إسلام ويب

ملة إبراهيم عليه السلام هي ملة الإسلام، وهي إسلام القلب والوجه لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، فمن فعل ذلك فهو المسلم الحق، المستحق لاصطفاء الله ومحبته ورضوانه، ومن رغب عن هذه الملة فقد جهل نفسه وظلمها، وتنكب بها طريق الصالحين، وحاد بها عن سبيل المؤمنين، فصارت مظلمة بظلامات الكفر والجحود، منجسة بنجاسات المعاصي والذنوب، فأنى لها أن ترى النور أو تدرك السرور.

تابع تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-133].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

انتفاء تحقق التزكية والتطهير بغير ملة الإسلام

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، أتدرون ما هي ملة إبراهيم؟ إن ملة إبراهيم الإسلام الذي أكرمنا الله به، وأسبغ علينا نعمه به، وأصبحنا أحياء نسمع ونبصر، نعقل ونفهم، نأخذ ونعطي، لكمال حياتنا بالإسلام، يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل ما لم يكن الإسلام فهو دين باطل، لا يزكي النفس البشرية ولا يطهرها، وسعادة الآخرة متوقفة على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كل ما كان غير الإسلام من الملل والنحل والأديان فهو باطل، ومعنى ذلك أولاً: أن تلك الملل لا تزكي النفس، والله الذي لا إله غيره! لو تعبد الله باليهودية بكل ما فيها من عقائد، وآداب، وأخلاق، وشرائع، فوالله! ما تفعل في نفسك شيئاً من النور والطهر والصفاء، لو تطبق المسيحية أو النصرانية بكل قواعدها وأهدافها ومبادئها فوالله! لا تفعل شيئاً، إذاً: فما دون اليهودية والنصرانية من أي ملة أخرى هل ستزكي النفس وتطهرها؟

لم يبقَ إلا الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ما السر في هذا؟

السر في هذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- أن الله تعالى الذي جعل الماء يروي الظمآن، والطعام يشبع الجائع، والحديد يقطع؛ هو الذي إذا شرع كلمة لعبده ليقولها فلا يقولها ذلك العبد إلا وانطبع أثرها وانعكست على نفسه، لو شرع تعالى أغنية -وحاشاه- فتغنينا بها إيماناً به وطاعة له وانقياداً لأمره لأوجدت تلك الأغنية أثرها في نفوسنا بالتزكية والتطهير، هذا مثال.

فما لم يشرعه الله من اعتقاد أو قول أو عمل فهيهات هيهات أن يحدث في النفس زكاة وطهراً! هذا من باب المحال، إذاً: فإذا عبد الناس اللهَ بعبادة ما شرعها فما هي النتيجة؟ التعب فقط، أما أنها تزكي نفوسهم فوالله! لا تزكيها، فالنفس من الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، هو الذي إذا شرع لها كلمة، أو جرياً بين الصفا والمروة أحدث ذلك أثره فيها.

وإليكم مثلاً محسوساً: أليس هذا المسجد النبوي بيت الله؟ الجواب: بلى. فلو أن أحدنا قال: لأطوفن لله بالمسجد النبوي سبعة أشواط، وأخذ يتردد من غربه إلى شرقه مع العرق والتعب، ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، سبحان الله، هل يحدث هذا الطواف في نفسه شيئاً من الزكاة أو الطهر؟ والله! لا، ولا جراماً واحداً.

فإن قيل: بذل جهده وطاقته؟ فالجواب: هل الله شرع هذا وقال: (وليطوفوا بمسجد رسولنا)؟

ونعود إلى واقع الحياة، شرع الله جل جلاله وعظم سلطانه في دينه الذي أوجده لعباده أبيضهم وأصفرهم، شرع قطع يد السارق، إذا سرق العاقل البالغ المكلف، أما طفل صغير أو مجنون فلا شأن لهما في القصاص، سرق السارق فتقطع يده، هل تنتج هذه العملية شيئاً؟

الجواب: تؤمن أموال المؤمنين والمؤمنات، ما إن يسرق السارق ويقام عليه حد الله فتقطع يده وتعلق عند باب المسجد حتى يكف كل من في قلبه رغبة في أن يسرق مال الناس، ويتحقق أمن، ووالله! لا يتحقق بغير ذلك حتى ولو جعلت عند باب كل بيت عسكرياً في يده الرشاش، لو استعملت ما استعملت من الوسائل لتأمين أموال الناس فوالله! ما تحقق ذلك، ولن يتحقق إلا بهذا الذي وضع الله من قانون حد السرقة، هذا مثال.

