إسلام ويب

في لحظة من الزمن يأتي موعد غفلت عنه جماهير البشرية، إنه موعد الجزاء، حينها ييأس الكافرون، لأنهم أجرموا في حق أنفسهم، فلم يقولوا يوماً: رابنا اغفر لنا ذنوبنا يوم الدين، ولم تنفعهم أصنامهم ولا أوثانهم، لقد سقطت جميعاً، وصار الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.

تفسير قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة الروم السورة ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

قال تعالى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:11-16].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم:11] هذا خبر من أخبار الله تعالى، أن الله جل جلاله وعظم سلطانه رب كل شيء وإله العالمين، ورب الأولين والآخرين!

الله منزل الكتاب، ومجري السحاب، الله ربنا ورب العالمين، هذا اسم العلم لله، ولله مائة اسم إلا اسماً واحداً، أجلّها هذا الاسم: الله، الدال على أنه لا إله في الكون إلا هو، ولا يستحق العبادة في الخلق إلا هو.

الله جل جلاله، وعظم سلطانه يخبر عن نفسه فيقول: يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:11] وقد بدأ الخلق.

هل كنا قبل مائة سنة موجودين؟ والله ما كان منا أحد.

من أوجدنا؟ الله.

ومن كانوا قبلنا، ومن جاءوا بعدنا، من أوجدهم سواه؟! هو الذي يبدأ خلقهم، بل الخلق كله للسماوات والأرض والكائنات هو الذي بدأه، يبدأ الخلق، ثم يميت الخلق، ثم يعيدهم.

من فعل هذا؟ الله. فلهذا كان لا إله إلا هو، ولا رب سواه، فالله جل جلاله، وعظم سلطانه يبدأ الخلق كما تشاهدون في الأطفال، يولدون، ويكبرون، ويموتون. ثم من يعيدهم بعد ذلك؟ هو جل جلاله، وعظم سلطانه، وبهذا استحق الألوهية، واستحق العبادة، فلا يعبد سواه.

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم:11] والله العظيم لا بد وأن نرجع إليه؛ لنقف بين يديه، ليسألنا، ويستنطقنا، ونجيب أو لا نجيب، ثم إما أن يدخلنا دار النعيم أو يدخلنا دار البوار والعياذ بالله تعالى.

وهذا هو السر الذي كررناه ألف مرة وقلنا: ما علة هذا الوجود؟ لم أوجدنا الله؟ من أجل أن نذكره ونشكره.

لم يعيدنا مرة ثانية؟ من أجل أن يجزينا على ذكرنا وشكرنا، أو على كفرنا وعصياننا. هذا سر الحياة، واحلف بالله ولا تحنث.

لم أوجد الله هذا الكون؟ لأن يعبد فيه، ويذكر، ويشكر.

لم أوجد الحياة الثانية بعدما يفني الأولى، ويبيدها، وينهيها؟ من أجل الجزاء على الكسب في هذه الدنيا.

إذاً: فلنعمل الصالحات، ولنبتعد عن السيئات؛ فإن جزاء الصالحات الجنة، وجزاء السيئات النار.

وإن قلت: أي نار هذه؟ في بيتك توقدها، وتطبخ عليها طعامك ولحمك. وإن قلت: كيف؟ قلنا: هذا كوكب الشمس فوقنا أكبر من أرضنا بمليون ونصف مليون مرة، والله لكلها نار ملتهبة، لو جمعت البشرية كلها وألقيت فيها ما سدت زاوية من زواياها.

أبعد ذلك تسألوني عن النار؟ مع أن هذه العوالم كلها تنسف وتبدد، ولا يبقى منها شيء، لا السماء ولا الأرض، وإذا بنا في عالم آخر، في الأعلى، في الجنة، والأسفل في الجحيم والعياذ بالله، واقرأ: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5].

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:11] ما قال: بدأ الخلق؛ لأنه يبدأ الخلق في كل يوم وفي كل ساعة.

ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:11] من جديد كما بدأه.

ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم:11] وتحشرون. لم؟ للجزاء على العمل في هذه الدنيا، إن كان إيماناً وعملاً صالحاً فالجنة دار النعيم مأوى الصالحين، وإن كان فسقاً وفجوراً وشركاً وكفراً فدار البوار والخسار جهنم، والعياذ بالله.

