إسلام ويب

لا يخلو مجتمع من ذوي الحاجة، ولهذا أوجب الإسلام الإنفاق على ذوي القربى الفقراء، وعلى المساكين الذين لا يجدون ما يسدون به جوعتهم، كما أوجب إعطاء أبناء السبيل، وهم المسافرون الذين نفد طعامهم ومالهم، وبهذا يترابط المجتمع، وتكتسب الحسنات، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

تفسير قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة الروم ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

قال تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:38-40].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الروم:38].

تقدم في الآية السابقة: أن الله أعلمنا أنه يرزق من يشاء ويوسع عليه امتحاناً له، ويضيق على آخر ابتلاءً له، فبناء على هذا يقول تعالى لرسوله، وأمته تابعة له، وهي معه: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى [الروم:38].

يا من أعطاك الله مالاً، ووسع رزقك، أنفق من هذا المال في سبيل الله.

والله بين لك الطريق كيف تنفق فيقول تعالى: فَآتِ [الروم:38] بمعنى: أعط ذَا الْقُرْبَى [الروم:38]. أي: أصحاب القرابة من الإخوان، والأخوات، والأعمام والخالات. أي: أعط ذوي القربى حقهم، وهي صلة واجبة.

ثم قال تعالى: وَالْمِسْكِينَ [الروم:38] وهو الذي أذلته الحاجة ومسكنته -وهو معروف- فهو بحاجة إلى طعام وشراب، فيعطى ما يكسى به ويطعم ويأكل ويشرب.

وَابْنَ السَّبِيلِ [الروم:38]: المسافر الذي ينزل بالقرية، كذلك يجب أن يطعم ويسقى ويؤوى.

هذا هو النظام الإلهي بناء على أن الله وسع عليكم رزقكم امتحاناً لكم إذاً: فأعطوا ذوي القربى حقوقهم؛ وصلتهم واجبة لهم عليكم.

والمسكين: هو الفقير الذي مسكنته الحاجة وأذلته، فليس عنده ما يأكل ويشرب، أو عنده ولا يكفيه، فهذا يجب أن يعطى.

وابن السبيل: المسافر الذي يدخل القرية. ولم يكن في ذلك الوقت فنادق ولا مطاعم ولا.. فيجب على المؤمنين أن يؤووه، وأن يطعموه، وأن يسقوه، كما في الحديث الصحيح: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ).

ووضعنا -كما تعلمون- اليوم ليس بمرضٍ لله عز وجل، فيوجد فقراء ومساكين، ولا يوجد من يرحمهم أو يسد حاجتهم!

يوجد فقراء مساكين كما يوجد أبناء سبيل ولا يعرف عن حالهم، ولا تسد حاجتهم!

والطريقة التي كررتها وكتبتها وما زلت أقولها: كي نؤدي هذا الواجب يجب على أهل القرية في مسجدهم الجامع أن يوجدوا صندوق بر في المسجد في المحراب، وأن يقول الواعظ، المرشد، المربي من منبر المسجد: على أبنائنا وإخواننا أن يساهموا في هذا الصندوق من الزكاة، ومن الصدقات، ومن الكفارات.

ثم هذا الصندوق ينفق منه على أهل القرية، ولن يبقى في القرية مسكين يمد يده ولا يجد من يعطيه، ولن يبقى في القرية من يمشي شبه عار ولا يجد من يكسوه، فتسد هذه الحاجة بهذا التعاون، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ [المائدة:2] وهذا هو الخير والبر.

لو وجد هذا في الأحياء .. في المدن، حي بني فلان، الحي الفلاني، في مسجدهم الجامع صندوق بر توضع فيه الزكوات، والصدقات، والكفارات، وأهل الحي يعرف بعضهم بعضاً: فلان لا وظيفة له، فلان فقير، فلان كذا.. فينفق عليهم شهرياً، فتسد بذلك حاجتهم، ونكون قد أدينا هذا الواجب.

ولكن مع الأسف ما وقع هذا، ولا تم في أي بلد!!

