إسلام ويب

يخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس، علماً منه سبحانه بأنهم يرفضون هدايته، ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وبسبب كفرهم وإعراضهم وتكبرهم فإن قلوبهم لا تفقه، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، فأصبحوا كالأنعام بل وأضل من الأنعام، فهم مستمرون في ضلالهم بسبب غفلتهم عن آيات الله الكونية والتنزيلية.

تفسير قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .

وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، تلكم الصورة التي تعالج العقيدة:

أولاً: تقرير أنه لا إله إلا الله.

ثانياً: تقرير أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: تقرير أن هذه الدار دار عمل والدار الآخرة دار جزاء.

رابعاً: التشريع حق الله، ليس لأحد من خلق الله أن يقنن أو يشرع؛ إذ الله الخالق لعباده الرازق لهم المدبر لأمورهم هو الذي يعرف ما يضرهم وما ينفعهم، فهو الذي يشرع فيحلل ويحرم كما شاء وهو العليم الحكيم.

وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة ثم نأخذ في شرحها لما فيها من الهدى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:179-181].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] هذا خبر من أخبار الله تعالى وكلها صدق وحق، هذا خبر من أخبار الله تعالى في كتابه العزيز العليم، والله لا يخبر إلا بالصدق، وكيف لا وهو الخالق وبيده كل شيء وهو منزه عن الكذب؟

هذا الخبر ذو شأن عظيم هو عبارة عن حكم أعلنه الله عز وجل لتعي هذا البشرية والجن أيضاً: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا [الأعراف:179] أي: خلقنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] لذلكم العالم الذي لا حد له، فكلمة جهنم هذه الكلمة دالة على دركة من دركات النار، وهي سبع دركات، ومن أراد أن يتأمل جهنم فليرفع رأسه فقط إلى الشمس في ضحى النهار ويذكر كم حجم هذا الشمس، قال علماء الإسلام قبل علماء الكفر: إن حجمها أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وكلها جحيم ونار ملتهبة، وليس أدل على ذلك من حرارتها في الصيف، فبيننا وبينها ملايين الأميال، فلو جمع العالم من إنس وجن ما سدوا ثلثها، فكيف إذا بعالم آخر ليس الأرض ولا هذه السماوات، اسمه النار وله دركات منها جنهم، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل صلاة يستعيذ بالله من عذاب جهنم.

توجيه معنى خلق بعض المكلفين لجهنم

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] كيف خلقهم لهذه النار؟ نعود إلى القضية من أولها وتأملوا، والله يفتح على من أراد أن يعلم.

نظر الرب تبارك وتعالى إلى الأرواح نظرة فعلم الذي يستجيب لدعوة الله ويعبده وحده ويتقيه فكتب ذلك له أنه من أهل الجنة، والذي نظر إليه فعلم أنه يتمرد على دعوته ويخرج عن طاعته وطاعة رسله كتب أنه من أهل النار، والمثل القريب لنقرب لإخواننا، المثل لهذه القضية: أن الفلاح يمسك بيده بذر الحبحب أو البطيخ وبذر الحنظل، فقبل أن ينبت وقبل أن يكون يعرف أن هذا حلو وهذا مر، أسألكم بالله: كذلك أم لا؟

الفلاح يعرف هذه البذرة ستنبت الحلو أم المر قبل أن تكون، فالله عز وجل وتعالى عن صفات المحدثين قبل خلق الأجساد علم الروح التي تطيع الله وتعبده فكتب لها الجنة، وعلم الروح التي تتمرد وتعصي باختيارها فكتب لها جهنم.

فقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] وقدم الجن لأنهم كانوا قبل الإنس، والإنس المراد بهم بنو آدم، وتقدم لنا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172]، مسح ظهر آدم واستخرج كل ذريته واستنطقها فنطقت واستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله، فقولوا: آمنا بالله.

امتناع العذاب بغير موجب

إلا أن عدل الله عز وجل وغناه ورحمته أنه لا يعذب كائناً من الإنس أو الجن بغير موجب التعذيب، وحاشاه أن يظلم أحداً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فلو أن امرءاً ولد أعمى ولا يسمع فهو غير مكلف لا يعذبه ولا يدخله النار أبداً، لو أن شخصاً في الخامسة من عمره في السابعة في العاشرة قبل بلوغه جن وأصبح مجنوناً فوالله! ما يعذب، مع أنه ما صام ولا صلى؛ لأنه غير مكلف.

