إسلام ويب

يوجه الله عباده المؤمنين ودعاته الصادقين إلى كيفية التخاطب مع المعرضين الغافلين، وذلك بتذكيرهم بخلقهم، وحقارتهم بالمقارنة مع مخلوقات الله من سموات مرفوعة، وأرضين مبسوطة، وجبال شامخة، وما في ذلك من خلق الليل والنهار، وتتابع النجوم والأجرام، ودلالة ذلك كله على قدرة الله وحكمته، واستحقاقه للإفراد في توحيده وعبادته.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النازعات

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة النازعات، وإن آياتها المباركات نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

تقرير عقيدة البعث والجزاء

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن المكذبين بالبعث الآخر كفرة ملاحدة لا خير فيهم؛ إذ عقيدة الإيمان بالحياة الثانية بعد هذه الأولى بعد الإيمان بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، هذا الإيمان هو الذي يجعل من الإنسان إنساناً حقاً، يعي.. يسمع.. يبصر.. يعطي.. يمنع، قادر على أن يتكلف ويتحمل بما كلف وحمل من التكاليف؛ لأنه بهذا المعتقد أصبح حياً، فإذا انعدم هذا المعتقد في نفس الإنسان رجلاً كان أو امرأة؛ لم يبق في هذا الإنسان خير قط. وكثيراً ما أردد -والله شاهد- أنه بالإمكان أن تنام متوسداً ثعباناً فلا يلسعك ولا ينهشك ويغفل عنك، لكن إن احتاج إليك ملحد -والله- لامتص دمك، ولاستعان على حوائجه بعظامك ولحمك، ومن تفكر اهتدى.

الذين يفعلون الأعاجيب بالبشرية يكسرون عظامها.. يمتصون دماءها.. يرتكبون معها أفحش الفواحش؛ هل في قلوبهم إيمان بيوم القيامة؟ والله ما كان، وإن ادعى ذلك بألف لسان ومليون مرة.

فمن هنا تجد ثلث القرآن -وهذا من باب التخمين لا الحصر- على تقرير هذه العقيدة وإيجادها وإصلاحها وتصفيتها.

وهاهو تعالى يفتتح هذه السورة المباركة بقوله: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] والنازعات ملائكة تنتزع روح الملحد الكافر بعد إغراق في نزعها.

وَالنَّاشِطَاتِ [النازعات:2] ملائكة من ملائكة الرحمة تنشط تلك الروح وتأخذها من جسم المؤمن وكأنما استلت شعرة من عجين.

يا من يقول: أنا لا أبعث! نسألك هذا السؤال: هل تموت أو لا تموت؟

فإن قال: لن أموت ومثلي كيف يموت؟ نقول له: أنت لا تبعث أبداً، من يبعثك وأنت ما مت؟

فإن طأطأ رأسه وانحنى وعرف أنه ميت، لم يبق له عذر ولا حجة أن يقول: أنا لا أبعث، فالذي لا يموت هو الذي لا يبعث، أما من يؤخذ من حضن أمه أو حجر امرأته، من بين عواده وأطبائه بدون استئذان أيضاً منه ولا من أهله كيف يقول أنا لا أبعث؟ عيب هذا الكلام! هل أنت تملك ألا تبعث؟

وعندنا شيء آخر: هل ملكت مجيئك إلى الدنيا؟ أنت الذي وهبت الحياة لنفسك؟ هل استشرت وأنت في عالم الغيب فرضيت بالخروج إلى الدنيا؟ أجبنا يا عبد الله الهالك!

أنى له أن يجيب!!

ما السر إذاً في هذا؟ العناد والمكابرة.

لقد كشف النقاب عنك الله، أزاح الستار عنك رب العالمين، خالق الخلائق.. غارز الغرائز.. طابع الطبائع، وأخبر عن علة هذا الإلحاد بقوله: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5] هذه هي العلة، أنت مخلوق فكيف تنكر خالقك؟ أما تستحي؟ مخلوق ينكر خالقه؟! من خلقك؟ أمك؟ أبوك؟ جدك؟ أنت مخلوق، قل: دلوني على خالقي لكي أتقرب إليه وأتحبب. لكن يدس رأسه في الرمل كالنعامة ولا يبالي، وإذا جاءت سكرة الموت بالحق يموت، إلى أين يذهب بك؟

إذاً: أعيد القول: كذّب كثيرون من العرب بالبعث الآخر، فهذه السورة تريهم حقائق علمية منطقية لا يستطيعون إنكارها أبداً أو تجاهلها، ولهذا آمنوا بدعوة فرد لهم فقط، قام بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خمس وعشرين سنة ما بقي على سطح هذه الجزيرة كافر، آمنوا بالله والبعث الآخر، بدعوة واحد لا حزب ولا منظمة ولا جمعية.

