إسلام ويب

خلق الله البشر لعبادته، وذكره وشكره، كما سخر لهم الرياح والأمطار وغيرها ليتأملوا فيها، ويعرفوا الله حق معرفته، فيعبدوه حق عبادته، لكن القليل من الناس من فعل ذلك، أما الغالب منهم فقد اختاروا طريق العمى وأجرموا في حق أنفسهم وخالقهم، فكانت عاقبتهم العذاب الأليم، وعاقبة المؤمنين النصر المبين.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة الروم ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:46-47].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:46]. آيات من؟ آيات الله عز وجل، الذي لا إله غيره ولا رب سواه.

وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:46] أي: علامات وجوده، وقدرته، وعلمه، وحكمته، ورحمته وأنه الإله الحق، ولا إله غيره.

والآيات: هي العلامات الدالة على الشيء، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، إنها من الذرة إلى المجرة، إنها من الحياة إلى الموت.. إنها من العز إلى الذل.. من البقاء إلى الفناء، كل كائن في هذه الحياة هو آية، أي: علامة على وجود الرب تبارك وتعالى، وعلى أنه لا إله إلا هو؛ إذ هو الخالق، الرازق، المدبر.

فيقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:46] فليسمع هذا مشركو مكة وكافروها، والآيات تنزل فيهم، وليسمعها الكفار اليوم، وقبل اليوم، وبعد اليوم في الشرق والغرب.

لم ما يسألون؟ لم ما يقولون: من يرسل الرياح؟ من ينزل الأمطار؟ من.. من؟

يأكلون ويشربون كالبهائم ولا يسألوا! أين العقول؟ لا عقول لهم، إنهم كالبهائم.

وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:46]، وما أكثرها! ولا حد لها أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ [الروم:46].

الرياح لو تجتمع البشرية كلها وعالم الجن معهم على أن يبعثوا بريح لا يستطيعون! والله ما يقدرون على أن يوجدوا الريح فقط، والرياح تخرق العالم شرقاً وغرباً كل يوم وكل ليلة.

من أوجد هذه الريح؟ هل أوجدتها الأصنام والأحجار أم الشهوات، والأطماع، والأهواء أم الطبيعة العمياء؟!

من الذي أوجد هذا؟

لم ما يسألون؟

من الذي يرسل الرياح إلى بلادنا؟

لو قالوا: من؟ لكان الجواب: الله. وليس إلا الله.

مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46] تبشرنا بالمطر .. بالغيث الذي سينزل علينا، وأرضنا جدباء، وبلادنا أصابها القحط، ونحن ننتظر من يسقينا، من يدفع عنا هذا البلاء، وإذا بالرحمن عز وجل يرسل الرياح تبشرنا بقرب المطر، وأنه عما قريب يأتيكم.

معنى قوله تعالى: (وليذيقكم من رحمته)

ثم قال تعالى: وَلِيُذِيقَكُمْ [الروم:46] ليذيقكم يا عباد الله! أيها الكافرون بالله! أيها المؤمنون بالله! الخطاب يشملكم الكل وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم:46] ورحمة الله واسعة، وسعت كل شيء.

والمراد بالرحمة هنا: المطر العذب الفرات الذي يحيي الأرض بعد موتها، فهو النعمة أو الرحمة التي يذيقنا إياها.

وَلِيُذِيقَكُمْ [الروم:46] سبحانه وتعالى مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم:46] التي وسعت كل شيء. ومن أسمائه سبحانه: الرحمن الرحيم، ورحمة الله عز وجل وسعت كل شيء، ومن مظاهرها: أن الفرس ترفع حافرها؛ حتى لا تطأ مهرها.. وقد رأينا الدجاجة تجمع أفراخها وتعلمها كيف ينقر الحب.

هذه الرحمة التي دخلت في كل شيء ووسعت كل شيء كيف يكفر بصاحبها؟ كيف يغطى ويجحد وينظر إلى المخلوقات فتعبد معه؟!