أهل الفترة الذين وجدوا بين رسولين، مات الأول وانقطع العلم وأهله ووجدت أمة وأجيال لا يعرفون الله، هؤلاء أهل الفترة يسألهم الله يوم القيامة ويستنطقهم، فإن هم أجابوا واستجابوا لأمر الله لأنه يقول لهم: ادخلوا النار، فمن كان مستعداً لطاعة الله ورسوله لو عاصرهم وعاش في ذلك الوقت فإنه يقول: سمعاً وطاعة ويمشي إلى النار، فيخالف به إلى الجنة، ومن كان متمرداً لو بعث الرسول وأدركه وعلم وكفر وكذب ففي عرصات القيامة يقول: كيف ندخل النار؟ فيلجأ إليها إلجاءً .

معنى قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها)

إذاً: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] من هم يا رب؟ صفهم لنا؟ فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] الضمائر تعي وتفهم وتفقه، لكن هؤلاء قلوبهم لا يفقهون بها، إليكم مثالاً حياً صادقاً: علماء الكون اليوم من غير المسلمين أليسوا يحللون الكون تحليلاً؟

عالم الطب يعرف الشرايين بأسمائها وتدفقات الدم بدقة، ولا يذكر أبداً أن هذا مخلوق وأن خالقه عليم عظيم حكيم يجب أن يبحث عنه ليطيعه، والله! ما يفكر في هذا، يصنع العجب بالآلاف، يشاهد آيات الله في الكون فما يفكر أبداً أن لهذه الآلات صانعاً صنعها، أن لهذا الوجود موجداً أوجده، كيف يوجد بنفسه وهو يشاهد كل الذرات مربوطة بأسبابها؟!

إذاً: أين الفقه والفهم؟ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف:179] لو كانوا يبصرون لرفع أحدهم رأسه إلى السماء وقال: من نصبها قبة زرقاء؟ من ملأها بالكواكب المنيرة؟ من ساق فيها الرياح والأمطار والسحب؟ ما يسأل أبداً؛ حتى لا يقال: الله، فيقول: أعبد الله.

يغرس الشجرة، وينظر كيف تنبت، كيف تعلو، كيف تزهر، كيف تثمر، ما يقول: من خلقها؟ ما يرى هذا أبداً. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف:179] آيات الله في الكون أبداً، وهذا شأن كل الكفار، كل من أعرض عن الله وذكره وكتابه، وحارب دينه ورسوله من هذا النوع.

وَلَهُمْ آذَانٌ [الأعراف:179]، ولكن لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179]، يسمع نداء الباطل فيجيب ويسرع، ونداء الحق ما يسمعه أبداً، آمنا بالله!

معنى قوله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)

بِهَا أُوْلَئِكَ [الأعراف:179] البعداء كَالأَنْعَامِ [الأعراف:179]، الأنعام: الإبل والبقر والغنم، تعمل، تأكل، تشرب، على نظام خاص بحياتها، فهؤلاء في هذا الباب كالأنعام لا يعقلون، لا يفكرون إلا في المنكح والمطعم والمشرب والملبس فقط، والأنعام أفضل؛ لأنها ماشية مع سنن سنها الله لها، لا تخرج عنه أبداً، وهذا الإنسان أو هذا الجان أسوأ من الأنعام في هذا الباب، بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، نعم أضل، الأنعام ما وضع لها قانون وخرجت عنه، بل غرز الله غرائزها وطبع طبائعها على ما هي عليه، فهي لا تخرج عن ذلك أبداً حتى تموت.

وأما هذا العالم من الإنس والجن الذين أعرضوا عن ذكر الله، وكفروا به وبرسله ورسالاته، فشأنهم شأن الأنعام، بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].

ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، والغفلة ما هي؟ شيء أمامه وراءه بين يديه لا يعرفه، معرض عنه، غافل عنه، فهم الغافلون، أنفاسهم التي يرددونها لولا الله ما كانت، غفلة كاملة، يأكل هذا الثمار فما يدري من أين، يشرب هذا الماء وما يدري من أين هذا الماء، ينظر إلى نفسه ولا يقول: أنا من أوجدني وكيف وجدت وإلى أين أصير؟ غفلة كاملة: أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، والعياذ بالله، وكم عددهم؟ إن نسبة أهل الإيمان إليهم كواحد إلى ألف في عالم الجن وعالم الإنس.

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، ما سبب دخولهم في جنهم؟ لقد خلقهم لجهنم؟ فما السبب؟ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

فلنحذر يا أبناء الإسلام من الغفلة، يجب أن نكون مستيقظين واعين بصراء، في كل حركاتنا وسكناتنا، في كل ما يدور في الكون حولنا، ننظر إليه لنعرف من أوجده، وما مصيره وإلى أين نهايته.

