إسلام ويب

ضرب الله عز وجل لعباده مثلاً لرجل مؤمن وكافر، أما الكافر فقد وهبه الله عز وجل نعيم الدنيا، فأعطاه حديقتين، وجعل خلالهما نهراً، فكانت تؤتي من الثمار والخيرات ما لا يحصى، فحصل بينه وبين الرجل المؤمن حوار وجدال، فأنكر الكافر أن يكون ما فيه من النعيم قابل للزوال، وأنه إنما نال ذلك بسبب استحقاقه له ورضا الله عز وجل عنه، فرد عليه الرجل المؤمن مذكراً إياه بمنة الله عليه، وأن الكفر مؤذن بزوال النعم وحلول النقم، وهو جزاء كل متكبر على ربه، مغرور بما عنده.

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:

قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:32-38].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة -سورة الكهف- مكية، أي: نزلت بمكة، والمكيات من السور يعالجن العقيدة، ومن أعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وتأملوا يفتح الله عليكم، القرآن به مائة وأربعة عشر سورة، فبعضها مكي وبعضها مدني، فالمكي نزل الوحي به في مكة قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والمدني نزل بالمدينة والرسول فيها صلى الله عليه وسلم، فلو تتبعت المكيات تقرؤها تجدها تدعوا إلى إيجاد عقيدة صحيحة سليمة في قلب العبد، وبذلك يحيا ويكون إنساناً حياً، فيسمع ويعطي ويأخذ في حياته.

ثم تقرر النبوة المحمدية، وهو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن إثبات الرسالة يمكِّننا من أن نعبد الله على الوجه الذي يرضيه عنا، فلا بد من نبي ورسول، وأما تقرير البعث الآخر أو الحياة الثانية أو الدار الآخرة أو الساعة، فهذا ركن من أركان العقيدة ومن أهم أركانها، فأيما عبد لا يؤمن بالدار الآخرة، ولا بما يجري فيها، ولا بما يتم فيها من جزاء بالخير أو الغير، لا يستطيع أن يستقيم على منهج الحق أبداً، لا يقدر على أن يستقيم فينهض بالواجبات ويتخلى عن المحرمات، وبالتالي لا بد وأن يكون قد اعتقد أنه بعد الموت يبعث ويسال ويجزى، ومن ثَمَّ يستقيم ولا يهمل ما أوجب الله ولا يفعل ما حرم الله تعالى.

وها نحن مع هذه الآيات المباركة، وقد تقدم أن عرفنا أن المشركين -وعلى رأسهم عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف- بعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: إن كنت تريد أن نجالسك ونسمع عنك فأبعد عنك هؤلاء الفقراء وسيخي الثياب، والذين ليسوا أهلاً لمجالس الأشراف والسادة، وهم بذلك يريدون بلالاً وعماراً وصهيباً وغيرهم من فقراء المسلمين، فعصم الله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، فرفض ذلك العرض الذي قُدِّم له، ورفض أن يطرد المؤمنين من حوله ليجلس الكافرون الأغنياء والسادة والأشراف، وهذا قد تم بالفعل، والآن يضرب الله تعالى لذلك مثلاً، فنصف المثل الليلة ندرسه إن شاء الله، والنصف الآخر في الليلة المقبلة إن شاء الله.

قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [الكهف:32]، يا رسولنا! اضرب لهؤلاء المشركين الكافرين المكذبين بالبعث والجزاء، المطالبين بأن تطرد المؤمنين من حولك، والمثل هي الصورة حتى يتضح بها المعنى، فما هذا المثل؟ قال: مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الكهف:32]، مؤمن وكافر، جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا [الكهف:32]، وهو الكافر، جَنَّتَيْنِ [الكهف:32]، أي: بستانين، ووصف البستانين هو: جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32]، أي: أن البستانين من العنب أو شجر الكرم، وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ [الكهف:32]، وهذه لطيفة قرآنية لو تطبق، فإذا أردت أن تنشئ مزرعة أو بستاناً فالقرآن قد بين لك الطريق، فماذا تفعل في الوسط؟ شجر العنب أو الكرم، وحف ذلك بالنخيل، فالنخيل تدور شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، والعنب في وسطها، وبين النخيل من أنواع الزروع، واسمع ما قال تعالى: جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا [الكهف:32]، أي: أحطنا بهما، بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32]، أي: بين النخيل والعنب زرع، كالبر أو الشعير أو القمح أو ما إلى ذلك.

تفسير قوله تعالى: (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً...)