عجباً للكفر وأهله! والله إن الكفر لعجب، والإيمان لا عجب فيه أبداً!

أيما عاقل يسأل من أوجدني يجد الجواب.

ولم أوجدني؟ لكذا وكذا..

ولماذا أوجد الدار الآخرة؟ لكذا وكذا.. فيعلم ويصبح عالماً عارفاً ما عليه إلا أن يسأل فقط!

وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:46] الدالة على وجوده وعلى ألوهيته وربوبيته وحكمته ورحمته وإنعامه وإحسانه لأوليائه أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ [الروم:46] أي: إرسال الرياح مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46] لا الريح العاصفة التي تدمر الأشجار وتكسر وتهدم المباني، بل مبشرات برحمته التي هي المطر.

معنى قوله تعالى: (ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله)

ثم قال تعالى: وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ [الروم:46] الفلك في البحر أيام نزول القرآن ما كانت تمشي بالبنزين ولا بالبخار ولا.. كانت تمشي في البحر بالرياح فقط، والرياح لا تمشي إلا بأمر الله حتى تنتقل الباخرة من مكان إلى مكان، تحمل التجارة والبضاعة والمسافرين.

وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ [الروم:46] وإذنه وإرادته وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الروم:46] أيها التجار الذين سخر لكم الباخرة تتنقلون من إقليم إلى إقليم، من بلد إلى بلد، تحملون البضائع وتستوردون. لأجل ماذا؟ لتبتغوا وتطلبوا من فضل الله، وتظفروا به.

فكيف تنسون ربكم؟! كيف ينسى الله؟

الشياطين هي التي تعمي القلوب وتصمها، وإلا كل شيء يمكن أن يقال فيه: حق أو باطل إلا وجود الله لا يقال فيه إلا حق.

مستحيل ألا يكون الله موجوداً ومظاهر قدرته وعلمه ورحمته تتجلى وتظهر في كل شيء في هذا الكون، ومع هذا الشياطين أصمتهم وأعمتهم، يكبون على أصنامهم يعبدونها ويكفرون بالله عز وجل!

وها هم المسيحيون إخواننا في الإنسانية يعبدون عيسى وأمه ويقولون الباطل، والقرآن يتلى في بلادهم، بل وفي إذاعاتهم، ولا يسألون، ولا يبحثون، ولا يقولون!

المفروض كل أسبوع يأتي وفد من أمريكا أو من بريطانيا إلى المدينة: ما هو الله؟ وكيف الله؟ وكيف نعبده؟ ما هو الدين؟ وما هو الإسلام؟ أو كل يوم يأتي وفد، أو يطالبوننا بأن نرسل إليهم معلمين، ولكنها الغفلة والعمى الذي صبه عليهم إبليس عليه لعائن الله، ومع هذا يوجد منهم من يسلم يومياً ويدخل في رحمة الله!

شكر الله على إنعامه

ثم قال تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم:46] يغدق عليكم هذه النعم؛ من أجل أن تشكروه.

يا عبد الله! إذا أنعم الله عليك بنعمة فأد حقها، واعلم أنها كانت من أجل أن تشكر، لا من أجل أن تكفر!

وشكر الله عز وجل كما قررنا وبينا للعالمين والصالحين والصالحات يكون بالآتي:

أولاً: الاعتراف بالنعمة بالقلب، بأنها نعمة الله وهو المنعم بها. لا بد من هذا، أيما نعمة، سواء نعمة السمع.. البصر.. الطعام.. اليد.. الرجل.. الأصبع.. لتستعمله في كذا.. تذكر: من أنعم عليك بهذه النعمة فتقول في داخل نفسك: الله. الله هو المنعم وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53].

ثانياً: أن تحمد الله بلسانك على النعم التي أنعم بها عليك، فذلك الحمد هو عين الشكر، فإذا اعترفت بالنعمة فاحمد صاحبها المنعم بها عليك، وقل: الحمد لله.. الحمد لله!

