إسلام ويب

أنزل الله عز وجل هذه الآيات مواساة لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي أحزنه إعراض المنافقين وأهل الكتاب عن دين الله سبحانه وتعالى، وبين له أن هؤلاء إنما يسمعون الكذب ويتناقلونه بينهم وينقلونه إلى الكافرين، ولو جاءوه ليحكم بينهم فإن حكم بينهم على حسب هداهم قبلوا منه، وإن حكم بينهم بغير ذلك ردوه، فخيره ربه بين أن يحكم بينهم بشرع الله أو يعرض عنهم، وأخبره أنهم في كل الأحوال لن يضروه شيئاً؛ لأنهم مهزومون مدحورون.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

وما زلنا مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، ومع هذه الآيات المباركات، وهي ثلاث آيات، وفيها طول، فهيا نسمع تلاوتها أولاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:41-43].

فهم هذه الآيات سهل وميسر، فاسمعوها جملة جملة:

تسلية رسول الله تجاه مسارعة الكافرين في الكفر

هذا النداء الكريم من وجهه؟ الله رب العالمين، والمنادى من هو؟ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ناداه بعنوان الرسالة؛ لأنه يريد أن يخفف همه وحزنه وكربه، فالرسالة التي أعطيتها يا محمد لا تساوى بشيء ولا تعادل بشيء، فلا يهمك ولا يكربك ولا يحزنك أنهم يتمردون أو يقولون الباطل أو يكذبونك فيما تقول، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] العظيم لا يَحْزُنْكَ [المائدة:41]، ناداه لينهاه، كما علمنا أنه: لا ينادينا الله تعالى إلا ليأمرنا أو لينهانا، أو يبشرنا، أو ينذرنا، أو يعلمنا، وهذا سيدنا رسول الله وإمامنا يناديه الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، ثم ينهاه فـ(لا) ناهية، لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، كان يتألم من المبادرة إلى الكفر، يبلغ دعوته في جماعة يظهرون الكفر ويعلنونه، بدل أن يستجيبوا للإيمان ويقبلوا عليه يشردون ويمكرون في حال تحزن الرسول؛ لأنها رسالته ومهمته وهذه دعوته، بوده أن يؤمن الناس كلهم في يوم واحد، هذه هي الرغبة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن صادق الإيمان، فإذا وجد العكس تألم وحزن، فها هو ذا يناديه بعنوان الرسالة ليخفف عنه آلام حزنه، ويقول له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، ما قال: يسارعون إلى الكفر؛ لأنهم ما خرجوا منه، هم في داخله، ففرق بين: يسارعون إلى الكفر ذاهبين إليه، وبين: يسارعون فيه ما خرجوا من الكفر، ما هناك من آمن وكفر، هم ما آمنوا بعد، فهم يعملون على تكفير أنفسهم وتكفير غيرهم، وهذا يؤلم رسول الله الداعي، فكونك تكفر أخف من أن تدعو إلى الكفر أيضاً.

مسارعة المنافقين في الكفر

لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] وبين بقوله: مِنَ [المائدة:41] بيانية، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، ألا وهم المنافقون من أهل المدينة، من مشركي العرب، قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ [المائدة:41]، أما كان ابن أبي يدخل ويقول: أشهد إنك لرسول الله في الروضة؟ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، نعم قد يقول: أنا مؤمن، آمنت بالله، أنا مسلم، أنا من إخوانكم، أنا كذا وقلبه ما آمن بالله ولا بلقائه، لا برسول الله ولا بوحيه ورسالته، وهذا يوجد في كل مكان وزمان، وهم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والجحود والتكذيب.

