إسلام ويب

أعد الله لعباده المؤمنين جنة عرضها السموات والأرض، فيها العيون الجارية، والسرر المرفوعة، والأكواب الموضوعة، وغيرها مما لا يخطر على بال، وترى أهلها راضين مطمئنين، تلوح من وجوههم النعمة والسعادة؛ ذلك لأنهم آمنوا قولاً وعملاً بمن خلق الكون وأحكم صنعه.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الغاشية

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة الغاشية، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ * أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:8-26].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن هذا الكتاب الكريم القرآن العظيم هو كتاب هداية، ليس كتاب تاريخ ولا جغرافيا ولا قصص ولا علم نفس ولا.. ولا. إنما هو كتاب هداية، فبه يهدي الله من شاء هدايته.

ومن هنا فإن الله تعالى يورد ما يريده من أنواع الشقاء والبلاء والعذاب مبيناً سبب ذلك، ويعقب عليه بإيراد أسباب السعادة وبيانها وأنواعها وأهلها؛ لأن من الناس من هو الصلب الشديد القوي، وهذا لا يستجيب إلا بالهراوة فقط، ومن الناس من هو اللين رقيق العاطفة، وهذا إذا أشير إليه فإنه يأتي بدون عنف.

إذاً: فمن كان يستجيب للكلمة الطيبة والدعوة الرقيقة الناعمة، فالقرآن يجلبه إليه جلباً، ومن كان صلفاً كزاً لا يستجيب إلا بالتهديد والوعيد فالقرآن يعرض كذلك معارض للتهديد والوعيد، وكل هذا من أجل هداية الإنسان، حتى إذا اكتملت هذه الدورة فإنه ينتقل إلى عالم يسعد فيه أبداً.

إذاً: افتتحت السورة بهذا السؤال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وبين أهل الغاشية وما يصيبهم وما ينزل بهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7].

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)

قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] وكأن سائلاً يقول: وأهل السعادة والإيمان كيف حالهم؟ فكان الجواب بكلام مستأنف استئنافاً بيانياً بدون عطف.

أو أن يقول السائل: وكيف حال المؤمنين في هذا اليوم يوم الغاشية؟ كيف حال المتقين، حال الأبرار، حال الصالحين، كيف هم يا ترى؟ لأننا شاهدنا فقط حال أهل الكفر والشرك والفسق والظلم والفجور، فكان الجواب: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8].

والنعومة: ضد الخشونة واليبوسة. بل طراوة وإشراق وجمال، فليس عليها آثار حزن ولا كرب ولا هم ولا جوع ولا تعب، وإنما هي ناعمة.

تفسير قوله تعالى: (لسعيها راضية)

قال تعالى: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9] كأنما قال: قفوا أيها الطماعون! وأيتها الطماعات! إنه السعي.. إنه العمل، فلا تتوسد ذراعك وتنام الليل والنهار، وتريد أن تتبوأ الفراديس العلى، وتدخل دار السلام، فلا بد من سعي وكسب، ولا بد من عمل جاد حتى تنطفئ تلك الشعلة منك، ولا يهلك على الله إلا هالك.

إذاً: لابد من السعي الجاد والعمل حتى الموت، وليس هناك سبيل، فمن ساعة أن تميز إلى أن تلفظ أنفاسك الأخيرة وأنت تعمل، ولهذا كانت الدار دار عمل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآيات قال: ( هل من مشمر؟ قالوا: شمرنا يا رسول الله! قال: قولوا: إن شاء الله. فقالوا: شمرنا إن شاء الله ).

ما معنى (من مشمر)؟

أنتم لا تعرفون التشمير؛ لأن سراويلكم طويلة، فيشمر أي: يرفع ثيابه فوق كعبيه، ويرفع أكمامه ويهبطها على عضديه ليدخل المعركة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( هل من مشمر؟ ) بعدما استعرض أمامهم هذه الجنة، ( قالوا: شمرنا يا رسول الله. قال: قولوا إن شاء الله، فقالوا: إن شاء الله ).

إذاً: لِسَعْيِهَا [الغاشية:9] أي: لنتائج كسبها وثمرات عملها؛ رَاضِيَةٌ [الغاشية:9] أي: مطمئنة، فرحة مسرورة، قد شاهدت أفواج الملائكة تتلقاها: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].

