إسلام ويب

بعد أن أتم الله عز وجل ليوسف عليه السلام ما كان يتمناه من جمع شمله بكافة أفراد أسرته، وإعطائه مفاتيح خزائن أرض مصر، ومنحه فوق ذلك العلم والتأويل، نادى ربه سبحانه بعد ذلك كله أن يلحقه برفقة الأخيار الأطهار، آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاستحاب الله دعاءه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وافاه الأجل والتحق بآبائه وصالح إخوانه من النبيين.

تفسير قوله تعالى: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآية الكريمة، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.

قال تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

الجوانب المحرقة في قصة يوسف عليه السلام

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه القصة أولها محرق، وآخرها مشرق:

فأولها كان احتيال الإخوة على أبيهم وأخذ أخيهم يوسف وإلقاءهم إياه في البئر، وهذا إحراق وليس بإشراق.

ثانياً: بيعه للأجانب من غير إخوانهم رقيقاً عبداً، وهذا إحراق وليس بإشراق.

ثالثاً: الفتنة التي تعرض لها يوسف الصديق مع امرأة العزيز كانت فتنة عظيمة، وكان ذلك إحراقاً ولم يك إشراقاً.

رابعاً: إلقاؤه في السجن سبع سنين، وهذا إحراق وليس بإشراق.

إشراقات إلهية في حياة يوسف عليه السلام

بعد ذلك جاءت الإشراقات الإلهية:

أولاً: نُصِّب يوسف وزير مالية كالعزيز.

ثانياً: مجيء إخوته تجاراً يطلبون القمح والشعير؛ لأن بلادهم أصابها قحط وجدب، فاضطروا إلى أن يأتوا إلى مصر، إذاً: فعرفهم أخوهم وكتم عنهم ذلك ولم يبح لهم، وطلب منهم أن يأتوا بأخيه بنيامين، فجيء به، فكان إشراقاً وأي إشراق!

ثم احتال عليهم وضبطه سارقاً إذ ألقى الصواع في رحله فاستقر عنده، فكان إشراقاً بعد إشراق.

ثم بعد ذلك ذهبوا إلى أبيهم وأخبروه بالذي حصل فبكى، ولكن قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83] فما هي إلا أيام أو أشهر وقد جاءوا أجمعين.

وطلب يوسف منهم أن يأتوا بأبيهم وبإخوانه، فنزلوا بالديار المصرية وكان في العريش المنصوب قبل دخول مصر، وبدأ يوسف فضم أباه وأمه إليه آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ [يوسف:99]، ثم بعد ذلك دخلوا ونزلوا الديار المصرية، وكانت الواقعة التي هي تفسير الرؤيا التي رآها يوسف وهو في صباه؛ إذ رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له، فلما جلس يوسف على سريره أجلس إلى يمينه أباه وإلى شماله أمه، وإخوته الأحد عشر بين يديه وخروا له ساجدين، فسجد الجميع.

وقد نبهت الأبناء والإخوان إلى أن هذا سجود عادة يسمونه تحية كما عندنا التحية بالسلام، وليس بجائز عندنا نحن المسلمين، بل نهى عنه رسول الله ومنعه، ولا سجود إلا لله، والسجود يشمل الركوع وهو الانحناء الكامل، ويشمل وضع الوجه على الأرض كذلك، الكل سجود.

معنى قوله تعالى: (رب قد آتيتني من الملك)

وهنا تمت الإشراقات، فماذا يصنع يوسف عليه السلام؟ قال: رَبِّ [يوسف:101] يا ربِ، يا خالقي، يا رزقي، يا مالك أمري، يا إلهي الحق، يا معبودي الذي ليس لي معبود سواه.

قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يوسف:101] ولم يقل: قد آتيتني الملك؛ لأنه يملك الديار المصرية فقط، من بعض الملك؛ إذ أصبح ملكاً في مصر، مات العزيز وأصبح هو الملك، وأصبح هو النبي والرسول، قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [غافر:34]؛ إذ أرسله الله إلى أهل تلك الديار المصرية، ومعهم بنو إسرائيل من أولاد يعقوب، وإخوته فتح الله عليهم وتاب عليهم ونبأهم فهم أنبياء من سائر الأنبياء.