ثالثاً: أن تصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم بها عليك. هيا نبدأ بنعمة البصر تستخدمها في ماذا؟ فيما يرضي الله عز وجل، شاكراً لله حامداً، لا أن تنظر بها ما حرم الله.

نعمة اللسان نعمة عظيمة، تحمد الله عليها وتشكره، ومن شكره ألا تقول ما يغضب الرب الذي وهبك اللسان ومنحك إياه، فكيف تقول ما يغضبه كسب مؤمن أو أذية مؤمن أو كلمة الكفر أو الباطل.

رجلاك نعمة فلا تمش بهما خطوة أبداً في غير مرضاة الله، لا يجوز أن تمشي خطوة واحدة بنعمة أنعم بها عليك في معصيته.

الدينار والدرهم وهبك الله، فيجب ألا تنفق هللة واحدة في غير مرضاة الله عز وجل، وإلا ما شكرت النعمة، بل كفرتها.

إذاً الشكر لله عز وجل يكون:

أولاً: بالاعتراف بالمنعم الذي أنعم.

ثانياً: بحمده والثناء عليه بلسانك، فتقول: الحمد لله الذي أكرمني.. الحمد لله الذي أنعم علي.. الحمد لله الذي وهبني سمعي.. الحمد لله الذي أعطاني بصري.. الحمد لله الذي رزقني كذا..

ثالثاً: شكره بصرف النعمة؛ حيث يحب ويرضى، أعطاك ريالاً يجب أن تشكره على هذا الريال، فلا تنفقه في علب السجائر ولا في معصية الله كيفما كانت!

وهكذا يقول تعالى: فعلنا بكم كذا وبكم كذا؛ من أجل ماذا؟ من أجل أن تشكروا الله، وتعترفوا بنعمته عليكم، وتحمدوه بألسنتكم، وتنفقوا النفقة حيث أمركم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات...)

ثم قال تعالى مخاطباً رسوله بعد أن خاطب المشركين من أهل مكة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا [الروم:47] لم يواجه الرسول بهذا؟ لأنه في كرب وغم وهم منهم، والآيات تنزل من أجل هدايتهم .. من أجل تعليمهم، وهم معرضون مصرون، فيتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسليه ربه، ويخفف عنه ألم نفسه فيقول تعالى له: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا [الروم:47] يعني: نوحاً، وهوداً، وصالحاً، وإبراهيم، وشعيباً، ولوطاً .. سلسلة من الأنبياء والرسل وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم:47] والحجج الظاهرة و.. و.. قل ما شئت، ومع هذا أعرضوا.. استنكفوا.. استكبروا.. سخروا.. حاولوا قتل الأنبياء.. حاولوا ضربهم.. حاولوا قتلهم بالسحر.. فعلوا وفعلوا وفعلوا؛ وأنت يا رسولنا! مثلهم فاصبر كما صبروا، ولا تحزن ولا تكرب كما لم يحزنوا ولم يكربوا؛ فنوح عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه وهو بينهم ولم يؤمن به إلا نيف وثمانون رجلاً وامرأة!

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] هذا نوح، وإبراهيم، وهود في الجنوب، وصالح، ولوط في الغرب .. وهكذا شعيب .. كلهم كذبهم أقوامهم، وحاربوهم، وأرادوا قتلهم و.. و.. إلى غير ذلك، إذاً: فاصبر يا رسولنا! ولا تكرب، ولا تحزن.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا [الروم:47] عظاماً، فضلاء، كراماً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم:47] المعجزات.. الحجج الظاهرة.. البراهين القطعية من الآيات والأحاديث، فلم يستجيبوا فانتقمنا منهم.

ومعنى هذا: أبشروا يا كفار مكة! ستدور الدائرة عليكم!

والله إن لم تؤمنوا لانتقم الله منكم كما انتقم من عاد وثمود!

