إسلام ويب

بعد أن ولي يوسف عليه السلام أمر الوزارة وسلمه الملك مقاليد الأمور سار بالناس سيرة حسنة في فترة السبع السنين الخصبة، ثم انقضت هذه السنين وبدأت السبع العجاف بما فيها من قحط وجدب، فاحتاج أهل أرض كنعان إلى الطعام كغيرهم، فبعث يعقوب عليه السلام بنيه إلى مصر ليمتاروا بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام، فلما دخلوا على يوسف عرفهم ولم يعرفوه، فجهزهم ولما أرادوا الانصراف طلب منهم أن يأتوه بأخيهم من أبيهم في المرة القادمة إذا أرادوا الميرة، فإن هم لم يأتوا به فلن يميرهم، وكان هذا العمل أول خطوة ليلتقي يوسف بأهله ووالده.

تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .

وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.

قال تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:58-62].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سنعيش مع قوم هم أشرف منا وأفضل حقاً وصدقاً، مضت عليهم آلاف السنين كأننا في مجالسهم وبينهم، فسبحان من أكرمنا وأنعم علينا بالإيمان بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كتاب الله وكلام الله.

نعيش الآن مع قوم مضوا ونعرف عن حالهم وما جرى بينهم وما تم لهم، ونحن بعيدون عنهم، بيننا وبينهم أكثر من أربعة آلاف سنة، آمنا بالله.

ومن هنا فالمفروض أن ينمو إيماننا وترتفع درجته، ولا نصبح كغيرنا من أهل الغفلة والإعراض.

يقول ربنا جل ذكره وهو يقص على مصطفاه ومجتباه محمد رسول الله قصة يوسف وإخوته، يقول: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف:58]، وعرفنا من هو يوسف: إنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، الصديق ابن الصديق ابن الصديق، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، هكذا أخبر رسول الله، ووالله! إنه لحق، إنه الصديق ابن الصديق ابن الصديق، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً السلام.

وإخوته عرفنا أنهم اثنا عشر أخاً، منهم يوسف عليه السلام وبنيامين، يوسف وبنيامين أمهما واحدة، فهما من أم وأب واحد، شقيقان، وباقي الإخوة العشرة أمهاتهم متعددات، هذا أمه فلانة، وهذا أمه فلانة، هكذا عرفنا وهو الحق، بنيامين شقيق يوسف إذ هو أخوه من أبيه وأمه، وباقي الإخوة: -يهوذا وروبيل ولاوي- إخوة له من أبيه.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف:58] من أين جاءوا؟ جاءوا من أرض كنعان من أرض فلسطين والشام.

لم جاءوا؟ لقد مضت سبع سنين برخاء وخصب في الديار كلها، وهي رؤيا يوسف عليه السلام، ثم جاءت بعدها سبع سنين بقحط وجدب، وعم الجوع ومزق الأمعاء في الأرض كلها في تلك الديار.

وعلم أبو يوسف.. علم يعقوب عليه السلام أن بالديار المصرية ملكاً كريماً يكيل ويعطي، وبالفعل كان يجلس عند الكيل أو عند البيع ويزيد كل من اشترى شيئاً، يزيده ماذا؟ وسقاً وهو ستون صاعاً، وانتشر الخبر، فما كان من يعقوب إلا أن أمر أبناءه العشرة أن يذهبوا إلى الديار المصرية أرض الملك الكريم الذي يكرم من زاره، وهم لا يعرفون أنه يوسف أخوهم.

معنى قوله تعالى: (فعرفهم وهم له منكرون)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58] عرفهم؛ لأنه عاش معهم، وعرفهم بالوحي الإلهي بإخبار الله عز وجل، تلك الرؤى التي كان يراها، أما قال له: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15]؟

جاء إخوة يوسف وكانوا عشرة، وتخلف بنيامين وهو الحادي عشر، ويوسف الثاني عشر.

إذاً: فدخلوا عليه في قصره.. في دار حكمه وملكه، فعرفهم أنهم إخوته، وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، وسبب إنكارهم:

أولاً: أنهم منذ أربعين سنة ما شاهدوه ولا رأوه ولا سمعوا به، مضى عليهم أربعون سنة.