معنى قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك )

وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] أيضاً، منافقون ويهود، والرسول بينهم، فكيف يعمل وحده؟ فهو في غم وهم وحزن وكرب، فينزل الله هذه الآيات ليخفف عنه آلامه، وفعل، واستجاب رسول الله وتحمل، ولو نجتمع كلنا -معاشر المسلمين- ما نطيق أبداً ما أطاقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] اليهود، هادوا في زعمهم أنهم تابوا ورجعوا، وما تابوا ولا رجعوا لعنة الله عليهم، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41]، هذا ذم وتقبيح وإنكار، إذاً: كيف يصح لأحدنا أن يكثر من سماع الكذب؟ هل يصح أن يقول: لا بأس فنحن مسلمون، اسمع الكذب وواصل سماعك ليل نهار ولا تبال؟ لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يسمع كذباً إلا من ضرورة، أما أن يعلم أن فلاناً يتحدث بالكذب ويجلس إليه ويسمع منه فهذا يدخل في هذه الزمرة: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41].

ما تقولون فيما تبثه الصحون الهوائية في بيوتنا؟ هل هو صدق؟ لا والله، إذاً: والله ما يجوز كثرة استماعه، إذاً: لن نسمع أباطيلهم وأكاذيبهم وترهاتهم وما يقولون، وإنهم -ورب الكعبة- لكاذبون؛ لأنهم كافرون، كافر يأتيك بالصدق وينشره بين يديك ليرفع مستواك لتصبح ولي الله؟! مستحيل هذا.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41]، يسمعون الكذب فيما بينهم ويقبلونه ويأتون إلى أعداء الإسلام ويسمعون منهم، ما أظهروا عداءهم، لكنه مكنون مستور في بيوتهم وفي أعمالهم، وهم يكرهون الرسول وإمام المسلمين، فيأتونهم أيضاً ليسمعوا منهم، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41]، تحريف الكلم: تبديله وتغييره، ما فيه أمر بالخير يجعلونه أمراً بالشر، ما فيه أمر بالفضيلة يجعلونه أمراً بالرذيلة، ما فيه فضل فلان يجعلون فيه قبح فلان، وهو التحريف للكلم، والمراد بهؤلاء علماء اليهود وأحبارهم، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41].

معنى قوله تعالى: (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا)

يَقُولُونَ [المائدة:41] أي: بعضهم لبعض، يقول علماؤهم لجهالهم: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41] أي شيء هذا؟ لقد زنت يهودية ويهودي في فدك، وفدك وخيبر بينهما عشرون كيلو، فبعثوا إلى علماء اليهود هنا وقالوا: استفتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أفتاكم بالرجم فلا تستجيبوا له ولا تقبلوه، وإن أفتاكم بتقبيح وجوه الزناة بالفحم والجلد والطواف بهم في الشوارع فاقبلوا ذلك: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41] ما هذا؟ أي: الجلد والتقبيح والتعيير، يركبون الزناة على حمار ويشوهون وجوههم بالفحم ويطوفون بهم في الشوارع، والنساء يزغردن أو يضحكن، هذا عمل اليهود.

وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] ويقولون: وإن أوتيتم غيره وهو الرجم فلا تقبلوا، فاحذروا أن تقبلوه، وجاء رجال يحملون الفكرة وعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن صوريا الأعور ، وهو أعلمهم في المدينة، فقال: أسألك بالله أن تقرأ التوراة وأن تعلمنا ما فيها، هل فيها الرجم للزاني المحصن والزانية، أم فيها التشويه والتعيير والجلد؟ فقال ابن صوريا : والله إن فيها الرجم. فماذا يصنع اليهود؟ تركوه، قالوا: فَاحْذَرُوا [المائدة:41]، أي: احذروا النبي وتعليمه، أو أمره الذي يريد أن يطبقه فيكم.

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41]، يشيرون إلى هذا الحكم، فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ [المائدة:41] تعطوه فَاحْذَرُوا [المائدة:41]، لا تقبلوا حكم الرجم بالحجارة حتى الموت.

معنى قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)

وقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41]، هذه يتعزى بها كل مؤمن، من يرد الله فتنته بالفسق والظلم والكفر والفجور والشرك فلن تملك له من الله شيئاً، أنت يا رسولنا ما تقدر على شيء؛ لأن الله عز وجل لما كتب على هذا المخلوق في كتاب المقادير علم أنه يكفر بالحق وينكره ويكذب به، ويقف إلى جنب الباطل يدعو إليه ويشجعه حتى الموت، فكتب بما علم من صفته، فمثل هذا لا يهتدي، وما تقدر على هدايته.