وفي قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] انتبه! لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9] فإذا لم يذكر هذه الجملة فإن معنى هذا: اعمل ولا تعمل.

لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9] أي: رضيت بثمار السعي ونتائجه وعواقبه.

وقد عرفتم يا فلاسفة القرآن! أن هذا السعي ما هو إلا عملية لتزكية النفوس وتطهيرها، فصيامك.. صلاتك.. رباطك.. جهادك.. قولك الحق.. ذكرك.. دعاؤك، كلها أعمال تزكي نفسك وتطهرها، فإنها لا تقبل إلا إذا كانت طاهرة زكية، فلا تفهم أن هذه التكاليف فيها إرهاق.. تعذيب.. تنكيل.. لا. فليس الله بحاجة إليها قط، وإنما الروح البشرية لا تزكو إلا بهذه العبادات، ولا تخبث وتتعفن وتنتن إلا بهذه المعاصي التي حرمها الله.

فمثلاً العسل والطعام والشراب ينفع، وهذه سنة الله عز وجل، أما السم والقطران فإنه يضر، وهذه سنة الله عز وجل. كذلك كلمة الحق تولد لك حسنة، وكلمة الباطل تولد لك سيئة.

إذاً علينا أن نسعى، لكن على شرط أن يكون هذا السعي وفق ما بين الله الحليم الكريم، وقد ذكرنا في الدرس السابق أن وجوهاً في ذلك اليوم حالها أنها ناصبة.. تعبة.. عاملة فهي شقية؛ لأنها كانت تعبد بدون علم، وتبذل المال في دون رضا الله، وتقول في دون رضا الله، وتعبد عبادات ما شرعها الله، فضاع جهدها وطاقتها.

وقد عرف العارفون والعارفات حديثاً واحداً يبطل كل شيء اسمه ابتداع، وهو: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) أي: لا أقبل لك بدعة ولو زوقتها وحسنتها وكبرتها، وإن فعلت ما فعلت فإنها لا تروج في سوق العالمين، لأنه سعي لا ينتج، وتعب بدون فائدة، ولذلك ترى القس أو الراهب أو.. قد أعياه النصب والتعب والعبادة والانقطاع من بر إلى بر، ومن صومعة إلى صومعة، وهو في عداد أهل جهنم.

أما سمعتم قصة عمر وقد رأى نصرانياً شاحب الوجه، هالك متهالك، متفان في العبادة، فبكى عمر وقال: هذه هي الوجوه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4].

أما حال أهل الجنة فهي: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:8-9]، والسعي هو العمل بشرع الله، العمل المزكي للنفس، أما العمل المخبث لها فما أكثره، وليس من شأنه أن يرضى به صاحبه يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (في جنة عالية)

قال تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الغاشية:10] والمسافة من هنا إلى الجنة تقدر بسبعة آلاف وخمسمائة سنة.

ولقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ بنت أبي طالب إلى المسجد الحرام إلى بئر زمزم حيث أجريت له عملية جراحة للقلب، فغسل قلبه، وحشي بالإيمان والحكمة، ثم أسري به إلى بيت المقدس، فوجد الأنبياء في استقباله، فجمع الله له الأنبياء كلهم فصلى بهم إماماً، ثم عرج به على البراق، فاجتاز السبع السماوات، ثم انتهى إلى الجنة فوق السماء السابعة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم على علم أن سمك السماء -أي: غلظها- مسيرة خمسمائة سنة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة سنة.

إذاً: سبعة في اثنين أربعة عشر، أربعة عشر من أنصاف سبعة كاملة.

إذاً: سبعة آلاف سنة وخمسمائة عام، ولو قدر لك أن تعيش سبعة آلاف عام وأنت طالع في البالون.. أو في السفينة.. فلن تعيش سبعة آلاف سنة ولن تصل.

والجنة دار السلام أهلها يتراءون منازلهم كما نتراءى الكوكب الغابر في السماء كأن أحدهم يقول: انظر.. انظر! هذا منزل علي بن أبي طالب ، هذا منزل فلان.

إذاً: معنى عَالِيَةٍ [الغاشية:10] أي: فوق فلا نقدر أن نحزر ونخمن، وحسبنا أن العلي الحكيم يقول: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الغاشية:10].

