إسلام ويب

البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس للتعبد فيه والطواف به، وقد كتب الله على المستطيع من عباده حج هذا البيت، والواجب الإتيان بهذه الفريضة مرة في العمر وما زاد فهو تطوع، ولا يجوز لمن ملك القدرة والاستطاعة على الحج ألا يحج؛ لأنه بذلك يكون قد فرط في ركن عظيم من أركان الإسلام.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!

إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ لنحظى بتلكم البشرى التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عندهم )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، درسنا الأربع منها، وانتهينا إلى الآية الخامسة.

تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:93-97].

نستمع إلى شرح هذه الآيات من الكتاب تكرارً لما سمعناه أمس وعلمناه.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب ] اليهود والنصارى [ فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم ] وذلك أيام كانوا معه في المدينة قالوا: [ كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها؟ ] كذا قال اليهود في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وملته وتأكل ما هو محرم في دين إبراهيم من لحوم الإبل وألبانها، [ فرد الله تعالى على هذا الزعم الباطل الكاذب ] أي: رد عليه [ بقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا [آل عمران:93] أي: حلالاً لبني إسرائيل ]، وبنو إسرائيل من هم؟ قال: [ وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل ] أي: بعبد الله القوي القدير، قال: [ ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك لنذر نذره وهو أنه مرض مرضاً آلمه ]، وقد علمنا أنه عرق النسا، فلما آلمه هذا المرض في رجله، قال: [ فنذر لله تعالى: إن شفاه الله ترك أحب الطعام والشراب إليه ]، أي: نذر لله نذراً إن شفاني ربي أترك أحب الطعام إلي وأحب الشراب، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه لبنها لبن الإبل.

قال: [ وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93] ]؛ لأن التوراة أنزلها الله على موسى، وبين موسى ويعقوب قرون عدة.

قال: [ إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون يا يهود أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها؟! فأتوا بالتوراة فاقرءوها؛ فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم، فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة وذلك بعد إبراهيم ويعقوب بقرون طويلة ].

فهذه مظاهر الجهل في اليهود من جهة ومظاهر الكذب والخيانة من جهة أخرى.

ثم قال: [ قال تعالى في سورة النساء: فَبِظُلْمٍ ] أي: فبسبب ظلم [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا أي: اليهود حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]. وقال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [الأنعام:146]. ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا، فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقوله تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [آل عمران:94]، بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم وعلى بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل -أي: يعقوب- على نفسه من لحمان الإبل وألبانها كما علمتم، فأولئك هم الظالمون لكذبهم على الله تعالى وعلى الناس، ومن هنا أمر الله تعالى رسوله- محمداً صلى الله عليه وسلم- أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبر به وهو الحق من الله. إذاً: فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين ] وها أنتم مشركون -والعياذ بالله-.

قال المؤلف: [ هذا ما تضمنته الآيات الثلاث.

وأما قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، فإنه متضمن الرد على اليهود الذين قالوا: إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ ] قالوا هذا لا سيما لما ترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، قالوا: كيف هذا؟ وهي أول بيت وضع للناس، وكذبوا.

قال: [ وهي متأخرة الوجود في نظرهم وكذبهم، فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس ]، إي والله، بل الكعبة بنتها الملائكة لآدم، وحجها نوح وهود وصالح والأنبياء قبل إبراهيم.

قال: [ وأنه جعله مباركاً ] أي: البيت العتيق مباركاً [ يدوم بدوام الدنيا، والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى ويظفر بها، كما جعله هدىً للعالمين. فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعمّاراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية. وقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يريد في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ] وإلى اليوم آيات، وبعض من يجامل ويراعي الملاحدة يقولون: كان طيناً وهل الصخر يكون طيناً حتى تنزل فيه القدم؟

والله ما كان إلا صخراً من جبل أبي قبيس، ولكن لتدوم الآية إلى يوم القيامة فلما وقف عليها إبراهيم ارتسمت قدماه على الصخرة إلى اليوم.