معنى قوله تعالى: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم )

ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [المائدة:41] البعداء أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41] من الشرك والكفر والفسق والفجور، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]، يا وليهم، والآيات يسمعونها في نفس الوقت: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [المائدة:41] وذل وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].

قلت: لما أراد الله أن يخلق ابن صوريا وأن يكتب عليه ما يعيشه وما يموت عليه وما يجزى به نظر إليه، فعلم أن هذه الروح لا تقبل الخير، لا تقبل الهدى، فكتب عليه ذلك، ونظر إلى عبد الله بن سلام اليهودي، نظر إلى روحه، أليس الله خلق الأرواح أولاً، فنظر إلى تلك الروح فرأى أنها تريد الهدى وتطلب الخير وتعمل به فكتب ذلك، فلما خرج ابن صوريا وبلغ وأصبح مكلفاً أصبح لا يميل إلا إلى الباطل، لا يعمل إلا في سبيل الشيطان وإرضائه، فسد قلبه، فسدت نفسه، هذا ما أراد الله هدايته؛ لأن من عمل هذا العمل لا يهديه الله.

وبينت مثلاً حياً: الفلاح يأخذ في كفه بذر حنظل وبذر حبحب، وهما نوع واحد ولون واحد، الفلاح يعرف هذا، بذر الحنظل كبذر الحبحب لون واحد، قبل أن يغرس ويسقي يعرف أن هذا مر وهذا حلو، فيغرس هذا في المكان اللائق به، وهذا في المكان اللائق به، فكذلك أرواح العباد أول ما خلق الله الأرواح، ثم قسم منها الشقي ومنها السعيد، وكتب الشقاء وكتب السعادة بحسب علمه بما ترتضيه تلك النفوس وما تطلبه.

فقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41] لعلمه بحالهم قبل خلقهم، ثم لعلمه بما هم مقدمون عليه ويواصلونه بلا انقطاع.

وهنا معنى آخر أيضاً سهل جداً: هذا الطبيب عندنا يرفع إليه مريض تأصل المرض فيه وانتشر في جسمه وأصبح الدواء لا ينفع فيه، يقول: أخوكم هذا انتهى أمره لا يعالج؛ لعلمه أنه ما أصبح يقبل الدواء أبداً، الجسم هذا تحطم.

إذاً: فالذي انغمس في الربا والزنا واللواط والجرائم السنة والسنوات والعشرين سنة ما أصبح قابلاً الهداية، لا يقبلها، فهذا قل عنه وأنت صادق: لم يرد الله به خيراً، لو أراد الله به خيراً ما تركه يقع في هذه الظلمات من الشر والفساد.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]، وهذه أيضاً لطيفة تنفعنا، نعرف أن القلوب بيد الله إن شاء طهرها وإن شاء تكرها، فنفزع إلى الله عز وجل: اللهم يا مطهر القلوب طهر قلوبنا، اللهم يا مزكي الأرواح زك نفوسنا، وقد كتب الله هذا لندعوه به ونحصل على مطلبنا.

تفسير قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت...)

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، يكشف الله الغطاء عنهم ويسمع رسوله حالهم والمؤمنين: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42]، أسألكم بالله هل الأغاني فيها حق؟ حين يغني عبد الوهاب أو الأطرش أو العاهرة أو فلان فهل كلامه حق؟ كيف يجوز سماعه؟

والذين يحكون الخرافات والضلالات ويأتون بالبدع والمنكرات ولا دليل من كتاب ولا سنة هل يجوز سماع كلامهم؟ والذين يروجون البضائع الهابطة وينوعونها من أجل المال؛ هل قولهم وترويجهم وكلامهم وما يكتبونه حق؟ كذب.

