إسلام ويب

بعث الله عز وجل موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه، يدعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه، ورفع الظلم الذي كانوا يوقعونه ببني إسرائيل على مدى السنين المتطاولة، فما كان من فرعون إلا أن أخذته العزة، فاستكبر على نداء النبي، وحشر حوله كل جبار وغوي، وأرادوا الفتك بأهل الإيمان، فأخرجهم الله من بين أظهرهم بسلام، وألحق بفرعون وجنوده الذل والعار، وأغرقهم أجمعين في اليم، ثم موعدهم يوم القيامة دار البوار.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النازعات

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة النازعات، وآياتها المباركات نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:15-25] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [النازعات:15] هنا يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته معه، والاستفهام هنا ليس على بابه؛ إذ (هل) هنا بمعنى: قد، قد أتاك حديث موسى، وإنما جيء بالجملة في قالب الاستفهام من أجل التنبيه وإعداد الإنسان لأن يسمع ويتدبر ويفهم.

قصة موسى من سورة طه

وحديث موسى مع فرعون حديث طويل، جاء هذا القصص في عدة سور من كتاب الله عز وجل، ومن أشمل تلك الأخبار وأوسعها ما جاء في سورة طه، من أول السورة إلى انتصافها أو أكثر، فلو نتلو هذه الآيات بتأني نستعرض هذا القصص بكامله، ولكنه طويل.

وحسبنا أن عرفنا بالأمس من هو موسى، إنه ابن عمران، رسول الله إلى فرعون أولاً وإلى بني إسرائيل، ولد وتربى في ديار مصر، ثم لأحداث اضطر إلى الخروج منها فنزل بمدين، وأقام بها عشر سنين، رعى فيها غنم شعيب.

والحكمة في ذلك: لما فقد التربية في حجور الصالحين؛ إذ عاش في قصر فرعون اللعين، عوضه الله عشر سنوات في حجر العبد الصالح شعيب عليه السلام.

ولما اكتملت المدة التي حددها الله خرج موسى في طريقه إلى مصر لزيارة أهله وعلى رأسهم أمه وأخوه، كما قال تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] هو بأهله في طريقه في تلك الصحارى، وإذا به يحتاج إلى نار للاصطلاء والطبخ عليها، فيلاحظ أن هناك ناراً عند شجرة من الأشجار في ذلكم الوادي الأمين المقدس، فأتاها فنودي بهذا النداء: يَا مُوسَى [طه:11].. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].

وتم في ذلك اللقاء التدريب حتى على حمل السلاح الذي يحارب به فرعون، إذ ما زال يسمع كلام الله ويتلذذ به، والفرحة تغمره، وإذا بالحق عز وجل يقول له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17] وكان بيمينيه عصا جاء بها من أرض مدين كان يرعى بها الغنم لشعيب.

ويروى: أن هذه العصا تبادلها الأنبياء، وأنها من عهد قديم، ورثها نبي بعد نبي، ولا حرج، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18]، قالت الحكماء العلماء: لم أطنب موسى في هذا الكلام؟ كان الجواب عصاي، لكن قال: هِيَ [طه:18] أتى بالمسند إليه، أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18] قالوا: الباعث له على أن يطنب في الكلام التلذذ بالمقام، لتطول الفترة التي بينه وبين الله وهو يناجيه ويسمع كلامه.

فقال له الله تبارك وتعالى: أَلْقِهَا يَا مُوسَى [طه:19] وهي بيده، فألقاها امتثالاً لأمر الله فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، فإذا هي تهتز كأنها جان حتى رجع موسى القهقرى هارباً من هول ما شاهد، فقال له ربه وهو أرحم به من أمه وأبيه: خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، وبالفعل أخذ طرف ثوبه ووضعه على كفه وأخذ العصا فإذا هي عصا بعدما كانت تهتز كأنها جان.

إذاً: فـ أَلْقِهَا يَا مُوسَى [طه:19]، هذا هو التدريب والتمرين على حمل السلاح، فألقاها امتثالاً لأمر الله فإذا هي تهتز كأنها جان، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31] هذا أول سلاح.

وثاني سلاح قال له: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، وبالفعل أدخل يده في جيب ثوبه، في شق الثوب، وأخرجها فإذا هي بيضاء مستنيرة كأنها فلقة قمر، وهذه آية أخرى.

الآن أخذ سلاحين: العصا واليد ومشى.

إذاً: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17] لكن موسى لما كُلف اشترط، وقال لربه: بما أنك أكرمتني بهذا التكليف وعهدت إلي بهذه الرسالة أطلب طلبات حققها لي، أنا في حاجة إليها؛ لأني أواجه أمة كاملة.