تفسير قوله تعالى: (لا تسمع فيها لاغية)

قال تعالى: لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:11] أي: لا تسمع في تلك الجنة أية كلمة باطلة تحزنك أو تسيء إليك، أو تكدر صفوك، أو تغير قلبك.

ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول في أخيه المؤمن كلمة لاغية؛ لأنها تكربه وتحزنه وتقلقه وتنغص حياته؛ ومن سعادة أهل الجنة أنهم لا يسمعون فيها كلمة نابئة.

و لاغِيَةً [الغاشية:11] أي: لا تنتج إلا باطلاً وسوءاً، واللغو هو الكلام الباطل الذي لا ينتج حسنة ولا درهماً، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55] وأنت عندما تجلس في مجالس الصالحين فإنك لا تسمع كلمة تحزنك، ولا تؤلمك، ولا تضرك، ولا تنغص صفوك وتكدر حياتك، والجنة كذلك، ونحن وضعنا في الدنيا كوضعنا في الجنة، فوالله! لو أسلمنا لله القلوب والوجوه بعد أن عرفنا كيف نسلم لكنا نمثل أهل الجنة بأنواع كثيرة من الكمالات والسعادات، ولكن لما جهلنا الطريق عمينا وضللنا وخبطنا وطلعنا؛ فاللهم ارحمنا، لأننا ما عرفنا بعد.

إذاً معنى: لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:11] أي: لا تسمع فيها كلمة من شأنها أنها تقلق أو تزعج أو تؤذي.

تفسير قوله تعالى: (فيها عين جارية)

ثم قال تعالى: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [الغاشية:12] هل عين واحدة فقط؟ لا، إنها عيون، فالماء عين.. والخمر عين.. والعسل عين.. واللبن عين..

إذاً: فلا بأس أن يأتي التعبير بعين، وهو اسم جنس، وهي عيون جارية لا تقف.

هل تعرفون عن الحوض أمام ساحة فصل القضاء؟

هناك ميزابان من نهر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكوثر في الجنة يصبان ويشخبان في الأرض في ساحة فصل القضاء، أما الكوثر نفسه فهو النهر الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر به في ليلة الإسراء، وقد قال جبريل فيه هكذا: ( فأخرج طينة -طينة النهر- والله لأذكى من رائحة الطيب الأذفر ) أي: أزكى من المسك الأذفر، أما كيزانه فوالله عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأشد برداً من الثلج، وهذا النهر هو الذي قال الله تعالى فيه عزاء للرسول صلى الله عليه وسلم لما مات أبناؤه في مكة؛ وصفق المشركون وفرحوا، فعزاه الله بهذه السورة: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3] فالذين فرحوا قالوا: مات عبد الله .. مات الطيب .. فلم يترك واحداً، فهو أبتر! فقال الله: إن مبغضك هو الأبتر، ووالله ما ترك ولداً يذكر به إلى يوم القيامة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان له أولاد من ابنته فاطمة إلى يوم القيامة. والأبتر هو العاص بن وائل .

تفسير قوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة)

قال تعالى: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [الغاشية:13] السرر: جمع سرير، وهي معروفة. ووصفت في سورة أخرى بأنها موضونة أي: على هيئة خاصة في ظاهرها وباطنها، وأنها ذات حجال.

وهذه السرر عالية مرفوعة. فإذا قيل: كيف يطلع عليها؟ فيقال: كذلك كيف تطلع على الجمل؟ فلا بد أن تنيخه، وكذلك هنا يهبط السرير، والآن الباب نفتحه من بعيد. فبكلمة باسم الله ينزل السرير.

تفسير قوله تعالى: (وأكواب موضوعة)

قال تعالى: وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ [الغاشية:14] الأكواب جمع كوب، فنجان أو كأس، والكأس لا يقال لها كأس إلا إذا كانت ملأى بالخمر، والاصطلاح الآن ملأى بالشاي، والكوب هو الإناء الذي ليس فيه عروة ولا خرطوم، فإن كان فيه خرطوم فإنه يسمى الإبريق الذي يصب منه.

وقال تعالى في سورة أخرى: وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان:15-16] أي: على قدر ما تتناول، فلا هو بالكثير ولا بالقليل، بل على قدر مقدر تقديراً.

والعجيب أنها من فضة، أي: زجاج فضي، وهذا إلى الآن ما استطاعت الدنيا تحصل عليه، وما صنعوه، وما بلغوا إليه بعد.