المؤمن الصادق لا يسمع هذا، إن سمع مرة فلا بأس حتى يعرف، ثم بعد ذلك يترك، لا يسمع نهاره أو طول حياته.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ [المائدة:42] كثيروا الأكل لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، السحت هو المحق، ما الذي يمحق الأجر ويبطله؟ الربا وأموال الناس المحرمة، السحت ما يسحت ولا يبقي فضيلة ولا حسنة في القلب، ويسحت حتى البركة في المال فما يبقي فيه بركة ولا منفعة.

معنى قوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)

أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، هؤلاء يقول الله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، أنت حر يا رسولنا، هؤلاء يعتبرون تحت ذمتنا، فَإِنْ جَاءُوكَ [المائدة:42] ليتحاكموا إليك فإن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فاتركهم لأنهم كفرة مجرمون ضلال، نقول لهم: اقبلوا الإسلام وادخلوا فيه نحكم بينكم. فالله أعطى للرسول التخيير: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا [المائدة:42]، لا بالاغتيال ولا بالحرب، فهم مهزومون، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، خيره بين أن يحكم بين يهوديين اختلفا واختصما، وبين أن لا يحكم، لكن إن حكم يجب أن يحكم بالعدل، فالقسط: العدل، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42].

هنا أهل العلم ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد على أننا نحكم بين أهل الذمة اليهود والنصارى في ثلاثة أشياء: في الأعراض والأموال والدماء، أما باقي الخلافات الأخرى فلا نشتغل بها ولا نحكم بينهم، والإمام أبو حنيفة يقول: يحكم بينهم في كل خلاف قدموه أو قضية قدموها، والثلاثة على أنه إذا كانت قضية مالية أو قضية زنا أو ما إلى ذلك أو قضية دم نحكم بينهم، وفيما عدا ذلك لا نلتفت إليهم.

ثم هنا مسألة أخرى: هل الحدود تقام في بلاد الكفر؟ أبو حنيفة يقول: نعم تقام، والأئمة الثلاثة يقولون: لا تقام في بلاد الكفر ولا في السفر، فلا تقطع يد مسافر، كيف يعمل؟ من يداويه من يعالجه؟

ومع هذا نحن نختار -ويوفقنا الرحمن- أن ننظر: إذا كان إصدار الحكم بقتل أو بقطع أو برجم في بلاد الكفر لا يترتب عليه شر ولا بلاء، بل يترتب عليه نشر للإسلام والدعوة فإنا نطبقه في بلاد الكفر، وإذا كان يترتب عليه صياح وضجيج وإعلان حرب علينا فلا حتى يعود إلى بلاد المسلمين ونقيم عليه الحد هناك.

التوجيه القرآني بشأن الحكم بين الكفرة والإعراض عنهم

فَإِنْ جَاءُوكَ [المائدة:42] ما طلبتهم أو بعثت البوليس لهم، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، اتركهم، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا [المائدة:42]، لا تخف، تقول: الآن يكيدون ويمكرون ويؤلبون الناس علينا، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا [المائدة:42] وإن قل، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42] لم؟ لأن الله يحب المقسطين، وإن حكمت بينهم فاحكم بالعدل لأن الله يحب العدل وأهله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].

تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ...)

ثم قال تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ [المائدة:43] من باب التعجيب، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43]، يعرضون عن حكم الله في التوراة ويحكمونك أنت، إذاً: يأتون للسخرية فقط أو لمسائل ما فيها مصالح، وإلا فكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43]، وَمَا أُوْلَئِكَ [المائدة:43] والله بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43]، لو آمنوا ما وقفوا هذا الموقف.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