ثم قال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ [الكهف:33]، أي: كل واحدة من البستانين، آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33]، أي: ما نقصت شيئاً، و(أكْلها) قراءة أيضاً، وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33]، ما نقصت ولا بخست شيئاً، وغنما أتت بكل ما هو مطلوب منها، وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [الكهف:33]، أي: فجرنا خلال البستانين ووسطهما نهراً من الماء الجاري، وذلك لسقي الزروع والشجر والنخيل.

تفسير قوله تعالى: (وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره...)

ثانياً: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34]، وفي قراءة سبعية: (وكان له ثُمُر)، والثُمُر هي الأموال على اختلاف أنواعها، والثمََر كذلك المال، وقد أثمرته تلك البساتين، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ [الكهف:34]، أي: المؤمن، فالآن الكافر المكذب بالبعث والجزاء، والمكذب بالنبوة المحمدية من جماعة أبي جهل ماذا قال؟ قال: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، وقال له هذا وهو يحاوره، أي: يجادله ويخاصمه ويكلمه، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا [الكهف:34]، أي: مالي أكثر من مالك أيها المؤمن! و وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، أي: قبيلة رجالها إذا نفرنا نفروا معنا، وأنت ليس عندك لا مال ولا رجال كشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولها، إذ لا مال عنده ولا رجال.

تفسير قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه...)

قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35].

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]، أي: دخل ذلك الكافر المشرك بستانه، وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35]، أي: والحال أنه ظالم لنفسه، وقد سبق أن عرف المستمعون والمستمعات ظلم النفس كيف يكون؟ إذ إن ظلم النفس والعياذ بالله تعالى هو الكفر والشرك والذنوب والمعاصي، ولذا فالنفس يجب ألا تظلمها، فلا تصب عليها أطنان الذنوب والآثام من الكفر والشرك وكبير الذنب والآثام، والظالم لنفسه هو ذلك الذي يخبثها ويلوثها بمادة الشرك والكفر والفسق والفجور، وقد كانت نفسه نقية طاهرة كهذا النور فتصبح مظلمة منتنة عفنة بآثار الذنوب والمعاصي، فالله تعالى يقول: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]، أي: أن هذا الكافر دخل بستانه والحال أنه ظالم لنفسه، أي: بالشرك والكفر وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.

فماذا قال هذا الكافر؟ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35]، أي: دخل البستان فقال: ما أظن أن هذا النعيم يزول أبداً، وهو بهذا قد تبجح بالكلام والتكبر والتعالي على الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (وما أظن الساعة قائمة...)

ثانياً: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، أي: وما أظن الساعة التي يأمرنا بها، ويبلغنا رسولنا عنها، ما أظنها تقوم أبداً ولا توجد، فهذا هو الكافر المشرك الملحد يقول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، وعلى فرض، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: وإن فرضنا أن هناك عودة إلى حياة أخرى فسأجد مثل هذا أو خير منه، وحمله على هذا التكبر والتبجح والكذب.

فاسمع ما يقول لذلك المؤمن الذي يحاوره: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي [الكهف:36]، أي: رجعت، لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، فهو لا يؤمن بالبعث والدار الآخرة، لكن يقول: على فرض أن هناك بعث وحياة ثانية فأنا سأجد أكثر من هذا، بل وأفضل وخير مما أعطاني الآن في هذه الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره...)

قال تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37].

والآن الكلمة للمؤمن أو للعبد الصالح: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:37]، أي: يجادله ويكلمه، فماذا قال له؟ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37].

فقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، أي: خلق أباك آدم من تراب، وأنت من نطفة من مني الرجال والنساء، فكيف تكفر بالله وأنت مخلوق له وهو خالقك؟! أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، بالنسبة إلى آدم، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الكهف:37]، بالنسبة إليك أنت، ثُمَّ سَوَّاكَ [الكهف:37]، وصنعك وأوجدك رجلاً على هذه الصورة، وهذا الاستفهام للتأديب والتأنيب.

أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، فأشركت به وعبدت معه غيره وجحدت رسالة نبيه؟ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37]، فهذا هو كلام المؤمن الموحد.

تفسير قوله تعالى: (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً)

وأخيراً قال الرجل الصالح: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف:38]، أي: بالنسبة إلي فأنا أقول: الله ربي ولا أشرك به أحداً.

وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:39-41]، وهذه كلمات الرجل المؤمن.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

مرة أخرى أعيد هذه الآيات فتأملوا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32]، نِعْمَ البستانان.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ [الكهف:33]، أي: أعطت، أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33]، أي: أثمرت الثمار اللازم بلا نقص، وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا [الكهف:33]، أي: خلال البستانين، نَهَرًا [الكهف:33]، يسقي به الزرع والنخل.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ [الكهف:34]، أي: للمؤمن الموحد، وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34] ويجادله، قال له: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، وأنت لا مال لك ولا رجال يحمونك أو يقفون إلى جنبك، أما أنا فأكثر منك مالاً وأعز نفراً، وهذا كما كان المشركون يقولونه في مكة.

