إسلام ويب

افتتحت سورة الرعد بـ(المر) لتدل على أن هذا القرآن مكوّن من هذه الحروف، وفي هذا تحدٍ لكفار قريش وغيرهم بأن يأتوا بمثله، وهذا يدل على أن القرآن منزل من عند الله، وأنه هو الحق، ومع هذا فقد قرر القرآن أن أكثر الناس لا يؤمنون، فكانت الآية الثانية مقررة أن الله هو المدبر لكل شيء، وأنه فصّل الآيات لعل الناس يوقنون، فيرجعون تائبين إلى خالقهم.

تفسير قوله تعالى: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن اليوم مع سورة الرعد المكية، ذات الثلاث والأربعين آية، فهيا بنا مع هذه الآيات الخمس نستمع إليها مجودة مرتلة ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:1-4].

مذهب السلف في تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: المر [الرعد:1]، علمنا مما سبق ونكرر القول؛ تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين: أن هذه الحروف المقطعة ابتدأت بالبقرة: الم [البقرة:1]، ثم آل عمران: الم [آل عمران:1]، ثم الأعراف: المص [الأعراف:1]، ثم يونس: الر [يونس:1]، ثم هود: الر [هود:1]، ثم يوسف: الر [يوسف:1]، ثم الرعد: المر [الرعد:1]، ثم إبراهيم: الر [إبراهيم:1]، ثم الحجر: الر [الحجر:1]، ثم: كهيعص [مريم:1]، طه [طه:1]، طس [النمل:1]، طسم [الشعراء:1]، حم [غافر:1].. عسق [الشورى:2]، ن [القلم:1]، ص [ص:1]، ق [ق:1]، هذه الحروف المقطعة الذي عليه أهل العلم من السلف والخلف: أننا لا نبحث عن تفسيرها، ولا نقول: مراد الله كذا وكذا، بل نقول: الله أعلم بمراده بها.

المر [الرعد:1]، الله أعلم بما أراد بهذه الحروف، نفوض أمر فهمها إلى الله. وهذا مذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.

أيضاً: يس [يس:1]، الله أعلم بمراده بها، وكذلك بقية الفواتح.

أسرار الحروف المقطعة في فواتح السور

ثم نضيف إلى هذه المعلومة: أن سرين في هذه الحروف:

السر الأول: لما تحدى الله عز وجل العرب بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الكريم فعجزوا أعلمهم أن هذا القرآن الكريم بلسانهم العربي، وأنه مركب من هذه الحروف التي يعرفونها ويتداولونها، ما هو بحروف أخرى، بل هذه الحروف المتداولة بين الناس هي التي تكوّن منها القرآن، فإن عجزتم فقولوا: آمنا بالله، أما أن تكذبوا وتنكروا وتردوا الحق بالباطل فهذا لا ينبغي.

ويدل عليه قوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] أي: مركب من هذه الحروف، وكذلك قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1]، حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [غافر:1-2].. تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة فعجزوا، وهم فصحاء، بلغاء فوق العادة، فبين لهم أن هذه السورة مكونة ومركبة من هذه الحروف المعتادة التي تنطقون بها في بيوتكم وأسواقكم. هذا السر الأول.

والسر الثاني: صدر أمر حكومي أصدره الحاكم العام في مكة أبو سفيان -رضي الله عنه إذ أسلم- بأنه لا يسمح لمواطن ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً أن يسمع القرآن، ومن ضبط يستمع إلى القرآن من رسول الله أو من المؤمنين يعذب. لماذا؟ قالوا: حفاظاً على معتقد الأمة؛ حتى لا تنقسم وتتشتت آراء ومذاهب، كما يفعل السياسيون اليوم.

إذاً: عزموا أن لا يسمعوا القرآن لكن صوت هذه الحروف أدهشهم، المر [الرعد:1]، لابد أن يصغي ويسمع، ولا يصبر طسم [الشعراء:1]، فما سمع بهذا الصوت من قبل، فيضطر إلى أن يصغي ويسمع، يقول الله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1].. ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2].