والقارورة: هي الزجاجة ولكن من فضة، ولعلهم الآن يبحثون كيف يصنعون أكواب زجاج من فضة، ولا يستطيعون.

تفسير قوله تعالى: (ونمارق مصفوفة)

قال تعالى: وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية:15] النمارق: جمع نمرقة وهي الوسادة، ومن أراد رؤية ذلك فله أن يدخل بيوت أهل الدنيا فيجد على الجدار النمارق محطوطة للاتكاء، أي: وسائد يتكئون، وهي مصفوفة، وكل من يجلس يجد نمرقة يستند عليها؛ لأنها أيام رخاء وسعادة.

تفسير قوله تعالى: (وزرابي مبثوثة)

ثم قال تعالى: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:16] ادخل المسجد النبوي تشاهد الزرابي مبثوثة ومنشورة هنا وهناك.

اللهم اجعلنا من أهله، واجعل آباءنا وأمهاتنا من أهله، وكل المؤمنين والمؤمنات.

وهذا العرض من الآيات يقابل العرض السابق من الآيات.

فأهل الشقاء قال تعالى عنهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7].

ثم أسدل الستار، وقال عن أهل النعيم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:8-16].

تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)

ثم قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17].

أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية:17] أي: الملاحدة العلمانيين البلاشفة، الذين يكذبون بالدار الآخرة، وينكرون لقاء الله، ولا يريدون أن يعترفوا به لا لشيء إلا لمواصلة الظلم والشر والفساد. فأين عقولهم؟ وأين فهومهم؟ وأين أبصارهم؟ ما منعهم أن ينظروا إلى الإبل فقط؟

فيا أيها الرجل! اركب على البعير، والإبل هي البعران، وليس له من لفظه واحد، فواحد الإبل بعير، والجمع بعران وأبعرة، والذكر جمل، والأنثى ناقة، فهذه الناقة التي تركبها أو الجمل انظر إلى خلقها، هكذا عينها.. انظر إليه وتفكر كيف صنع مثل هذه؟!

أولاً: عالية كالدار أو كسطح الدار، ثم كيف تركبها؟ من ألانها؟ من ذللها؟ من خشعها لك حتى تنيخها أنت وطفلك وعجوزك، وتحمل عليها متاعك، وتركب على ظهرها، ثم تقوم كسفينة في الفضاء تقطع بها المسافات، وتصل أماكن ما كنت لتصلها إلا بشق النفس؟

كذلك هذه الناقة تحلبها فتشرب لبنها، وتجزها فتأخذ وبرها، وتصنع منه لباسك وفراشك، وتذبح وتأكل لحمها وتتمتع به.

ماذا تريد؟ من صنع هذه؟ لكنه لا يقول: الله، فإذا قال: الله؛ فيجب أن يعبده.

إذاً: الله خالق قدير عليم رحيم، وهذه مظاهر العدل والرحمة والخلق، فاعبده.

فهل القادر على خلق هذه الناقة لا يقدر على إعادتك أنت بعدما عرفك وصنعك وكتبك في كتاب وعنده صورتك، ومهما تمزقت فإن صورتك موجودة وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]. فلم تنكر عليه أن يعيدك؟!

لا لشيء؛ لأنني إذا آمنت فمعناه التزمت، ويجب أن نعبد الله.

إذاً وأنت على البعير انظر إلى بعيرك وإبلك كيف خلقت.

تفسير قوله تعالى: (وإلى السماء كيف رفعت...)

ثم قال تعالى: وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:18] أي: وارفع رأسك إلى السماء فوقك.

وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:18] أين هي الأعمدة؟ أين هي الأوتاد؟ أين هي السلاسل؟ كيف رفعت هذه السماء؟ أو تظن أنها مجرد هواء وفراغ.

فلو سقطت الشمس عليك كيف تكون؟ من أمسك الشمس؟ والكواكب من أمسكها؟ والقمر يدنو منكم دنواً عظيماً لو يسقط من يرفعه؟ انظر إلى السماء.

عجزت؟ انظر إلى الأرض تحتك، قال تعالى: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:19-20] فانظر إلى الجبال يميناً وشمالاً من نصبها؟ ومن جعلها أوتاداً؟ ومن غرزها في الأرض في أعماق طويلة وارتفاعات عالية حتى لا تميل الأرض؟ من فعل هذا جدك أم أبوك؟

يا عبد الله! يا ابن آدم! قل: الله. إذاً: أحبه، اشكره، أثن عليه، وامدحه بكمالاته وفضائله إن كنت من العقلاء، ولا تقل: لا إله.