ثانياً: ألقوه في الصحراء.. ألقوه في ذلك البئر، ومع هذا استخرجوه وباعوه، فالذي بيع عبداً خادماً كيف يصبح ملكاً مطوقاً في عنقه بالذهب وعلى رأسه تاج الذهب وهو في هذا القصر؟!

لا يخطر ببالهم أبداً أن يكون هو يوسف.

ثم أنواره: تركوه ابن عشر سنين فأصبح رجلاً مضى عليه أربعون سنة أو خمسون سنة.

إذاً: فلهذا عرفهم وهم ما عرفوه، وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، هكذا يقول تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف:58]، أي: جاءوا من أرض كنعان فلسطين إلى أرض مصر كنز الأرض.

إذاً: قال تعالى: فَعَرَفَهُمْ [يوسف:58] أنهم فلان وفلان وفلان من إخوته وهم له منكرون.

تفسير قوله تعالى: (ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ... )

قال تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ [يوسف:59]، أي: كال لهم وزادهم وجهز لهم طعامهم وشرابهم في طريقهم كالضيافة، هم تجار ولكن استضافهم وأكرمهم، لم؟ لأنهم إخوته، وهم لا يشعرون.

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ [يوسف:59]، وأرادوا الرحيل إلى ديار كنعان قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59] لا من أمكم، وهم يعرفون هذا، لو قال: ائتوني بأخ لكم فلن يدرى من هو، ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59] ألا وهو بنيامين عليه السلام، هذا شقيق يوسف، أخوه من أمه وأبيه.

ثم قال مرغباً لهم حاضاً لهم حاثاً لهم على أن ينفذوا هذه المهمة: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]؟!

أما تشاهدونني أنني أوفي الكيل؟! وقد وفى بالفعل وزاد، وهو خير المنزلين، أنزلهم بالضيافة، استضافهم وأكرمهم وزادهم زاداً لطريقهم يتمتعون به.

أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]، قال هذا يرغبهم في أن يأتوا ببنيامين في الرحلة الآتية إن شاء الله؛ لأنهم الآن تجار يحملون البضائع وسيعودون.

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)

ثم قال تعالى حاكياً قول يوسف لإخوته: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60].

لأنه لما قال: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59]؛ قالوا: يا ملك! هذا الأخ لا يسمح والده أن يفارقه يوماً ولا ليلة. لماذا؟ يحبه أشد حب، ولا يقوى أبداً على أن يسمح له بالإتيان، ويدلك على ذلك أننا جئنا ببعيره لنحمل له البضاعة وهو غير موجود؛ لأن الوالد عفا الله عنه ما سمح له أن يمشي معنا، قال: خذوا البعير، وجيئوا بالبضاعة عليه.

فمن ثم عرف يوسف، فقال لهم: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60]، لو جئتم فلن تجدوا من يبيع لكم ولا من يجهزكم، ولا نسمح لكم بالقرب مني. لماذا؟

قال: لأني أريد أن أرى هذا الولد الذي أحبه والده دون إخوانه ومنع أن يسمح له بأن يأتي، ما عوامل هذا الحب؟ ما هي أسبابه؟ هذا الولد أريد أن أراه أنا؟ تعلق قلبي به فائتوني به.

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60]، شدد عليهم وهم لا يشعرون، لماذا؟

فهموا أنه قال لهم: هذا الولد بما أنه يحبه والده ولم يسمح له بالخروج من بين يديه ومفارقته؛ إذاً: هذا لا بد من رؤيتي له، لنرى كيف كان هذا الحب وهذا الولاء.

إذاً: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60].

تفسير قوله تعالى: (قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون)

قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ [يوسف:61]، والمراودة -كما تعرفون- باللطف شيئاً فشيئاً: يا والدي! يا أبانا! هذا الملك يريد كذا ويعيننا على حياتنا وأعطانا كذا وكذا حتى يسمح لنا بالإتيان به.

سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61]، ما هو مجرد كلام أو وعد، وعدناك بالفعل وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61].