وتذكرون قول الله عز وجل من سورة فصلت: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، لا تسمعوا، وإذا رفع أبو بكر وعمر أصواتهما بالقرآن فصيحوا أنتم بالكلام الباطل؛ حتى ما يُسمع كلامهما، ولا يفهم.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، فواحد يغنّي، وواحد يصفّر، وآخر يرفع صوته وهكذا.. حتى لا يفهم ما يقرأ، حتى لا يتسرب النور إلى قلوب السامعين فيسلموا، ويدخلون في الإسلام.

إذاً: نعود فنقول: كيف نفسر هذه الحروف؟ نقول: الله أعلم بمراده بها، ونفوض أمرها إلى الله.

هل هناك أسرار؟

الجواب: نعم عثرنا على سرين:

الأول: أن هذه الحروف هي التي يتكون منها القرآن، فلم تكفرون به، وتكذبونه، فألفوا مثله، سورة فقط أو آمنوا.

السر الثاني: لما عزموا على أن لا يسمعوا تأتي هذه الحروف التي ما سمعوها بهذا النغم وهذا الصوت، فلابد وأن يصغي أحدهم ويسمع، فلما يصغي يدخل القرآن في قلبه.

هذا الذي تقوله عند كل هذه الحروف المقطعة من الم [البقرة:1] البقرة إلى ن وَالْقَلَمِ [القلم:1].

خطأ من قال بأن (يس) و (طه) من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

يبقى أن بعض أهل العلم يقولون: يس [يس:1] اسم للرسول صلى الله عليه وسلم، و طه [طه:1]، اسم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ فما قاله رسول الله ولا أصحابه، يس [يس:1]، كـ حم [غافر:1]، معروفان، فهذه ياء وسين، طه [طه:1]، كذلك الرسول ما اسمه طه، اسمه: محمد وأحمد، خمسة أسماء في الموطأ، وليس من أسمائه صلى الله عليه وسلم طه.

معنى قوله تعالى: ( تلك آيات الكتاب)

والآن قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1]، تلك التي تقدمت في سورة يوسف من آيات الكتاب: التوراة، والإنجيل، والزبور وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الرعد:1]، هذا القرآن هو الحق وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد:1]، هو لا غيره، ولا بأس عند أهل العلم أن تقول: (الواو) مزيدة، ويصبح الكلام: (تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك)، ولا حرج فالمعنيان صحيحان تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1] التي في سورة يوسف، وقصة يوسف عليه السلام موجودة في التوراة والإنجيل.

تقرير الآية لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

إذاً: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ [الرعد:1] يا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من ربك.

فالآية تقرر النبوة المحمدية: فمحمد رسول الله حقاً وصدقاً، ودليل رسالته هذا القرآن الذي أنزله الله عليه، والذي ينفي رسالته فيقول: محمد ليس برسول فهذا مجنون، لا عقل له، أحمق، خبيث، متمرد، يريد أن يغطي عن الناس الحق، وإلا كيف ينزل عليه هذا القرآن الكريم ويكون غير نبي ولا رسول؟! مستحيل.

هاتوا شخصاً في الملايين البشرية كلها يأتي بسورة فقط، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24].

معنى قوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، من أخبر بهذا الخبر؟

الجواب: الله؛ لأنه هو خالق الناس، وخالق قلوبهم، أعلم عباده المؤمنين أن يصمدوا ويثبتوا إذا لم يؤمن الناس بكتاب الله ورسوله؛ لأن سنة الله ماضية أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1].

وهل هو حق وصدق؟ إي نعم، نسبة المؤمنين إلى الكافرين (10%)، أو (5%) فقط أو أقل.