فكيف -إذاً- بشأن الروح وهي خفية، من يستطيع أن يطهرها أو يزكيها بما يوجد لها من أذكار، من تسابيح، من حركات؟ لن يستطيع أحد، فمن رغب في تزكية نفسه فليتعلم عن الله ورسوله الأعمال التي تزكيها، بشرط أن يكون مؤمناً موقناً بها، وأن يؤديها كما وضعها الشارع، فإن زاد فيها بطل مفعولها، وإن نقص منها بطل مفعولها، قدم جزءاً وأخر آخر بطل مفعولها، لا بد أن تؤدى أداءً صحيحاً سليماً كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم هذه المسألة في أذهانكم؟ لو يجتمع علماء الملة على أن يبتدعوا لنا عبادة جديدة، وأخذنا نأتي ونفعلها، فهل يمكن أن تزكي هذه العبادة أنفسنا؟ والله! ما زكتها أبداً، فلهذا اسمع أبا القاسم -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، ويقول: ( كل بدعة ضلالة )، ما معنى (ضلالة)؟ تضل صاحبها وتسوقه في متاهات، ولا تنتج له عملاً يزكي نفسه.

الإسلام ملة إبراهيم التي أوصى بها بنيه

ونعود -معاشر الأبناء- إلى قول ربنا: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، عرفنا هذه الملة؟ إنها -والله- للإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله، انقياد في الظاهر والباطن لله، استسلام كامل، قال: صم فصمت، قال: أفطر فأفطرت، قال: حج فحججت، قال: أعطِ فأعطيت، قال: اسكت فسكت، هذا هو الانقياد، هذا هو الإسلام، بحيث لم يبقَ لك حق في الاختيار فإن شئت فعلت وإن شئت لا، هذا -والله- ما هو بالإسلام.

فمن أسلم قلبه لله، فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، هذا همه، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله؛ حيث وجهه يتجه، إن قال: نم نام، إن قال: قم قام، أليس هذا شأن المؤمن المسلم؟

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، فمن يرغب عن ملة إبراهيم؟ لا أحد، اللهم إلا من جهل قدر نفسه، ما عرف لنفسه قيمة ولا قدراً، هذا يرغب عن ملة إبراهيم ويطلب ملة الشيطان.

ما زلت أقول للسامعين والسامعات: إن ملة إبراهيم هي الإسلام وهو دين الله في الأولين والآخرين: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132]، وصاهم بماذا؟ بالإسلام، ويعقوب جمع أولاده قبل سكرات الموت: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، ويوسف قال: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وسائر الأنبياء من نوح عليه السلام، والله! ما وجد نبي ولا ولي ولا عبد صالح إلا ويسأل الله الوفاة على الإسلام.

إذاً: رغب اليهود والنصارى حيث ابتدعوا اليهودية والنصرانية، ورغبوا بذلك عن ملة إبراهيم، فكيف ترونهم: سفهاء أم رشداء؟ والله! إنهم لسفهاء، يرغبون عن ملة إبراهيم وهم يعتقدون كماله واصطفاءه ورسالته ونبوته، ويرغبون عنها ويحدثون بدعة اسمها اليهودية، والله يقول من سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذاً: هل بينكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟! أعوذ بالله! لو نعطى الدنيا بما فيها فوالله! ما رغبنا عن ملة إبراهيم، ما هذه الملة؟

إنها الحنيفية المسلمة الطاهرة، هي معنى: لا إله إلا الله، لا عيسى ولا مريم، ولا العزير، ليس هناك إلا الله الواحد الأحد، وهكذا ندخل في رحمة الله بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله على علم، والله! إنا لعلى علم أنه لا يوجد في العالمين من يستحق أن يركع له ويسجد أبداً إلا الله.

وإن وجدتم في العالم من يخلق ويرزق ومن يدبر حياة المخلوقين، إن وجدتم من هذا وصفه فاعبدوه، وهل نجد؟ كل الخليقة مخلوقة مربوبة، والله خلقها، فكيف يعبد مخلوق مع خالق، مربوب مع الرب؟

إذاً: كيف وجد الكفر؟ لأن الشياطين تدعو إلى ذلك، الشياطين هي التي تدعو إلى الكفر بالله ولقائه، إذاً: فلنحمد لله على أننا -والله- لا نرغب عن ملة إبراهيم، لا نرضى بملة من الملل، ولا بنحلة من النحل.