تفسير قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ...)

بعد هذا الخبر خبر ثان، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]، وَلِلَّهِ [الأعراف:180] جل جلاله وعظم سلطانه الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]، الحسنى: مؤنث الأحسن. الحسنى: التي لا يفوقها حسن أبداً، لا حسن فوقها في جمالها وكمالها، وكم اسماً له تعالى؟

أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة )، هذا الخبر النبوي الصادق فهم منه أهل العلم وفقهاء الإسلام أهل السنة والجماعة أن أسماء الله ليست محصورة في تسعة وتسعين، وإنما هذه بالذات من أحصاها دخل الجنة، أي: من حفظها دخل الجنة، ثم قال: ( وإن الله وتر يحب الوتر )؛ ولذا أعطانا تسعة وتسعين.

إذاً: هذه الأسماء الحسنى يجب أن نعرفها أو نعرف أكثرها أو نعرف جلها؛ لأنه قال: ادعوني بها، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ [الأعراف:180] تعالى بِهَا [الأعراف:180]، أي: اطلبوا حاجاتكم بندائه: يا رب اغفر لي وارحمني، يا رزاق ارزقني، يا لطيف الطف بي، يا كريم أكرمني، يا عزيز أعزني، وهكذا.. وكل اسم فيه صفة، فتدعو بحسب حاجتك أنت، فالجاهل يقول: يا عليم علمني، وهكذا ندعوه بأسمائه الحسنى، أي: نسأل حاجتنا منه بعد ندائنا له باسمه، فنسأل الله عز وجل حاجاتنا، ونرفع أكفنا إليه وندعوه، لكن من اللائق أن نسأله باسمه الذي يتفق مع حاجتنا التي نريدها منه. ‏

معنى قوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون)

هذه الأسماء الحسنى يقول تعالى: فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا [الأعراف:180]، أي: اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، لا تجادلوهم، ولا تخاصموهم، ولا تلتفتوا إليهم؛ لضلالهم، وَذَرُوا [الأعراف:180]، أي: اتركوا، الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، أول من ألحد المشركون، فالعزيز سموه: العزى مؤنثاً، والمنان أخذوا منه: مناة، فأنثوها، والله أخذوا منهك اللات، فاللات والعزى ومناة آلهة المشركين.

إذاً: فكل من يحاول أن يغير اسماً من أسماء الله أو يبدله يجب هجرانه والبعد عنه وتركه، ويا ويله مما أخبر تعالى من عذابه، هذه الأسماء التسعة والتسعون موجودة في كتاب الله، ودونت وجمعت، وفي الحديث كذلك، فلا نضيف إليها اسماً من عندنا فنكذب على الله عز وجل.

وهنا بعض المتصوفة الجاهلين اشتقوا من قوله تعالى: (هو الله) اسم (هو)، وصاروا يقولون: هو هو هو. يا هو، يناديه: يا هو.. يا هو! فهذه -والله- إلحاد في أسماء الله، وخروج عن طاعة الله، وكفر والعياذ بالله، أما كفتك التسعة والتسعون اسماً حتى تضيف إليها من عندك اسماً تخترعه؟! فالذين يلحدون في أسماء الله بالتحريف بالتبديل بإظهار شيء وإخفاء آخر -وهو الإلحاد- هؤلاء تعرضوا لنقمة الله وعذابه.

وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، من يجزيهم؟ ربهم ذو العدل والجلال والكمال، سيجزيهم بما كانوا يعملونه.

معاشر المستمعين والمستمعات! إن لربنا مائة اسم إلا اسماً واحداً، هذه الأسماء نحفظ منها ما نستطيع أن نحفظ، وندعوه بها الليل والنهار، ولا نضيف إليها اسماً مشتقاً باشتقاقاتنا أبداً، أسماؤه كما هي، مثال ذلك: الله عز وجل موجد كل شيء، فما نقول: من أسمائه الموجد، ما نأتي إلا بالأسماء التي سمى بها نفسه وحدث بها رسوله، وأوجدها في كتابه القرآن العظيم، ففي هذا خطر عظيم؛ لقوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، فكيف إذاً نسمي ربنا باسم لم يسم به نفسه، أو نصفه بصفة ما وصف بها نفسه، ها نحن فيما بيننا ما نقبل أن تسميني بغير اسمي أو تصفني بغير صفتي، فكيف بالله عز وجل يفترى عليه ويكذب ويسمى باسم غير اسمه؟!

ومرة أخرى: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينادي الله بغير اسمه الذي سمى به نفسه، وإذا ناداه ليسأله حاجته فليدعه بالاسم الذي يتلاءم مع حاجته، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] من الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته.