أسباب عدم إيمان أكثر الناس

لماذا أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]؟ لأن هناك عوامل تمنع من الإيمان، أبسطها: التقليد للآباء والأجداد والإخوان وأهل البلاد، فما يقبل شيئاً، عاش على هذا ويبقى عليه، وعندكم الآن في المسلمين بدع أصر عليها أصحابها وأبوا أن يتركوها لا لشيء إلا قولهم: لأننا وجدنا الناس على هذا.

ثانياً: الشهوات، والأطماع، والأغراض المادية تمنع من الإيمان؛ لأن من آمن بالله وكتابه ورسوله تغيرت حياته، فما أصبح يكذب، ولا يسرق، ولا يفجر، ولا يغش، ولا يحسد، ولا يبغض، ولا يؤذي ولا ولا.. وهؤلاء تعودوا على هذا فكيف يتركونه ؟ ما يستطيعون.

إذاً: يقولون: لا نؤمن، فهؤلاء أناس لهم دينا، أموال، مناصب، جاهات.. كذا، فيخافون إذا آمنوا أن يسلب ذلك منهم، ويصبحوا كعامة الناس، فلا يريدون أن ينزلوا أبداً عن مستوياتهم إلى مستويات العوام والضعاف، فيصرون على الكفر ولا يؤمنون، وصدق الله العظيم المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ [الرعد:1] يا محمد من ربك جل جلاله هو الحق، لا كما يقول الدجاجلة والمفترون من النصارى أو اليهود أو المشركون العرب وَلَكِنَّ [الرعد:1] لابد من هذا التعقيب أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، مع العلم أن ما أنزل إليك -والله- لهو الحق، ومع هذا اعلم أنت والمؤمنون أن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، وصدق الله العظيم.

هذه الآية نزلت في مكة وآمن من آمن، فهل أكثر الناس هم الذين آمنوا؟ لا، أبداً، أكثر الناس ما آمنوا إلى الآن.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ...)

قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].

معنى قوله تعالى: (رفع السموات)

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، من أنزل هذا الكتاب؟ الله. من بعث هذا الرسول؟ الله، والله هو الاسم الأعظم للرب سبحانه ( إن لله مائة اسم إلا اسماً واحداً) ، (إن لله تسعة وتسعين اسماً )، أخبر بهذا رسول الله، وأجمع عليه المسلمون، وهي في القرآن موزعة هنا وهناك، وأعظمها: (الله) الإله الحق الذي لا إله غيره ولا يستحق العبادة سواه اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2] فالسماوات مرفوعة.

من رفعها؟ أمي وأبي؟ بنو تميم؟ بريطانيا؟ روسيا؟ الصين؟ اليابان؟ من رفع السماء؟

إن لم تقل الله، فماذا ستقول؟ هاه لا أدري؟ ادرِ -إذاً- واعلم، ما دمنا بحثنا عمن رفعها وما وجدنا، وجاءنا من يقول: الذي رفعها اسمه: الله، نصدق، الآن يأتي الخبر من الصين أو من اليابان، فتؤمن به وتصدق، وأنت سمعت الخبر فقط.

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ [الرعد:2] وهي سبع سماوات؛ سماء فوق سماء فوق سماء فوق سماء.. ما بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة سنة للطائر الذي يطير، فلا إله إلا الله.

من رفع هذه السماوات السبع؟ أمهاتنا وآباؤنا؟ السحرة والدجالون؟ الأصنام والأحجار والمعبودات بدون حق؟ من يكون سوى الله؟

رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، وهنا نذكر: أن هذه السماوات السبع اخترقها رجل من بني آدم -والله العظيم- من السماء الدنيا إلى السماء السابعة، ودخل الجنة دار النعيم، ومشى فيها، وشاهد بعينيه قصورها وأنهارها وحورها، وانتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام، وناداه ربه وجهاً لوجه، وإن لم يره -لضعف قوة بصره- أن يا رسولنا، وفرض عليه الصلوات الخمس، ونزل بها صلى الله عليه وسلم، وذلكم ليلة الإسراء والمعراج، الإسراء من مكة إلى بيت القدس، والمعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.آمنا بالله!