اصطفاء الله تعالى واجتباؤه لإبراهيم عليه السلام

إذاً: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ثم قال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، من هو هذا الذي اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله، هو المخبر عن نفسه.

ما معنى (اصطفاه)؟ اجتباه، اختباره، كان العالم يفيض بالشرك والباطل، يعبدون الكواكب، يعبدون النجوم، يعبدون التماثيل التي نحتوها وصوروها، فاصطفى الله تعالى إبراهيم من تلك الأمة العريقة في الشر والباطل، واجتباه واختاره، وأصبح وليه بالحق، وأوحى إليه شرعه، وبعثه إلى الخليقة يدعوها إلى (لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله).

من اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، وفي الآخرة كيف حاله؟ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، ما معنى الآخرة؟ الحياة الآخرة، وهل هناك حياة أولى؟ نعم. هي هذه التي نعيشها وتحياها الخليقة، هذه حياة فيها سمع وبصر، وطعام، وشراب، ونكاح، ولباس، وتنتهي، هذه الحياة الأولى، ثم الحياة الآخرة، وحذف لفظ (الحياة) واكتفي بالآخرة، لأنها معروفة.

مواكب المنعم عليهم

وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، من هم الصالحون؟

اسمع حكم الله في هذه البشرية، يقول تعالى من سورة النساء من كتاب الله القرآن العظيم الذي نسخ به كل الكتب السابقة، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، من منكم يحفظ هذه الجملة؟ والله! لهي خير له من مليون ريال إذا حفظها وفهمها وارتفع مستواه فوق هذه البشرية الهابطة.

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من الرسول؟ هو هنا -والله- محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن (أل) هنا للتعريف وللعهد.

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون؛ لأن (من) من ألفاظ العموم، أبيض، أسود عربي، عجمي، من أي جنس كان. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، لم يخرج منهم أبداً، بل في زمرتهم، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، هل أنعم عليهم بالذرية والأولاد، بالأموال، بالجاه العريض الطويل، أنعم عليهم بالشرف، أنعم عليهم بالبترول، بالصناعة، أنعم عليهم بماذا؟

أنعم عليهم بنعمة الإسلام، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، تلك هي النعمة، ونحن نقول في كل ركعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:5-7]، هل هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام؟ البشرية تعبد الشياطين والأهواء والفروج والدنيا، وأنت تعبد الرحمن الذي لا إله إلا هو، أية نعمة أعظم من هذه؟ البشرية تعيش في الخبث والنجس، وأنت طاهر نقي صاف ظاهرك كباطنك، أية نعمة أكبر من هذه؟

مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] بالإسلام، وهو إيمان وإحسان، ثم بين لنا مواكب هؤلاء المنعم عليهم، فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] هذا موكب، وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] موكب ثان، وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] موكب ثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، موكب رابع، سبحان الله! من حيث الظاهر أفضلهم النبيون، ويليهم الصديقون، وفي المرتبة الثالثة الشهداء، وفي الرابعة الصالحون، والله! ما كان نبي إلا كان صالحاً، ولا كان صديق إلا كان صالحاً، ولا كان شهيد إلا كان صالحاً، إذاً: فالبيت الجامع هو الصلاح، فمن منا يرغب أن يكون صالحاً؟ لك أن تكون صديقاً، لك أن تكون شهيداً، لك أن تكون صالحاً، إلا أن تكون نبياً فلا، لا تطمع ولا تسل الله، لو وجدنا شخصاً يقول: يا ربي! اجعلني نبياً، وطول الليل يبكي، فنقول: أنت تكلفت ما ليس لك، لو تدعو الله مليون سنة فوالله! ما نبأك، ختم النبوات وانتهت، والنبوة ما تأتي بالطلب، الله يصطفي، ينظر إلى من هو أهل ويؤهله حتى يصبح أهلاً فيتلقى المعارف الإلهية بقلبه.

سبيل الدخول في موكب الصديقين

إذاً: فمن منا يرغب أن يكون صديقاً؟ كلنا ذاك، إذاً: فإليكم تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، من الليلة فقط اعزم وصمم، وتوكل على الله، ما يمضي عليك زمن إلا وأنت مسجل في ديوان الصديقين، ونشاهد ذلك فيك أيضاً، اسمع الرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم يخاطب أمة الإسلام، الأمة الحية التي تسمع وتبصر، لا الكافرة الميتة المشركة.