ما هي طلباتك يا موسى؟ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] حتى أطيق ما أسمع، فقد أسب.. قد أشتم.. قد أعيّر.. قد ألام.. قد يعتب علي، فلا يضيق صدري.

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:26]، وتيسير الأمور هذا من خير ما يطلب العقلاء، اسألوا الله أن ييسر أموركم، لما بشر بها محمد صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً لا حد له، وأصبح يتلو تلك السورة في اليوم مرتين وثلاث، سورة الأعلى التي فيها قول الله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، قالت عائشة رضي الله عنها: ( ما خير بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إلا اختار أيسرهما )، ما خير بين أمرين تفعل هذا أو هذا، تترك هذا أو هذا؛ إلا اختار أيسرهما، أي: أسهلهما.

إذاً: وهذا موسى عليه السلام في معرض طلبات يحتاج إليها في الحرب مع أعداء الله طلب التيسير، اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].

ثالثاً: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28] وقد عرفتم بالأمس سبب هذه العقدة، وهي الجمرة التي ألقاها في فيه وهو يحبو، ما ميز بعد.

رابعاً: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32]، قالت العلماء: ما عرفت الدنيا أخاً أبر بأخيه من موسى لهارون. عادة ما يكون بين الإخوة الحسد، وطلب التعالي والرفعة على بعضهم البعض، إلا موسى طلب لأخيه الرسالة، كيف يطلب أحد أن ينبأ أحد آخر؟! طلب له أن يبعثه رسولاً، فما أبر أخ بأخيه كما فعل موسى، وَأَخِي هَارُونُ [القصص:34].. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:31-32] كي يأخذ نصيبه من هذه الدعوة.

إذاً: هنا لطيفة من ألطف اللطائف لو كنا أهلاً لأن نأخذ وننتفع، أتدرون بماذا علل موسى طلباته؟ أعطنا.. أعطنا.. أعطنا كذا وكذا، من أجل ماذا؟ فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34] هذه الطلبات العظيمة يعلل لها فيقول: من أجل أن نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً، هذا ناتج عن علم موسى أن الله عز وجل خلق الخلق كله من أجل أن يذكر ويشكر، عرف موسى علة الحياة كلها، وهي أن يذكر الله ويشكر، فخلق الكون كله لهذه العلة.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ).. لو أن أحدنا طول الليل والنهار يسبح ما لامه أحد، لم؟ كلمتان يحبهما الله، فإذا خطبت حبه وأردته فأحبب ما يحب، وقدم له ما يحب.

تابع تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)

ونعود إلى الآية الكريمة من سورة والنازعات على اختصارها، قال تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17] وطغيان فرعون أولاً: ظلم واعتدى.

ثانياً: تكبر وتجبر، إلى أن ارتفع إلى مستوى ادعى فيه أنه لا إله إلا هو، إذ قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

تفسير قوله تعالى: (فقل هل لك إلى أن تزكى)

قال تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18]. وقراءة سبعية: (فقل هل لك إلى أن تزَّكَّى). وهنا علمه الله ما يقول لفرعون، إذا انتهى إليه ووقف بين يديه أول ما يقول له هذه الكلمات التي أرشده الله تعالى إليها.

(هل لك إلى أن تزَّكَّى) ومن قرأ: (تزكَّى) حذف إحدى التاءين، الأصل: (تتزكى) فحذفت إحدى التاءين، ومن شدد، أدمجها، أدغمها في الزاي فكانت: (تزَّكَّى)، ومعنى تتزكى: تتطيب وتتطهر، التزكية دائماً التطهير والتطييب.

تفسير قوله تعالى: (وأهديك إلى ربك فتخشى)

قال تعالى: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19] اختصر الطريق في كلمتين. عجب!

أولاً: هل لك رغبة في أن تطهر وتطيب وتصبح ذا خلق.. ذا آداب.. ذا كمالات.. طيب النفس، بعيداً عن القاذورات والأوساخ المعنوية والحسية، تريد يا فرعون هذا؟!

ثانياً: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات:19] أي: أعرفك بمولاك الحق وإلهك الحق، فإذا عرفته ومشيت في الطريق الموصل إليه بلغت الكمال، فحينئذٍ إذا عرفت ربك وأنا أريد أن آخذ بيديك إلى ساحته، ما إن تراه تخشاه، فإذا خشيته أطعته، فإذا أطعته أخذت بحذافير السعادة بكاملها، وهذا إيجاز كبير، وهكذا علم الله تعالى موسى كيف يدعو فرعون بهذا الأسلوب الأدبي الرفيع.