اجتاز السماوات السبع، مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة وعاد وفراشه دافئ في مكة، قولوا: آمنا بالله، التمسته أم هانئ فوجدته دافئاً كأنه خرج الآن منه، فلا إله إلا الله.

معنى قوله تعالى: (بغير عمد ترونها)

قال: رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، والعمد: جمع عمود.

هل السماء مرفوعة كالسقف بالأعمدة؟

الجواب: لا، فأين الأعمدة التي رفعت سماء الدنيا ثم السماء التي فوقها وفوقها؟ لا بأس أن نقول: لابد من سنة لله في خلقه، أن تكون هذه السماوات متماسكة بنظام خاص وضعه الله عز وجل، سواء قلت نظام الجاذبية أو قل ما شئت فلابد من وجود سنة لله أمسكت هذه السماوات بعضها فوق بعض؛ لأنه قال: تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، أي: ليست مرئية لكم.

إذاً: هناك عوامل وأسباب أخرى أمسكت السماوات، ونظام الجاذبية الآن الناس يعرفونه.

معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)

قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، لما خلق السماوات السبع، وخلق الأرض وفرغ من الخلق استوى على العرش.

اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، كلمة: (الْعَرْشِ) تعني: سرير الملك، فهل تستطيع البشرية لو اجتمعت عقولها كلها أن يفهموا كيف هذا العرش؟

والله ما يقدرون، ولا يجوز لهم أن يفكروا فيه أبداً، والله يقول: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، والكرسي غير العرش، الكرسي موضع القدمين، فلو أخذنا السموات السبع وألصقنا سماء إلى سماء، والأرضين كذلك ووضعنا الكرسي والله لكان الكرسي أوسع فكيف بالعرش، كيف يكون؟

لا يسعنا إلا أن نقول: آمنا بالله، آمنا بالله.. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

مذهب السلف في إثبات صفة الاستواء لله

قال: ثم اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، هبط في هذا الباب هبوطاً شنيعاً أجيال وأفراد وجماعات، والذي يجب أن نعتقده، وأن نعيش ونموت عليه: أننا نؤمن بما أخبر تعالى فقط ولا نقول: كيف؟ لأننا لا نستطيع أن نعرف كيف؟

أخبر تعالى أنه استوى على عرشه استواء يليق بذاته، فما دمنا لا نعرف ذات الله، فكيف نعرف استواءه؟ كيف نفكر فيه أو نؤوله؟! لا يصح التأويل ولا التحريف ولا ولا.. وإنما يجب أن تقول: آمنت بالله، استوى على عرشه، يدير الملكوت كله، وهو الرب الكريم الحكيم، ولا نقول كيف، لأننا لا نستطيع ومستحيل أن نعرف ذات الله.

إذاً: لا يسعنا إلا أن نقول آمنا بالله، الرحمن استوى على عرشه، ولا نقول: استولى؛ حتى نبعد أنفسنا على الجلوس؛ نقول: استوى بمعنى: جلس، لكن نقول: استوى استواء يليق به، فلا تأويل ولا تحريف الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، تقول آمنت بالله، استوى على عرشه يدير ملكوته في السماء والأرض، فهذا خبره هو سبحانه.

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، عرش من؟ عرشه جل جلاله وعظم سلطانه. ما معنى العرش؟ سرير الملك.

تسخير الله للشمس والقمر

ثم قال تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الرعد:2] سخرهما وذللهما يجريان طول الدهر، لا تقف الشمس، ولا ترجع إلى الوراء، تسخير وتذليل الله، ولو تجتمع البشرية على أن تسخرها لا تستطيع.

معنى قوله تعالى: (كل يجري لأجل مسمى)

كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2] وهنا معنيان سليمان صحيحان لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2] أي: إلى قيام الساعة، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:1-2]، و إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، هذا الأجل المحدد.

