، فتجلس النساء وراء الستارة، والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، والمربي أمام الكل، ويتغنون بالكتاب والسنة، ويتعلمون الحكمة والهدى ساعة ونصف أو ساعتين، فيعودون وقد امتلئوا بحب الله ورسوله، ونور الإيمان والعلم والمعرفة، وقلوبهم متعلقة بالله، فلا شره ولا طمع ولا إسراف ولا غير ذلك، بل همهم أن يحبهم الله ويحبوه، وهؤلاء هم المؤمنون. ولكن صرفنا العدو؛ لنعيش على البغضاء والعداوة، والسب والشتم، والخيانات والحروب والثورات؛ لنعيش جهلة كالبهائم، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الخير من الشر، ولا النافع من الضرر، ولا الصالح من الفاسد، وأكثرنا لا يعرف هذا. وهذه المعرفة تأتي من كتاب الله المنزل، وتفسير رسول الله المبين، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]. وعدونا أمريكا واليهود والنصارى والمجوس، فلا نبقى مذعنين لهم مطيعين، فنحن لسنا مسحورين، وهم لم يمنعونا بالعصا، فليس هناك قرية في العالم الإسلامي منع أهلها من أن يجتمعوا في بيت الله حتى أيام روسيا وتحت وظلمها.

قال: [ فلما كفوا عن طلب الخلوة بالرسول صلى الله عليه وسلم نسخ الله هذا الحكم، وأذن لهم في المناجاة عند الحاجة إليها، وبدون تقديم صدقة بين يدي المناجاة ].

الصدقة عند المناجاة لم يفعلها إلا علي بن أبي طالب ثم نسخت

قال: [ ولم يثبت أن أحداً من الصحابة قدم صدقة ثم ناجى إلا علي رضي الله عنه، إذ قال عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لقد كان لـعلي رضي الله عنه ثلاث ] خصال وميزات وأوسمة عالية، فهو يقول: ليتني حزت واحدة منها، وليس من هذه الثلاث أن ولاه الرسول بيت المال ينفق كما يشاء، فوالله ما كان هذا. وابن عمر يقول: [ لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حُمر النعم ] والآن لا توجد حُمر النعم، وإنما توجد بواخر التجارة، وحُمر النعم هي: الإبل الحمراء الممتازة غالية الثمن، ولم يكن هناك مال أغلى منها عندهم.

وهذه الخصال الثلاث هي: الأولى: [ تزويجه فاطمة ] رضي الله عنه وعنها، والثانية: [ وإعطاؤه الراية يوم خيبر ] ليقود الجيش الإسلامي. وخيبر على بعد مائة وخمسين كيلو من المدينة. وخلاصة هذه المعركة: أن خيبر كانت دار يهود، وكانت التجارة والفلاحة كلها بيد اليهود، وكان اليهود قد هاجروا من أرض القدس إلى المدينة؛ لأن نبأ بعثة محمد موجود في التوراة والإنجيل، وكانوا يقولون: لقد لاح في الآفاق تباشير ظهور النبي الخاتم، فسنهاجر إلى هناك حتى نؤمن به ونمشي وراءه، ونسترد أمجادنا ومملكة بني إسرائيل، كما أنهم تألموا من الاضطهاد الذي كان يصب عليهم من أعدائهم الصليبيين والنصارى، فهاجروا إلى الحجاز، ونزلوا في المدينة، فقد كانوا يعرفون أن مهاجر الرسول مدينة ذات سبخة، ولا ندخل الآن في هذه التفصيلات، بل الذي يهمنا: أنه لما غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة بعد حادثة الخندق كانت لهم حصون عجيبة، وقد حاول الرسول والمسلمون فتحها ولم يستطيعوا، وتأملوا وتألموا، وفي ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء بشرهم صلى الله عليه وسلم وقال: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ). وأعلن هذا البيان الرسمي في الليل بعد صلاة العشاء في المعسكر - عسكر المجاهدين- ونحن اليوم نسمي هؤلاء الذين يقتل بعضهم بعضاً، والذين يسفكون دماء بعضهم بعضاً مجاهدين، مع أنه لا توجد راية الجهاد ولا أهله، و( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا المقاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل أخيه ). فالجهاد من أجل أن نرفع راية لا إله إلا الله، ولكن اليوم لا توجد الأمة التي تريد أن ترفع راية الحق، ولنوجد هذه الأمة أولاً.