ثم لو ما جاء الرسول صاحب المعجزات والآيات وأقر هذا وصلى خلف المقام وتركه في مكانه فلك أن تقول: هذه اجتهادات وآراء، لكن أما قال الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فهل معنى هذا أن المسجد ومكة كلها مقام إبراهيم؟ المراد من مقام إبراهيم الحجر الذي كان يقوم عليه وهو يزاول بناء البيت، وسن هذا الرسول وبينه، فمن طاف بالبيت سبعة أشواط لا ينتهي طوافه إلا إذا صلى خلف المقام كالمصلي يصلي الظهر أربع ركعات ولا تنتهي صلاته حتى يقول: السلام عليكم، وكذلك الطائف يبقى طوافه معه حتى يصلي ركعتين خلف المقام.

قال: [ ومنها زمزم والحِجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ] أي: علامات على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وتدبيره وعلى قدم هذا البيت قدماً عجيباً من عهد آدم، فكيف يدعي اليهود أن بيت المقدس أولاً؟ والرسول أخبر أن ما بين بناء الكعبة الذي بناه إبراهيم وبيت المقدس أربعين سنة.

نعم سليمان بن داود بنى المسجد الأقصى في عهد دولته وعظمته كما بنيناه نحن وجدّدناه في عهد الإسلام، لكن أصل البناء وقع من إبراهيم، فإنه لما هاجر من العراق نزل بالقدس، وولد له يعقوب.

في القدس أين كان يصلي؟ وكيف نقول: هذا بناه سليمان؟! وهذا بعض المفسرين من المعاصرين قالوا هذا الكلام.

أما كان إبراهيم يصلي؟! وأين كان يصلي؟ وماذ كان يستقبل؟

إذاً: سليمان عليه السلام جدد البناء ورفعه، هل المسجد النبوي على عهد الرسول كما هو الآن؟ فرق كبير.

قال: [ ومنها الأمن التام لمن دخله، فلا يخاف غير الله تعالى، قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ثم هذا الأمن له والعرب كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره ].

الآن إذا لم يكن لنا رجال أمن وحرس ومؤمنون قد لا يأمن الحاج ولا الزائر؛ لأن الأمر أسنده الله إلينا وإلى الدولة المسلمة، وقبل أن لا يكون إسلام ولا دولة ولا حكم، كان الله هو الذي يتولى الأمن، فوالله إن أحدهم ليمر بقاتل أبيه في الحرم لا ينظر إليه بل يغمض عينيه ويمشي، ولو وجده خارج الحرم لقتله، فهذه آيات تدل على علم الله وقدرته ورحمته ووجوده وحكمته.

تفسير قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)

قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

الحج بفتح الحاء، والحِج بكسرها، وأحسن ما تقول: هما قراءتان: قراءة نافع الحج بالفتح، وقراءة حفص الحج بالكسر، والأصل فيهما لغتان: لغة أهل نجد ( الحِج )، وأهل الحجاز ( الحَج )؛ لأن الألسن تختلف بحسب المناطق، فهي بلد واحد ويختلف الناس في النطق.

إذاً: اقرأ الحَج والحِج ولا تتحرج، فالكل جائز وواسع، والقرآن نزل على سبعة أحرف.

وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97]، هذه الصيغة صيغة إلزام وإيجاب، وهي أعظم من صيغة: حجوا أو فرضنا عليكم الحج، فهذه لله حق على عباده المؤمنين، وهي أبلغ من كلمة: حجوا أو ليحجن أحدكم.

فقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ أي: حق واجب.