تفسير قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)

ثم قال تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]، هذه الجملة تنطبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّنْ خَلَقْنَا [الأعراف:181] من البشر أُمَّةٌ [الأعراف:181]، والأمة: الجماعة المتلائمة، وإن تباعدت ديارها وتناءت أقطارها، ما دام يجمعهم مذهب واحد ومنهج واحد ووصف واحد، فهم أمة واحدة وإن بلغت البلايين، وَمِمَّنْ خَلَقْنَا [الأعراف:181] من عبادنا أُمَّةٌ [الأعراف:181] عظيمة الشأن، يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]، يهدون أنفسهم وغيرهم من بني البشر، هل يهدونهم بالباطل أم بالحق؟ بالحق الذي هو الشرع الذي شرعه الله فأنزل به كتابه، وبعث به رسوله، هذا الذي يهدون به البشرية إلى أن تكمل وتسعد في الدنيا والآخرة.

بِالْحَقِّ [الأعراف:181]، بالدين الحق، بالشرع الحق، لا بالبدع والخرافات والأكاذيب والأباطيل يهدون الناس بها، يهدونهم إلى ماذا؟ هل إلى الضلال والعذاب والعياذ بالله؟ يهدون بالدين الحق، وهكذا بدأ الإسلام في هذه الديار وقام به أهله فنشروا نور الله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بدعوة الحق لا بدعوة الباطل، مضت خمس وعشرون سنة والعالم الإسلامي أكبر عالم، فمن أراد أن يهدي عباداً من عباد الله فليهدهم بالدين الحق، لا بالبدع ولا بالخرافات ولا بالضلالات ولا بالأفكار الباطلة، إلا بكلمة الله وكلمة رسوله، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]، بينهم وبين أنفسهم، بينهم وبين أولادهم، أزواجهم، أهليهم، فضلاً عما بينهم وبين غيرهم، إذ لا عدل إلا فيما شرع الله عز وجل، فحين يقضي قاض كافر ما يستطيع أن يعدل؛ لأنه ما يعرف الحق، يظلم لعدم معرفة الحق، لكن أهل هذه الملة الكريمة هم الذين يهدون البشرية وأنفسهم قبلها، يهدونهم إلى أين؟ إلى طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، ويحكمون بالعدل، لا يحيفون ولا يجورون ولا يظلمون أبداً.

ولنضرب لكم مثلاً: يهودي ادعى على علي بن أبي طالب وعلي يومها خليفة المسلمين، وادعى أنه أخذ درعه، فقال: هذه الدرع درعي وأخذها مني علي، والقاضي شريح رحمه الله تعالى، فجمع بين الخصمين بين المدعي والمدعى عليه، وقال: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، فلما قضى القاضي على الخليفة أعلن اليهودي أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآن أدخل في الإسلام؛ لظاهرة ظهرت أن حاكماً عاماً يحكم عليه ويرضى بالحكم مع عدو من أعداء اليهود، فقال: هذا هو الدين الحق، وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

معشر المستمعين! هيا بنا نسمع شرح هذه الآيات من الكتاب؛ لنزداد بصيرة فيما علمنا.

يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم:

[ معنى الآيات:

على إثر ذكر الهدى والضلال، وأن المهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ] تقدم هذا قبل هذه الآيات [ أخبر تعالى أنه قد خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس، علماً منه تعالى بأنهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وأن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم؛ فلا القلب يفقه ما يقال له، ولا العين تبصر ما تراه، ولا الأذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل؛ لأن الأنعام ما خرجت عن الطريق الذي سيقت له وخلقت لأجله، وأما أولئك فقد خرجوا عن الطريق الذي أمروا بسلوكه وخلقوا له، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم.

وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] تقرير لحقيقة، وهي أن استمرارهم في الضلال كان نتيجة غفلتهم عن آيات الله الكونية فلا يتأملونها فيعرفوا أن المعبود الحق هو الله ويعبدوه، وغفلوا عن آيات الله التنزيلية فلم يتدبروها فيعلموا أن الله هو الحق المبين، فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.

