إسلام ويب

إن الموت حقيقة لا مفر منها، وباب لابد من ولوجه لكل من هو على هذه الأرض، سواءً كان ذكراً أو أنثى، أو غني أو فقير أو شقي أو سعيد، وهو حقيقة ما بعدها أشد منها، حيث ينقسم الناس إلى قسمين: شقي وسعيد.

فالواجب على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن تحل به سكرات الموت، فعندها لا ينفع الندم ولا البكاء.

حقيقة الموت

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

اتقوا الله عباد الله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] يوم يُنفخ في الصُّور، ويُبعث مَن في القبور، ويظهر المستور، يوم تُبْلى السرائر، وتُكْشَف الضَّمائر، ويتميز البَرُّ من الفاجر.

ثم اعلموا أن هناك حقيقة وأي حقيقة، حقيقة طالما غفل عنها الإنسان، ولحظة حاسمة، ومصير ومآل.

إنها لحظة (ملاقيكم) إلى أين من هذه اللحظة المَهْرَب؟! وإلى أين منها المفر؟! إلى الأمام مُلاقيكم، إلى اليمين والشمال مُلاقيكم، إلى أعلى إلى أسفل مُلاقيكم، إلى الوراء مُلاقيكم. لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحصَّن منه في حصون، مدرككم أينما كنتم!

إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت، يأخذ الغني والفقير، والصحيح والسَّقيم، والشريف والوضيع، والمُقر والجَاحِد، والزَّاهد والعابث، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، كل نفس ستذوقه، شاءت أم أَبَتْ. لعلكم عرفتموه، لا أظن أحدًا يجهله، أما حقيقته فالكل يجهلها؛ إنه الموت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

الموت، ما الموت؟ أمر كُبَّار، وكأس يُدار، فيمن أقام وسار، يخرج بصاحبه إلى جنة أو إلى النار، ما زال لأهل اللذات مكدِّرًا، ولأصحاب العقول مُغَيِّرًا ومحيِّرًا، ولأرباب القلوب عن الرغبة فيما سوى الله زاجراً.

كيف ووراءه قبر وحساب، وسؤال وجواب، ومن بعده يوم تُدهش فيه الألباب فيعدم الجواب؟!

السَّكرات، ما أدراكم ما السكرات! عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: (لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات) اللَّهم هوِّن علينا سكرات الموت" سكرات وأي سكرات!

يقول العلماء: كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.

ملك الموت، ما ملك الموت؟! الدنيا بين يديْه كالمائدة بين يديْ الرجل، يمد يده إلى ما شاء منها؛ بأمر الله فيأكله، وإنَّ له لأعوانًا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع، والأرضين في لقمة واحدة لفعل.

فلا إله إلا الله! من لحظة حاسمة لو لم تُعتقل الألسنة وتُخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعب الجبال أَلَمًا! ولَصَاح الميِّت من شدة ما يعاني حتى تندكَّ عليه جدران الغرفة التي هو فيها، ولما استطاع أن يحضر ميتاً أحدٌ. فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهوِّن علينا السكرات!

روي عن الحسن أنه قال: رُئِيَ أحد الصالحين بعد موته، فقيل له: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوَّاهُ أوَّاهُ! وجدته -والله- شديداً، والذي لا إله إلا هو! لهو أشد من الطَّبخ في القُّدُور، والقطع بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استلَّ الروح من كل عضوٍ منِّي، فلو أني طُبِخْت في القُدُور سبعين مرة لكان أهون عليَّ.

كفى بالموت طامة، وما بعد الموت أطَمُّ وأعظَمُّ!

رئي آخر بعد موته في المنام، فُيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاة، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير. فالله المستعان على تلك اللحظات، اللهم هوِّن علينا السكرات، واجعلها لنا كفَّارات، وآخر المعاناة، وهي كذلك -بإذن الله -للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.

السعداء وحسن الخاتمة

عباد الله: وفي تلك اللحظات الحَرِجَة ينقسم الناس إلى فريقين؛ شقي وسعيد، فريق السعداء حالهم: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].

هاهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها تقول -كما رُوِيَ عنها- إنَّا لعند علي رضيَ الله عنه وأرضاه بعدما ضربه ابن ملجم -عليه من الله ما يستحق- إذ بـعلي يشهق شهقة فيغمى عليه، ثم يفيق وهو يقول: مرحبًا مرحبًا! الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة. الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن، لمثل هذا فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون.