قوله: حِجُّ الْبَيْتِ ، وهذا الحج مرة واحدة في العمر واجبة، وما عدا ذلك فهو فضل كبير، ويكره للمؤمن أن يمضي عليه خمس سنوات ولا يحج، وقبل الخمس السنوات لا بأس، وهناك في الروضة كأنكم تشاهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقول له: ( أفي كل عام يا رسول الله؟! فيسكت الرسول، أفي كل عام يا رسول الله؟! ) فلا يريد الرسول أن يجيبه، وفي الثالثة يقول له: ( لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )، فلو كان الحج واجباً كل عام فلا تقدر أمة الإسلام عليه؛ لأن الرسول يعرف أن الإسلام ليس في المدينة أو في الحجاز، بل سيبلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب فكيف سيأتي الناس يحجون؟! وحجاج المغرب فقط كانوا يقضونها سنة ذهاباً وإياباً فكيف بمن في أقصى الشرق وأقصى الغرب.

فالحج فرض مرة واحدة في العمر، ولله حق واجب على الناس أن يحجوا بيت الله، فهو الذي أمر ببنائها.

ولكن هل الله في حاجة إلى بيت؟

الجواب: ولهذا كانت الآية الأخيرة قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وإنما هذا البيت بناه لآدم وحواء لما اشتاقت نفسهما إلى الله فقد كانا في الملكوت الأعلى مع الله يكلمهم ويسمعون كلامه، فنزلوا إلى هذا العالم الهابط فانقطعت تلك الصلة فأصابتهما تلك الوحشة التي نحن نشكوها الآن، والله يعلم.

فبنى لهم هذا البيت ليزورانه ويطوفان به ويسألان الله حاجاتهما وهما بين يديه، وبقي في ذرية آدم إذ هو للعالمين أبيضهم وأسودهم وعربهم وعجمهم، أولهم وآخرهم إلى يوم القيامة.

وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الاستطاعة هنا بمعنى القدرة، تقول: أطاع الشيء واستطاعه قدر عليه، وتقول: لم يستطع أي: لم يطعه فعجز، وأحسن ما تحفظون: أن الاستطاعة تتوقف على الزاد والراحلة، ويتفرع عن الراحلة: أمن الطريق، فأنا عندي راحلة أركبها أو باخرة أو سيارة، ولكن في الطريق موانع كحروب فحينئذ لا أستطيع، والأمن لا بد منه، فإن كان يخاف على نفسه في الطريق لوجود لصوص ومجرمين أو قطاع طريق أو ما إلى ذلك، فحينئذٍ ينتظر حتى يزول هذا الخوف.

والزاد لا بد من طعام يأكله ويشرب في طريقه، فقد يمشي شهرين .. ثلاثة وهو يحج، فكيف يأكل ويشرب، ولا بد وأن يترك لأسرته ما يعيشون عليه في غيبته شهر أو شهرين مثلاً.

ولفظ الزاد والراحلة يشمل ويجمع كل ما يعوق عن الحج ويصرف عنه.

والراحلة قد لا يحتاج إليها المرء لكن لا بد أن يستطيع المشي، فإذا كان شيخاً كبيراً أو مريضاً لا يقدر، أو ضعفت رجلاه فهو لا يستطيع وهذا معناه أنه ليس عنده راحلة يرحل عليها.

فقوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي: الزاد والراحلة وما يتطلبه ذلك من الأمن والقدرة، ومن هنا من كان عاجزاً لشلل في جسمه ومرض أقعده فهو معفو عنه، وتجوز النيابة عنه فيحج عنه وليه أو قريبه، ولا بد من أن يعطي نفقة لمن يحج عنه، أما إذا كان قادراً على المشي، وإنما أوعزه المال أو الأمن فينتظر العام والأعوام حتى يفتح له المجال.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

قال المؤلف: [ معنى الآيات:

قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله ألزمهم بحجه؛ ليحصل لهم الخير والبركة والهداية ]، نعم قد يشعر العبد بعدم الحاجة إلى الهداية والبركة، لكن الله لرحمته بأوليائه المؤمنين لما أودع بيته هذا الخير وهذا الكمال فرض على أوليائه؛ حتى يظفروا ويفوزوا بهذه الخيرات والبركات؛ لأنه وليهم، والولي لا يريد لوليه إلا خيره وكماله وسعادته، فليس الله في حاجة إلى هذا الحج وهو في غنى كامل، ولكن لما أودع هذا البيت وهذا الحج من الهداية والبركات والخيرات، ألزم أولياءه المؤمنين أن يحجوا، ما داموا قادرين على ذلك.