تفسير قوله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم...)

إذاً: ماذا قال لهم؟ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ [يوسف:62]، وفي قراءة سبعية: (وقال لفتيته)، الفتيان كالصبيان، والفتية كالصبية، بمعنى واحد.

إذاً: قراءة الفتية: (لفتيته) سبعية، وقراءة: لِفِتْيَانِهِ سبعية، وعرفنا أن أصل الفتى هو الخادم، ولكن استعمل في كل ذكر ذي قيمة ومنزلة، فتاي وفتاتي.

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62]، أي: قال يوسف الملك عليه السلام لخدامه ولرجاله: اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62]، البضاعة إما أن تكون ذهباً أو فضة أو تكون مادة أخرى بها يباع ويشترى، نوع من الدراهم والدنانير، اجعلوها في رحالهم التي يحملون عليها بضاعتهم.

أمر بعض رجاله أن يدسوا الثمن الذي أخذه منهم مقابل البر والشعير وأن يجعلوه في بضاعتهم سراً، ولا يطلعوهم عليه.

اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62] لماذا؟ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62].

وقال أهل العلم: جائز أن يكون رد النقود والفلوس التي باع بها البر والشعير من أجل أنه لا يأخذ من أبيه وإخوته! فكيف يأخذ ثمناً من أبيه وإخوته؟

ثانياً: قالوا: جعل هذا؛ لأنهم إذا دخلوا ديارهم وفتحوا أوعيتهم ووجدوا النقود ما أخذت فإنه لا يحل لهم أن يأكلوا طعام ذلك الملك، فلا بد أن يردوا الثمن ويرجعوه؛ لأنهم لا يأكلون الحرام، وهذا يكون سبباً في رجوعهم.

وهذا أقرب؛ لأنه يعرف أنهم أولاد يعقوب لا يأكلون الحرام، فإذا وجدوا في بضاعتهم أموالهم فلا بد أن يرجعوا ويردوا ذلك المال لصاحبه، فأراد أن يستردهم ويسترجعهم.

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62]، البضاعة قد تكون ذهباً أو فضة أو بضاعة، قد تكون أدوات أخرى لها قيمة يباع بها ويشترى.

والرحال: الإبل التي يركبون عليها.

ولماذا قال: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا [يوسف:62]؟

إذ من الجائز أن تؤخذ منهم في الطريق، فالمجرمون واللصوص والحروب دائرة، ودائماً البشرية في ضلال، فمن الجائز أن يسلب منهم هذا المال بكامله، فلهذا ما جزم، قال: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا [يوسف:62]، متى؟ إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62]، أي: إلينا. وبالفعل رجعوا كما سنسمع ذلك في الآيات التالية.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

والآن لنتأمل معنى الآيات مرة أخرى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف:58] من أي البلاد جاءوا؟ من أرض كنعان بفلسطين والشام.

فَدَخَلُوا عَلَيْهِ [يوسف:58]، على من؟ على يوسف أخيهم وهم لا يعلمون أنه أخوهم.

فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، ما هو السبب الذي جعلهم لا يعرفونه؟

أولاً: تركوه ابن عشر سنين.

ثانياً: بيع عبداً رقيقاً.

ثالثاً: أصبح على رأسه تاج الملك، ملك مصر، وفي عنقه طوق الذهب، والدولة كلها بين يديه، فكيف يكون يوسف؟! هذا كله يبعدهم عن أن يفكروا في أنه يوسف، ثم الكمال في وجهه وذاته العجب، فلهذا ما عرفوه وأنكروه: وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58].

إذاً: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ [يوسف:59]، ما معنى: جهزهم بجهازهم [يوسف:59]؟

عندنا الجهاز للعرس، إعداد ما ينبغي له، جهزك: أعد لك ما تحتاج إليه، وجهزهم بجهازهم: أعطاهم ما اشتروه وزادهم فوق ذلك ما يملكون به وصولهم إلى بلادهم، جهزهم بجهازهم، وفوق ذلك كله قال لهم ماذا؟ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59]، لو كان ما أحسن إليهم ولا زاد في الكيل ولا أنعم عليهم فقد يسألهم ولا يستجيبون، لكن ربطهم بالإحسان وجعلهم يقبلون ما يقترح عليهم ويطلب.

قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59]، ما قالوا: كيف عرف هذا الأخ؟ لأنهم قالوا: هذه الناقة أو هذا البعير بضاعته لأخ لنا من أبينا بقي مع والده، فلهذا نكتال له ونشتري له باسمه وهو بين يدي أبينا. فقال: لماذا أبوه ما يسمح به؟

قالوا: لأنه يحبه حباً جماً، ولا يقوى على مفارقته كما كان مع يوسف، وهو عوض عن يوسف في الحقيقة.

إذاً: فقال لهم: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59] لكم ضيافة وإكراماً؟

ثم قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60]، هذا آخر ما بيننا، إن أتيتم بأخيكم بنيامين الذي يحبه والده وجدتم الحال كما رأيتم: الإكرام والإنعام والكيل والوزن، وإذا ما جئتم به فلا تأتونا ولا تقربونا؛ لأنه يرغب رغبة شديدة في أن يؤتى بأخيه، لماذا؟ لحبه له وعاطفته التي تتأجج في نفسه، فيريد أن يراه قبل أن يرى والده، وهو على علم رباني بأنه سيأتي.

إذاً: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60] بم أجابوه؟ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ [يوسف:61]، ما نملك أن نكره والده بالقوة أن يعطينا ابنه، ولكن بالمراودة باللين لعله يستجيب لنا.

قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61]، نعدك وعد الصدق بأننا سنراوده حتى نأتي به إن شاء الله.

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ [يوسف:62]، أي: خدمه. من القائل؟ يوسف الملك؛ قال لخدمه، ماذا قال لهم؟ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62]، الثمن الذي أخذناه مقابل البر والذرة والشعير والتمر.. وما إلى ذلك، اجعلوا ذلك الثمن في رحالهم بطريقة خفية بحيث لا يشعرون، مثلاً: الكيس أو الغرارة يدسون الثمن في أسفله، فما يشعرون به إلا إذا وصلوا وفتحوا الكيس.

إذاً: وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62].

وقلت لكم: قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ [يوسف:62] من الجائز أنه كانت تؤخذ منهم تلك البضائع بما فيها من اللصوص والمجرمين في الطرقات، فهذه مسافة كبيرة ما بين مصر وفلسطين.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62] إلينا ويأتوننا ببنيامين.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

والآن إليكم شرح الآيات من الكتاب.

معنى الآيات

قال المؤلف: [ معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه السلام وتتابع أحداثها.

إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ] حيث أصبح مكان العزيز، والملك سلم له وأعطاه كل شيء، [ ومرت سنوات الخصب ] سبع سنوات، [وجاءت سنوات الجدب، فاحتاج أهل أرض كنعان إلى الطعام كغيرهم، فبعث يعقوب عليه السلام بنيه يمتارون]، والميرة: الشراء، [ وكانوا عشرة رجال، بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام ]، بلغه بواسطة تجار أن ملك مصر يبيع الطعام.

[ قال تعالى مخبراً عن حالهم: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف:58]، أي: من أرض كنعان، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ [يوسف:58]، أي: على يوسف، فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]؛ أي: لم يعرفوه لتغيره بكبر السن] أولاً [وتغير أحواله ] كما عرفنا: التاج على رأسه وطوق الذهب في عنقه.. وما إلى ذلك.

[ وقوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ [يوسف:59]، أي: لما كال لهم وحمل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإكرام مدة ما هم هناك بين يديه، وقال: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59]، ائتوني: جيئوني بأخ لكم من أبيكم، ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم، فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل، فلذلك قال: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59] ] فعرف أنه من أبيهم فقط، [ فلذا قال لهم: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [يوسف:59]، وهو بنيامين ورغبهم في ذلك بقوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59] أي: خير المضيفين لمن نزل عليه.

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ [يوسف:60]] أي: بأخيكم بنيامين [ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60].

