إسلام ويب

بعد قبول موسى عليه السلام بالشرط الذي اشترطه عليه الخضر لمرافقته، انطلقا في رحلتهما فبدأا بركوب السفينة والتي خرقها الخضر بينما كانت في عرض البحر، ثم قتل الغلام، ثم بنى الجدار الذي يخفي في أصله كنز اليتيمين، وفي كل مرة كان موسى عليه السلام لا يصبر عما يراه من المنكر في ظاهر الأمر؛ وذلك لعدم إحاطته بما عند الخضر من العلم في هذه الأمور، فكان ذلك سبباً لافتراقهما بعد أن بين الخضر لموسى الحكمة مما فعله في كل من الحوادث الثلاث.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الكهف

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:

قال تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:70-74].

بين يدي هذا الدرس أعلمكم أني قد أخطأت بالأمس في موضوع السلام، فقلت: فليسلم الكبير على الصغير، والصواب: يسلم الصغير على الكبير، ويسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير كما في البخاري، وهذه هي تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحية والسلام، فإذا التقى اثنان بعشرة، أو التقى اثنان بخمسة أو ستة في الطريق، فالقليل هو الذي يبدأ بالسلام، وبهذا جاءت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ونعود الآن إلى تلك الرحلة المباركة الميمونة، وأذكركم بأن موسى عليه السلام قد كلمه الله كفاحاً على جبل الطور، وقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام غيرك؟ فقال: بل كلامي يا موسى! فموسى عليه السلام-كما علمتم-وقف خطيباً بارعاً وأجاد وأفاد، فأعجب بخطبته شاب من بني إسرائيل، فسأله فقال له: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا، فعوتب على ذلك برحلة تدوم أشهراً يتعلم فيها، وقد علمتم أن المفروض أن يقول: الله أعلم، وإذا كان يعلم يقول: نعم، يوجد من هو أعلم مني، كما قد عرفتم أن هذا العتاب قد حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم، إذ عاتبه ربنا تعالى من أجل أنه قال: ( سأجيبكم غداً عن أسئلتكم )، ولم يقل: إن شاء الله، فامتنع الوحي عنه نصف شهر، ثم نزل قول الله تعالى من هذه السورة: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، أي: إلا أن تقول: إن شاء الله، ومن ثم لم يُعرف أنه أخبر عن ما هو مستقبل ولم يقل: إن شاء الله، ومن ثم أخذ المؤمنون والمؤمنات بهذا المبدأ أو بهذا المسلك الرشيد، فإذا قال أحدنا: سأسافر غداً، يقول: إن شاء الله، أو متى ننزل عندكم؟ فنقول: الساعة كذا إن شاء الله، فدائماً إن شاء الله، وهو الواقع، إذ إن لم يشأ الله هل تفعل؟ والله لا تفعل، أحببت أم كرهت، ولذا لا بد أن يشاء الله تعالى.

فموسى عليه السلام لما قال هذه الكلمة، قال الله تعالى له: بلى عبدنا خضر أعلم منك، فقال: يا رب! أين أجده حتى أطلب العلم عنده؟ فقال الله له: عليك بمجمع البحرين، أي: عند القرية الفلانية أو المدينة عند ملتقى البحرين ستجد هناك من هو أعلم منك، وخذ حوتاً غداء لك ولفتاك، ويوم تفقدانه ثَّم تجدان الخضر عليه السلام، وفعلاً أخذا حوتاً مشوياً ومشيا، وعندما جاء وقت الراحة استراحا وناما، وإذا بالحوت يخرج من المكتل ويدخل البحر، إذ إن البحر قد انشق له طريقاً كالنفق، وقد كان موسى نائماً نوماً كاملاً، بينما يوشع بن نون عليه السلام كان بين نائم ويقظان، فشاهد الحوت كيف خرج من المكتل ودخل البحر، لكن النوم كان أغلب، ولما قاما من نومهما مشيا يطلبان الرجل، ثم قال موسى بعد أن مشيا: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:62-63]، فرجعا إلى المكان الذي فقدا فيه الحوت، وإذا بـخضر عليه السلام نائماً فوق طنفسة خضراء وعليه غطاء غطى به يديه ورأسه، فجاء موسى فقال له: السلام عليكم، فقال: أبأرضك السلام؟ فقال: نعم، فقال له: وعليك السلام، ثم قال له: أنا موسى، وقد أمرني ربي أن أتعلم منك، وأنا من الآن طالب العلم عن الخضر، مع أنه نبي ورسول يتلقى معارفه من الله تعالى، ومع هذا لما وجد من هو أعلم منه قال: لا بد وأن نطلب هذا العالم ونتعلم عنه، فسن هذه السنة للبشرية جمعاء، وبالتالي فإذا سمعت بأن هناك من هو أعلم منك فاطلب العلم عنه.