قال: [ ففرضه بصيغة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وهي أبلغ صيغ الإيجاب ]، أي: أبلغ من حج أو حجوا أو لتحجن.

قال: [ واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره ]، والاعتمار: العمرة ومعناها الزيارة، قال: [ بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر ].

وعند شرح هذه الآية ذكر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار عند اشتراط الأمن فقال: كان الأمن على عهد الجاهلية بتدبير الله، فألقى الله في قلوبهم احترام هذا البيت وهذا الحرم وتقديسه، كما ألقى في نفوسنا حب الطعام والشراب.

كذلك على شركهم وجهلهم وجاهليتهم فإذا علق أحدهم في كتفه أو في عنقه قشرة من قشور الحرم كان يمشي من مكة إلى نجد إلى تبوك إلى اليمن فلا يخاف إلا الله.

قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97] فتسوق إبلك أو غنمك للحرم هدية تهديها لله رب البيت ليطعمها أولياءه؛ وعلمها بعلامة تدل على أنها مهداة للحرم. فيخرج القبائل وأولادهم وهم جياع يريدون الناقة أو الشاة فيجدونها معلمة يقولون: امش.

والخائف يأخذ من قشر شجر الحرم قطعة ويربطها في عنقه ويمشي، وكل من يراه يقول: هذا للحرم، واقرءوا هذه الآية من سورة المائدة آخر ما نزلت: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ومعنى (قياماً للناس): أن حياتهم متوقفة عليها قائمة عليها، ومعنى (والشهر الحرام): إذا أعلن عن دخول القعدة أو الحجة أو محرم أو صفر انتهت الحرب، والأمم المتحدة والله لا تستطيع ذلك، حتى سمي رجب برجب الأصم، فلا تسمع قعقعة السلاح أبداً، وهذا من تدبير ربنا.

وقد قلت لكم: لما جاء الإسلام ودولته ورجاله أسند الله القضية إلى الحكام والمؤمنين، ولما كان لا حاكم ولا دين ولا معرفة أسند هذا وألقاه في قلوب العرب، ولما جاءت الدولة وجاء النظام والحكم ما وجد سراق ولصوص، وعهد السعودية فيه خير عظيم، والله لا نظير له إلا في العصور الذهبية.

وقال الشيخ رشيد رضا : أين الأمن في هذه الديار على عهد الملك حسين ؟

وقال: ألف الشيخ أبو بكر خوقير رسالة بين فيها التوسل الجاهلي، فأخذه حاكم مكة وولده بالسلاسل والأغلال وأدخلهما السجن حتى مات ولده، وبقي الشيخ أبو بكر خوقير في السجن حتى أطلقه السلطان عبد العزيز لما دخل مكة.

كتب رسالة ضد الخرافات والشركيات؛ لتعرفوا لماذا امتدت مدة الخرافة والشركيات في الأمة الإسلامية؛ لأن الحكام كانوا على تلك الضلالات، فمن رفع صوته بالتوحيد قال: اسجنوه.

أنا أحياناً أفكر: هذه القرون التي شاعت فيها هذه الضلالات أين الحكام؟ يوجد علماء لم ما يستطيعون وهم يشاهدون: القبور تعبد، والأشجار والأحجار؛ أين حكام المسلمين؟

لأنهم كانوا من هذا النوع.

يدلك على هذا هذا الشيخ ألف رسالة فقط في بيان التوسل الحق، ما هو بالقبور والصياح، فما كان من حاكم مكة الشريف إلا أن سجنه وولده، ومات ولده في السجن معه من أجل رسالة.