إذاً: هذه الآية قررت البعث الآخر وأكدته، وبينت ما يتم فيه ويجري.

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون)

ثم قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم:12].

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [الروم:12] تقوم ساعة قيام الناس من قبورهم، وساعة حشرهم في ساحة فصل القضاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم:12] والعياذ بالله تعالى.

يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم:12]: ييأس المجرم من الخير.. ييأس من رحمة الله.. ييأس من الجنة.. ييأس يأساً كاملاً كما أبلس إبليس.

يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم:12] نعوذ بالله أن نكون منهم.

من هم المجرمون؟ بنو فلان.. بنو فلان، سكان كذا.. كذا؟ من هم؟ المجرمون، واحدهم: المجرم. ومعناه: المفسد الذي أفسد نفسه فصب عليها أطنان الذنوب والمعاصي، ففسدت، وخبثت، فهو مجرم.

وهذا الإجرام يكون بماذا؟ بمعصية الله ورسوله، وتبدأ بالكفر وعدم الشكر، وتنتهي بترك ما أوجب الله، وفعل ما حرم؛ إذ كله إجرام وفساد، نعوذ بالله من الإجرام والمجرمين.

إذاً: يوم تقوم الساعة، ويبعث الناس من قبورهم يبلس، وييأس، ويقنط من رحمة الله المجرمون، الذين أفسدوا أنفسهم فصبوا عليها الذنوب والآثام، فأصبحت خبيثة منتنة، لا يرضاها الله في جواره، ولا يقبلها في الجنة دار السلام، ومصيرها جهنم، وبئس المصير.

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين)

ثم قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم:13].

أي: ولم يكن لأولئك المجرمين المشركين الذين عبدوا غير الله، أو عبدوا مع الله سواه، هؤلاء لم يكن لهم من شركائهم شفعاء؛ إذ كانوا يقولون: ما عبدناهم إلا ليشفعوا لنا يوم القيامة.

تسألهم: لم تعبدونهم؟ فيقولون: من أجل أن يشفعوا لنا يوم القيامة. هذا لمن كانوا يؤمنون بالبعث الآخر، يقولون: نعبدهم ليشفعوا لنا.

وسل النصارى الآن: لم تعبدون عيسى وأمه؟ فقالوا: ليشفعوا لنا يوم القيامة.

والذين عبدوا الأصنام والأحجار -كذلك- عبدوهم ليشفعوا لهم، ويوم القيامة يردون عليهم قولهم، واسمع قوله تعالى: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم:13] الذين اعتقدوا أنهم يشفعون لهم، يكفرون بهم يوم القيامة ولا يعترفون بهم؛ لأنهم إذا اعترفوا أنهم أشركوا استوجبوا النار، فيخفون هذه الناحية من جهة أو ثانية، ولا يقولون: نعترف بأننا عبدناهم! والعابدون لا يعترفون أيضاً بأنهم عبدوا، فالعابدون يتبرءون ممن عبدوهم؛ خشية أن يدخلوا النار إذا ثبت أنهم عُبدوا.

المعبودون كعيسى وغيره يتبرءون من العابدين. فكيف يسلمون ويقولون: هؤلاء عبدونا؟

كيف يعترفون بأنهم عبدوا مع الله؟ الكل يتبرأ منه.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ [الروم:13] الذين أشركوهم في عبادة الله، لم يكن لهم شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم:13] جاحدين غير معترفين بهم.

وقد قلت لكم -وهذا مبين في آيات كثيرة-: المعبودون يتبرءون ممن عبدوهم، هذا في ساحة القيامة وفصل القضاء، والعابدون أيضاً يتبرءون ممن عبدوهم، ولا يعترفون أمام الله بأنهم عبدوا غير الله.

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون)

ثم قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14] خبر آخر عظيم.

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [الروم:14] ويقف الناس بين يدي ربهم للحساب والجزاء، يوم تقوم الساعة النهائية والأخيرة، ساعة يوم القيامة.

يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14] المؤمنون في جهة، والكافرون في جهة، فلا تلاق أبداً.

