إسلام ويب

من أحكام الطلاق التي شرعها الله عز وجل أن المرأة تتربص بنفسها ثلاثة قروء، فإن كان طلاقها رجعياً وراجعها الزوج خلال هذه المدة فيبقى بينهما حكم الزوجية ويستمر العقد، وإن لم يراجعها انفسخ عقده واحتاج لمراجعتها إلى عقد جديد، أما إذا طلقها في مدة الحمل فإن مدتها هي وضعها لحملها، فإن راجعها في مدة الحمل وإلا انفسخ عقده كما في السابق.

تابع تفسير قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة )، وها أنتم تشاهدونها، ( وغشيتهم الرحمة )، وهي مشاهدة، ( وحفتهم الملائكة ) وحقاً إنهم يحفون بهذه الحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله!

ولنذكر أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فالحمد لله .. الحمد لله!

وجوب الفيء أو الطلاق بعد تمام الأربعة أشهر

معشر المستمعين والمستمعات! بعد الآيات التي عرفنا بها ومنها حكم الإيلاء في الإسلام، وهو قول الله عز وجل: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]؛ علمنا أن من حلف ألا يجامع امرأته فإن جامعها وكفر عن يمينه فخير له، وإن أصر على يمينه الشهر والشهرين والثلاثة والأربعة، فعندما يكتمل الشهر الرابع إما أن يرجع إلى زوجته يجامعها ويكفر عن يمينه، وإما تطلق عن طريق القاضي رغم أنفه.

واسمع النص: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226] أي: يحلفون ألا يطئوهن، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] والمرأة صابرة، فإن تمت الأربعة فإما أن يفيء إليها ويرجع أو يطلق، لا تبقى أمة الله محرومة معذبة، فمن رحمها؟ الله مولاها ومولى المؤمنين والمؤمنات.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] أي: رجعوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].

وتذكرون أن عمر رضي الله عنه سأل حفصة : ما هي المدة التي يمكن للمرأة أن تصبر عن زوجها؟ قالت: تصبر شهرين، وفي الثالث يقل صبرها ويضعف، وفي الرابع ينفد صبرها؛ فأصدر أمره إلى قادة الجيوش الغزاة الفاتحين في الشرق والغرب أن من أقام في المعسكر أربعة أشهر يجب أن يعود إلى أهله.

هل عرفت الدنيا هذا؟! من بقي في الجهاد بعيداً عن أهله أربعة أشهر يعطى رخصة رسمية بأن يعود إلى أهله، هذه هي عدالة عمر ! سأل ابنته وأمه، وهل هي ابنته وأمه؟ حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليست أم المؤمنين؟ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، وكانت من العلم بمكان، كيف لا وجبريل يتردد على بيتها، والرسول يتكلم عندها، فكيف لا تعلم؟ فأعطته هذه الحقيقة، أن المرأة تصبر عن زوجها شهرين بلا تأزم، وفي الشهر الثالث يقل صبرها، وفي الرابع ينتهي وينفد، ومن ثم شرعها عمر وسن وقنن بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).

وجوب اعتداد المطلقة ثلاثة قروء

بعد هذا قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228].

كلام من هذا؟ من يقوى ومن يقدر على أن يقول هذا؟ هذا كلام الله رب العالمين، لو تجتمع البشرية كلها على أن تقول هذه الجمل فوالله ما استطاعت، ولا وصلت إليها، فآمنا بالله! هذا هو القرآن الكريم.

اسمع: وَالْمُطَلَّقَاتُ [البقرة:228] صيغة خبرية ومعناها الإنشاء، والمطلقات: جمع مطلقة، كانت مربوطة بعهد وميثاق، بعقد، فمن طلقها؟ المطلقة طلقها الفحل، الزوج، أو طلقها القاضي، إذا غاب الزوج غاب أو حرمها حقوقها وآذاها فالقاضي يطلق.

يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:228] التربص: الانتظار، كم تنتظر؟ قال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهنا خذ هذه الفائدة وحافظ عليها، وجل السامعين لا إخالهم يعترضون.

ففد عرفنا من الدرس السابق معنى القرء، فالقرء: مأخوذ من القرء الذي هو الجمع، فالدم يتجمع في الرحم إذا كانت المرأة غير حامل، ثم يفيض ويخرج بتدبير الله عز وجل، إذ هذا الدم تفرزه تلك الشرايين والأعضاء من أجل غذاء الجنين في رحم أمه، فإذا انعدم الجنين يتجمع الدم ويخرج في الشهر مرة.