هَلْ لَكَ [النازعات:18] بخلاف لو قال له: تزكى يا نجس. المفروض يقول له: تزكى يا نجس! تطهر من الشرك والكفر والظلم والشر والباطل، لكن لو قال له هذه الكلمة لا يقبلها فرعون ولا يمكنه من طول الوقوف معه، لكن قال: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات:18-19] أنا متبرع، أنا أتحمل مسئولية هدايتك إلى الله، فقط استجب لي، اقبل ما أقول، أذعن لما أدعوك إليه سوف أصل بك إلى ربك، فإذا عرفته خشيته لجلاله وعظمته، ولم لا يخشى من يقول للشيء: كن فيكون؟ لم لا يخشى من يحيي ويميت ويعطي ويمنع ويضر وينفع؟ وليس إلا هو إله يعبد؟

هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19] رفض فرعون في حوار طويل ثم قام يخطب وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37].

أول كلمة قالها وآخذه الله تعالى عليها، هي كلمة: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] كأنه استقصى البحث في الشرق والغرب وما وجد من إله للخليقة ولآل فرعون والمصريين إلا هو، أما الأخيرة فقد قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

تفسير قوله تعالى: (فأراه الآية الكبرى)

ثم قال تعالى: فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى [النازعات:20].

فَأَرَاهُ [النازعات:20] أي: موسى أرى فرعون.

الآيَةَ الْكُبْرَى [النازعات:20] وهي العصا، عصا كسائر العصي من خشب، تستحيل إلى مخلوق حي، هذه حركة أكبر من حركة الجان والحيوانات، آية من أعظم الآيات، فلهذا سماها تعالى الآية الكبرى، يدلك على هذا يوم ما اتفق فرعون مع موسى على عرض كبير في ساحة عظمى للمبارزة، واختار اليوم الملائم المناسب يوم عيد، واختاروا الساحة الكبرى التي تتسع لمئات الآلاف من المتفرجين، وبالفعل جاء فرعون بسحرة مختصين.. فنانين.. علماء.. مدرسين. وكان السحر مادة مشهورة في الديار المصرية، وله أساتذته المختصون، وحشرهم من كل الأقطار، وجيء بهم في ذلك اليوم يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59].

ما كان من السحرة إلا أن أرسلوا حبالهم يراها الرائي ثعابين تهتز بين السماء والأرض، حتى إن موسى خاف، قال تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]. كانت الساحة كاملة تهتز بالحيات والثعابين، وهي حبال فقط وعصي، المسحور يراها كما أراد السحرة، وفي هذه الحال قال الله تعالى لموسى: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68] أي: الغالب القاهر لهم، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا [طه:69] وفتحت فاها فدخل كل ذلك المشاهد في بطنها.

تَلْقَفْ [طه:69] أي: تتلقف مَا صَنَعُوا [طه:69]، ولا حاجة أبداً إلى قول من يقول ليس هناك ثعابين ولا ولا.. يرد كلام الله ويئول، بمعنى فقط بطل السحر، بطل السحر يقيناً، لكن أسباب بطلانه: تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الأعراف:117-120] السحرة لما شاهدوا الحق وأيقنوا أنه الحق ما كان منهم إلا أن خروا ساجدين لله.

إذاً: أراد فرعون أن ينتقم، وهدد وتوعد، فقالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72-73].

تفسير قوله تعالى: (فكذب وعصى)

قال تعالى: فَكَذَّبَ وَعَصَى [النازعات:21]

فَكَذَّبَ [النازعات:21] أي قال: ليس هذا ببرهان ولا حجة ولا آية تدل على أنك رسول الله، هذا التكذيب.

وَعَصَى [النازعات:21] وعصى موسى فلم يستجب لطلبه، إذ موسى يطلب طلبين:

الأول: أن يتنازل فرعون عن هذا الطغيان، وأن يعترف بالعجز والضعف وأنه مخلوق من مخلوقات الله وعبد من عبيده، كلمة رب وإله يبطلها.

ثانياً: أن يرسل معه بني إسرائيل، إذ مهمة موسى أن يعطيه شعب بني إسرائيل ليرحل به إلى الديار المقدسة، وكيف تجمع بنو إسرائيل؟ قصة يوسف عليه السلام وضحت هذه الحقيقة.

لما مات يوسف وترك أولاداً، والأولاد كذلك إخوة يوسف تناسلوا فأصبح مجموع بني إسرائيل يقدر بخمسمائة ألف (نصف مليون)، فأراد الله أن ينقلهم إلى أرض القدس، فنبأ وأرسل موسى وطالب فرعون بأن يرسل معه بني إسرائيل، فتلكأ فرعون وتردد وبالتالي أعلن الحرب ورفض أن يقبل دعوة موسى، هذه هي مهمة موسى عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (ثم أدبر يسعى ...)