معنى قوله تعالى: (وعلمتني من تأويل الأحاديث)

وقوله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101] وهو تعبير الرؤى وتفسير المنام، علمه من جنس التعبير للرؤى والتفسير للمنام.

معنى قوله تعالى: (فاطر السموات والأرض)

وقوله: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101] أي: يا فاطر السماوات والأرض. ومعنى فاطر السماء: خالقها على غير مثال سابق، فطر يفطر: إذا خلق وأوجد على غير مثال سابق؛ إذ لم تكن سماوات ولم تكن أرضون، ولم يكن هذا الكون كله، فالله عز وجل هو الفاطر، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] أي: خالقهما على غير مثال سابق، اختراع كامل ليس بمسبوق بصورة ولا مثال.

فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101] نادى ربه ووصفه بهذه الصفة صفة الجلال والكمال.

معنى قوله تعالى: (أنت وليي في الدنيا والآخرة)

وقوله: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] أي: متولي أمري كله في حياتي ومماتي، في دنياي وفي أخراي، ليس لي ولي سواك، فأنت وليي في الدنيا والآخرة.

معاشر المؤمنين! ونحن من ولينا؟ الله جل جلاله، لا ولي لنا سوى الله؛ إذ هو خالقنا ورازقنا ومدبر حياتنا وكافل وجودنا بفضله ورحمته، فليس لنا ولي سواه، فوالله! لا نفزع إلى غيره ولا نلجأ إلى سواه، ولا نرفع أصواتنا داعين سائلين ضارعين إلا الله وحده، فليس لنا من ولي سواه.

شروط تحقق ولاية الله للعبد

وهنا اذكروا ما علمتم من أن ولاية الله عز وجل الحقة، ولاية الصدق، تلك الولاية التي تتحقق بشيئين اثنين لا ثالث لهما:

الأول: الإيمان الصحيح، ذاك الإيمان الذي إن عرضته على العلماء أقروه وقالوا: أنت مؤمن، وإن عرضته على الكتاب القرآن الكريم صدقه وقال: أنت مؤمن، وإن عرضته على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه وتعاليمه صدقته وقالت: أنت مؤمن، ذاك الإيمان وهو الشرط الأول.

والشرط الثاني لتحقيق الولاية والحصول عليها والظفر بها: هو تقوى الله عز وجل، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أن تقوى الله لن تتحقق للعبد إلا إذا عرف معرفة حقيقية ما يحب الله وما يكره، فالذي لا يعرف محاب الله ولا مكارهه كيف يتقيه؟ كيف يطيعه؟!

وهنا قلنا: وجب طلب العلم، يجب أن تطلب العلم، وليس شرطاً أن ترحل من بلد إلى بلد، ولا أن تتعلم الكتابة والقراءة، حسبك أن تسأل أهل العلم فيعرفوك بمحاب الله ومكارهه فالزمها، فافعل المحبوب واترك المكروه في صدق ووفاء حتى يتوفاك الله، فطلب العلم فريضة على كل مسلم.

إذا قلت لأحدهم: يا عبد الله! كن ولياً لله. فقال لك: بم نكون أولياء لله؟

فالجواب: تقول له: آمن بالله ولقائه، آمن بالله ورسله، آمن بالله وكتبه، آمن بكل ما أخبر الله به من الغيب والشهادة، قل: آمنت، فإذا آمنت فاتق الله، أي: اعرف ما يحب من الاعتقادات والأقوال والأفعال معرفة حقيقية، واعرف ما يكره الله ويغضب منه ولا يريده من كل مكروه لله من المعتقدات الباطلة والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة، وهذا سهل، اعرف ما أوجب الله من العبادات وما حرم من الأعمال والأقوال والعبادات، وبذلك تظفر بولاية الله عز وجل وتصبح ولي الله بحق.