فلفظ القرء اختلف العلماء في حقيقته: هل هو الطهر أو الحيض؟

فـمالك رحمه الله ومن تابعه يرون أن الأقراء هي الأطهار، وغير مالك كـأحمد وغيره يرون أنها الحيض؛ فلفظ القرء صالح للطهر والحيض فترة معينة، فمن الفقهاء من قال: المطلقة تعتد بثلاثة أطهار.

أنموذج الطلاق الشرعي

مثلاً: حين يطلق الرجل امرأته عندما يعلم أنه آذاها وهي مؤمنة، ولا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمنة، أو علم بمرور الأيام أن بقاءها فيه أذى لها وضرر يصيب هذه المؤمنة وهي أخته في الإسلام، أو رأى أن بقاءها معه أدخل عليه ضرراً وأذىً ما أطاقه، وهو عبد الله ووليه ما يرضى الله له الأذى ولا الضرر، عندما يتأكد من وجود الضرر وأنه لا يدفع إلا بالطلاق فإنه يطلق.

وهل المؤمنون اليوم يشعرون بهذا الشعور؟ ولا واحد في المليون! لم؟ لأننا ما ربينا في مثل هذه الحلق النورانية، لا نساؤنا ولا رجالنا، فمن أين يأتينا هذا النور ونحن مبعدون عن ساحاته إبعاداً كاملاً، يعيش الرجل ستين سنة ما يجلس جلسة كهذه ولا يعرفها! من أين يعلم؟ أيوحى إليه؟ لا والله، فقد ختمت النبوات بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هل في الإمكان أن تعيش مع تلك المؤمنة -سواء من أقربائك أو من غيرهم- على أنها أختك في الإيمان والإسلام، وأن أذاها حرام، وأن أذاك أنت محرم، والرسول يقول: ( لا ضرر ولا ضرار )، تعيش معها، فإذا شاهدت منها الأذى قد أصابك، أضر بك، أضاع حياتك؛ فاصبر وعظها، علمها، خوفها، بين لها، فإذا وجدتها لا تدفع الضرر عنك؛ فأنت عبد الله ووليه ما يحملك مولاك على أن تبقى محروماً في أذى وضرر أبداً.

إذاً: تريد أن تطلقها، انتظرها حتى تحيض، فإذا حاضت وانتهت الحيضة واغتسلت أخذت تصلي وتصوم فقبل أن تطأها قبل أن تجامعها أشهد اثنين وائت بهما إلى المنزل: أشهدكما أني طلقت فلانة. فهذه الطلقة.

لزوم بقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية

وتبقى في بيتها لا تخرجها، لأن المطلقة طلاقاً رجعياً كالزوجة، بحيث لو ماتت ورثتها، لو مت أنت ورثتك، ولا يحل خطبتها ولا التزوج بها إجماعاً، هي في حكم الزوجة، تنتظر أمر الله، فإن تراجع الزوج وندم وأقبل على إرجاعها فحسبه أن يقول: يا فلان وفلان! أشهدكما أني راجعت زوجتي. لا عقد ولا مهر ولا وليمة.

فإن أبى أن يراجعها فهي في بيته تنام وتأكل وتشرب وتصلي، ولا ينظر إليها، ولا يكلمها إلا بما لا بد منه، لأنها أصبحت أجنبية مطلقة، أما لو جامعها بدون نية المراجعة فلا يقام عليه الحد للشبهة، وهو آثم، إلا إذا جامعها بنية إرجاعها فلا حرج.

فإن آذت أمه إخوانه أولاده أو أحدثت حدثاً سيئاً فأتت بفاحشة؛ فلا بأس أن يذهب بها إلى أهلها؛ لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] حينئذ يقول: امشي إلى أهلك فأكملي عدتك في بيت أبيك أو أمك، فإذا انقضت عدتها انتهت وبانت منه، ولو أراد أن يتزوجها فيحتاج إلى خطبة ومهر جديد ورضاها وموافقتها، نكاح كأنه أول مرة.