يقول: ( عليكم بالصدق ) أي: الزموه وحافظوا عليه، والصدق يكون في القول والعمل والاعتقاد، لا في القول فقط، وإن كان هو الظاهر، صدق فلان في قوله، وصدق في عمله.

( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر )، يقود، يسوق إلى البر، والبر: الخير كله، كلمة جامعة، لا يوجد خير يخرج عن كلمة (بر)؛ لقول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( عليكم بالصدق ) الزموه، حافظوا عليه، تحروه، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة )، هل تفهمون معنى (يهدي)؟ حين أقول لك: أين بيت فلان؟ تقول: تعال أوصلك إليه، فهذا هداني أم لا؟ هذا معنى الهداية.

( ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، لا شك أن فيكم من بدءوا منذ زمن، ومنا من بدأ أمس، أو سيبدأ غداً، فالموكب ماش لا يرد أحداً.

( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء -ذكراً أو أنثى- يصدق ويتحرى الصدق -يطلبه ويبحث عنه- حتى يكتب عند الله صديقاً )، أصبح في الموكب الثاني بعد النبيين.

سبيل الدخول في موكب الشهداء

من يريد منا أن يكون شهيداً في الشهداء؟ هذا المقام مقام سام، ولكن باب الله مفتوح.

أولاً: انوِ في قلبك -وكن صادق النية- أنه إذا قام جهاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تحت بيعة مؤمن رباني، يقود الأمة إلى صفاء الحياة وطهارتها، فإنك سترمي بنفسك، هذه النية أكدها، ما إن ينادى مناد أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن جاهدوا عباد الله لإنقاذ البشرية وتطهيرها وتصفيتها إلا وأنت معه.

ثانياً: اسأل الله تعالى الشهادة في صدق، كلما دعوت الله قل: اللهم اجعلني شهيداً، اللهم اكتب لي الشهادة في سبيلك، اللهم اجعلني من الشهداء، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، ومن عجيب فعل عمر أنه كان يقول: ( اللهم إني أسألك موتةً في بلد رسولك وشهادة في سبيلك )، فتعجب بنيته حفصة بنت عمر : كيف يا أبتاه تسأل الله الشهادة وتموت في المدينة! المدينة الآن مدينة إسلام، فكيف تحصل على شهادة فيها؟ فيقول: يا بنيتي! فضل الله عظيم واسع.

واستجاب الله لـعمر، وطعن وهو في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمؤمنين بين يدي الله، أية شهادة أعظم من هذه؟ من طعنه؟ مجوسي من عبدة النار، أبو لؤلؤة كان مملوكاً عبداً للمغيرة بن شعبة كسائر العبيد الذين يحصلون عليهم، ولكنه من الحزب الوطني الذي ما إن رأى الإسلام يغمر تلك الديار حتى تكون لينتقم من الإسلام الذي كسر عرش كسرى، وأطفأ نار المجوس، وظهرت أول طلقة وهي هذه، وما زال ذلك الحزب يعمل إلى الآن.

إذاً: سبحان الله! عمر يقول: ربّ أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك، كيف يتحقق هذا؟ هل تحقق أم لا؟ تحقق لـعمر رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: فمن سأل الله في صدق الشهادة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ).

فالنية أولاً، إذا نادى منادي إمام المسلمين أن: حي على الجهاد فارتم معهم، وإذا ما نادى مناد وما جاء جهاد حق كما هو واقع اليوم، فأنت ابقَ على نيتك، واسأل الله أن يكتبك في عداد الشهداء، ومع هذه النية وهذا العزم أنت من الشهداء ولو مت على فراشك. إذاً: هذه -إن شاء الله- نحصل عليها كالأولى.

سبيل الدخول في موكب الصالحين

الثالثة والأخيرة: نريد أن نكون من الصالحين الذين نسلم عليهم كلما نصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين طول الحياة، وهذا اللفظ يشمل كل صالح في الأرض والسماء، ولا يشمل الفاسدين والمفسدين في الأرض أو في السماء، وهل في السماء مفسدون؟ إنهم الشياطين.

فإن قلت: كيف نكون صالحين يا شيخ فهذه مسألة صعبة؟ فالجواب: كلا أبداً، هذه أسهل، وهي: أنك تؤدي حقوق الله وافية، ما تبخس الله ولا تنقصه حقاً من حقوقه، وأن تعبده وحده لا شريك له، هذا حق الله، أن يعبد الله وحده بما شرع من أنواع العبادات.