وبقي الشيخ حياً في السجن حتى دخل عبد العزيز وحكم مكة وأطلق سراحه، وهذه تفيد طلبة العلم. فاحمدوا الله عز وجل أن الناس الآن يدعون إلى الله وتوحيده في العالم الإسلامي بأسره، وليس هناك من يضغط عليه أو يسكت وهو يدعو إلى التوحيد، الحمد لله!

كذلك الأمن الذي حصل في عهد هذه الدولة، وقد كان الحجاج من قبل أيام الخوف يبتلعون الجواهر في بطونهم، حتى إذا تغوط أرسلها فخرجت وغسلها ويعودها إلى بطنه أو كذا.

ولا تفهم أننا تمدنا وتحضرنا، فوالله إنك لا تزال تجد من السرقة والتلصص والإجرام العجب العجاب، وقد حدثني شاب قال لي: يا شيخ! والله إن والدتي وأبي كانا يحجان كل عام لأجل السرقة، وقد بنيا من ذلك عمارة ذات كذا وكذا.

إذاً: ماذا تقولون؟

الحمد لله، اللهم أبق هذا الظل علينا؛ حتى لا نفتن في ديننا ودنيانا كما فتن آباؤنا وأجدادنا.

أو تغضبون؟ لا تريدون السعودية؟ إذاً تأتيكم الدولة اليهودية؟

نعم، من كفر نعمة الله سلبها، فهذه سنة الله ماضية، والله العظيم! ما كفر عبد نعمة الله إلا سلبها الله منه، فالمفروض أن يتعاون كل المؤمنين في الشرق والغرب على إبقاء هذه البقية الباقية، فيدعمونها بطهارة أنفسهم وزكاة أرواحهم والصدق.

لكنهم لا! لا يريدون، في الداخل يفجرون لتسقط، وفي الخارج يكيدون ويمكرون لتسقط وهكذا؛ فلهذا نبكي وما نفع البكاء.

وهذا رشيد رضا يقول: أين الأمن الذي كان في الجاهلية؟ فإن الشيخ أبا بكر خوقير ألف رسالة ينقض فيها التوسل الباطل ويبين التوسل الحقيقي فسجن هو وابنه، حتى مات ولده في السجن من أجل رسالة، فكيف إذاً لو دعا في الجماهير وقال: هذا شرك وباطل، وبقي في السجن حتى أخرجه السلطان عبد العزيز لما حكم.

قال المؤلف: [ وقوله تعالى في آخر الآية: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]].

أي: أن من كفر الحج ولم يحج وأنكره فلا تفهم أن الله في حاجة إليه! وبنينا البيت وما حجوا، فإنه غني عن العالمين. ولا يخطر ببالك أن الله في حاجة إلى حج الناس وأفرضه عليه وألزمهم به: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فتصبح للناس منة على الله لا، فإن الله غني عن العالمين كلهم، كان ولم يكونوا، وحياتهم كلها بيده، فهو موجدها، وهو معدمها، وأرزاقهم وكل ما لديهم هو من الله المنعم المتفضل به.

فإن الله غني عن العالمين.

قال: [ فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعدما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء، وكيف وهو القاهر فوق عباده، والغني عنهم أجمعين؟! ].

ومن هنا استنبط بعض الأصحاب كـعمر وعلي أن من قضى على الحج ولم يحج استخفافاً وعدم مبالاة فإن شاء فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ أخذاً من نور الآية: وَمَنْ كَفَرَ أي: بالحج فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وكلمة كفر دالة على الكفر، لكن لا يحمل إلا على شخص قدر واستطاع ولم يحج استهتاراً واستخفافاً، وعدم مبالاة، فهذا معناه أن مرض الكفر في قلبه. فإن الله غني عن العالمين.

معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟

الجواب: للعلماء قولان: لكن الذي يعول عليه ويؤخذ به أن العبد إذا توفر لديه القدرة المالية والبدنية فلا يحل له أن يؤخره، فلا نقول: على الفور بحيث لا بد، ولا نقول: على التراخي، فنقول: من قدر عليه أي: استطاع أن يحج فليعجل وليحج، ومن كانت هناك موانع فلينتظر حتى تزول بإذن الله تعالى.

هداية الآيات

قال [ من هداية الآيات:

أولاً: ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم ]، أي: دلالة على وجود نسخ في الشرائع: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] وإن وجد من اليهود من لا يقول بالنسخ فلا قيمة لهم.

والنسخ في الشرائع الإلهية ثابت، فما كان حراماً أو حلالاً مثلاً على عهد إبراهيم أو يعقوب جاءت شريعة موسى فنسخه الله، وما كان حلالاً على عهد عيسى جاء الإسلام ونسخه؛ لأن النسخ للأحكام يتوقف على معرفة المشرع لحال المشرَّع لهم، ولظروفهم وما يترتب عليهم. ما هو لمجرد كذا، بل نظراً إلى مصالح الناس يحل الله أشياء اليوم ويحرمها غداً بكتاب وشريعة.

أما الإسلام فلم يطرأ عليه نسخ قط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شرعه الله للبشرية كلها؛ ولهذا لا يمكن أن يأتي زمان لا يتلاءم مع الصيام، أو لا يتلاءم مع الزكاة، أو لا يتلاءم مع تحريم الزنا أو الربا، مستحيل!

[ ثانياً: إبطال دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه لحوم الإبل وألبانها ]، رد الله هذا فقال لهم: هاتوا التوراة واقرءوا إن وجدتم.

[ ثالثاً: تقرير النبوة المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: البيت الحرام كان قبل بيت المقدس، وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به ]، ولا يقبل أي صوت يدعي أن مكان كذا كان قبل كذا وكذا.

والآن يوجد عند الروافض بيت في كربلاء، يعتبرون زيارته أعظم وأجل من زيارة الكعبة، فجعلوا الكعبة باطلة، ولا حرج؛ لأن من وضع لهم ذلك سلخهم سلخاً من الإسلام، وكومهم أكواماً تأكلها النار، وهذا مسخ، ولعل يد اليهود معهم.

[ خامساً: مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله ]، فيمشي الرجل يصلي فرضه طلباً للبركة، وآخر يزور بيت المقدس طلباً للبركة، ويعتمر أو يحج التماساً للبركة حيث وضعها الله عز وجل.

ولا حرج بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد فيه، بل يجوز أن تزور عبداً صالحاً وتجلس معه وتقول: نأخذ بركة تحصل لي! على الأقل من كلامه معك وتوجيهه لك، فضلاً على أنك لا تسمع باطلاً ولا تشاهد منكراً، فتقضي الساعة كلها حسنات.

كذلك إذا جلست مع سيئ فإنك تكتسب الآثام، لأنه قد يقدم لك شراباً حراماً أو طعاماً مسروقاً، فطلب البركة والتماسها مشروع في دين محمد صلى الله عليه وسلم.

[ سادساً: وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك ]. أما إذا كان أطفاله صغاراً، أو الزاد ما كمل، أو يخشى على المزرعة أن تفسد إذا غاب عنها؛ فإذا ما كان هناك أي مانع أبداً فيجب أن تحج، ولا تؤخر الحج.

ومن الموانع كذلك أن أحد أبنائك قد مرض، أما إذا كان ليس هناك مانع وهو في عافية كاملة، والنقود موجودة والطريق آمن فلا يؤخر الحج، فإنه لا يدري قد يموت قبل العام المقبل.

[سابعاً: الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة ] وهنا نورد هذه الآثار كما في الهامش.

قال: [ الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )].

قال: [ ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]].

قال: [ وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: ( المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً )] وهذه رواية مسلم ما هي رواية أبي فلان! أو سنن فلان. قال: [ ( أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض مسجداً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ ) ] فالأرض كلها مسجد.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (35) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net