فلم طلقها؟ دفعاً للضرر الذي أصابه ولحقه منها، أذن له مولاه في طلاقها، وإذا كانت هي المتأذية المحرومة المكروبة لما في نفسها، ما أطاقت الحياة؛ فالفحل المؤمن إذا نظر إلى ذلك وتأكد منه قال: كيف تعيش هذه المؤمنة في كرب؟ ما لي ولها؟! فيشهد اثنين على طلاقها ويطلقها؛ حتى لا تكرب ولا تحزن وهي مؤمنة تؤمن بالله ولقائه.

نظرة في المصالح المترتبة على الخلاف في معنى القرء

نعود إلى مالك حيث رأى أن تعتد بالأطهار، قال: لأن المدة تصبح قصيرة، فإذا طلقها في طهر لم يمسها فيه فهذا طهر الآن، ثم حاضت حيضة جديدة وطهرت، فهنا طهران، ثم حاضت، فهذه الحيضة الثانية، ثم طهرت، فحلت وانتهت، في ثلاثة أطهار، وبالحيض تصبح أربعة أطهار.

إذا قلنا: يطلقها بالحيض فإذا أكملت ثلاث حيض طلقها، أولاً: يطلقها في طهر وهذه الفترة غير محسوبة، بعد الطهر تحيض حيضة أولى ويأتي طهر ثان، ثم تحيض حيضة ثانية، ثم يأتي طهر ثالث، ثم تحيض حيضة ثالثة وتنتهي، فهذه المدة أطول أم لا؟

والذي فتح الله به علينا أنه لا فرق بين ما رآه مالك ولا الشافعي ولا أحمد ؛ لم؟ لأن الزوج أيضاً في صالحه أن تطول المدة، ينتفع بها، قد يندم ويراجعها، فطول المدة أيضاً في صالح الزوج.

والآخر رأى أن قصرها في صالح الزوجة حتى تتزوج؛ لأنه إذا تمت عدتها تتزوج من غد، فنقول: النظريتان صالحتان، ولهذا إن شئت اعتدت زوجتك بالأطهار أو بالحيض، سبحان الله العظيم! فكلام الله حمال الوجوه كما قال علي رضي الله عنه.

حرمة كتمان المطلقة ما في رحمها من حيض أو حمل

إذاً: اسمعوا الآية: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ثلاثة حيض، ثلاثة أطهار، الكل صالح، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] حرام على المؤمنة المطلقة أن تجحد الحيضة الحمل في بطنها، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ [البقرة:228] أي: يجحدن مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] قد تكتم الحيض أم لا؟ قد تقول: حضت أربع مرات، أنا أريد أن أراجعها فقالت: انتهت العدة؛ حضت ثلاث مرات، حتى تتخلص منه، ما تعطيه فرصة، فجائز أن تكتم هذا أم لا؟ أو ما حاضت وأراد أن يراجعها فتقول: حضت أربع حيضات أو ثلاثاً.

أو يكون في بطنها جنين ابن شهرين أو ثلاثة فتطلق فتجحده وتقول: ما عندها حمل، وإنها قد اعتدت بالحيض، وتتزوج وتنسب الولد إلى غير أبيه! قد تكون على اتفاق مع رجل فاسق.

فقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] من الحيض والحمل، حرام أن تكتم عدد الحيضات، أو تكتم الحمل وهو في بطنها.

واللطيفة هي في قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228] لأن هذا غيب لا يعلمه إلا الله، تستطيع أن تقول: أنا حضت أربع مرات، ومن يعرف؟! الطبيب ما له شأن في هذا، قد تقول: ما عندي حمل، ومن يدري؟ لكن الله تعالى يدري، فمن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر لا تكتم وتجحد هذا الحق لصالحها وهواها، فهذه موعظة ربانية: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.

فقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ [البقرة:228] أي: للمطلقات أَنْ يَكْتُمْنَ [البقرة:228] أي: يجحدن ما في بطونهن، إما الحيض فتدعي أنها حاضت ثلاثاً، أو تدعي أنها ما حاضت، أو ما في بطنها من حمل شعرت به، وتنقله إلى زوج آخر والعياذ بالله!

معنى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً)

وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] بقيد إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] الله أكبر! والبعولة: جمع بعل، أزواجهن أحق بردهن وإرجاعهن في العدة، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] أي: في ذلك الزمن زمن الطلاق، وكلمة (أحق) معناه: أن لها هي حقاً أيضاً، لكن هو حقه أعظم، فإذا كانت مظلومة حيث أساء إليها ودمرها وأشقاها في حياتها فإنها تريد ألا ترجع إليه، وتطالب بعدم الرجعة؛ لأن لها حقاً، لكن حقه هو مقدم على حقها.

فقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ [البقرة:228] بماذا؟ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] الانتظار بالحيض أو الأطهار، والقيد العجيب: إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، أما أن تردها فقط لتعذبها فحرام هذا، أو تريد هي أن ترجع إليك أيضاً لتكيد لك وتمكر بك فحرام هذا، لا بد عند الرجعة أن يكون الزوج يريد الخير، وهي تريد الخير أيضاً لها ولزوجها، فلا إله إلا الله!

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، أما إن أرادوا الأذى والضرر لبعضهم فلا يحل، لا ترجع إليه ولا ترد إليه.

معنى قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)

ثم قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، أي: للزوج على زوجته حق بالمعروف، وللزوجة على زوجها حق بالمعروف، من أبرز ذلك: أنك تحب من زوجتك أن تتزين لك أم لا؟ فهي أيضاً تحب أن تتزين لها، فتزين أنت لها، لا أن تكون أشعث أغبر وتريد أن تكون هي كالحور العين، فأنت اغتسل وتنظف وتطيب والبس ثوباً نظيفاً وكن ذا رائحته طيبة كما تحب منها أن تفعل ذلك.

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، تحب أن تقول لك: يا سيد! كيف أصبحت؟ فقل لها: يا سيدة! كيف أصبحت؟ تريد أن توقظك للصلاة، فأيقظها هي أيضاً للصلاة، المعروف الذي تحبه منها أعطها مثله أنت أيضاً، بالعدالة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، والمعروف: ضد المنكر، ما أذن الله فيه وأباحه من الخير هو المعروف.

معنى قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة)

وأخيراً تختم الآية بقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فالذي يطالب بالمساواة بين المرأة والرجل كافر لم يبق له حظ في الإسلام، كيف؟! الله يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] سامية وعالية، أليس هو الذي يحميها؟ أليس الذي هو يكسوها؟ أليس الذي يداويها؟ أليس الذي يطعمها ويسقيها؟ وهي ماذا قدمت؟ ارتفعت درجته أم لا؟ أليس هو الذي يجاهد وهي في البيت؟ أليس هو الذي يحضر الجمعة والجماعة وهي في بيتها؟ درجة ظاهرة كالشمس.

وفي نفس الخَلق والخُلق أيضاً، فخَلق الرجل الفحل أقوى من خلق المرأة، قل للمرأة: ارفعي قنطاراً على رأسك أو على كتفيك فستتحطم في الأرض، والفحل يرفع القنطار، قل لها: امشي خمسين كيلو على رجليك فستعجز في الطريق، والفحل يمشي مائة كيلو، ففرق بينهما في الذات.

فالذي يقول: المساواة ديوث، يهودي أو نصراني، وسبحان الله! قرأنا سورة التحريم من الطفولة منذ سبعين سنة وزيادة، ونحن نسمع قول الله عز وجل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] الآية، فما فكرنا ولا وقع في نفوسنا شيء حتى صلى إمام المسجد الشيخ إبراهيم صلاة الصبح، فلما قال: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ [التحريم:10] اندهشت؛ فهل قال: (تحت) أم (فوق)؟ هل تحت عبدين أو مساويتين لهما؟

فمن ثم صرخنا وقلنا: الذي يطالب بمساواة المرأة مع الرجل كافر؛ كذب الله عز وجل ورد قانونه وشرعه من أجل الهوى وتقليد الملاحدة والذين لا دين لهم ولا عقول.

فالله تعالى يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فمن أعطاهم إياها؟ الله ربهم ورب النساء، ما أخذوها بالقوة.

معنى قوله تعالى: (والله عزيز حكيم)

واسمع ختام الآية: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، طأطئ رأسك يا عبد الله، فالله تعالى الواهب هذا الخير عَزِيزٌ [البقرة:228] لا يغالب ولا يُغلب أبداً، فانتبه، حَكِيمٌ [البقرة:228] في تشريعه، والله! لا يخطئ، ولن يخرج من تشريعه أبداً سوى الصلاح والخير والرحمة والهدى، هذا ما هو تشريع أحمق أو جاهل، بل تشريع حكيم يضع كل شيء في موضعه.