ما المانع؟ أهل الحي يشهدون الصلاة ويحضرونها خمس مرات، فإمامهم يعظهم ويذكرهم، وهم يتعاونون، ويعظ بعضهم بعضاً، ويذكر بعضهم بعضاً.

هذا الصندوق يسد حاجة فقراء فلا يبقى بيننا من يموت جوعاً، أو يمشي عارياً ونحن موجودون لا نقوى على مساعدته!

قطعاً سوف يكونون عالمين بأهل الحي وسكانهم، ويعرفونهم فرداً فرداً، ينفق عليهم ذلك المال الذي تجمع من الزكاة، ومن الصدقات، ومن الكفارات، وبذلك نشعر أننا تعاونا على البر، وأننا أدينا قول الله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الروم:38].

معنى قوله تعالى: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله)

ثم يقول تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38] نعم. الإنفاق على الأقارب والمساكين والمسافرين -حقاً ليس في ذلك شك- خَيْرٌ [الروم:38] عظيم.

لمن؟ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]، أما الذين يريدون المباهاة والمفاخرة أو السمعة والرياء فليس فيه خير، فالإنفاق يجب أن يكون لوجه الله تعالى؛ امتثالاً لأمر الله وطاعة لله، فذلك يكون خيراً ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38] لا غيرهم.

هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38] أي: الفائزون بالنجاة من النار، وبدخول الجنة دار الأبرار .. أولئك هم الفائزون.

والله إننا خائفون! هل حققنا هذا الطلب؟

فَآتِ ذَا الْقُرْبَى [الروم:38] أي: صاحب القرابة حَقَّهُ [الروم:38] من عم، وابن عم، وأخ، وخال، وأم، وجدة، وبنت و.. و.. من الأقارب وَالْمِسْكِينَ [الروم:38]: الذين أذلتهم الحاجة والمسكنة والفقر.

هل أدينا لهم ما لهم علينا؟

وَابْنَ السَّبِيلِ [الروم:38]، ما بقي من يعرف المسافر ولا يسأل عنه؛ وسبب هذا وجود فنادق ومطاعم في المدينة، أما أيام كان لا مطعم، ولا فندق، ولا مسكن لا بد وأن يبيت عند إخوانه، لا بد وأن يأكل ويشرب عندهم، حق الضيف ثلاث ليال على من ضيّفه: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) هكذا كان التعاون بين المسلمين .. هكذا كان البر وكان أهله.

تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله...)

ثم قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] اعلموا رحمني الله وإياكم: أن الربا نوعان:

ربا مجمع على تحريمه: وهو أن تعطي العشرة لتأخذ اثنتي عشرة، أو تعطي العشرين لتأخذ خمسة وعشرين، كما هي حال البنوك.

وربا الجاهلية: كان أحدهم يعطيك الألف إلى سنة، إلى ستة أشهر فإذا عجزت عن السداد يزيد. هذا ربا الجاهلية يزيد ألف أو عشرة، هذا الربا محرم بالإجماع، والآية لا تعنيه، بل تعني نوعاً آخر من الربا، فما هو هذا الربا؟

قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ [الروم:39] فقير يأتي بهدية لغني يريد من ذلك أن يعطيه أكثر من ذلك .. فقير محتاج يقدم هدية لغني أو لسيد أو لشريف أو لكذا.. يرجو أن يرد عليه ما هو خير منها.

الفقير يبحث عن غني ويقدم له هدية من طعام أو شراب أو لباس أو حيوان أو كذا.. همه وقصده أنه يكافئه بشيء أكثر من ذلك لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ [الروم:39] هذا لا يربو عند الله.

مثلاً: شخص موظف له مدير كبير فيقدم له هدية؛ من أجل أن يرفع راتبه أو يعينه على شيء من هذا النوع. هذا الربا جائز وليس بحرام، ولكن لا أجر فيه، وإنما حرم فقط على نبينا صلى الله عليه وسلم، لم يأذن الله تعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم أن يهدي الهدية ليرد عليه أكثر منها، جاء ذلك في قول الله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:6-7] ولا تعط العطية لتستكثر المال ويرجع عليك أكثر، لا تفعل هذا يا رسولنا! واصبر: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:6-7].