إذاً بهذا النوع من البساطة يقول تعالى لهذا الملحد لما يركب بعيره: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] فإذا فكروا وقالوا: الله الخالق، الله البر الرحيم، آمنا به، اهدنا يا ربنا إليك؛ يجيئهم الرسول والداعي يعلمهم بالله، فيحبونه حباً أكثر من أنفسهم، ويصبحون مستعدين لكل ما يريد الله، فلو طلب منهم أن يصوموا الدهر صاموا، ولو طلب منهم أن يخرجوا من أموالهم خرجوا، ولكن للأسف الشديد لا يفكرون ولا ينظرون، بل تجدهم يأكلون ويشربون ولا يفكرون من أين هذا الطعام!

ولهذا قال الحكماء: أنت تفكر فأنت إنسان، أنت لا تفكر فأنت حيوان، فالفرق بيننا وبين الحيوانات أننا نفكر وهي لا تفكر.

تفسير قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر)

ثم قال تعالى وقوله الحق مخاطباً صفيه وخليله محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله.. أي: فبناءً على هذا: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] فما عليك إلا أن تذكرهم بربهم، بخالقهم، بمصيرهم، بأحوالهم، بدنياهم، بما يحتاجون إليه حتى يعرفوا الله، فهذه رسالتك، ولهذا التذكير عام، فذكر إن نفعت أو لم تنفع.

أما الهداية فهي لله تعالى، والقلوب بيد الله لا يملكها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو تعلمون مقدار ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب هداية أبي طالب ، ومع ذلك ما استطاع أن يهديه، ومات على الشرك والكفر، فعزاه ربه بعزاء حفظناه بحرفه من سورة القصص: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

ولما مرض زاره صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وفلاناً وفلاناً من زعامات قريش، فكان يعرض عليه في لطف: ( يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله، قل لا إله إلا الله ) ويسكت عنه، والألم يهزه، فلما يستفيق: ( يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله ) يريد أن يقولها فينظر أبو طالب إلى زعماء قريش فيهابهم، بل قالوا له: ( أترغب عن ملة أبي طالب ؟ ) أخفت من الموت؟ فكانت آخر كلمة قالها: أنا على ملة أبي طالب . فقام الرسول حزيناً كئيباً، وقال: ( لأستغفرن الله لك ما لم أنه عن ذلك ) فأعطاه وعداً، ونزل قوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] لأن من مات على غير لا إله إلا الله فاكتب صكاً وامض واحلف مليون مرة إنه لمن أهل النار، ولا تنفعه شفاعة الشافعين، وأما من مات يشهد أن لا إله إلا الله وسمعته بشره بالجنة وإن طال الزمن.

إذاً فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] أي: لا تكرب، ولا تحزن، ولا تغتم، ولا تقل: لم ما اهتدوا؟ وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] أي: ولو كان الرسول أو الداعي، فيوم القيامة لا يقال له: أي عبدنا! لم ما اتبعك الناس؟ لم ما أنقذت أهل القرية؟ فرطت.. قصرت.. ما بينت؛ وهنا لا يستطيع الداعي إلا أن يموت كئيباً حزيناً، لكن الله قال: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] أبداً.

تفسير قوله تعالى: (لست عليهم بمصيطر)

ثم قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] السيطرة معروفة، أي: ما أنت بمسيطر عليهم بقوة جبارة عظيمة ترغمهم على أن يدخلوا في الإسلام، ولا تملك هذا، ولو يوكل إليك شخص لا تستطيع أن تدخله في رحمة الله، لكن روّضه، وحركه، ولينه، واستعمل معه أساليب الإغراء، وكذا.. فإن اهتدى فهنيئاً لك، وإن لم يهتد فلا شيء عليك، ومع هذا فمن استطاع أن ينقذ إنساناً فليفعل، فإن الجائزة خير من حمر النعم، كما في الحديث الصحيح: ( لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) وفي بعض الروايات: ( مما طلعت عليه الشمس وغربت ).