وتحمل الآية: لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2] معنى آخر وهو: أن القمر يدور في فلكه في الشهر مرة، والشمس تدور في فلكها في العام مرة، الشمس تمشي ولا ينتهي فلكها إلا مرة واحدة في السنة؛ اثنا عشر شهراً، أما القمر ففي الشهر الواحد مرة.

إذاً: قوله: لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2] له معنيان صحيحان:

الأول: إلى أجل القيامة ونهاية الحياة، وحينئذ تنتهي الشمس وينتهي القمر، وهذا هو الأجل المسمى عند الله.

والثاني: لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2]، في فلكهما، فالشمس تدور في فلكها في العام مرة، ولهذا يطول النهار ويقصر، ويجيء البرد والحر.

وتشاهدون هذا الآن، المغرب يكون في الساعة السادسة إلا خمس دقائق أو إلا ربع ساعة، والظهر في الثانية عشرة وخمس دقائق؛ لأنها تمشي مشية ربانية لا يستطيع البشر كلهم أن يبدلوا أو يغيروا فيها، تمشي بانتظام؛ لتتمم الفوائد والمنافع المتوقفة على حرارة الشمس وضوئها ونور القمر.

هل هناك من يرفع يده ويقول: بنو فلان هم الذين فعلوا هذا؟

الجيش الفلاني هو الذي فعل هذا؟

السحرة الفلانيون؟ لا لا لا..

ماذا نقول؟ الله، وتهدأ النفس وتطيب، وها هو الله تعالى يخبر بنفسه فيقول: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ [الرعد:2] أي: كل واحد منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2].

معنى قوله تعالى: (يدبر الأمر)

ثم قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ [الرعد:2]، من يحيي ويميت؟ الله.

من يعطي ويمنع؟ من يعز ويذل؟ من يصح ويمرض؟ من يدبر هذا الكون؟ .. إنه الله الخالق، فلا حياة ولا موت، ولا عزة، ولا ذل، ولا عطاء، ولا منع، ولا ولا ولا.. إلا والله يدبره، يدبر أمر الكون كله، ولولا تدبيره لارتطمت الكائنات ببعضها البعض واخترقت، ولو لا تدبيره الشمس لكان فقط إذا نزلت احترق الكون كله.

من يدبر الأمر؟ سيدي عبد القادر ؟ مولاي إدريس ؟ مولاي فلان؟ مستحيل، إنه الله وحده، ولهذا لا إله إلا الله. أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله.

سيسأل سائل فيقول: يا شيخ! ما هذه العبادة التي هي حقه وحده؟ فالجواب: الدعاء، فلا تقل يا سيدي فلان أعطني أبداً، ولا تقل: يا كذا أنا كذا.. مالك إلا الله، هو الذي تتقرب إليه بالصدقة لعباده، تذبح الشاة لوجهه وتطعمها الفقراء المساكين، لا أن تقول: هذه لسيدي فلان، ولروح فلان وفلان، فلا يعبد إلا هو؛ لأنه هو الذي: يُدَبِّرُ الأَمْرَ.

معنى قوله تعالى: (يفصل الآيات)

ثم قال: يُفَصِّلُ الآيَاتِ [الرعد:2]، آيات القرآن كم آية؟ ستة آلاف ومئتان وأربعون آية.

من فصلها هذا التفصيل؟ إنه الله، بين العقائد، بين الحلال الحرام، بين الآداب، بين الأخلاق، بين القصص، وهذا التفصيل من يفصله سواه؟!

يُفَصِّلُ الآيَاتِ [الرعد:2] لماذا يا رب تفصلها لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2]، هذا هو السر، لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ [الرعد:2] بعد موتكم، تُوقِنُونَ [الرعد:2] أنكم ستقفون بين يدي ربكم، ويسألكم، ويحاسبكم، ويجزيكم.

وهذا تقرير لمبدأ الآخرة، والسورة مكية تعنى بالبعث الآخر، بالحياة الثانية يوم القيامة، يوم الحساب، يوم الجزاء.