أما ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا جائز، فقير قدم هدية لغني من أجل أن يرد عليه أكثر. هذا الذي يريده تعالى.

وَمَا آتَيْتُمْ [الروم:39] أي: أعطيتم مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] وقد يعطي الإنسان مالاً للشهرة والسمعة ليقال عنه إنه كذا.. وهذا أيضاً يدخل في هذا، ولكن لا يجوز أن تعطي من أجل الشهرة والسمعة؛ ليقال: فلان تصدق أو كذا.. هذا لا ينبغي أبداً.

فقط الجائز: فقير يريد أن يحصل على شيء من غني فيقدم له هدية من الهدايا، ويرجو أن يعطيه أكثر من ذلك، أن يسد حاجته، وليس في هذا أجر أبداً؛ إذ الله تعالى قال: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] ولا يكثر، ولا يضاعف أبداً.

معنى قوله تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)

قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] وسميت زكاة؛ لأنها تزكي النفس وتطهرها.

من يتصدق بصدقة يريد وجه الله هؤلاء هم الذين يضاعف لهم الأجر، يكونون ممن يضاعف لهم أجرهم؛ لأنهم ما أرادوا وجه فلان، ولا أرادوا يد فلان تعطيهم كذا، ولكن أرادوا وجه الله فقط.

إذاً: الربا نوعان: نوع محرم بالإجماع، ولا يقدم عليه مؤمن كما هي البنوك، تعطيه ألفاً على أن يردها ألفاً ومائة أو مائتين بعد سنة أو شهر أو شهرين. فهذا ربا لا يحل أبداً.

النوع الثاني: وهو الجائز وليس فيه أجر، وهو فقير محتاج خادم قدم لمعلمه شيئاً رجاء أن يعطيه كذا.. فهذا يجوز وتركه أولى، وليس فيه أجر ومثوبة.

نوع من هذا ولا يصح، وهو من الرياء -والعياذ بالله تعالى- أن ينفق ويعطي ويفعل ليقال: فلان فعل وفعل.. وأعطى وأعطى.. فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه رياء والرياء من الشرك.

إذاً: الذي يعطي ولا يريد أن يرد عليه شيء، ولا يريد أن يقال: فعل أو أعطى أبداً ولكن يريد وجه الله؛ هذا الذي يضاعف له الأجر، وهو في عداد المضاعفين. هكذا يقول تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39].

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ [الروم:39] أصحاب هذه هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] لهم الأجر، والحسنة بعشرة.. بمائة.. بألف.. بمليون!

إذاً: الربا نوعان: ربا مجمع على تحريمه؛ وهو ربا البنوك. وربا جائز، ولكن ليس فيه أجر: وهو أنك تعطي هدية تريد أن يرد عليك أكثر مما تهديه. وهذا جائز.

وأما من ينفق لوجه الله فهذا الذي يضاعف له الله عز وجل، ويربو ما أنفق، ويصبح الريال آلاف الريالات.

وموضوع المراءاة والرياء كما علمتم يدخل في هذا المعنى، وهو حرام، كونه يعطي أو يبني أو يتصدق ليقال فقط: تصدق بكذا.. وأنفق كذا.. وفعل كذا؛ فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه رياء، والرياء من الشرك الأصغر، أي: فعل هذا ليرى، ليقال فيه: كذا وكذا!

أما الفقير المحتاج كما قدمنا فمضطر إذا قدم لصاحب معمل، لصاحب كذا.. شيئاً يريد به أن ينفق عليه أو يرد عليه شيء فلا بأس، ولكن ليس فيه أجر عند الله.

هكذا يقول تعالى بعد أن أمرنا بالإنفاق على الأقارب، والمساكين، وأبناء السبيل، وقال: هذا خير لمن؟ للذين يريدون وجه الله، وأعلن أنهم المفلحون؛ الفائزون، الناجون من عذاب الآخرة، والداخلون الجنة.

قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ [الروم:39] ويكثر فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] لا يضاعفه الله ولا يبارك فيه، ولكن ما أردتم به وجهه ذاك هو الذي يربو عند الله عز وجل ويضاعفه، وأهله هم المضعفون.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم...)