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ [الروم:47] يا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم رُسُلًا [الروم:47] عظاماً إِلَى قَوْمِهِمْ [الروم:47] ما قال: إلى أقوامهم بل إلى قومهم في الجنس فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم:47] كما جئت أنت قريشاً بالبينات والحجج ومع ذلك ما آمنوا ولا أسلموا ولا دخلوا في رحمة الله

فاستوجبوا النقمة فانتقمنا منهم، فعاد سبع ليال وثمانية أيام لم يبق أحد منهم، تحطمت ديارهم تمام التحطيم، وثمود أربعة أيام فجثموا على ركبهم أمواتاً .. قوم صالح، وأما قوم لوط فخسفت بهم الأرض، وسقطت عليهم السماء.

معنى قوله تعالى: (فانتقمنا من الذين أجرموا)

ثم قال تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47].

لطيفة قرآنية: ما قال (فانتقمنا منهم) بل قال: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47] ليسمع كل ذي عقل أن صاحب الإجرام عدو لله، وأنه عرضة لأن ينتقم الله منه ويضره ويهلكه.

هذه عاقبة الإجرام، ويوجد في قوم صالح، من لم يجرم، وكذا قوم عاد وقوم لوط.

كم الذين نجوا من قوم لوط؟ الجواب: ثلاثة: بنتاه وامرأته.

فَانتَقَمْنَا [الروم:47] ممن؟ مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47] فلنسأل: هل نحن مجرمون أو غير مجرمين؟

ما هو الإجرام؟

الإجرام: هو معصية الله ورسوله، تلك المعصية التي تفسد النفس وتخبثها وتعفنها حتى تصبح كأنفس الشياطين.

إذاً: المجرم: ذاك الذي يوالي الذنوب والآثام حتى يصبح لا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر، ويصبح همه الباطل والشر والفساد، ذلكم -والله- المجرم الذي يستوجب نقمة الله وعذابه إما في الدنيا وإما بعد موته.

فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47] والإجرام هو أن تجرم على نفسك، فبدلاً من أن تطيبها، وتطهرها، وتزكيها بالإيمان وصالح الأعمال تدبر عن الإيمان والعمل الصالح، وتقبل على الشرك والكفر والذنوب والمعاصي؛ حتى تصبح النفس أخبث من أنفس الشياطين.

من أجرم عليها؟ من أفسدها؟ من خبثها؟ صاحبها الذي أعرض عن الله ودينه، وأقبل على الشيطان يستجيب له ويمشي وراءه، فرماه في كل الذنوب والمعاصي فخبثت نفسه فتعفنت ونتنت، وما أصبحت أهلاً لأن تجاور الله عز وجل في الملكوت الأعلى.

أما النفس الطيبة الطاهرة فتجاور الله، وحسبنا ما علمناه غير مرة: أن العبد إذا كان على فراش الموت.. على سرير الموت، يجيئه وفد من الملائكة إما أن يكونوا من الطاهرين الطيبين أو من ملائكة العذاب والعياذ بالله تعالى، وتؤخذ روح المجرم الخبيث النفس، فيعرجون بها إلى السماء فيستأذنون لها أن يدخلوها فلا يؤذن لهم، وتعود إلى الميت، ثم إلى جهنم في أسفل الكون، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] كذبوا بها: ما آمنوا، واستكبروا ما أطاعوا، ما أقاموا الصلاة ولا منعوا ما حرم الله استكباراً لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] سبع سماوات لا يؤذن لسماء أن يدخلوها حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] حتى يدخل البعير الأورق في عين الإبرة الدقيقة الصغيرة التي يدخل فيها خيط. وهذا مستحيل!

هل البعير يدخل في عين الإبرة؟ لا يمكن، فكذلك ذو النفس الخبيثة بالإجرام، والظلم، والشر، والفساد، هكذا نفسه لا تدخل الجنة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].