بعد هذا الإلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله: قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61] ]، أكدوا كلامهم، [ أي: سنبذل جهدنا في طلبه حتى نأتي به وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61] كما أخبرناك ] لا نقصر أبداً.

وقوله تعالى: وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [يوسف:62] ] تعرفون الرحال أو لا؟ جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير، [ يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه] خدمه: [ اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62]، كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق، فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك؛ لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها] لأنهم لا يأكلون الحرام، [ وجاءوا بأخيهم معهم، وهو مطلب يوسف عليه السلام حققه الله تعالى ] له.

هداية الآيات

قال المؤلف: [ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: عجيب تدبير الله تعالى؛ إذ رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيراً لولاية يوسف، ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم، ولتتم سلسلة الأحداث الآتية، فلا إله إلا الله ولا رب سواه ].

عجيب تدبير الله تعالى عز وجل؛ إذ رؤيا الملك الريان بن الوليد ، لما رأى رؤيا وسأل رجاله عن معناها فما عرفوا، وقال لهم الخادم الساقي: أنا أسال يوسف، فدخل في السجن وسأله وعبرها أحسن تعبير.

فكانت رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وهو في السجن وظهورها كما عبرها، كان هذا كله تدبيراً لولاية يوسف حتى يصبح وزيراً وملكاً، ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام، فلولا الجدب ما جاءوا يطلبون الطعام لأهليهم، وتتم سلسلة الأحداث الآتية، فلا إله إلا الله ولا رب سواه.

[ ثانياً: حسن تدبير يوسف عليه السلام للإتيان بأخيه بنيامين ]، لو كان هناك ملك آخر فسيقول: تأتون به أو نغزو بلادكم، لكن بهذا التدبير الحكيم جيء بأخيه ووضع بين يديه.

قال: [ حسن تدبير يوسف عليه السلام للإتيان بأخيه بنيامين تمهيداً للإتيان بالأسرة كلها ].

وجاءت كلها: الأم والأب والإخوة، وخروا ساجدين بين يديه كما رأى الرؤيا منذ خمسين سنة أو ستين سنة.

هذا تدبير من تدبير الله جل جلاله.

[ ثالثاً: أثر الإيمان في السلوك ]، فصاحب الإيمان إيمانه يؤثر في عمله، في حياته، في سلوكه، في قوله وسكوته معاً، [ إذ عرف يوسف أن إخوته لا يستحلون أكل مالٍ بغير حقه ].

كيف عرف يوسف؟ لأنهم مؤمنون، عرف أنهم مؤمنون أبناء نبي ورسول، فمن ثم جعل هذه الدراهم والدنانير في أكياسهم وعادت إلى بلادهم وسوف يرجعون بها، وهو يريدهم أن يرجعوا بأخيهم، هذه فقط حيلة وتدبير.

وهنا أريد أن يفهم المستمعون والمستمعات أثر الإيمان في سلوك العبد المؤمن:

فوالله! لولا الإيمان ما اجتمعنا، ولا صمنا ولا صلينا، ولا ذكرنا الله ولا سبحنا، ولا أحسنا.

كل ذلك بسبب الإيمان، وقد عبرنا عنه أنه بمثابة الروح، فالمؤمن بحق حي والكافر ميت، وصاحب الإيمان الضعيف كالمريض، فالكافر ميت، قل له: حي على الصلاة فلا يفهم ولا يأتي، قل: غداً صيام رمضان فلا يصوم؛ لأنه ميت كافر.

والذي إيمانه مهلهل مهزوز فيه زيادة ونقص هو -والله- كالمريض، والمريض بينكم كيف حاله؟

مرة يقول ومرة لا يقول، مرة يصلي ومرة لا يصلي، مرة يصوم ومرة لا يصوم، يطيع الله في كذا ويعصيه في كذا، وذلك لمرضه بضعف إيمانه.

قال: [ ثالثاً: أثر الإيمان في السلوك؛ إذ عرف يوسف أن إخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه ]، فلهذا أودعه في رحالهم [ فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره ]، من هو أخوهم؟ بنيامين.

والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة يوسف (15) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net