نتلو الآيات مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] أيضاً سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة:41] هؤلاء الآخرون أعداء الإسلام والمسلمين، لكنهم في قصورهم أو في أماكنهم وهم يذهبون إليهم ويسمعون منهم، وينشرون دعوة الباطل، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41]، وهذا البلاء موجود في المؤمنين، بعض العلماء ما هم علماء، يحرفون، يحلون الحرام ويحرمون الحلال والعياذ بالله، يَقُولُونَ [المائدة:41] يقول بعضهم لبعض: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41]، أي: أعطاكم محمد هذا الحكم فَخُذُوهُ [المائدة:41]، وإن لم يحكم بينكم بهذا الحكم فلا تقبلوه، وكان هذا في قضية زانيين في خيبر أو في فدك، جاءوا يحكمون الرسول في القضية؛ رجاء أن يحكم بينهم بعدم الرجم، ولكن حذرهم إخوانهم، قال: انتبهوا: إذا أعطاكم ما تريدون من الجلد فقط والتعيير والتقبيح فَخُذُوهُ [المائدة:41]، وإن أبى إلا الرجم فلا، فاحذروا ولا تقبلوه.

وقال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ [المائدة:41] يا رسول الله شَيْئًا [المائدة:41]، فلن تملك له يا عبد الله شيئاً، وعرفتم من هو الذي يريد الله فتنته التي كتبها أزلاً بعلم الله تعالى بأن الروح هذه خبيثة منتنة لا تريد الخير ولا الطهر ولا الصفاء، ترضى بالموت ولا ترضى بقبول الحق والفضيلة.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41]، فاللهم لا تجعلنا منهم، اللهم طهر قلوبنا وزك أرواحنا.

قال: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [المائدة:41] وذل وعار وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]، عذاب جهنم هل هناك أعظم منه؟ عذاب يخلدون فيه أبداً، وهو صنوف وألوان عديدة.

ثم قال له يكشف النقاب عن حالهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42] حتى نمتثل نحن بهذا، والله ما نسمع الكذب، سمعناه مرة لأننا ما عرفناه، لما تبين أنه كذب لا نسمعه مرة ثانية، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، ما معنى أكال؟ كثير الأكل، لو أكل مرة وتاب تاب الله عليه، لكنه طول العام وهو يأكل في الحرام والربا: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ [المائدة:42] هذا خاص بإمام المسلمين فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، إن حكمت فمن فضلك وإن أعرضت فلا حق لهم عليك، ما هم بالمؤمنين، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] فلا تخف فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42] بالعدل، لا تقل: كفار ويهود أو أعداؤنا نحكم عليهم بما فيه ضرر عليهم، لا يجوز أن تحكم بذلك، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].

وشيء آخر: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43].

بيان بشأن الجهاد في ظل الواقع الحالي

حالات الجهاد تحت راية الإمام

عندنا موضوعان: الأول: الدعاء، والثاني: بيان الجهاد، حيث قال الإخوان: آخر الكلام ما فهمناه.

أما الجهاد فأقول: الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، فقلت لكم: الجهاد هو أن إمام المسلمين الذي بايعناه على إقامة شرع الله بيننا، وقلنا: سمعاً وطاعة، هذا الإمام إذا أراد أن يجاهد إذا تطلب الموقف الجهاد فهناك موقفان: موقف العدو الكافر المشرك يجهز ويعد العدة ويعلن عن حربنا، في هذه الحالة تلزم التعبئة العامة، ولا ينبغي أبداً لمؤمن أن يتخلف، إذا أعلن الإمام التعبئة العامة، أو قال: الذين أعمارهم من العشرين إلى الستين سنة الكل يدخلون الثكنات ويحملون السلاح، هنا أصبح الجهاد فرض عين، ونقاتل هذا الظالم هذا الكافر هذا المعتدي حتى نهزمه ونشتت شمله وننتصر عليه، إبقاء لديننا وحياتنا الطاهرة وإسلامنا العزيز، هذا موقف.