قال تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى [النازعات:22-23] ماذا حشر؟ حشر جموعه، قواته، جيوشه، الحشر كان مرتين:

المرة الأولى: جمع السحرة في ذلكم الحفل العظيم وانهزم، وليس المقصود هنا، المقصود بالحشر هنا جيوشه. لما انتصر موسى في المعارك البيانية.. البرهانية.. العقلية، ما كان منه إلا أن انعزل ببني إسرائيل بتدبير الله عز وجل، أخذوا يخرجون من القرى والمدن ويتجمعون في ناحية، وجاء هذا في سورة يونس: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87] استعداداً للخروج رغم أنف فرعون.

وطالت المدة وجاء وقت الرحيل، فتجمع بنو إسرائيل وجاءوا من كل الأطراف ثم خرج بهم موسى. فرعون ما إن شاهد بني إسرائيل قد خرجوا حتى جمع قواه وقواته، فحشر ونادى بأعلى صوته: هلموا إلى الجهاد.

قال تعالى عنه: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] وهذه الآية من جملة ما سجل الله تعالى لفرعون، هذه الكلمة المنتنة.

تفسير قوله تعالى: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى)

ثم قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25].

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ [النازعات:25] أي: عذاب الكلمة الأولى، وهي قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأخذه أيضاً عذاب الآخرة عندما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

ويصح أن تفهم من الآية: أخذه نكال الدنيا والآخرة، عذبه في الدنيا والآخرة قطعاً، لكن السياق يدل على أنه واخذه على الكلمتين، وبينهما أربعون سنة.

الكلمة الأولى وهي قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] بمعنى: أنه طلب واستقصى البحث وما وجد إلا هو.

والكلمة الثانية: في آخر لقاء مع موسى، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

إذاً: فَأَخَذَهُ اللَّهُ [النازعات:25] كيف أخذه؟ قلنا: خرج موسى ببني إسرائيل يتقدمهم جبريل، إلى أين؟ إلى البحر الأحمر ليجتازوه إلى أرض القدس، فما إن رأى فرعون موسى يخرج ببني إسرائيل حتى حشر ونادى في رجاله وجمع قواه وزحف، تقول الأخبار -ولا مانع-: كان الفرسان على الخيول مائة ألف فارس، على خيل بلق فضلاً عن المشاة، وهذا تدبير الله عز وجل، حتى يبيد ذلك الجيش كله وينهي وجوده، إذا كانوا مائة ألف فارس فالمشاة قد يزيدون على مليون.

وتقدم موسى بني إسرائيل، وحصلت اعتراضات وتساؤلات، لكن ما إن انتهى موسى إلى البحر وخاف بنو إسرائيل حتى أوحي إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، كالجبل الأشم، وانقسم البحر إلى اثني عشر فرقاً، على عدد قبائل بني إسرائيل حتى لا يزدحموا أو يتألموا، قال تعالى: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:63-65].

ولما دخل بنو إسرائيل ووصلت قوات فرعون، ما كان منه إلا أن دخل البحر، ما إن خرج بنو إسرائيل من طرف البحر وأصبح فرعون وجيشه في عمقه -ولو أرادوا الرجوع لا يمكن- حتى أطبق تعالى عليهم البحر، قال سبحانه: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55] فقط فرعون الوحيد الذي نجا، قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] عجز أن يقول: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، ما اهتدى إليها، ماذا قال؟ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].

وعندنا حكاية لطيفة، وهي أنه في الحرب العالمية الأخيرة كانت إيطاليا مع ألمانيا تقصف الحكومة الفرنسية في مستعمراتها وبلادها، فإذا جاءت الطائرة مع المساء لتلقي بحممها؛ كان المسلمون يفزعون إلى الأنفاق تحت الأرض حتى تنتهي الغارة ويخرجون. ماذا كان يقول المسلمون إذا اشتد الكرب والخوف؟ لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وهم هاربون، أحياناً واحد طالع للعمارة والثاني هابط منها. كيف؟ كالفراش المبثوث، الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4].

والله من شدة الهول والخوف هذا طالع للعمارة هارب وهذا هابط منها، الإنسان يبحث كيف ينجو، إذاً: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، ومعنا الطليان من المستعمرين والعوام والأسبان يسكنون في أحياء العرب فماذا يقولون؟ يقولون بلغتهم: أنا كذلك.. أنا كذلك، ما دامت هذه الكلمة تنجي وهو لا يعرف أن يقولها، إذاً يقول: وأنا كذلك.. وأنا كذلك، ففرعون قال: وأنا كذلك، ما قال لا إله إلا الله، قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].