أما كونك تقول: ما استجابوا، دعني منهم، رءوسهم غليظة، والدنيا أكلتهم، دعونا نسترح، لا.. لا، فليس هذا لك، ادع حتى الموت، لكن ليس بالهراوة -عصا غليظة- إنما لا بد من اللطف والحكمة والكلمة الطيبة على منهج وضعه الله للدعاة؛ فإن الله قال لمصطفاه من آخر سورة النحل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] أما أن تقول: صل يا ملعون! أو ابعد عني فإن وجهك محلوق كالمرأة، أو لا تشاهدني، أو اترك هذا الدخان وإلا لا تنظر إلي، فليس هكذا يدعى إلى الله، إنما تدعوه وأنت تبتسم، والذي تبتسم في وجهه يقبل دعوتك، وأما أن تكشر عن أنيابك وتريد أن تنهشه كالحية فإنه لا يستجيب حتى ولو كان ابنك، فجربوا هذا. والتجربة أكبر برهان، وحسبنا تعاليم الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر)

قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:23-24] أي: إلا من تولى عن الدعوة وأعرض عنها وعاد إلى كفره، فهذا هو الذي يعذبه الله العذاب الأكبر، والعذاب الأصغر ممكن أنت تعذبه، سبحان الله! في سورة الأعلى فتح الله علينا في كلمة الأشقى، ووجدنا لها لذة ما سمعناها، وقد جيء إلى علي رضي الله عنه في أيام خلافته بمسلم قد ارتد، وأعرض وتولى، فاستتابه ثلاثة أيام يعرض عليه الإسلام فيرفض فقتله، واستشهد بهذه الآية: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية:23] فهذا تولى وكفر.

وقوله: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:24] أي: يوم القيامة، ونحن نعذبه الآن العذاب الكبير في الدنيا. ولم يتركه لعذاب يوم القيامة، فذاك العذاب الأكبر، إذاً العذاب الأصغر من عندنا، ولهذا المرتد عن الإسلام يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قطع رأسه، وهذا عذاب كبير وليس هو الأكبر، فالأكبر لله، ونحن لا نستطيع العذاب الأكبر، وإنما الذي نستطيعه العذاب الأصغر وهو القتل.

أعيد اللطيفة: جيء لـعلي رضي الله عنه بمرتد، كان مسلماً فتنصر أو تهود أو تمجس أيام لم يكن هناك إلحاد ولا شيوعية، فاستتابه وفي كل يوم يطلب منه التوبة: تب يا عبد الله! ما حملك على الردة والإعراض بعد أن دخلت في رحمة الله؟ ثلاثة أيام. ثم قال: علينا به، فقتله وقرأ هذه الآية: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:23-24] أما نحن فنعذبه العذاب الأصغر بالقتل.

تفسير قوله تعالى: (إن إلينا إيابهم)

ثم ختم الله هذه السورة الميمونة بقوله: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] الإياب هو: الرجوع، آب من بلده رجع، وآب إليكم رجع.

إذاً: إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] أي: يرجعون إلينا.

والبشرية لما تموت ويحييها الله ترجع إلى من في حكمها وقضائها وما يتم لها؟ إلى الله.

هل هناك قوة أخرى؟ ليس إلا الله، فتأتيهم الملائكة تسوقهم جماعات جماعات، زمراً إلى الله عز وجل، فلا يرجعون إلا إلى الله.

تفسير قوله تعالى: (ثم إن علينا حسابهم)

ثم قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:26] أي: نحن المسئولون مطالبون بحسابهم.

إذاً: أنت يا رسولنا! انشر الدعوة، بلغ كلمة الله.. حذر.. نبه.. عظ.. ذكر.. وإذا ما استجابوا فلا تكرب، ولا تحزن، ولا تغتم، فإن إيابهم إلينا، ولو كانوا يئوبون إلى غيرنا.. إلى أمريكا.. إلى روسيا.. فلا يرجعون إلى حكمنا؟ تفلتوا، لكن يوم القيامة ليس هناك قوة أخرى يفرون إليها إلا الله.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:26] فأبشر، نحاسبهم الحساب الدقيق، فلا نظلمهم في حسنة ولا سيئة، وهذا من عدالة الله عز وجل، فلا تظلم بأن تزاد عليك سيئة أبداً ما كسبتها، ولا ينقص من حسناتك حسنة قط، هذه عدالة الله عز وجل.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الغاشية (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net