يُفَصِّلُ الآيَاتِ [الرعد:2]، من أجل إعدادنا لنؤمن بلقاء ربنا لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ [الرعد:2]، تؤمنون.

وهل سنلقى ربنا يا عباد الله؟ إي والله عز وجل، لقاء كاملاً تاماً، فما منا أحد إلا وسيقف وحده بين يدي الله، والمؤمن بهذا اللقاء هو الذي لا يستطيع أن يفسق، أو يفجر، أو يظلم، أو يعتدي على أحد أبداً، فهو مؤمن أنه سيقف بين يدي الله، وسيسأله، ويستنطقه ثم يجزيه إما بخير أو شر، والقلب الذي ليس فيه الإيمان بلقاء الله شر القلوب، شر من قلوب الخنازير والقردة، والعياذ بالله، وهذا الذي قررناه سابقاً، وقلناه لكم وافهموا: الإيمان بالله رباً وإلهاً، الإيمان بالبعث الآخر والجزاء فيه، إذا فقدهما الإنسان أصبح شر الخليقة، والله إنه لشر الخلق، وأعظم من هذا ما نبهت إليه: أنه لا يوثق به، ولا يصدق، ولا يؤمن بكلامه ولا يعول عليه، والله لو جاع لأكل الحرام، لو نام إلى جنبك لذبحك، فليس عنده مانع يمنعه.

إذا فقد الإنسان عقله أو فقد الإيمان بالله ولقائه يصبح شر الخلق، وعرف هذا اليهود؛ لأنهم أهل الكتاب، ونشروا المذهب البلشفي الشيوعي، ولطفوه إلى الاشتراكي، ولطفوه لما انفضحوا إلى العلماني، أولاً: الشيوعية، ثم لما هزت الكون واضطربت الخليقة عرباً وعجماً قالوا: الاشتراكية دون الشيوعية، فلما انفضحت الاشتراكية وهبطت قالوا: العلم، العلم فقط، لا تقل لي: الله ولا محمد ولا الكتاب، فالعلم هو الذي يحقق الفضائل والكمالات للإنسان، ولا ندري بعد هذا ماذا يجيء، بعد ما يفضحون في العلم.

إذاً: يقول تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ [الرعد:2] ليعدكم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي ...)

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ [الرعد:3]، الأرض ممدودة، امش في صحاريها من هنا إلى الصين إلى العالم كله، ممدودة.

من مدها؟ أبوك أو أمك أم بنو فلان؟ إنه الله!

من قال: نحن الذين مددنا الأرض؟ لا أحد يقول هذه الكلمة.

إذاً: لا بد من ماد قد مدها، ما اسمه؟ إنه الله، رغم أنوف العلمانيين والشيوعيين والجاحدين!

إنه الله رغم أنوف الذين لا يستحون ويقولون: (لا إله والحياة مادة)!

هذا عمى وضلال، فقط قف يا هذا العبد، قف بين يدي أمك وانظر، لو كان هذا الخلق ليس بخلق العليم الحكيم، المدبر، الحكيم والله لخرج جيل من البشر كلهم عميان، لخرج جيل كلهم إناث، لخرج جيل كلهم شخص واحد، لا يبقى أب ولا أم.

من يفصل هذا التفصيل؟ إنه الله.

يقول الله: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، تقف البشرية كلها على صعيد واحد، فلا تجد اثنين لا تستطيع أن تفرق بينهما، هذا يدخل على امرأة هذا، وهذا يدخل على امرأة هذا، والله لا يوجد هذا، وهذا تدبير الله جل جلاله.

يريدون أن يغطوه فيقولون: (لا إله)؛ ليستمروا في الزنا والفجور والكذب والخيانة والخداع والكبر والنفاق، لا شيء والله سوى هذا، لا يريدون أن يسلموا قلوبهم ووجوههم لله حتى يستقيموا، بل يريدون أن يعيشوا كالبهائم.

آمنا بالله.. آمنا بالله ولقائه، فأدخلنا يا ربنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وصلى اللهم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الرعد (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net