الموقف الثاني: أن يرى الإمام أن هناك دولة ما بيننا وبينها صلح ولا معاهدة، فهيا ندعوها إلى الإسلام، بعدما ينظر إلى قوة رجاله وسلاحه وقدرته على أن يقاتل هذه الدولة، فيقول: باسم الله، ويجهز جيشه ويغزو، وحين يصل إلى الحدود يراسلها، يتصل بالمسئولين شفوياً بالسفير أو بالكتابة، يقول لهم: إن شئتم ادخلوا في رحمة الله ادخلوا في الإسلام، هذا دين الله لكم، وهذه رحمته بعباده، وما نحن إلا مبلغين عن الله، فادخلوا في الإسلام تكملوا وتسعدوا وتطيبوا وتطهروا وقل ما شئت من الكمال، فإن رفضوا قالوا: ديننا أولى، نحن يهود أو نصارى أو مجوس ديننا قبل دينكم، ما نريد أن نفرط في ديننا ونستبدل به غيره، قلنا لهم: اسمحوا لنا أن ندخل لننشر الحق والهدى والخير بينكم، ونحن ضامنون أموالكم ودماءكم، نحن الحماة لكم، فإذا دخلت قواتنا وأخذت تنشر الأمن والرخاء والعدل والطهر والصفاء، لو جاء عدو يريد أن يغزو تلك البلاد فنحن الذين نقاتله، نحمي هذه الأمة ودينهم لا يمس بسوء، ولكن سوف يشاهدون أنوار الإسلام وتغمرهم ويخرجون من دينهم تباعاً واحداً بعد واحد كما حصل في الشرق والغرب، إذ ما أكره أحد على أن يدخل في الإسلام أبداً، لا من العرب ولا من العجم.

فإن رفضوا إلا القتال إذاً يستعين بالله إمام المسلمين ويقاتلهم حتى يخضعهم لقبول دخول الإسلام في ديارهم. هذان موقفان هما الجهاد في سبيل الله، اذكروا هذا ولا تنسوه، واسألوا أهل العلم أهل البصيرة الذين عرفوا حقيقة الإسلام:

أولاً: أن يعتدي الكفرة المشركون على ديارنا، فإمام المسلمين يعلن عن التعبئة العامة ويقاتل ذلك العدو حتى يقهره، لا خلاف في هذا، اللهم إلا إذا رأى أن تلك القوة أقوى من قوته، وتلك القدرة أقدر منه وسعى إلى مصالحة سياسية ليدفع العدو فله ذلك، على شرط أن يكون له رجال من أهل النور والبصيرة والهداية، فيقولوا: هذا العدو كذا وكذا، فمن الخير أن نسكن روعه وأن ندفعه بالتي هي أحسن بمعاهدة بيننا وبينهم تجارية أو غير تجارية، وله الحق في هذا، والدليل: مصالحة الرسول للمشركين في هذه الجزيرة في غير ما مرة وفي غير ما موطن؛ لضعف إخوانه وقلة عددهم.

كيفية جهاد العدو المحتل لبلد مسلم

الآن نعود إلى الجهاد، استعمرتنا بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا، الآن هاجمت بريطانيا بلداً وأدخلته تحت حكمها، فما المخرج من هذه المحنة؟ نقول: على العلماء وعلى المربين وعلى الهداة الصالحين أن يأخذوا في تطهير نفوس أمتهم وتزكية أرواحها وتهذيبها، وإطفاء شعلة الشهوات والمادة منها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، حين ينظرون إلى ثلاثة أرباع الأمة قد أقبلت على الله حقاً وصدقاً، لم يبق كذب ولا خيانة ولا فجور إلا نادراً، وهم مسلمون بحق، حينئذ يبايعون إماماً لهم؛ لأنهم أصبحوا مسلمين، وحينئذ يعلن إمام المسلمين الجديد عن الجهاد لإخراج بريطانيا أو إيطاليا وفرنسا، وباسم الله عز وجل نجاهدهم، ما إن ننتصر حتى نرى الإسلام قائماً في الظاهر والباطن، هذا هو الذي يجب أن يكون، ولكن وا أسفاه مما كان، قاتلنا من إندونيسيا إلى موريتانيا وما كونا إماماً وأطعناه بطاعة الله ورسوله، وانقدنا لأمره ونهيه، وطهرت قلوبنا أولاً، وطهر سلوكنا، وجمعنا على عبادة الله، لذا لا يستقل الإقليم إلا والإسلام منبوذ ومطرود، أواقع هذا أو لا؟