ثم قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]، أي: هذا الكافر، هذا المشرك، هذا الأعمى البصيرة، دخل جنته والحال أنه ظالم لنفسه بالكفر والشرك، إذ لطخها بالذنوب والآثام، قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ [الكهف:35]، أي: ما أظن أن هذه المزارع وهذه النخيل تبيد وتفنى، وما أظن الساعة التي يقولون عنها قائمة، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، أي: ساعة البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وهذا كلامه، وعلى فرض وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: إن صح أننا نعود إلى حياة جديدة ونعود إلى الله تعالى، فإن ربي يعطيني أكثر مما أعطاني الآن، وهذا تبجح باطل وكلام سافل لا قيمة له، وهذا هو شأن العميان الذين لا بصيرة لهم، وهو بذلك يحاج رسول الله ويجادله.

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ [الكهف:37]، أي: المؤمن الموحد، وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:37]، فماذا قال له؟ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37]، أي: كيف تكفر بربك وخالقك؟ خلق آدم من طين وخلقك أنت من نطفة من مني الرجال والنساء، ثُمَّ سَوَّاكَ [الكهف:37]، وصنعك حتى أصبحت رجلاً بهذه الصورة، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38]، أي: أما أنا فالله ربي ولا أشرك به أحداً.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

وإليكم الآن شرح هذه الآيات من الكتاب.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك، وَاضْرِبْ لَهُمْ [الكهف:32]، أي: اجعل لهم مثلاً، رَجُلَيْنِ [الكهف:32]، مؤمناً وكافر، جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا [الكهف:32]، وهو الكافر، جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ [الكهف:32]، أي: أحطناهما بنخل، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا [الكهف:32]، أي: بين الكروم والنخيل، زَرْعًا [الكهف:32].

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33]، أي: لم تنقص منه شيئاً، وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [الكهف:33]، ليسقيهما.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34]، أي: في الكلام يراجعه ويُفاخره، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، أي: عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]، والحال أنه ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35]، بالكفر والكبر، وقال: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ [الكهف:35]، يشير إلى جنته، أَبَدًا [الكهف:35]، أي: لا تفنى.

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ [الكهف:36]، أي: إِلَى رَبِّي [الكهف:36]، كما تقول أنت، لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: من جنتي، مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: مرجعاً إن قامت -كما تقول- وبعث الناس وبعثت معهم، هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر.

وهنا قال له صاحبه المسلم وهو يحاوره: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، وهو الله عز وجل، حيث خلق أباك آدم من مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الكهف:37]، أي: ثم خلقك أنت من نطفة، أي: من مني، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37]، وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور المعاند.

ثم قال له: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف:38]، أي: لكن أنا أقول: هو الله ربي، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38]، من خلقه في عبادته ]، وهذا الحوار يتم إن شاء الله غداً بإذن الله.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات: أولاً: استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني الخفية إلى الأذهان ]، استحسان ضرب الأمثال لأهل العلم والبصيرة، ومن يجادلون الهابطين، فيحسن بهم أن يضربوا لهم المثل حتى يتضح لهم الحال، وضرب الأمثال مستحسن، وكيف والله قد ضربه؟ فلا بأس أن تضرب لأخيك مثلاً حتى تقنعه، وحتى تضع يدك على المطلوب مما تريد، والآية دليل على ذلك.

قال: [ ثانياً: بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم ]، بيان صورة مثالية لمن أراد أن يزرع النخل والكرم، وهذه الصورة واضحة وهي: النخيل تحوط بها شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً، والوسط للعنب، والزرع بينها، فهذه صورة في القرآن.

قال: [ ثالثاً: تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء ]، وهذا هو المطلوب، إذ السور المكية تعالج هذه، أي: عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، فهذه الآيات تقرر هذه، فقد أثبتت النبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبتت الدار الآخرة والمعاد.

قال: [ رابعاً: التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر ]، التنديد بالكفر والكبر، إذ كلاهما مرض من أصيب بهما لم ينجح، ولذلك فقد ندد الله تعالى بهذا الكافر لكفره وكبره والعياذ بالله، فلنجتنب الزلتين، فلا نكفر بربنا ولا بماء جاءنا عن نبينا، ولا نتكبر عن أحد منا ولا من غيرنا، وإنما دائماً الاعتدال والرحمة والخيرية فينا.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف (8) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net