ودليل هذه الحقيقة -كما علمتم- قول ربنا جل وعز من سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] هذا البيان من أين جاء؟ من السماء، هذا كلام الله، أَلا [يونس:62] انتبه. اسمع. أولياء الله لا خوف عليهم لا في الدنيا ولا في البرزخ بعد الموت، ولا يوم القيامة، ولا حزن كذلك.

كيف تكون ولي الله وتهان؟! كيف تكون ولي الله وتحزن وتكرب وتخاف؟! لن يكون هذا أبداً إذا تحققت لك ولاية الله.

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟

قال تعالى في الجواب عن هذا السؤال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

كل مؤمن تقي هو لله ولي، وكل كافر هو لله عدو، وكل فاجر هو لله عدو، وكل من آمن واتقى الله، بمعنى: أطاعه وما عصاه، أطاعه في أوامره ففعلها، وفي نواهيه فتخلى عنها وابتعد وتركها.

محاولة أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن كتاب ربهم

وأذكركم أيضاً بالمحنة التي أصابت المسلمين بسبب جهلهم، حيث أصبحوا لا يرون ولياً بينهم إلا إذا مات وبني عليه ضريح وفوقه قبة!

من إندونيسيا شرقاً إلى الدار البيضاء غرباً أو موريتانيا تدخل أي بلد فتقول: دلوني على ولي في هذه البلاد، فيأخذون بيدك إلى قبر، ويقولون: هذا هو الولي!

لا يفهمون أن ولي الله في السوق، أو في المسجد، أو في البستان، أو في الحدادة، أو في النجارة.. أبداً.

الولي عندهم: من مات وبني عليه قبر وضريح وقبة، وعبد أيضاً، فتذبح له الذبائح ويحلف به، ويتبرك به، ويعكف حوله، ذاكم هو الولي عندهم.

وهل تذكرون سر هذه المحنة؟

سر هذه المحنة: اليهود والنصارى والمجوس أعداء الإسلام، فكروا: كيف يصرفون المسلمين عن دينهم؟ فقالوا: جهّلوهم لينصرفوا.

وذلك حق، فمن هم الفساق؟ من هم الظلمة؟ من هم الفجار؟ من هم الكذبة؟ من هم الخداعون؟ أليسوا الجهال؟ بلى والله.

الجهال الذين ما عرفوا الله حتى يخافوه أو يحبوه، ما عرفوا ما عند الله حتى يطمعوا في ذلك، ولا ما لديه حتى يرهبوه.

جهّلوهم.. جهّلوا الأمة بكاملها، وحسبك أن تذكر أنهم قالوا في تفسير القرآن الكريم: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر! فمن يفسر ويقول: قال الله؟!

حجبوا أمة الإسلام، ووضعوا على أعينها عمى، فيا من يريد أن يفسر القرآن! اعلم أنك إذا فسرت وأصبت وما أخطأت فقد أذنبت ذنباً، وإذا أخطأت فقد كفرت، فصوابه خطأ وخطؤه كفر.

إذاً: فماذا يعمل المسلمون بالقرآن؟ ممنوع أن يتدبروه، أن يتفكروا فيه، أن يأخذوا الهدى منه، أن يتعلموا الأحكام الشرعية منه، فماذا يفعلون به؟

قالوا: اقرءوه على الموتى، من أندونيسيا إلى موريتانيا، إذا سمعت القرآن في بيت فاعلم أن هناك ميتاً، فلا يجتمع على القرآن ولا يقرأ للتدبر والتفكر إلا من أجل الموت فقط، يقرأ على الميت ثلاث ليال أو سبع ليال.

إذاً: كيف نعلم؟ كيف نعرف؟ كيف نهتدي؟ حجبوا عنا النور، أبعدوا عنا القرآن، أبعدوا عنا الروح، فمتنا، وضللنا.

وإن قلت: يا شيخ! لا تبالغ في هذا، فما الدليل؟

فالجواب: هل استعمركم الغرب من أندونيسيا أو لا؟!