فرد الله تعالى عليه قوله: آلآنَ [يونس:91] يعني: أهذا وقت الإسلام؟ فات الوقت وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، قال الشاعر في بيت معلوم:

وجادت بوصلي حين لا ينفع الوصل

الشاهد عندنا: ليس هذا هو وقت إسلام، إذا حشرجت الروح ووصلت إلى الحلقوم لا يقبل إيمان من العبد أو إسلام؟ فإذا بلغت الروح الحلقوم انتهى أمر الإيمان والإسلام، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) فإذا غرغر وأصبح صوته يسمع له غرغرة كغرغرة الماء انتهى أمر التوبة وقبولها، وفرعون كذلك: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] قال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] لا بروحك، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92].

قالت العلماء: الحكمة في نجاة فرعون ببدنه: أن بني إسرائيل عاشوا دهراً طويلاً أذلاء معذبين مضطهدين، يتحكم فيهم فرعون ورجاله والأقباط. إذاً: فلولا أن الله عز وجل أراهم جثة فرعون على سطح الماء ميتة ما كانوا يطمئنون إلى أن فرعون مات أبداً، ويعيشون في أحلام وهوس متى يفاجئهم، هل تعجبون من هذا؟ لا تعجبوا، عندنا حادثة كهذه.

كان في منطقة مستعمرة لفرنسا عندنا شيخ قائد مستبد، ولكن أفضل من حكام ما بعد الاستقلال، والله أفضل منهم، مستبد لكن على الأقل بلحيته وعمامته وبطولته، كان مسيطراً على منطقة كبيرة وهو الواسطة بين حكومة فرنسا وتلك الجماعة المؤمنة، فلما مات ونحن أطفال ما صدق الناس، كيف يموت؟ والله كما تسمعون، تعجب كثير من الرجال قالوا: أبداً ما مات، كيف مات؟ لا يموت! عرفتم الآن لماذا أنجى الله فرعون بذاته؟ لأن بني إسرائيل من شدة خوفهم واضطهادهم وذلهم إذا قيل مات، لا يصدقون، يصبحون كل يوم في رعب، يبيتون في أحلام قاتلة خائفين، لكن من تدبير الله ورحمته بعباده أنجى الله فرعون من الغرق، جيوشه كلها أكلها البحر، وهو ارتفع على سطح الماء وبقي في الساحل، وإلى الآن جثته محنطة موجودة.

إذاً: هذا تدبير الله عز وجل.

قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25] أي: عذاب الكلمة الأولى التي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى)

وأخيراً: ينتهي هذا الموجز بقول الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26] يا جماعة.. يا أهل الإيمان.. يا أهل الإسلام! إن في هذا القصص اللطيف.. الظريف.. الإلهي عبرة، تعرفون العبارة؟ العبارة توجد في الأنهر، يعبر بها من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى، والعبرة من العبارة كلمة تعيها فتنجو بها من مخاطر أشد من مخاطر البحار والغرق، كلمة أو حكمة توردها على نفسك فتتجلى لك طرق النجاة فتنجو بسبب تلك الكلمة. إذاً: نجوت بكلمة.

إِنَّ فِي ذَلِكَ [النازعات:26] الذي سمعتم لَعِبْرَةً [النازعات:26] وأي عبرة! عبرة عظيمة، موسى بعصاه يهزم دولة بكاملها، أليست هذه عبرة؟ يحمل عصا لا مدفع ولا.. ولا، يقف في وجه فرعون أكثر من أربعين سنة يجادله، ووالله لقد كان في بعض الأحوال إذا واجه فرعون موسى يبول من شدة خوفه، إذا واجهه ينهار انهياراً كاملاً، وبالتالي هزمه شر هزيمة، ونجا موسى وعاد بنو إسرائيل أيضاً وحكموا البلاد وسادوها بعدما كانوا شذاذاً آفاقيين فيها، مستعمرين مستغلين. أليس في هذا عبرة؟ ولكن من هو الذي يأخذ الكلمة فيعبر وينجو؟ الخائف. أما المستهتر والمتكبر ليس بخائف يقول: اترك النار تأكلني، فلهذا لا ينجو إلا من يحمل الخوف من ربه، من يخشى الله عز وجل، فكلمة واحدة تنقذه من أكبر مفسدة وأعظم إثم أو ذنب، فينجو من عذاب الله عز وجل.

هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم دائماً بما نقول ونسمع.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النازعات (3) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net