فبات أصحاب رسول الله كل يتمنى على الله أن يعطاها؛ إذ ما حدد الرسول من سيعطاها، وكل ما في الأمر أنه قال: ( رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ). وكان والله كل واحد منهم يود أن يكون هو، ولا تسأل عن عمر وأصحاب الهمم العالية، فإنهم لم يناموا، وباتوا يدوكون ليلتهم من يعطاها غداً، وهذا ليس من أجل أنه أعطي راية، وإنما من أجل الإعلان عن حب الله ورسوله له، وأنه يفتح الله على يديه، وطلع النهار وصلوا الصبح، وجلس الأمير صلى الله عليه وسلم وهم ينتظرون، قال عمر : كنت أرفع نفسي حتى يشاهدني، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أين ابن أبي طالب ؟ قالوا: مريض يا رسول الله! ). فقد كان مريضاً بالرمد في عيينيه. قال: ( جيئوا به ). فجاءوا به يقاد بين اثنين، وعلى وجهه خمار أسود، وقد كنا نستعمل هذا أيام الرمد، فالغطاء الأسود يقي من الشمس، فوقع بين يديه، فنفث في عينيه، فوالله ما مرض بهما حتى مات، وزال الرمد وتلك الحمرة والتآكل نهائياً؛ بسبب ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبول الرسول شفى الله تعالى به أم أيمن ، فقد قامت في الليل ظمأى تبحث عن الماء، ولم يكن في بيت الرسول كهرباء ولا غاز، فتلمست أم أيمن خادمة الرسول في الظلام، فوجدت قدحاً مملوءاً فشربته، وحمدت الله ونامت، ولما قام الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج البول من تحت سريره لم يجد البول، فسأل أم أيمن عن القدح الذي فيه البول، فقالت: شربته يا رسول الله! فقال: ( صحة يا أم أيمن ! ). ووالله ما مرضت ببطنها حتى ماتت. وليس هذا فقط، بل ما نفث أو بصق أو تنخم أو تمخط رسول الله بين رجاله إلا لم تقع النخامة أو البصاق على الأرض أبداً، بل كانوا يتلقونه بأيديهم، ويمسحون به أجسادهم، فتصبح أطيب الطيب وأذكاه. هذا رسول الله ومصطفاه.

فأعطى الراية علياً وقال: ( امض ولا تلتفت ). فلم يستطع أن يلتفت إلى الرسول، فتأخر إلى الوراء يمشي برجليه؛ امتثالاً لأمره، وسأل الرسول: ( علام أقاتلهم يا رسول الله؟! قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، أو يعطوا الجزية وهم صاغرون ). وهذا هو ما تمناه عبد الله بن عمر . هذه الثانية.

والثالثة: [ وآية النجوى ] وهي هذه الآية. وقد قلت لكم: ما طبقها إلا علي ، فهو الذي وضع في يد فقير صدقة ودخل على الرسول، ولم يمر إلا يوم واحد أو يومان ونسخها الله.

فهذه ثلاث خصال لـعلي ، وابن عمر على جلالته يقول: لو كانت لي واحدة فقط لكانت أحب إلي من حُمر النعم، وهي: أفضل المال وأزكاه وأطيبه، وهذه الثلاث هي: الأولى: زواجه بـفاطمة ، والثانية: راية خيبر، والثالثة: آية النجوى.

المعنى العام لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ...)

قال: [ وإليك شرح الآيتين اللتين حواهما هذا النداء الرحيم: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:12]! أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: إذا أردتم مناجاته فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]. أمرهم تعالى إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه وحده أن يقدم صدقة أولاً، ثم يطلب المناجاة، وكان هذا الأمر لصالح الفقراء أولاً، ثم للتخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل مؤمن يود [ويحب] أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب منه ويكلمه، والرسول بشر لا يتسع لكل أحد. فشرع الله تعالى هذه الصدقة، فأفهمهم أنه يريد التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما فهموا ذلك وعلموه وتحرجوا من بذل الصدقة وكان أكثرهم فقراء لا يجدون ما يتصدقون به، نسخ الله تعالى ذلك [الحكم] ولم تدم مدة الوجوب أكثر من ليالٍ، ونسخها [الله] تعالى.

وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم؛ حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم، وأطهر لنفوسكم؛ لأن النفس تزكو وتطهر بالعمل الصالح ].

وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [المجادلة:12] أي: ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى الله عليه وسلم، ولا حرج عليكم؛ وذلك لعدم وجود ما تتصدقون به. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [المجادلة:12] لكم، رَحِيمٌ [المجادلة:12] بكم ].

قال: [ وقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ [المجادلة:13]؟ أي: خفتم الفاقة والفقر على أنفسكم إن أنتم أُلزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة، وعليه فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13] برفع هذا الواجب ونسخه، والرجوع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المجادلة:13]، أي: بأدائها، مستوفاة الشروط والأركان والسنن والواجبات ] والآداب [ وفي بيوت الله مع جماعات المسلمين. وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13] الواجبة في أموالكم، وما فيه زكاة أنفسكم وطهارتها من سائر العبادات المزكية للنفس المطهرة للروح. هذا أولاً.

وثانياً: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13] صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، مادام الأمر للوجوب والنهي للتحريم. فيكفيكم أداء هذه الواجبات عن الصدقة بين يدي المناجاة التي نسخها الله تعالى تخفيفاً عليكم أيها المؤمنون! ورحمة بكم؛ لأنكم أولياؤه، وهو وليكم ومولاكم.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]. وعليه فراقبوه، فلا تفرطوا في طاعته وطاعة رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ فإنكم تفلحون بالفوز بالجنة والنجاة من النار ].

وقوع النسخ في الكتاب والسنة

قال: [ هذا وإليك أيها القارئ ] الكريم! [ فائدة علمية، وهي: أن تعلم أن النسخ ثابت في الكتاب والسنة؛ أما الكتاب: فقد قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] ] فدلت الآية على وجوب النسخ في القرآن الكريم [ وأما السنة: فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها! فإنها تذكركم الآخرة ) ] فقد كان نهاهم عن زيارة القبور، ثم نسخ ذلك، واليوم المؤمنون لا منهم ولا (1%) القبور لتذكر الآخرة.

حكم معرفة الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة للعالم والمذكر

قال: [ ومن هنا كان الواجب على العالم ] المربي [ المذكر أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة. وهذا علي رضي الله عنه قد أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد ] بأحوال الآخرة [ فجاءه، فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه ] وهذا حتى لا يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، بل لابد من علم وبصيرة. ووفي هذا دليل على أن الحكومة الرشيدة لها الحق أن تمنع بعض المتكلمين أو الواعظين إذا كانوا لا يحسنون، أو يثيرون المتاعب، أو يريدون الفتن، ولا تقل: ليس لها الحق أن تمنع، بل لها أن تمنع لصالح الأمة وصالح العبادة، وهذا علي منع؛ لأن الذي يعلم ليس عنده علم. واليوم الجماعات إذا منعتهم الحكومة شنعوا عليها بأنها فعلت وفعلت، ولا إله إلا الله! فليس هناك بصيرة ولا معرفة، وإلا فالأصل أنك إذا منعت وقيل لك: أنت لا تدرس، فاحمد الله عز وجل، وأثن عليه واشكره؛ لأنك ما منعت إلا لوجود مانع يمنعك، فلا تحزن وتبكي، ولا تثير المتاعب، ولا تأخذ في التحزيب والتجيمع ضد الحكومة بالباطل. فاعرفوا هذا، ولا يخدعنكم العدو ويقول لكم: هذا الشيخ عميل، أو هذا ذنب، ووالله لقد قال لهم، والمرضى والبهاليل لا يعرفون شيئاً. وهذا علي رضي الله تعالى عنه قال لمن كان يوعظ الناس: اخرج من مسجدنا ولا تذكر؛ لأنك لا تعرف الناسخ من المنسوخ، ولذلك لن تعرف الحلال من الحرام، وقد توقع الناس في الفتن، وإنما يقص أو يحدث أو يربي من كان أهلاً لذلك، فإذا سمحنا له في القرية وتكلم ثم ضبطنا عليه كذا خطأ وأصر فيمنع؛ حفاظاً على الأمة وعلى دينها وعقيدتها، ولا حرج.

قال: [ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله ] أي: مثل هذا الكلام أيضاً [ وقال للمذكر ] الواعظ الذي يتخبط: [ هلكتَ وأهلكتَ ] الناس معك، فاسكت أو اخرج.

قال: [ فلنذكر هذا، ولنحمد الله ولنصلي ونسلم على رسوله وآله وصحابته أجمعين ] ومن والاه [ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] وصلى الله على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 81 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net