فيا لها من موعظة ومصير، لو وافقت من القلوب حياة! مَنْ ظفر بثواب الله فكأنه لم يُصب في دنياه.

كأنك لم توتر من الدهر مرة>>>>>إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه

واسمع معي أخرى لـسعيد بن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة -كما قال الذهبي في سيره --فيقول: لما مات ابن عباس رضي الله عنهما بـالطائف ، جاء طائر لم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دُفِن إذا على شفير القبر تالٍ يتلو لا يُرى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

فيا لها من خاتمة! ويا له من مصير! والخير في الأمة يستمر، ولن تَعْدَم الأمة خَيِّر.

فاسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب: يا ليت قومي يعلمون قال: حدثني أحد الصالحين قائلاً: كان هناك رجل صالح من أهل الطائف ، كان عابدًا فاضلاً نزل مع بعض أصحابه إلى مكة مُحْرِمًا، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو مُحْرِم في الحرم، قد خرج لله عز وجل كما يُحسب. قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى:4] شهق وبكى وأبكى، فلمَّا قرأ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] تَرَنَّح قليلاً، ثم سقط ميِّتًا، فعليه رحمة الله؛ ليبعث يوم القيامة بإذن الله مصلياً؛ ومن مات على شيء بعث عليه كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وآخر يقضي حياته مؤذنًا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذِّن يومًا من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتاُ، فعليه رحمة الله.

سنوات يؤذن، ثم يجيب داعيَ الله مؤذنًا، ليبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقًا فرحمة الله عليه.

يا لها من خواتم طيبة! ملائكة بيض الوجوه، يتقدمهم ملك الموت، يخاطب تلك الأرواح الطَّيبة: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فَمِ السِّقَاء، وتفتح لها أبواب السماء، وتُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح، وتقول: قدِّموني قدِّموني، تُسأل فتجيب وتُثبَّت، فيفرش لها من الجنة، ويُفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحت من تعب هذه الدار، وإلى راحة أبدية في دار القرار.

الأشقياء وسوء الخاتمة

وفريق آخر في تلك الساعة يشقى، حسب أن الحياة عبث ولهو ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سُود الوجوه يقدمهم ملك الموت -نعوذ بالله من خاتمة السوء، وساعة السوء- يقول: أيتها النَّفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعًا بعد أن تفرق في الجسد، ثم ترفع فلا تُفتح لها أبواب السماء، تُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسأل فلا تجيب فُيفرش لها من النار، ويُفتح لها باب إلى النار، فنعوذ بالله من النار، ومن سوء الختام، وغضب الجبَّار. ذَكَرَ صاحب: قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلُّون سيارة واحدة، توفيَ اثنان منهم في الحال، وبقيَ الثالث في آخر رَمَقٍ يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث: قل (لا إله إلا الله) فأخذ يحكي عن نفسه ويقول: أنا في سَقَر، أنا في سقر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله! رجل المرور يسأل ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43].. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:27-29] نسأل الله العافية والسَّلامة.

عباد الله: فريقان لا ثالث؛ شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد، ومضى إلى جنهم وبئس المهاد. ألا ترون؟! ألا تتفكرون؟! ألا تنظرون؟! تشيعون كل يوم غاديًا إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض.

خُلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، انتهى أمله وأجله، تبعه أهله وماله وعمله، فرجع الأهل والمال، وبقي العمل.

فارق الأحبَّة والجيران، هجره الأصحاب والخلاَّن، ما كأنه فرح يومًا، ولا ضحك، ولا أَنِسَ يومًا ما، ارتُهن بعمله فصار فقيرًا إلى ما قدم غنيًا عما ترك.

جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا>>>>>وبنوا مساكنهم وما سكنوا

فكأنهم كانوا بها ظُعنًا>>>>>لمَّا استراحوا ساعة ظَعَنُوا

تذكر الموت وسكراته

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالأموات. يقول عوف بن مالك : (صلَّى بنَا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدَخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو! لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه صلى الله عليه وسلم له).

ومن رحمته بالأموات صلى الله عليه وسلم: أنه كان يذهب في الليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلاً، ويترحم عليهم طويلاً. صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.

وأصحابه كذلك؛ ابن عمر كان إذا قرأ قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: [[اللهم لا تَحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله]] فلا إله إلا الله! ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجَّل في صحيفته (لا إله إلا الله) ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقيَ الجزاء والحساب، فرحم الله امرأً قدَّم من الصَّالحات لتلك الحُفَر، ورحم الله امرأ حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا!

عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لجُلاسه يومًا ما: أرقت البارحة فلم أنمْ حتَّى الفجر، قالوا: ما أسهرك؟ قال: لمَّا أويت إلى فراشي، ووضعت عليَّ لحافي، تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ليالٍ تمر عليه حينما تركه أهله وأحبَّته وخلاَّنه، تغيَّر رِيحُه، وتمزَّق كفنه، وسرى الدُّودُ على خدوده، فليتك ترى تلك الرائحة المنتنة، وترى تلك الأكفان الممزَّقة، إذًا لرأيت أمرًا مهولاً، ثم انفجر يبكي، ويقول: لا إله إلا الله! حاله:

والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ>>>>>وإنَّ عقباك دنيانا وما فيها

لقلت لا والذي أخشى عقوبته>>>>>ولا بأضعافها ما كنت آتيها

تجهَّزي بجهاز تبلغين به>>>>>يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثًا

كفى بالموت واعظًا لمن كان له قلب، أو ألقى السَّمع.

يمرُّ عمرو بن العاص رضيَ الله عنه بمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: [[لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: تذكرت قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحال بيني وبينها]].

عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: [[يا أبتاه! صف لنا الموت، قال: يا بني! الموت أعظم من أن يوصف، لكأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السَّماء أُطْبِقَت على الأرض وأنا بينهما، ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ويبكي بكاءً مراً مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَا فتحت مصر ؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاثاً؛ لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا ويلتاه لو متُّ في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ النَّاس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فيا ليتني مِتُّ في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته عليّ.

يقول: ثم تخلفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلَعِبَت بنا الدنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله؛ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله]] ثم قُبض على لا إله إلا الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

كفى بالموت واعظًا!

يقول ابن عوف : [[خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا بن عوف! ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟]] حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ

اشدد حيازيمك للموت>>>>>فإن الموت لا فيكا

ولا تجزع من الموت>>>>>إذا حل بواديكا

كفى بالموت واعظاً، وبسِيَر الصالحين عنده عبراً!

تُحلُّ السَّكرات بـمحمد بن أسلم وتصيبه رعدة، يقول خادمه: كان يصيح ويقول: مالي وللناس، والذي لا إله إلا هو! لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني مَلَكَايَ لفعلت؛ خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع. كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، فيغلق بابه فيقرأ القرآن، ويبكي، وينشج، فيسمعه ابنٌ له صغير، فيقلِّده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل؛ لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: أبشر؛ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليَّ أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني -والله- لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق عليَّ الباب، ولا تأذن لأحد عليَّ حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغَطُّوا عليَّ بكسائي، وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.

خذ القناعة من دنياك وارض بها>>>>>لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن

وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها>>>>>هل راح منها بغير الحِنْطِ والكفن

كفى بالموت واعظاً!

فوالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيِّناً سهلاً، لكنه مع شدَّتِه وهَولِه أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هينٌ إذا قُورِنَ بالوقوف بين يديْ الله الكبير المتعال. تلفَّت المرء يميناً فلم ير إلا ما قَّدم، وشمالاً فلم ير إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجهه فلم ير إلا النار. فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد!

يبلغ العرق أن يُلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث! مجرد تصورها يخلع ويذيب القلوب!

يوم القيامة لو علمت بهوله>>>>>>>>>>لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ

روي عن الحسن : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرةَ عائشة رضيَ الله عنها فسالت دموعها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه؛ إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل. وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله. وعند الصراط -نعم عند الصراط- أيمرُّ أم يكردس على وجهه في جهنم).

يؤتى بابن آدم حتى يُوقف بين كفَّتيْ الميزان، فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت واقف بين الخلائق، إذ نوديَ باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال.

قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف، وذل، وانهيار أعصاب:

شبابك فيما أبليته؟

عمرك فيما أفنيته؟

مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟

علمك ماذا عملت به؟

هذه الأسئلة فما الإجابة؟

كم من كبيرة نسيتها قد أثبتها عليك المَلَك؟

كم من بلية أحدثتها؟

كم من سريرة كتمتها ظهرت وبَدَتْ أمام عينيك؟

أَعْظِم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! وأعظم به من حياء يُداخلك، وغمٍّ، وحزن، وأسف شديد!

فإما أن يقول الله: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيا لسرورك! وهدأة بالك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.