هل حكموكم وسادوكم، وفعلوا العجائب فيكم وبينكم أم لا؟

كيف يتم لهم هذا؟ لو كنا أحياء مهتدين والله ما تم لهم هذا ولن يتم، لكن قتلونا، أبعدونا عن القرآن وحولوه للموتى.

وحين تجلس بين يدي ميت تقرأ القرآن هل يستجيب الميت؟! هل يقوم ليصلي؟ هل يقول: أستغفر الله، ندمت على ذنبي؟! ما الذي يستفيده؟

المفروض أن يعلم كل مؤمن ومؤمنة أن المؤمن كالمؤمنة ولي الله، وولي الله لا يجوز أن تسبه أو تشتمه أو تأخذ ماله أو تؤذيه في عرضه، كيف والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )؟!

ولكن واقع الأمة على خلاف ذلك، يقدسون الموتى، يبجلونهم، يعظمونهم.. ولا ينالون منهم بسوء أبداً، والمؤمنون الأحياء يسرقون أموالهم، يفجرون بنسائهم، يكذبون عليهم، يغشونهم في أعمالهم، يخدعونهم.

كيف هذا؟ كيف يتم هذا؟

لأن الولاية حصرها اليهود والصليبيون وحصرناها في الأموات، أما حي يمشي ويكون ولياً لله فلا؛ إذ لو عرف المؤمن أنك ولي الله فلن يستطيع أن يسبك أو يشتمك أو يؤذيك بحال من الأحوال.

والآن العارفون بالله العالمون -وأنتم إن شاء الله منهم- لا يستطيعون أن يؤذوا مؤمناً؟ كيف يؤذي ولي الله؟!

ولكن العدو سلب الروح فمتنا، وسلب النور فضللنا؛ إذ القرآن روح ولا حياة بدون روح، والقرآن نور والله ولا هداية بدون نور، ودليل ذلك قول الله تعالى من سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] سماه روحاً، فما المراد بقوله: (روحاً من أمرنا)؟ والله! إنه القرآن، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] القرآن روح ونور.

عرف العدو الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى، عرفوا هذا فصرفوا المسلمين عن القرآن وحرموهم ولاية الله للأحياء، فاستباحوا نساءهم وأموالهم وفعلوا الجرائم والموبقات، وما زلنا إلى الآن في هذه المحنة.

إذاً: ماذا قال الصديق ابن الصديق؟

قال: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، كثيراً ما أقول: أيام بدأت الاستقلالات في ديار العرب والمسلمين؛ لأن الله امتحنهم، سلبهم الدولة والحكم والسلطان، ورجع من رجع وتاب من تاب إلى الله، فأراد أن يمتحنهم مرة أخرى، فاستقلوا، فإذا استقل الإقليم في العرب أو العجم لا يعرفون المساجد للصلاة والذكر والشكر أبداً، لا يعرفون إلا حفلات الرقص والباطل والمنكر، كأنهم ليسوا بالمسلمين.

حفلات الاستقلال معروفة قرأناها وشاهدناها، ما قالوا كما قال يوسف: ربنا قد آتيتنا الملك وسودتنا وأصبحنا حاكمين، فخروا له ساجدين يشكرونه ويذكرونه، بل العكس: الرقص وحفلات المجون، بأعياد الاستقلال.

ولكن يوسف عليه السلام لما جلس على أريكة الملك وتم كل شيء له كيف فزع إلى الله؟ قال: رَبِّ [يوسف:101] يا رب قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يوسف:101] هذا اعتراف ليشكر الله ويذكره، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101] أي: يا خالق السماوات والأرض، أَنْتَ وَلِيِّي [يوسف:101] ليس لي ولي سواك فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

حكم تمني الموت

هل هناك من يتمنى على الله الموت ويسأل الله الوفاة؟

اعلموا -والعلم ينفع- أنه لا يجوز لمؤمن ولا مؤمنة يصاب بمرض، أو يصاب بتعب وإعياء فيكره الحياة ويسأل الله الوفاة، لا يجوز.