فهيا بنا نجاهد أنفسنا ألا نكون من المجرمين، ومن أراد أن يساعد نفسه فعليه بحلق العلم ومجالسة الصالحين، والبعد عن آيات الفساد وعلاماتها من الشاشة والتلفاز إلى الصحيفة المنتنة أو المجلة الخبيثة.

معنى قوله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)

ثم قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وكان نصر المؤمنين حقاً علينا، فـ: (حقاً) خبر كان وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] أي: لما أهلكنا المجرمين نصرنا عبادنا المؤمنين، أبشر يا رسول الله! ويا معشر المؤمنين! وعما قريب يهلك الكافرون في بدر وتنتصرون على الكافرين، بشرى لهم، واستجاب الله.

فقط نصر ماذا؟ نصر المؤمنين بحق وصدق، المؤمنون الكمل في الإيمان، المؤمنون الصادقون في إيمانهم، لا يقول: أنا مؤمن وهو لا يصلي. أنا مؤمن وهو يستحل المحرمات. أنا مؤمن وهو يكره المؤمنين، ويبغض الصالحين. والله ما هو بمؤمن!

المؤمن الحق الذي إن عرضت إيمانه على القرآن وافق عليه وصدق ومضى عليه

وإن عرضت إيمانه على إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجدته موافقاً لهم .. ذلكم المؤمن.

والإيمان ليس دعوى يدعيها فكم وكم من منافق كان يقول: أنا مؤمن!

وإلى الآن النصارى يقولون: نحن مؤمنون. واليهود يقولون: نحن مؤمنون غير كافرين.

وهل يقبل ذلك أو يثابون عليه؟! لا

وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] بحق حيثما يوجد المؤمنون في بلد في إقليم وحاربهم الشرك والكفر والله لنصرهم الله!

حيثما يوجد المؤمنون بحق إلا وينصرهم الله على الكافرين، والظالمين، والفاسقين إن وجد الإيمان ومستلزمات الإيمان من طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:

أولاً: تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل ].

تقرير الربوبية لله .. تلك الربوبية المستلزمة للألوهية، ما كان الله إلهاً إلا بعد أن كان رباً. أي: ما استحق الله العبادة إلا بعد أن كان رباً يملك كل شيء وبيده كل شيء.

إذاً: الآيات تقرر ربوبية الله، والربوبية مستلزمة بالحتمية للألوهية، فلا إله إلا الله ولا رب سواه.

[ ثانياً: بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها ].

إي والله يا عباد الله! قد أنعم الله علينا بنعم لا تعد ولا تحصى .. بأسماعنا.. بأبصارنا.. بعقولنا.. بطعامنا.. بشرابنا.. بمراكبنا.. هذه النعم كلها من أجل ألا يفارق أحدنا كلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. يا أمة الحمد! احمدوا الله على طعامكم، على شرابكم، على ركوبكم، على نزولكم، على مشيكم، على كل جزء من حياتكم، فالله ما أنعم بهذه النعم إلا من أجل أن يحمد، فالحمد لله.

كيف حالكم؟ الحمد لله.

مريض على فراش الموت تسأله: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله. فلهذا عرفنا في الكتب السابقة بأمة الحمد، أو بالحمادين.

قال: [ثانياً: بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها، فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء، وكيف يشاء، ومتى يشاء ].

ومن باب التمثيل، وقد لا يقبله السامعون وغيرهم وأنا أقول واقع: كيف هبطت أمة الإسلام فاستعمرها الكفر وقسم بلادها ومزق شملها وشتتها؟ بسبب ذنب أو بسبب عمل صالح؟

بسبب ذنوبنا، لما أفسدوا العقيدة، وهبطوا، وفسقوا، وخرجوا عن أمر الله سلط الله عليهم الكفار. هذه آيات الله.

[ ثالثاً: بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن وناصر المؤمنين كذلك ] أي: وإن طال الزمان.

والحمد لله.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم (11) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net