وأما الآية الثانية في هذا السياق، وهي قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، فقد أخبر تعالى فيها بأن الأسماء الحسنى له تعالى خاصة لا يشاركه فيها أحد من خلقه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مائة اسم إلا اسماً، أي: تسعة وتسعون اسماً، ووردت مفرقة في القرآن الكريم ] في الآيات المختلفة، [ وأمر تعالى عباده أن يدعوه بها: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا رب، يا حي، يا قيوم، وذلك عند سؤالهم إياه وطلبهم منه ما لا يقدرون عليه، كما أمرهم أن يتركوا أهل الزيغ والضلال الذين يلحدون في أسماء الله فيؤولونها، أو يعطلونها، أو يشبهونها، أمر عباده المؤمنين به أن يتركوا هؤلاء ليجزيهم الجزاء العادل على ما كانوا يقولون ويعملون؛ لأن جدالهم غير نافع فيهم، ولا مجد للمؤمنين ولا لهم ] فهجرهم أولى. [ هذا ما دلت عليه الآية الثانية.

أما الثالثة، وهي قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]، إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقاً آخر من الإنس والجن، فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي استوجبوا بها جهنم: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا [الأعراف:181]، أي: من الناس، أُمَّةٌ [الأعراف:181] كبيرة يَهْدُونَ [الأعراف:181] أنفسهم وغيرهم بِالْحَقِّ [الأعراف:181]، الذي هو هدى الله ورسوله، وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم، فينصفون ويعدلون ولا يجورون، ومن هذه الأمة كل صالح في أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقاداً وقولاً وعملاً وحكماً وقضاءً وأدباً وخلقاً، جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم ]، آمين.

مرة ثانية أقول: ومن هذه الأمة التي ذكرها الله تعالى كل عبد صالح من أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقاداً وقولاً وعملاً وحكماً وقضاءً وأدباً وخلقاً، هو داخل في هذه الأمة: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181].

هداية الآيات

معاشر المستمعين! إليكم هداية هذه الآيات فلنتأملها.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: تقرير مبدأ أن السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر، فكل ميسر لما خلق له ]، فكل إنسان ميسر للذي خلق له، إن كان من أهل الجنة فهو يصلي ويصوم ويتصدق ويذكر الله ويعبده ويوحده؛ حتى يصل إلى الهدف، وإن كان سجل اسمه في النار من الهالكين فهو لو تعرض عليه الإسلام بالملايين فلن يقبل، ما تقنعه أبداً أن يترك الفجور، ليستمر على ذلك حتى يصل إلى غايته ومنتهاه، حتى يتم وعد الله عز وجل وقضاؤه وقدره.

والرسول قال: ( اعملوا )، لما جاءوه وقالوا: يا رسول الله! ما دام أن كل شيء قضاه الله وقدره فلم العمل، لا بد أن يقع ما كتب الله، فما هناك حاجة إلى العمل؟ فقال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:1-10] ).

فمن آمن وأقبل على الله في صدق ييسره دائماً لما فيه رضا الله، ويحفظه الله من أن يقع في المهالك، ومن أنكر وأعرض وتكبر فإنه يندفع اندفاعاً إلى المعاصي.

[ ثانياً: هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان ]، الإنسان إذا فقد عقله ودينه وآدابه وأخلاقه يهبط حتى يصبح أضل من الحيوان، وهذا الذي نقوله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من شر الخليقة؟ هل القردة والخنازير؟ لا والله، هل الكلاب والقطط؟ لا والله، هم المشركون والكافرون، ما وجه أنهم شر الخليقة؟ لأن الله أنعم عليهم بوجودهم وأطعمهم وسقاهم ورباهم وأوجد الكون كله لهم، وأوجد الجنة لهم، فأخذوا ذلك وأبوا إلا أن يفسقوا ويفجروا، إذاً: والله! إنهم لشر البرية.

قال: [ هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان، وذلك عندما يكفر بربه ويعطل حواسه عن الانتفاع بها، ويقصر همه على الدنيا وملذاتها.

ثالثاً: بيان أن البلاء كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها ]، بيان أن البلاء والشقاء مدسوس كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها، فمن غفل عن آيات الله وأعرض عنها لا يقرأ ولا يسأل ولا يتعلم لغفلته فالبلاء ثم الشقاء الأبدي.

[ رابعاً: الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى نحو: يا رب، يا رحمن، يا عزيز، يا جبار ]، من أين أخذنا هذه؟

من قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].

[ خامساً: حرمة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها، كما قال المشركون في الله: اللات، وفي العزيز: العزى، وفي المنان: مناة، سموا بها آلهتهم الباطلة، وهو الإلحاد الذي توعد الله أهله بالجزاء عليه ]، والعياذ بالله.

[ سادساً: أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون ] ويحكمون [ بهما ]، يهدون أنفسهم وإخوانهم والكافر البعيد يصلون إليه ويبلغونه دعوة الله ويحكمون بها.

والله أسأل أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم. اللهم آمين.

وصل اللهم وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأعراف (48) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net