إذا أصابك ضر فلا تسألن الله الموت، بل اصبر وقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي.

نعم أنت في إعياء، في تعب، في كرب.. ولكنك تذكر الله وتعبده، فلا تريد أن تنقطع عن عبادة الله، وتلك العبادة تزيد في علو درجاتك وسمو مقامك، فاصبر، وإن كنت لا بد قائلاً فقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني وتوفني إذا كان الموت أو الوفاة خيراً لي، فتترك الأمر لله.

فيوسف عليه السلام من الجائز أن يكون تاقت نفسه، اشتاقت إلى الملكوت الأعلى، إلى جوار ربه، إلى لقاء آبائه في الملكوت الأعلى، فسأل الله الوفاة شوقاً وحنيناً.

وجائز أن يكون دعاؤه مقيداً بقيد، أي: توفني يوم تتوفاني مسلماً وألحقني بالصالحين!

توفني على الإسلام وألحقني بالصالحين. يعني: آباءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ إذ مات يعقوب عليه السلام، وعاش يوسف مائة وسبع سنين وخلف ثلاثة أولاد: إفرائيم ، وميشا، ورحمة ، ويروى أن رحمة هي امرأة أيوب عليه السلام، وقصته عليه السلام في سورة (ص).

معنى قوله تعالى: (توفني مسلماً)

وقوله: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [يوسف:101] ما معنى مسلماً؟

أي: على الإسلام كما أنا عليه الآن قلبي لله، ووجهي لله.

ومن المسلم يرحمكم الله؟ هل هو أبيض أو أسود؟

المسلم الذي أسلم قلبه لله ووجهه لله وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125].

كيف يسلم القلب؟ قلبه لا يفكر إلا في رضا الله، ووجهه لا يلتفت به إلى غير الله، له القلب والوجه، كل أعماله، كل حركاته، كل سكناته متجهة نحو الله عز وجل؛ إذ هو الإله الحق ولا إله غيره ولا رب سواه.

معنى قوله تعالى: (وألحقني بالصالحين)

قوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، من هم الصالحون؟

منهم آباؤه، والصالحون عندنا موجودون، وأنتم صالحون إن شاء الله، وكل ولي هو صالح، والله العظيم! كل ولي لله هو صالح من الصالحين؛ لأن الصالح -كما علمتم- من أدى حقوق الله كاملة فما بخسها ولا نقصها ولا أفسدها، وأدى حقوق الناس كاملة، هذا هو الصالح، والجماعة صالحون.

أما المصلح فشيء ثان، وهو من يصلح ما أفسد الناس، لكن الصالح عبد أدى حقوق الله كاملة وأدى حقوق عباد الله كاملة، وكل نبي صالح، وكل ولي صالح، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فهيا ننتفض ونصبح غداً صالحين، نتعلم ما أوجب الله علينا، نأتي به على مرضاة الله، ونتعلم ما يكره الله فنتركه، ثم بعد ذلك لا نؤذي مؤمناً ولا مؤمنة لا بسب ولا شتم ولا بأخذ دينار ولا درهم، ولا بالنيل من عرضه فنكون -والله- صالحين.

ونسأل الله عز وجل بهذه الدعوة، دائماً نقول: اللهم إنا نسألك كما سألك عبدك ورسولك يوسف عليه السلام، ربنا توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

إليكم شرح الآية من الكتاب لتزدادوا بصيرة.