يتفرقون؛ فهؤلاء في دار السلام، وهؤلاء في دار البوار والجحيم، والعذاب الأليم، والله هو الذي يفرقهم، ويفصل بينهم، فيكرم أولياءه، ويهين أعداءه.

إذاً: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ [الروم:14] أي: يوم تقوم يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14] هؤلاء في دار السلام، وهؤلاء في دار البوار.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون)

ثم قال تعالى في بيان ذلك التفريق: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم:15].

والروضة: مفرد. والجمع: رياض. وهي الأرض ذات الأشجار، والزهور، والرياحين، والمياه العذبة، وهي والله للجنة؛ دار السلام، والجنة رياض وليست روضة واحدة.

فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم:15] يفرحون، يسرون، يستمعون إلى أصوات المسبحين من الملائكة، فيطربون طرباً ليس له حد!

تسبح الملائكة فيطربون لذلك طرباً لا يطربه الفساق إذا سمعوا أصوات العواهر والفواجر.

فاللهم اجعلنا منهم! اللهم اجعلنا منهم ووالدينا والمؤمنين.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الروم:15] إيماناً صحيحاً لو عرضته على الكتاب لوافقه.. لو عرضته على السنة والسلف الصالح لختموا لك عليه، وقالوا: إيمانك صحيح، وليس مجرد دعوى: أنا مؤمن، أو هو مؤمن، بل آمنوا الإيمان الحق .. الإيمان الصادق، الذي تتجلى آثاره في سلوك المؤمن واستقامته، واعوجاجه، وانحرافه.

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الروم:15] جمع صالحة، وهي ما فرضه الله من العبادات وما استحبه ودعا إليه، ورغب فيه من سائر الخيرات والصالحات.

أول الصالحات: ما فرض الله، كالصيام، والصلاة، والزكاة، والحج، والرباط، والجهاد، وبر الوالدين، والإحسان.. وما بعد ذلك من الصالحات التي هي: النوافل، والمستحبات، وفضائل الأعمال.

قال تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الروم:15] روضة عظيمة لا تتصور، ولا يعرف قدرها يُحْبَرُونَ [الروم:15] فرحون مسرورون، فلا حزن، ولا هم، ولا غم، بل يطربون بالأغاني التي يسمعونها، فالحبور: الفرح والسرور.

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون)

قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [الروم:16] أولاً.

وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الروم:16] ثانياً.

وَلِقَاءِ الآخِرَةِ [الروم:16] ثالثاً. أي: وكذبوا بلقاء الآخرة.

فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:16].

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [الروم:16] بالله، ورسوله، وشرعه، وكتابه، وكذبوا بآياته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، وكذبوا بلقاء الآخرة.

ما هو لقاء الآخرة؟ سوف نلقى الحياة الثانية وجهاً لوجه، وندخل فيها.

فَأُوْلَئِكَ [الروم:16] التعساء -والعياذ بالله تعالى- الأشقياء فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:16] لا يتخلف منهم أحد، ولا يخرج من العذاب أحد، موجودون كلهم ومحضرون، نعوذ بالله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات ] فتأملوها تجدون ما بيناه فيها [ من هداية هذه الآيات:

أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة ]. من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير عقيدة البعث الآخر، وما يجري فيه من الحساب والجزاء.

[ ثانياً: تقرير عقيدة ألّا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع لأهل الشرك والكفر ].

وهذه حقيقة فلييأس الناس، فوالله لا شفاعة لمشرك ولا لكافر أبداً، مهما كانت عبادتهم، ومهما كانت طاعتهم لأولئك المشركين الذين أشركوهم بالله، فلن تنفعهم تلك الشفاعة أبداً، بل يستوجبون بها الإبلاس، والعياذ بالله.

[ ثالثاً: تقرير مبدأ السعادة والشقاء يوم القيامة، فأهل الإيمان والتقوى في روضة يحبرون، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون ].

وقررت الآيات استقرار أهل الجنة، في الجنة وأهل النار في النار، فأهل الإيمان والعمل الصالح في الجنة، وأهل الشرك والكفر، والفسق، والفجور في جهنم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم (3) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net