ثم قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40] من يقول: هذا الكلام ليس بسليم ولا صحيح؟ لا ينقضه أحد.

اللَّهُ [الروم:40] جل جلاله الَّذِي خَلَقَكُمْ [الروم:40] وما كنتم شيئاً، ثم خلق لكم أرزاقكم، ورزقكم بعد خلقكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الروم:40] رغم أنوفكم؛ أحببتم أو كرهتم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40] للجزاء بعد الحساب. هذا هو الله.

ثم قال هذا الخبر: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ [الروم:40] أيها المشركون مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40] لا اللات، ولا العزى، ولا هبل، ولا عيسى، ولا مريم، ولا أحد أبداً يخلق ويرزق ويميت ويحيي، والله لا أحد إلا الله!

هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40] ؟ لا والله.

هكذا يقرر تعالى العقيدة في قلوب المؤمنين، ويلفت نظر المشركين ليهديهم، وليدخلوا في رحمة الله، وقد آمنوا ودخلوا في رحمة الله، والمؤمنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا مشركين فهداهم الله بهذه الهداية الإلهية وهذه التوجيهات والتعاليم دخلوا في الإسلام، ووحدوا الله وكفروا بالشرك وابتعدوا عنه.

اللَّهُ [الروم:40] لا غير الله الَّذِي [الروم:40] أولاً: خَلَقَكُمْ [الروم:40]، وثانياً: رَزَقَكُمْ [الروم:40]، أي: خلق أرزاقكم، وأعانكم على الحصول عليها ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الروم:40] واحداً بعد واحد، جماعة بعد جماعة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40] يوم القيامة هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40] ؟ والله لا أحد. فلماذا -إذاً- يشرك بالله؟ فلم يحلف بغير الله؟ فلم يرهب غير الله؟ فلم يعط لغير الله؟ فلم يعبد غير الله؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

يقول: [ معنى الآيات: لما بين تعالى في الآية السابقة لهذه أنه يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً، ويقدر على من يشاء ابتلاء؛ أمر رسوله وأمته التابعة له بإيتاء ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل، إذ منع الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق وتضييقه، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم، هذا ما دلت عليه قوله تعالى: (( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ))[الروم:38] أي: من البر والصلة.(( وَالْمِسْكِينَ ))[الروم:38] وهو من لا يملك قوته.(( وَابْنَ السَّبِيلِ ))[الروم:38] وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحداً، وحقهما: إيواؤهما وإطعامهما وكسوتهما.وقوله تعالى: (( ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ))[الروم:38] أي: ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالاً ومآلاً للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب.وقوله تعالى: (( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ))[الروم:38] أي: الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة، ويدخلون الجنة يوم القيامة.وقوله تعالى: (( وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ))[الروم:39] أي: وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يرد عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربو عند الله، ولا يضاعف أجره، ولا يؤجر عليه.وقوله تعالى: (( وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ ))[الروم:39] أي: صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم، ويغفر لكم ويرحمكم.(( فَأُوْلَئِكَ ))[الروم:39] هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله (( هُمُ الْمُضْعِفُونَ ))[الروم:39] أي: الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.وقوله تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ))[الروم:40] يخبر تعالى المشركين من عباده موبخاً لهم على شركهم ومقرعاً: الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً، ثم رزقكم بما تنمو به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية، ثم يميتكم عند نهاية آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا.ثم يقول لهم: (( هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ ))[الروم:40] المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء.(( مِنْ شَيْءٍ ))[الروم:40]؟ الجواب: لا. إذاً: فلم تعبدونهم من دون الله؟ أين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟!ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك، وتعالى عن المشركين فقال: (( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[الروم:40] ].

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة ].

وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة، كل مستطيع يجب أن يخرج هذا المال لأقربائه.

[ ثانياً: وجوب كفاية الفقراء وأبناء السبيل في المجتمع الإسلامي ]. وجوب كفاية الفقراء وأبناء السبيل.