معنى الآية

قال المؤلف: [ معنى الآية الكريمة:

هذا آخر الحديث عن قصة يوسف، إنه بعد أن جمع الله تعالى شمله بكافة أفراد أسرته، وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح، وانقلبت الإحراقات: إحراقات الإلقاء في الجب، والبيع رقيقاً بثمن بخس، وفتنة امرأة العزيز، والسجن سبع سنين ]، هذه الإحراقات [ انقلبت إلى إشراقات ملكاً ودولة، عزاً ورفعة، مالاً وثراء، اجتماعاً ووئاماً، وفوق ذلك العلم اللدني والوحي الإلهي ]، هذا فاز به يوسف، العلم الذي يتلقى عن الله، والوحي الذي يوحي به إليه، [وتأويل الأحاديث، وبعد أن قبض الله تعالى والده ] فتوفي يعقوب عليه السلام، [وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم؛ تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى، إلى الجيرة الصالحة، إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ رفع يديه إلى ربه] يدعو [ وقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بآبائه وصالح إخوانه، فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين]. انتهت قصة يوسف ونرجو أن نكون قد استفدنا خيراً كثيراً.

هداية الآية

الآن مع هداية الآية، فلكل آية هداية، إي والله، فمن أبسط ما تفهم أن تفهم أن الآية كلام الله، إذاً: الله موجود، والآية علم والله عليم حكيم.

وهذه الآية على من أنزلها الله؟ على محمد، إذاً: محمد رسول الله، فدلت الآية دلالة واضحة على لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا مفتاح الإسلام والدخول فيه.

كل آية في القرآن الكريم من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، كل آية تقرر أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن كم المسلمون والمؤمنون في العالم؟ واحد إلى ألف، ما سبب ذلك؟ مكر اليهود والصليبيين والمجوس، هم الذين حالوا بينهم وبين الإسلام، أبعدوهم عن الإسلام فبغضوا إليهم الإسلام ووصموا الإسلام بسمات الجهل، فلا إله إلا الله، وسوف يلقون جزاءهم.

قال المؤلف: [ هداية الآية:

من هداية الآية:

أولاً: مشروعية دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته ].

هل يجوز دعاء الله وسؤال الحاجة منه؟ أي نعم، هذا يوسف يقول: رب تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

ويجوز التوسل بما توسل به يوسف: آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [يوسف:101] هذا التوسل بأسماء الله وصفاته وبآلائه وبإنعامه.

ربي أنعمت علي ببصري فأسألك باسمك الأعظم أن تغفري لي وترحمني.

ربي أنعمت علي بوجودي في مدينة رسولك فأسألك اللهم أن تفعل بي كذا وكذا.

توسل إلى الله بأسمائه وصفاته وبالطاعات والعبادات، صل ركعتين واسأل، تصدق بريال واسأل، اركع ركعة واسجد واسأل.

أما التوسل بحق فلان فلا، وهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة قال: الذي يقول: (اللهم إني أسألك بحق فلان) كفر!

ستقولون: اشرح لنا هذا يا شيخ؟

فأقول: بدل أن تقول: يا رب! أعطني من فضلك! يا رب! فرج ما بي من أحزان؛ تقول: أعطني بحق فلان عليك!

وهل هناك من له حق على الله؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله!

يقول له: إذا لم تعطني أنت فأعطني بحق فلان عليك! أي كفر أعظم من هذا؟

ومع الأسف هذه الوسيلة شائعة بين العرب والعجم من إندونيسيا إلى موريتانيا: أسألك بحق فلان وفلان، وهي أقبح ما تكون.

بم سأل يوسف؟ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] إذاً تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

[ ثانياً: مشروعية العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها ]، مشروعية العزوف عن الشيء والترفع عنه عند حصوله والتمكن منه.

الحمد لله؛ فقد تزوجت وبنيت المنزل وأنت في خير، اعزف عن الدنيا الآن ولا ترغب فيها، لأنها حين تحصل تريد أن تزيد أنت، ويوسف ما فعل هذا، ما قال: نضيف إلى ملك مصر ملك الشام وأوروبا.

[ ثالثاً: فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى.

رابعاً: مشروعية سؤال الموت إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة أو رغبة في الراحة فقط؛ لحديث: ( لا يسألن أحدكم الموت لضر نزل به ) وهو صحيح، ولكن شوقاً إلى الله والالتحاق بالصالحين، عزوفاً عن هذه الدنيا وشوقاً إلى الأخرى إلى دار السلام ].

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة يوسف (22) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net