أكبر برهان أن نقول: دلونا على إقليم من يوم أن استقل أعلن فقط عن فريضة إقام الصلاة على كل مواطن عسكرياً أو مدنياً، مع أن هذه الفريضة لا تكلفهم شيئاً، فقط تطهر قلوبهم وتزيد في آدابهم وأخلاقهم، هل جبيت الزكاة باسم الله؟ الجواب: لا، ما سبب هذه الخيبة وهذا الفشل؟

إن الشعب ما كان متهيئاً لعبادة الله، هذا خرافي وهذا ضال وهذا زان وهذا مشرك وهذا هابط، وهمهم الانتصار لأجل الكرسي والحكم والملك والدولة، إذاً: حصل ذلك، فأين الإسلام؟ ما حل بديارهم، ثم إن أكثر البلاد التي كانت مستعمرة لما استقلت فسدت أكثر مما كانت قبل ذلك، فسدت في آدابها وسلوكها وأخلاقها وعبادة الله، أنتم ما عاصرتم الدول، لكن كبار السن يعرفون هذا.

إذاً: هذا الجهاد إذا ما كانت بيعة للإمام وكانت الأمة مستعدة لتعبد الله عز وجل وتنشر دعوته، وأقمنا ثورة ضد الحكومة فهي أعمال باطلة والقتلى ليسوا بشهداء؛ وكل ذلك لأن كلمة (في سبيل الله) غير موجودة، ما قال: الجهاد فقط، قال: في سبيل الله، أي: بأن يعبد الله وحده، فإذا قاتلنا ولا نعبد الله ولا نطالب بعبادته فهل هذا سبيل الله؟ هو سبيل الشيطان.

أهمية تربية الناس وتهذيبهم في البلاد الإسلامية المحتلة

وعندنا مثل حي: إخواننا في الأفغان، والله! أتكلم على علم، لما انتشرت الشيوعية بينهم انتشاراً وكانت منتشرة في العالم الإسلامي بكامله إلا من رحم الله، لو كان هناك رشد ونوع من العلم والبصيرة، لكانوا سيهذبون إخوانهم ويؤدبونهم ويزيلون هذه الفتنة من قلوبهم ويعبدون الله عز وجل ولا يخافون من الشيوعية، فيقبلون أرجل إخوانهم، ويقول له: اترك هذا المبدأ أو هذا الكلام، أنت مسلم وهذا بلد إسلامي، لو فعلوا بصدق لما انتشرت الشيوعية في بلادهم، ولما احتاجوا إلى قتالها وقتالهم، فلما سكتوا وكانوا هابطين مثلنا وفتحوا أفواههم ورغبوا في الباطل انتشرت الشيوعية، من نشرها؟ هل نشرتها روسيا؟ لا والله، هم بأنفسهم، لما أعلنا الحرب على الشيوعية كان المجاهدون منا والمقاتلون الأعداء منا أيضاً، وأمدتهم روسيا، طلبوا منها المدد فأمدتهم، لا حرج في هذا أبداً، ومع هذا انهزمت الشيوعية، لما انهزمت لم ما رفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وساد الطهر والأمن والصفا وتحرك المجاهدون؟ لقد كنا نقول بعد انهزام روسيا: والله لن ننتهي إلا إلى فلسطين. كنا نحلم بهذا إلى فلسطين، لكن الذي وقع هو الخلف والفرقة والدماء والدموع والبكاء والصياح والهول إلى اليوم، ما سبب ذلك؟ لأنهم ما بايعوا إماماً ليعبدوا الله تحت رايته، وذهبت بنفسي نائباً وهذا الدكتور أبو عظمة معي؛ أنابنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وزرنا مخيمات القادة والأحزاب، وبكينا وبينا لهم فرفضوا، هل تكون العاقبة حميدة؟ والله لن تكون، لقد كانت سيئة، ما هناك من يكذبني، هذا هو الواقع؟