وإما أن يقول الله- عافاك الله وسلمك-: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فيُذهب بك إلى جهنم، مسوَّد الوجه، كتابك في شمالك، ومن وراء ظهرك، قد غُلَّت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رءوس الخلائق ينادى: شقيَ فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.

عباد الله: الأمر خطير جد خطير؛ إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله برحمته ومَنِّه يقول: وعزَّتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر؛ فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين، اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم، عاملوا الله فلن تخيبوا: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

نفعني الله وإياكم بالقرآن، وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى. والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد. وفي ذلك -والله- ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات.

التفتوا، وانظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتملُّوا بعيون قلوبكم:

أين من كان حولكم>>>>>من ذوي البأس والخطر

سائلوا عنهم الديار>>>>>واستبحثوا الخبر

سبقونا إلى الرحيل>>>>>وإنا على الأثر

كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خِلاًّ لـعبد الملك بن مروان ، فلمَّا مات عبد الملك ودُفِن، وتفرَّق الناس عن قبره، وقف عليه عبد الرحمن بن يزيد قائلاً: أنت عبد الملك ، أنت من كنت تعدني خيرًا فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، الآن تصبح وتمسي وليس معك من مُلكك غير ثوبك، وليس لك من ملكك سوى تراب أربعة أذرع في ذراعين، إنه لملك هيِّن حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها، ثم رجع إلى أهله، فاجتهد وجدَّ في العبادة، وعلم أنها الباقية، حتى صار كأنه شنٌ بالٍ من كثرة ما أجهد نفسه في العبادة، فدخل عليه بعض أهله يعاتبه؛ لأنه أضر بنفسه، فقال للذي يعاتبه: أسألك عن شيء فهل تصدقني فيه؟ قال: نعم. قال: نشدتك الله! عن حالتك التي أنت عليها أترضاها حين يأتيك ملك الموت؟ قال: اللهم لا. قال: نشدتك الله! أعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: اللهم لم أشاور عقلي بعد.

قال: نشدتك الله أفتأمن أن يأتيك ملك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا آمن. قال: حال ما أقام عليها عاقل، وما يقيم عليها ذو قلب ولبّ، إنَّ الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر الذي ستنفرد فيه وحدك، ويُسَدُ عليك فيه بالطين وحدك؟ ألا عملت لك فراشًا من تقوى الله، فمن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون.

فلا يومك الماضي عليك بعائدِ>>>>>ولا يومك الآتي به أنت واثقُ

فاستعد وأعدَّ.

يا شابًا عكف على القرآن! مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره سل الله الثبات. وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة.

فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا.

ويا شابًا هجر القرآن! وأعطى نفسه هواها فدسَّاها؛ لتقفن موقفًا ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النَّقِير والقِطْمِير، والصغير والكبير. فعُد فالعود أحْمَدُ قبل أن تقول: رب ارجعون، فلا رجوع.

ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات>>>>>ومضى وقتك في لهو وسهو وسُبات

يا شيخاً اقترب من القبر! عرف أنه منه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيَّته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بشراك بشراك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلت إلى آخر السباق قدَّمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.

ويا شيخاً نسى الله في شيخوخته بعد شبابه! فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت. أين الهوى والشهوات؟ ذهبت، وبقيت التَّبِعات، تتمنى بعد يُبس العُود العَوْد وهيهات!

يا من شَاب رأسه! فما استحيا من الله.

يا مَنْ شَاب رأسه! فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تُبْ إلى الله قبل أن تكون ممَّن لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم.

إلى من ضيَّع الصلاة، واتَّبع الشهوات، إلى المنافقين والزناة، إلى الظلمة والبغاة، إلى من طغى وآثر الحياة الدُّنيا، إلى المُغْتابين والنَّمَّامين والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثر فنسوا بعثرة المقابر، وتحصيل ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدة المسلسلات، واستقبال القاذورات. إلى من طربت أذنه باستماع الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصره، وأصمَّ سمعه فكان حيًّا وهو في عداد الأموات، إلى الراشين والمُرْتشين وأهل السُّكْر والمخدَّرات، إلى المُسبل والمنَّان والمنفِق سلعته بالحَلِف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاة جميعاً:

من الموت والقبر والحساب أين المفر؟!

كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11-12].. أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

عباد الله: آن الأوان أن نُعْلِنَها توبة إلى الله باللِّسان والجَنَان.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أين المفر للشيخ : علي عبد الخالق القرني

https://audio.islamweb.net