وقد قلنا ونقول آلاف المرات: أعطونا قضية من قضايا الإسلام ثبتت بالكتاب والسنة، ثم اجمع علماء البشر كلهم بفلاسفتهم لينقضوها، والله! ما تنقض، أقسم بالله! ما تنقض على مرور الزمان، فقد نزلت الآيات منذ ألف وأربعمائة سنة، وانتظر أربعة آلاف سنة، فوالله! ما ينقض كمالها ولا مراد الله منها، فقولوا: آمنا بالله.

تربص العدو بالمسلمين وسعيه في إبعادهم عن القرآن

هذا هو القرآن العظيم، هذا القرآن تعليم تشريع سياسة آداب أخلاق، فلم يقرؤه المسلمون على الموتى؟ لأنهم ماتوا، هذا القرآن هل يقرأ على الموتى؟ لا يجوز، هذا عبث، هذا كتاب هداية وتعليم تقرؤه على ميت! هل الميت يقوم يصلي ويتوب؟! عق أمه هل يقوم يقبل رأسها؟! انتهى أمره، فماذا تقرأ عليه أنت؟! من مكر بالمسلمين هذه المكرة؟

الثالوث الأسود، هل تدرون أن هذا الثالوث مكون من ثلاث طوام أو عفاريت؟ أولهم: اليهود، ثانيهم: المجوس، ثالثهم: النصارى، اجتمعوا وأنتم ما تعرفون عنهم، نحلف لكم بالله، والله العظيم! لهم الذين ضربوا هذه الأمة وأنزلوها من علياء سمائها إلى الحضيض من الأرض، وما زالوا متعاونين إلى اليوم، نظروا بعد حروب خاضوها أنهم يفشلون، وبعد مكر وكيد ومؤامرات ما استطاعوا أن يفلحوا، فبحثوا عن السر، ما سر هذه العصمة والقوة التي لا تقهر؟ قالوا: السر هو القرآن، ووالله! لقد صدقوا؛ القرآن روح ولا حياة بدون الروح، أما سمعت الله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] ين أو مساويتين َبْدَيْنِ ُم، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، فالقرآن روح.

كانت هذه الأمة في ديارها ميتة فأحياها الله بالقرآن فعزت وكملت وسادت وطهرت، فقالوا: إذاً: هيا نسلب القرآن منها لتموت، فعملوا في مؤتمرات سرية على إسقاط كلمة (قل) فما استطاعوا، القرآن يحفظه النساء والرجال في البادية والحاضرة، كيف نسقط منه كلمة؟ فعجزوا.

فقالوا: نحتال عليهم ونبعد القرآن من بينهم ونحوله إلى الموتى. ونجحوا، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا قبل هذه الإفاقة الجديدة منذ خمسين سنة إذا مررت بزقاق أو شارع ضيق وسمعت القرآن يقرأ فاعلم أن الميت هناك، على طول الخط، حتى إن نقابة في بلد إسلامي كانت مختصة بهذه، تقول: يا سيد! توفي الوالد اليوم فنريد عشرة من طلبة القرآن، فيقول: من فئة المائة ليرة أو الخمسين؟ إذا كان فقيراً فمن فئة خمسين، والغني من فئة المائة! وأبعدت هذه الأمة عن القرآن بعداً كاملاً، لا يدرّس ولا يجتمع عليه، وحولوه إلى الموتى في المقابر وفي البيوت، وقبل هذه الدولة المباركة كان في الروضة يجتمع القراء يقرءون ختمة على سيدي فلان بألف ريال للواحد!

وقالوا: القرآن تفسيره صوابه خطأ وخطؤه كفر، فألجموا العلماء وما أصبح من يقول: قال الله، إياك أن تقول: قال الله؛ فالقرآن فيه الناسخ والمنسوخ، وفيه الخاص والعام فلا تتكلم، فألجموا العالم الإسلامي بحيث لا يقول الرجل مستشهداً بأمر أو نهي: قال الله أبداً، ومن أراد أن يقف على هذه فعند أصحاب الفقه المالكي في حاشية الحطاب على خليل سيجدها، قالوا: التفسير صوابه خطأ، إن فسرت القرآن وأصبت فأنت مخطئ، وإن أخطأت كفرت، إذاً: من يقول قال الله؟! من يقدم على هذا؟!