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، يستأذن بأدب واحترام: تسمح لي أن أمشي معك وأن أطلب العلم عنك؟ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، أي: لا تقدر، إذ إن علومي غيبية وأنت علومك ظاهرة شرعية، فلا تستطيع أن تصبر معي أبداً، إذ كلما ترى شيئاً سوف تأمر به أو تنهى عنه، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، أي: لا تستطيع أن تصبر على شيء ما علمته، كقتله للغلام، إذ كيف سيصبر موسى؟ لا يستطيع، ثم أجابه موسى متعززاً: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، فما نسي كلمة: إن شاء الله، وقد تأدب بها عليه السلام، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، فمرني أفعل، وانهاني أترك، وهذا هو شأن التلميذ والطالب مع شيخه ومعلمه.

تفسير قوله تعالى: (قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً)

قال تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70].

ثم قال الخضر لموسى: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ، أي: يا موسى! فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ من الأشياء، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، أي: حتى أكون أنا الذي أبين لك الحقيقة، لماذا فعلتُ كذا وكذا؟ ولذا فالواجب عليك أن تمشي معي ولكن لا تسألني عن شيء لم فعلت؟ أو لم تركت؟ حتى أكون أنا الذي أبين لك الحقيقة، فأنت يجب أن تصبر وتتحمل، وأنا بعد ذلك أبين لك لم فعلت ذلك؟

فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مطلقاً، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا وبياناً وتفصيلاً.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ...)

قال تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71].

فَانطَلَقَا ، وذلك بعد أن وافق موسى عليه السلام على الشرط الذي وضعه الخضر، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ، انطلقا مع الساحل فوجدا سفينة على شاطئ البحر فركباها، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: أنه جاء عصفور ووقع على حافة هذه السفينة، فأنزل رأسه والتقط قطرة من البحر، فقال الخضر لموسى: علمي وعلمك إلى علم الله كما أخذ هذا العصفور من البحر، فماذا أخذ من البحر؟ لا شيء، وهو والله لكذلك.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ، والسفينة كانت لبعض اليتامى، وقد كانوا يعرفون الخضر، فقد أحسن إليهم في يوم من الأيام فأركباه بلا مال ولا أجرة، أو أنهم يعرفون جلاله وكماله ففرحوا بأن يركب معهم في سفينتهم، وهذه السفينة ليست مثل بواخر اليوم بالغازات والهيدروجين، وإنما سفينة على البحر.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ، من الذي خرق السفينة؟ الخضر، فقد أخذ قدوماً وضرب خشبة من أخشاب السفينة فخرج الماء، فقام موسى يجمع ثيابه ويجزع في الماء حتى لا يفيض، إذ إنه خاف أن يغرقوا.

ثم قال تعالى: قَالَ ، أي: موسى للخضر: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ؟ وفي قراءة سبعية: (أخرقتها ليغرق أهلها؟)، والكل صحيح، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]، أي: لقد جئت بشيء عجباً، والإمر هو العجب من الأمور الفظيعة، إذ كيف يمنون علينا بالإركاب مجاناً وبعد ذلك تفسد عليهم سفينتهم؟! والخضر يعرف لماذا؟

ولهذا يقول الفقهاء: يجوز لمن تحته يتامى، وأراد من أراد أن يأخذ مالهم بسبب من الأسباب، أنه يجوز للوصي أو الكفيل أن يفسد بعض المال حتى يترك لليتامى، كهذه السفينة، فقد كان هناك ملك يطلب السفن، فإذا وجدها سليمة أخذها للحرب أو لشيء آخر، وإن وجدها معيبة تركها كما سيأتي في الدرس الآتي إن شاء الله تعالى.

قال: قَالَ أَخَرَقْتَهَا ، والخرق معروف، لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71].