والطريق السليم: أنا لا نستطيع أن نسد حاجتهم، لكن لو كونوا هذا الصندوق في مسجدنا الجامع الذي نحضره بنسائنا وأطفالنا ورجالنا كل ليلة نتلقى الكتاب والسنة، ونجمع فيه أموالنا للبر والخير، فوالله ما يبقى في الحي ولا في القرية من يمد يده، ولا مسكين، ولا ابن سبيل لا يجد أين ينزل، ولا أين يتغدى ويتعشى، لكن بدون هذا لا ينفع شيء.

وهنا لطيفة علمية: في فرنسا يخبر أهلها -وهم معنا- بأنها تضع لكل مواطن راتباً شهرياً إذا لم يكن له عمل، حتى لا يبقى من يمد يده أو يسرق، فلو أن حكومتنا تأخذ من رواتب الموظفين كلهم العشر أو الخمس، وتجعل هذا في صندوق خاص للفقراء، كل من ليس له عمل ومحتاج يأخذ من هذا المال تكون قد سدت الحاجة، لكنا لم نكون هذا في مساجدنا، ولا حكوماتنا فعلت هذا.

إذاً: يبقى الناس يشحذون، ويمدون أيديهم، ويختطفون، ويسرقون.

إذاً: ما سلكنا السبيل الذي ينجينا، وأنفع سبيل كما قلت لكم: أن نجتمع في بيوت ربنا، في أحيائنا وقرانا في صدق، بنسائنا وأطفالنا ورجالنا كل ليلة اجتماعنا هذا؛ لتلاوة كتاب الله وقراءته ودراسته، ودراسة السنة النبوية، وهذا يشرح صدورنا، ويطهر نفوسنا، ويقوينا، ويقدرنا على أن ننفق أموالنا، مع إيجاد صندوق في المحراب في المسجد.

يقول المعلم: معشر المؤمنين! كل من كانت عليه زكاة يضعها في هذا أو صدقة أو كفارة أو كذا.. وحينئذٍ نحصي أهل الحي أو القرية كم هم؟ ألفان.. ثلاثة آلاف واحد.

من هم الذين لا عمل لهم، ولا راتب، ولا دخل؟ قالوا: مائة. من هم؟ فلان وفلان وفلان. إذاً: كل شهر تقدم لهم هذه العطية، ومن ثم لا يسألون إلا الله، ولا يعرفون إلا الله، ولا يمدون أيديهم لا بالسرقة، ولا بالكذب، ولا بالشحاذة.

أين التعاون؟!

أما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]؟

أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً

فلهذا لا نشكو إلا إلى الله.

[ ثالثاً: جواز هدية الثواب الدنيوي ] جواز هدية الثواب الدنيوي كما هو ثواب الآخرة، كما علمتم، فقير يقدم هدية لغني يرجو أن يعطيه أكثر منها [ كأن يهدي رجل شيئاً يريد أن يرد عليه أكثر منه، ولكن لا ثواب فيه في الآخرة، وتسمى هذه الهدية: هدية الثواب، وهي للرسول محرمة؛ لقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] ].

الرسول الكريم حرم الله عليه هذه الهدية، ونحن أجازها لنا، لكن لا أجر فيها في الآخرة أبداً، والرسول لكرمه وسموه وعلو منزلته قال له: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] تعطي القليل وتأخذ الكثير، واصبر لربك. هذا دل على كمال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنه أكمل الأمة.

[ رابعاً: بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى ]. الصدقات التي يراد بها وجه الله يضاعفها الله، الحسنة بألف.

[ خامساً: إبطال الشرك والتنديد بالمشركين، وبيان جهلهم، وضلال عقولهم ].

نعم. إبطال الشرك والتنديد بالمشركين، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يعمل عمل الشرك؛ ولهذا كما قلنا: لا تعط؛ ليقال: فلان أعطى، أو بنى مسجداً أو كذا.. فإن ذاك ما أريد به وجه الله، فهو رياء، والرياء من الشرك.

وأما عبادة الأصنام والأحجار والقبور فهذا نسأل الله أن يحفظنا منه ويعصمنا.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم (9) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net