إذاً: في أي بلد آخر يحكمه الكفار إذا أردنا أن نقيم دعوة الله ويعبد الله فعلى المسئولين فيه أن يأخذوا في تهذيب الناس وإصلاح نفوسهم وتطهيرهم حتى يصبحوا أولياء الله، وهذا أمر ما يحتاج إلى مدفع ولا إلى رشاش، فإذا أقبلت أمة على الله نصرها الله، وإذا رفعت صوتها وكبرت أعانها الله، أما أننا نقاتل لنحكم فقط؛ فقد جربنا هذا في أربعين إقليماً من أقاليم الإسلام فهل استفدنا شيئاً، هل حققنا شيئاً؟

نقد تصرفات الجماعات التكفيرية المسلحة

وأخرى: الذين يطالبون بقتال في بلادهم ويقولون: الحكام كفار، والعلماء سكتوا فهم كفار والأمة كافرة

فما هي النتائج التي يمكن أن يظفروا بها؟ قد ينتقمون فقط ويشفون صدورهم من فلان وفلان، أما أن يقيموا دولة في تلك الأمة الإسلامية فهذا من باب ما لا يقع، لا وجود لهذا، كل ما في الأمر أنهم يسفكون الدماء ويروعون الآمنين والآمنات، وينشرون صورة قبيحة للإسلام الذي يقتل بعض أهله بعضاً.

والله الذي لا إله غيره! إني لأكلمكم على علم من الله، ما هو بهوى؟ يا أهل الإقليم الفلاني! اعملوا على إصلاح إخوانكم، قبلوا أرجلهم وأيديهم، أغلقوا المقاهي، أغلقوا المصانع الفاجرة، بالحكمة والموعظة حتى تطهر بلادكم، وحينئذ نرفع راية لا إله إلا الله ونكون أمة مسلمة، أما أن نتكالب على أوساخ الدنيا وأوضارها، وهذا يصلي وهذا يكفر ونريد أن نقيم في دولة إسلامية فمن أذن في هذا؟

شروط الخروج للجهاد في بلد محتل

وأخيراً: البوسنة والهرسك، اشتكى الناس، وقالوا: الشيخ يقول كذا وكذا، والذي قلته: هل هو جهاد؟ أقول: إن بايعوا إمامهم بيعة إسلامية، واستجابوا لأمر الله وأقاموا الصلاة واستتر نساؤهم، ومنعت الخمور، وقالوا: ربنا الله ولا إله إلا الله؛ فهذا جهاد، يريدون أن يعبد الله وحده، أما أن نقاتل الدولة الكافرة نقول: كيف تحكمنا وكيف تسودنا؟ هذا ما هو بالجهاد، هذا دفع ظلم إن شئتم.

ومن هنا: قلت: يا عبد الله! إذا كانت أمك وأبوك راضيين بخروجك والتحاقك بالبوسنة والهرسك فهذا أول شرط: لا تخرج إلا برضا أبويك، إذ الرسول قال: ( ففيهما فجاهد ).

ثانياً: أن تكون قادراً على أن تقاتل، لك قوة بدنية، قوة عقلية، تدريب عسكري، لك قدرة.

ثالثاً: أن يسمح لك الحاكم الذي أنت في دولته ويأذن لك بالخروج، بهذه الشروط الثلاثة لك أن تذهب لتقاتل مع إخوانك لتدفع عنهم الظلم الذي حل بهم:

أولاً: أن تكون قادراً؛ لأننا عرفنا جماعات ذهبوا إلى أفغانستان وذهبوا لكل جهة وما فعلوا شيئاً، وردوا البلايا والمحن، بل كانوا فقط يأكلون طعام المجاهدين هناك أو المقاتلين.

ثانياً: أذن لك أبواك أم لا؟ ثالثاً: أذن لك الحاكم أم لا؟ هذه ثلاثة شروط، أما المعاونة بالمال فمسموح بها للفقراء وللجرحى وللمرضى وكل ذلك فيه خير كثير، أما كلمة جهاد فلن يتم جهاد حتى تعلن كلمة لا إله إلا الله ويعبد الله.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المائدة (22) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net