ثانياً: حق عباد الله، فلا تبخس امرأتك حقها ولا ابنك ولا أباك ولا قريبك ولا البعيد، ولا أي إنسان أبيض أو أسود، كافر أو مؤمن، لا تنقصه حقه، تؤدي حقوق العباد وافية، لا تنقص منها شيئاً، بذلك تكون في ديوان الصالحين، أصبحت دون النبي ولكنك صديق وشهيد وصالح، مع أن الكل يعود إلى زمرة الصالحين.

وهذا إبراهيم ماذا يقول تعالى عنه؟ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)

ثم قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131] رب من؟ رب إبراهيم، هو الذي قال له أسلم، ولعلكم تذكرون تلك التربية الربانية، ففي سورة الأنعام يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا، اذكر أيها المؤمن هذه الحادثة الجليلة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، والعجيب أنه يوجد من المفسرين من يقولون: عمه، ويستسيغونه نقلاً عن أهل الكتاب، يقولون: هو عمه. الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! أما يستحي العبد أن يقول هذا؟ حتى لو عرفت أنه عمه، ما دام أن الله تعالى قال: هو أبوه فلم تخالف قول الله؟! أعوذ بالله.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، يعتب عليه، يوبخه، يؤدبه، ينكر عليه: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] تعبدها! إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذه كلمة إبراهيم بعد اصطفاء الله له: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].

قال تعالى -وهو الشاهد-: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، الله هو الذي رباه، هو الذي نماه، هو الذي رقاه من حال إلى حال، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76]، قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] غطاه بظلامه، قال: رأى كوكباً، سواء الزهراء أو المريخ أو كوكب مشرق، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب الكوكب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، كيف يغيب ربي؟

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77] طلع القمر، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:77-79]، هكذا رباه ربه ورقاه حتى انتهى إلى الحقيقة.

معنى الإسلام لله

وهنا يقول تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أسلم ماذا؟ شاة أم بعيراً، أم دراهم ودنانير؟

أسلم قلبه ووجهه لله، فكل أعماله لله، وهذا أيضاً نحن عليه، هل فينا من يتزوج لغير الله، أو يطلق لغير الله، أو يبني لغير الله، أو يهدم بناء لغير الله، أو يسافر لغير الله، أو يقيم لغير الله؟ والله! لا يوجد، إذ نحن المسلمون لا نأتي ولا نذر إلا لله؛ لأننا وقف على الله، مضى هذا فينا يوم نزل قول ربنا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

أنت لماذا أعفيت لحيتك؟ لله، وأنت لم حلقت؟ هل لله؟ لا والله، فهذه فضيحة، لا يقول: لله، أنت لماذا تشرب هذا الكأس من الماء؟ لله؛ لأحفظ حياتي، وأنت لم تشرب كأس الخمر؟ هل يقول: لله؟

إذاً: الحمد لله، فنحن من المسلمين، حياتنا وقف على الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

هيا بنا إلى مزرعة لنجد فلاحاً في يده المسحاة وهو يضرب باسم الله في الأرض، لم يا عم؟ قال: لله، كيف يكون لله؟ هل الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أنا أفلح هذه الأرض من أجل أن أحصل على قوتي وقوت أهل بيتي لنعبد الله؛ لأننا إذا ما اقتتنا متنا، فلا نعبد الله، فلا بد أن نعمل لله، وهكذا ذو الصناعة في صناعته، وكل مؤمن عرف، فإن حياته كلها وقف على الله عز وجل.

تجهيل المسلمين وإبعادهم عن إسلام الوجوه والقلوب لله تعالى

والذي أبعد المؤمنين والمؤمنات عن هذا الطريق أنهم ما عرفوا، والله! ما عرفوا، أما من عرف أخذ بطريق الهداية، فما أحوجنا إلى العلم، فعدنا من حيث بدأنا، وهذه دعوة إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يفعل معهم ماذا؟ هل يأتي لهم بالخبز واللحم والمرق؟ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] ماذا يصنع؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

سلوا الدنيا تخبركم عن أصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم طيلة ثلاثمائة سنة أو ثلاثة قرون، والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أتقى من تلك الأمة، كيف وصلت إلى هذا؟ ما هي الجامعات التي درسوا فيها والكليات والمعارف؟ أين هي؟ إنها هنا، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم فقط، فتفوقوا ونجحوا، ومن يوم أن أبعدوا المسلمين عن كتاب ربهم وحولوه إلى المقابر وإلى دور الموتى، وصارت السنة مهجورة؛ من ذلك اليوم ونحن نهبط حتى فقدنا كل شيء.