تفسير قوله تعالى: (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً)

قال تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72].

قَالَ ، أي: الخضر عليه السلام، أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، ما صبرت، ليس هذا شأنك، لماذا تقول هذا؟ قد أعلمتك قبل الرحلة معي وقلت لك: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، وها أنت ما صبرت، فلماذا تقول لي: تريد أن تغرق أهلها؟ إن هذا ليس شأنك.

تفسير قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً)

قال تعالى: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73].

ثم قال موسى للخضر: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، وقد تكلم أهل التفسير في النسيان هنا هل على وجهه أو على حقيقته؟ وقد بين لهم رسول الله أنه نسيان، وقد نسي موسى عليه السلام، وليست القضية كدرس، وإنما هي مسافات يقطعونها في أيام وليالي، وبالتالي فقد ينسى.

قال: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، يعني من يوم أن تعاهد معه إلى هذا اليوم، يعني: يوماً واحداً؟! يمكن أن يكون عاماً أو عامين وهو يطلب العلم معه فنسي، لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، فقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن موسى نسي موسى بالفعل، وكذلك الله قد أخبر أن موسى قد نسي، فقال: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، أي: لا تكلفني، فهذه أتعاب لا أطيقها فارحمني؛ لأن هذا أمراً لا يطيقه موسى، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، ولا تؤاخذني بما نسبت.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله...)

قال تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74].

فَانطَلَقَا ، نزلا من السفينة في مدينة من المدن، وذلك بعد يوم أو بعد شهر، حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا ، وأهل التفاسير منهم من يقول: شاب ويطلق عليه غلاماً، والصحيح: والله لغلام صغير ما بلغ سن الرشد ولا التكليف، وإلا كيف يقول تعالى: نَفْسًا زَكِيَّةً [الكهف:74]؟ ومعنى هذا أنه وجد طفلاً صغيراً يلعب مع الأولاد، فبالوحي الإلهي لوا رأسه وقتله، فكيف يطيق موسى مثل هذا؟ هذه لا تطاق.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ ، أي: موسى، أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ، وفي قراءة سبعية: (نفساً زاكية)، بِغَيْرِ نَفْسٍ ، والنفس تقتل بالنفس، فلو أن هذا الغلام قتل يُقتل، أما إذا لم يقتل فكيف يقتل؟! وأنتم تعرفون أن شريعة من قبلنا قد لا تكون كشريعتنا، فالنفس بالنفس هذه عامة، لكن في الإسلام أيضاً الزاني المحصن يقتل، والمرتد عن الإسلام يُقتل، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، أي: بواحدة من ثلاث خصال: ( النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة ).

( لا يحل دم امرئ مسلم )، أي: لا يحل إراقته وقتل صاحبه، ( إلا بإحدى ثلاث )، أي: بواحدة من ثلاث خصال: ( النفس بالنفس )، فمن قتل يقتل ولا حرج، ( والثيب الزاني )، والثيب هو الذي تزوج وطلق، أو ماتت عنه زوجته، أو بقيت زوجته عنده، بمعنى أنه عقد عقد النكاح ونكح امرأته وعرف هذه الجريمة ثم ارتكبها، أما غير المحصن فهو الذي لم يتزوج بعد، ويسمى البكر، فإن وقع في زنا فإنه يجلد مائة جلدة بعصا أمام الناس، ثم يغرب سنة، كأن ارتكب الزنا في المدينة فإنهم يبعثونه إلى جدة، أو إلى الطائف، أو إلى رابغ، أو إلى ينبع، والسر في هذا أنه لو جلد في اليوم الأول وشاهده الناس في اليوم الثاني يمر في الشوارع فإنهم يقولون: هذا هو، فيذكرهم بالزنا والعياذ بالله تعالى، ومن هنا أبعدوه عن أعين الناس حتى تبتعد هذه الفاحشة من قلوب الناس، ولذا فالحديث عن الزنا يدعو إلى الزنا، وذكر الفاحشة والتحدث بها يثير الغرائز ويبعث الناس إليها، ولهذا لا نتكلم بهذه الكلمة.

( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، أي: إلا بواحدة من ثلاث، ما هي؟ ( النفس بالنفس )، فمن قتل ظلماً وعدواناً فإنه يُقتل، ( والثيب الزاني )، والثيب هو ذاك الذي تزوج وعرف ما هو الزواج؟ ووطئ النساء، فإنه يقتل إن ارتكب فاحشة الزنا، ( التارك لدينه )، أي: المرتد، ( المفارق للجماعة )، أي: جماعة المسلمين، وبالتالي فأيما جماعة خرجت عن إمام المسلمين فإن المؤمنين يقاتلونها حتى تعود إلى الرشد والصواب.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا ، والصواب أنه الطفل الصغير الذي ما بلغ سن الرشد بعد، إذ ما زال في التاسعة أو في العاشرة أو في الثامنة من عمره، فَقَتَلَهُ ، أي: أن الخضر هو الذي قتل الغلام بأمر من الله عز وجل، تقول بعض الروايات: إن الخضر كشف لموسى عن عضد هذا الغلام فوجد مكتوباً على ذلك العظم: هذا يموت كافراً، أي: لو عاش لارتد والعياذ بالله، والشاهد عندنا: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، والنكر هو المنكر الذي تنكره الشريعة والعقول، أي: فعلت شيئاً منكراً، وهو كذلك.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

والآن مع شرح هذه الآيات من الكتاب.

معنى الآيات

قال: [ ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه، وهو خضر ]، ولهذا لا نقول: الخضر، وإنما خضر بدون أل.

قال: [ قوله تعالى: قَالَ ، أي: خضر، فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ، مصاحباً لي لطلب العلم، فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أفعله مما لا تعرف له وجهاً شرعياً، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، أي: حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه.

وقوله تعالى: فَانطَلَقَا ، أي: بعد رضا موسى بمطلب خضر، انطلقا يسيران في الأرض، فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب، فلما أقلعت السفينة وتوغلت في البحر أخذ خضر فأساً فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71]؟ على أنهما حملانا بدون نَوْل ] أي: مال أو أجرة، قال: [ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]، أي: أتيت يا عالم منكراً فظيعاً، فأجابه خضر بما قص الله تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، أي: لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه، وكانت هذه من موسى نسياناً حقاً، ولا تغشني بما يعسر عليَّ ولا أطيقه فأتضايق من صحبتي إياك.

قال تعالى: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً ]، ذكر ابن جرير أنه يقال له: جيشون، وقال القرطبي: شمعون أو جيشول باللام، أو جيشون بالنون، والكل بمعنى واحد، وأمه يقال لها: رحمة، ولا فائدة في معرفة ذلك.

قال: [ فَانطَلَقَا [الكهف:74]، بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً يلعب مع الغلمان، فأخذه خضر جانباً وأضجعه وذبحه، فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74] زاكية طاهرة؟! لم يذنب صاحبها ذنباً تتلوث به وروحه، ولم يقتل نفساً يستوجب بها القصاص، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، أي: أتيت منكراً عظيماً بقتلك نفساً طاهرة لم تذنب، ولم تكن هذه نسياناً من موسى بل كان عمداً ]، إذ ما اعتذر وما أطاق ذلك؛ لأنه كان عمداً، قال: [ إذ لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجهاً ولا سبباً ]، أي: لم يعرف له وجهاً من الوجوه ولا سبب من الأسباب، وفي الآيات التالية بيان هذه الأحداث، وبقي حدث آخر وهو أنه هدم جداراً ثم بناه مرة أخرى من أجل مصلحة لصاحبه، ويفسر تعالى ذلك في الآيات المقبلة.

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات: ثالثاً: طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً ]، سواء كان نبياً أو ولياً أو عالماً أو ربانياً أو تقياً، فلا بد وأن يقع في النسيان، والدليل على ذلك أن موسى نسي والله شهد بهذا، وكذلك الرسول يقول: نسي موسى.

قال: [ رابعاً: مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ، قال تعالى: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] ]، مراجعة الصواب بعد الخطأ أولى، وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64].

فقوله تعالى: فَارْتَدَّا [الكهف:64]، أي: رجع موسى ويوشع على أرجلهما عائدين إلى المكان الذي ناما فيه، وكان موضع خضر عليه السلام، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وعادا إلى المكان بعدما مشوا، ولم يقل موسى: لا نرجع! وهكذا فكل من أخطأ ينبغي أن يعود إلى خطئه، وقد بينت لكم البارحة فقلت: أخطأت عندما قلت: وليسلم الكبير على الصغير، والصواب: وليسلم الصغير على الكبير، والذي جعلني أخطئ هو أنه ورد أن من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم على الأطفال الصغار ليعلمهم السلام.