وأخيراً: نجحوا، وما الدليل؟ أما استعمرتنا هولندا في إندونيسيا ونحن مائة مليون؟ أما استعمرت ممالك الهند العظيمة الطويلة بريطانيا؟ والشرق الأوسط شمال أفريقيا أما استعمرته بريطانيا وفرنسا وإيطاليا؟ كيف تم هذا؟ بعدما قتلونا وسلبوا الروح، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هل من إفاقة؟

من منكم إذا فرغ من العمل مع إخوانه في المصنع في الدائرة وتوضئوا وأرادوا أن يصلوا يقول لأخيه: أسمعني شيئاً من القرآن؟ لا أحد، أو يجلس في المسجد ينتظر الصلاة فيمر به المؤمن فيقول له: أنت تحسن القرآن؟ قال: نعم، قال: من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن؛ فنسمع ونبكي؟ لا أحد.

ما زالت تلك الصفعة قائمة، كل ما في الأمر أنه أصبح يوجد من يفسر القرآن لا أقل ولا أكثر، يقول: قال الله وقال رسوله.

ملخص لما جاء في تفسير الآية

أعيد تلاوة الآية وننتقل إلى غيرها، فاسمع: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض، كله صالح بإذن الله، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] من حيض أو ولد؛ إذ الخالق هو الله، هل هناك من يخلق الجنين غير الله؟!

إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فالذي لا يؤمن بالله ولقائه شر الخليقة؛ لأن تأوي إلى ثعبان وتتوسده وتنام فقد تسلم منه، وإن أنت نمت إلى جنب رجل لا يؤمن بالله ولقائه فلا تسلم منه، إذا احتاج إلى دمك فإنه يمتصه، إلى عينك فإنه يفقؤها، أما عن نزع ساعتك من يدك أو نقودك من جيبك فلا تسل، فالذي لا يؤمن بالله ولقائه هبط وأصبح شر الخليقة وإن كان أبيض أو ما كان، واسمعوا قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من أخبر بهذا الخبر؟ الله تعالى. ومن أعلم من الله؟ لا أحد، فشر الخليقة هم الكفار والمشركون.

وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]، من طلق امرأته وما زالت في عدتها هل هناك من هو أحق بها منه؟ لا أحد، لا يحل خطبتها حتى بالإشارة.

وقوله تعالى: إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، إذا كنت تريد أن تردها فيجب أن تكون على نية وعزم صادق أنك تردها لتسعد معك وتسعد بها، لا أن تشقيها بالأذى والسب والشتم والتعذيب، وهي كذلك إذا أرادت أن ترجع وطالبت بالرجوع فيجب أن تكون تريد الإصلاح والخير لزوجها وأولادها، هذا شأن المؤمنين والمؤمنات إن أرادوا إصلاحاً.

وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، لهن على أزواجهن مثل الذي للأزواج عليهن، عدالة، وقد بينا مظاهرها، منها: أنك تحب أن تتجمل لك، فتجمل أنت لها.

وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، من رفعهم هذه الدرجة؟ مولاهم خالقهم.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ [البقرة:228]، فخافوا ارهبوا لا تخرجوا عن طاعته وتتمردوا على قوانينيه؛ فإنه قادر على أن يشقي ويعذب، وكم فعل.

حَكِيمٌ [البقرة:228] في كل ما يضع، والله! ما أباح شيئاً إلا لفائدة، ولا حرّم شيئاً إلا لنقصان وخسران، احلف بالله مليون مرة! ما فرض الله فريضة إلا لصالح الإنسان، ولا حرم حراماً إلا لصالح الإنسان في كل جزئيات الحياة.

وقفة مع قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ...)

ثم قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، كم طلقة يطلق الفحل امرأته؟ طلقتان فقط، يطلقها المرة الأولى ثم يراجعها فهذه طلقها، ثم يطلقها الثانية ويراجعها فهذه طلقتان، وفي الأخيرة الفصل، حتى إن أحد الأصحاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، فأين الطلقة الثالثة؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، هي الطلقة الثالثة، في الطلقة الأولى يراجعها قبل نهاية العدة وله ذلك، راجعها وعاش معها شهراً أو سنين وطلقها طلقة ثانية، فإنه يراجعها، ثم إذا راجعها وعاش معها ينتبه إن هو طلقها لا تحل له أبداً حتى تنكح زوجاً غيره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (107) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net