أما فقدنا الأندلس؟ أما فقدنا الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ أما استعمرتنا إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا؟ سبحان الله! المسلم يحكم من قبل الكافر؟ نعم هذا حاصل؛ لأنه ما هو بمسلم، ما أعطى لله شيئاً، هو مسلم بالاسم، لو أعطاه قلبه ونفسه وماله ما استطاع الكافر أن يسوده ويحكمه، فما هي العلة؟

الجهل، جهلونا فسادونا، والآن نحن نصرخ: العلم .. العلم، فما استجابوا.

وقد تقول: اسكت يا شيخ، فما هناك بلد إسلامي إلا فيه وزارات المعارف والمدارس والكليات والمعاهد، فما لك يا هذا؟

فنقول: أين آثار ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ السر أنهم ما طلبوا العلم لله، أي: ما طلبوه من أجل أن يعرفوا الله ويعرفوا محابه ومساخطه، وكيف يجاهدون أنفسهم لتستقيم على منهج العلم والحق، فطلبنا العلم للدنيا، حتى بناتنا، يبعث بابنته تدرس، هل من أجل أن تعبد الله؟ لا، لو أرادت أن تعبد الله فستعبده في البيت، تتعلم من جدتها.. من أمها.. من زوجها، تقول: كيف أذكر الله؟ كيف أصلي؟ تتعلم وتعبد الله، ولكن من أجل الوظيفة، وقد بوب البخاري في الصحيح بـ(باب: العلم قبل القول والعمل).

طريق العودة إلى الله تعالى

وقد يقول قائل: الآن يا شيخ كم صحت هذا الصياح، فماذا ينفع؟ دلنا على الطريق.

فأقول: الطريق -والحمد لله- واضح سهل لا عقبات ولا أحجار ولا حيات ولا بوليس ولا شرط، فقط أهل القرية المسلمة يتعاهدون لله فيما بينهم أنهم يفزعون إلى ربهم كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء في بيت الرب، هذه أول خطوة، وهذا لا يوقف حياتهم أبداً ولا يعطلها، الفلاح يشتغل، التاجر يشتغل، الصانع يشتغل، الكل عندما تميل الشمس للغروب يتوضئون ويلبسون ملابسهم ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت الرب تعالى، من يلومهم؟ من يسخر منهم؟ من يضحك؟ يجتمعون في بيت الرب وسيهيئ الله لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، والله! ليهيئن لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، كيف يصبح أهل تلك القرية؟

أنا أعرف كيف سيصبحون، كالملائكة، لا خيانة، لا غش، لا حسد، لا كبر، لا إسراف، لا بذخ، لا حب دنيا، لا تكالب على الشهوات، أم أنك تقول: هذا لا يمكن، محال! فأقول: أنسيت سنن الله؟ الطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة لا بد أن ينتج الطهارة والصفاء، والأمثلة قائمة والحياة شاهدة وما هو بأمر خفي.

كم حياً في المدينة؟ قالوا: سبعة عشر حياً، وفي بعض المدن عشرون، أهل كل حي يتعاهدون لله أنهم إذا مالت الشمس للغروب يفرغون من أعمالهم، الحلاق يرمي الموسى ويغلق الدكان، التاجر يغلق الباب، الصانع كذا، ويأتون إلى الجامع الذي في حيهم، لا يوجد حي ليس فيه جامع أبداً في العالم الإسلامي من عرب وعجم، يجتمعون في بيت ربهم يستمطرون رحمته، يبكون بين يديه، يذكرون اسمه، ويهيأ لهم أيضاً مرب حليم، يجلس لهم جلوسنا هذا ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم العام بعد العام، أسألكم بالله: هل يبقى في الحي لص مجرم، أو مسرف؟ والله! ما يبقى، فماذا يصنعون بالمال؟ هل يبقى بينهم جائع؟ والله! ما يبقى، هل يبقى بينهم عار؟ والله! ما يبقى أبداً، هل يبقى بينهم جاهل؟ كيف يبقى الجاهل؟ كيف يوجد الجاهل؟

ويتم لهم من الكمال ما تم لأصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم في العصور الذهبية، لا سيما في وقت كهذا.

فما المانع أن يفعل المسلمون هذا؟ إلى الآن ما عرفنا. هل سحرنا اليهود؟ لا ندري. ما هي الموانع؟ ما عرفنا. فهل عرفتم سر هذا البكاء كم نبكي؟

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (57) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net