قال: [ خامساً: تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، وبه استدل موسى-أي: بهذا العجب- على مكان خضر فوجده هناك ]، إن الإحياء والإماتة مظهراً من مظاهر قدرة الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يحيي ويميت، فهذا السمك المطبوخ الذي يؤكل عادت إليه الحياة وانطلق في البحر وانفلق البحر له سرباً أو نفقاً، إنه مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.

قال: [ سادساً: استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالماً، وهنا أورد الحديث التالي، وهو خير من قنطار ذهباً لمن حفظه وعمل به، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال: سأل موسى ربه: قال: رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب! أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات ].

مرة أخرى نعيد كلام ابن عباس رضي الله عنهما: قال: سأل موسى عليه السلام ربه تعالى فقال له: رب! أي عبادك أحب إليك؟ فهل تريدون أن تكونوا من محبوبي الله؟ اسمع حتى تعرف هل أنت محبوب عند الله أم لا؟ فقال الله عز وجل: الذي يذكرني ولا ينساني. ولهذا نقول دائماً: لا تنسوا ذكر الله في مجالسكم، في قيامكم، في قعودكم، بل في كل أحوالكم، وقد شاهدت من المستمعين عبداً أصبح لا يفتر يذكر الله وأنا أراقبه، فالحمد لله.

ثم سأل ربه فقال: فأي عبيدك أقضى؟ أي: أي عبادك أحسن قضاء؟ فقال الله عز وجل: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. فهذا هو أقضى القضاة حقاً وصدقاً، إذ إنه يحكم بالحق ولا يتبع الهوى وما تمليه النفس والشيطان.

ثم سأل ربه فقال: أي رب! أي عبادك أعلم؟ أي: نريد أن نعرف من هو أعلم عبادك؟ فأجابه الرب تعالى بقوله: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، أي: يطلب علم الناس ويضيفه إلى علمه، ثم قال: عسى أن يظفر بكلمة تهديه إلى هدى، وليس معناه: أنك إذا علمت لا تجلس في حلق الدرس، وهذه لنا، إذ مهما كنت عالماً والدكتوراه في جيبك أو في قلبك فلا تنسى أنك إذا جلست في حلقة تسمع كلمة لا تعرفها، تنفعك وتنتفع بها، وهذا توجيه الله عز وجل، ثم قال: أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.

قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة ]، وقد قدمنا بالأمس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمح لنا أن نسافر فرادى، بل لا بد من اثنين فثلاثة فأكثر، وأقلهم ثلاثة، حتى اثنين لا ينفع أيضاً، لكن ثلاثة فنعم، لا سيما السفر البعيد الذي فيه مسافة القصر كخمسين كيلو أو ثمانية وأربعين كيلو متر.

فقوله: جواز الاشتراط في الصحبة، وذلك كما اشترط الخضر على موسى، فإذا أردت أن تصاحبني فأشترط عليك أنك تعطيني كذا أو تأذن لي بكذا، أو أنا أمشي وأنت راكب مثلاً.

قال: [ ثانياً: جواز ركوب السفن في البحر ] وهذا بالإجماع، والدليل أنه قد ركبها موسى مع خضر.

قال: [ ثالثاً: مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر ]، كموسى عندما أنكر؛ لأنه رأى في الظاهر منكراً، لكن في الباطن ليس بمنكر بل هو حق، لكن موسى لا يعلم هذا، إذ هذا مما خص الله به خضر.

قال: [ رابعاً: رفع الحرج عن الناس ]، فعدم القدرة على شيء مرفوع، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73].

قال: [ خامساً وأخيراً: مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس ]، وهو في ديننا والحمد لله، وقد عرفتم الحديث: ( لا يحل دم امرئ مسلم ) ذكر كان أو أنثى، ( إلا بواحدة من ثلاثة: النفس بالنفس، الثيب الزاني، التارك لدينه المفارق للجماعة )، والله تعالى أسأل أن يجمعني وإياكم في دار الكرامة.

وصلى الله على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف (15) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net