إذاً: سبب هذه الهداية القرآن، وهم أهل لسانه وأهل بيانه وأهل معرفة عجائبه.

إقسام الله بالملائكة ووظائفهم وجواب القسم

قال سبحانه وتعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:1-5] يصغي الإنسان بأذنه ليسمع هذا الصوت، ما هذا الكلام؟ من نطق به؟ كيف أتى به محمد؟ عجب! هذه الإقسامات، أيمان ضخمة عظيمة، الله يحلف على أي شيء؟

الجواب: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7] أيها المكذبون ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ [التغابن:7] وتجزون به إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فبمثله.

تكذيب الكافرين بالبعث بعد الموت

ثم يحكي قولهم: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً [النازعات:11] بالية هل نبعث أحياء من جديد كما يقول محمد.

يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ [النازعات:10] أي: في هذه الدنيا التي مضت وحفرناها بأقدامنا وكنا فيها؟ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:10-12] إي نعم، بالنسبة إليهم -والله- لرجعة خاسرة.

الكرة: الرجعة بعد الأولى، نعم خاسرة، أهلها خاسرون، الذين ما آمنوا بالله ولا بلقائه ولا بشرعه تزكو أنفسهم وتطيب على أي شيء؟ تبقى خبيثة منتنة. إذاً: يستحيل في حقها أن يعرج بها إلى السماء أو تنزل الملكوت الأعلى، فقد أخبر تعالى بهذا الخبر العظيم الشأن، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] والله ما صاموا ولا صلوا، ولا عرفوا معروفاً ولا أنكروا منكراً؛ أغمضوا أعينهم وانحازوا جانباً، على أي شيء تطيب أنفسهم أو تزكو أرواحهم؟

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] وهذا تعليق على محال، وما علق على محال فهو محال، فروح خبيثة منتنة عفنة كأرواح الشياطين لن يعرج بها إلى السماء، وإن عرج بها ترد من أول سماء، يستأذن لها فلا يؤذن.

حقيقة النفخ في الصور وجمع الناس للحساب

قال تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14] زجرة واحدة فإذا هم واقفون بالأرض الساهرة التي لا تعرف نوماً ولا من ينام عليها.

المراد بهذه الزجرة كما علمتم غير مرة نفخة إسرافيل عليه السلام، تلك النفخة التي تأتي بعد نفخة الفناء، واقرءوا: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ [القمر:1-7] أي: القبور. كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:7-8] عجائب هذه الآيات!

زجرة واحدة فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:14]، ما هي الساهرة؟ امرأة ما نامت؟ لا، الساهرة: الأرض التي لا ينام عليها أصحابها، فأهل الحشر لا ينامون، والله خمسين ألف سنة ما نام أحد ولن ينام.

إذاً: عرفتم الساهرة.

بعث موسى الكليم إلى فرعون الغوي المبين

ثم جاءت جمل قرآنية معترضة هذا السياق لحاجة الرسول والمؤمنين إليها؛ تزيد قوة إيمانهم، وطاقة قدرتهم، على أن يصمدوا في وجه البلاشفة الحمر الملاحدة المنكرين للبعث والجزاء، وقد قص الله بإيجاز قصة موسى الكليم مع فرعون الطاغي اللعين، من أجل ألا يضعف النبي أمام أبي جهل ولا عقبة بن أبي معيط ولا الأخنس ولا العاص ولا الوليد، هؤلاء بالنسبة إلى فرعون ليسوا بشيء، وموسى وقف في وجه طاغية، في وجه رجل قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] بينما عرب قريش ما قالوا هذا، فهم يؤمنون بالله رباً.

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] أخذ السحرة بالمشانق مزّقهم وصلبهم أجمعين، ومع هذا موسى ثبت.. صبر، فاصبر يا رسولنا كما صبر موسى، وقد قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] ومن بينهم موسى.

هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:15-16] ناداه لماذا؟ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17] تعرفون الطغيان؟ أفضحها أو أسترها؟ أكثر العرب والمسلمين اليوم متصفون بصفة الطغيان وهم لا يشعرون، وإن شئتم حلفت لكم بالله، لأن الطغيان مأخوذ من طغى يطغى إذا ارتفع، فالذي لا يعرف أنه عبد لله مربوب، مخلوق، لا يذعن له في ظاهره وباطنه، ويحاول أن يرتفع، إذاً طغى، أما الذين قالوا لكتاب الله: أبعدوه، ويشرعون ويقننون للمسلمين ويسوسونهم بالأفكار الزبالية والهابطة من بقايا الاستعمار الشرقي والغربي؛ هؤلاء ما طغوا؟ متواضعون.. متطامنون.. تراهم يبكون خاشعين.. يزاحمون صفوف المصلين، ما هو الطغيان حتى تكون كفرعون يعني؟ فرعون عنده رجال وعنده مال، أنت ما عندك؟ كل من تجاوز حده فقد طغى وارتفع.

ثم قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:17-18] يا عظمة فرعون! يا جنابه! هل أدلك إلى أن تزكى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19] آخذ بيدك امش معي فقط، وافقني أصل بك إلى مستوى ترى الله تعالى فيه وتعرفه، وإذا بك ترتعد منه خائفاً وجلاً، امش معي فقط.

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات:19] فيترتب على ذلك شيء عظيم ألا وهو خشية الله، فإذا خشي عبد ربه أذعن لأمره ونهيه، فأصبح من أوليائه.

والله يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والصيغة هنا صيغة حصر (إنما)، فلذا من لا يعرف الله لا يخشاه، والله لا يخشاه من لا يعرفه. يا شيخ! لماذا تحلف؟ لأننا ألفنا الحلف، هذا هو الجواب، أنا سمعت ربي يحلف، أما سمعتموه؟ أما كان يحلف الآن في هذه الآيات؟ بلى. إذاً: نقتدي بربنا، هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم في كل مهمة يقول: والذي نفس محمد بيده!

أسباب هبوط الأمة الإسلامية

يستفاد من قوله: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19] فائدة عظيمة تساوي خمسين كيلو جرام من الذهب، ما فيكم عشاق الذهب؟ ما فينا الحمد لله. ما فيكم من يحب الذهب أبداً؟ هذه تساوي خمسين كيلو جراماً من الذهب، بمعنى: لو تعرفها وتعيها وتفهمها وتؤمن بها وتنقلها إلى ديارك وتحتفل بهذا النور -والله- لأغلى من خمسين كيلو جراماً ذهباً. لكم فيها حاجة؟ ما أنتم في حاجة إليها؟!

قال منصور: والله لا تقوم حتى تبينها؛ لأنه فهم، أما الذين ما فهموا نعرض عنها فيعرضون، ليسوا بحاجة إليها، لكن لو كانت حقيقة خمسين كيلو جراماً ذهباً يتضاربون في الحلقة.

إذاً: هل لكم في هذه الحقيقة؟!

الجواب مكرر يا أبنائي! وكلمات الحق معادة، وهي: أننا نقول من سنين: لو سئلت -بوصفك مسلماً عالماً دكتوراً- في التاريخ.. في علم النفس.. في علم الاجتماع.. في علم الفلك.. في علم القانون، ويوجد من العرب والمسلمين دكاترة تخرجوا من باريس وتخرجوا.. يسألك عالم مثلك فرنسي أو إيطالي أو ألماني، بما أنك من علماء النفس والاجتماع نريد أن تعلل لنا بعلة سليمة صحيحة مظاهر الشر والفساد والظلم والخبث في الكون، الدنيا خمت بالعبث والخبث.. تعفن الجو.. ساد الظلم.. الاعتداء، فعلل يا فيلسوف، يا عالم الاجتماع أو النفس! لهذه المظاهر التي أصابت البشرية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. أو أنتم لا تصدقون بأن الدنيا امتلأت بالخبث والظلم والشر والفساد والكفر والفسق وقل.. وقل، امتلأت الدنيا بهذا، أصبحت الحياة جحيماً لا تطاق، فما هو علة هذا؟ فماذا تقول يا مسلم؟

إن كنت من أهل القرآن فسوف تجيب سائلك بالبرهان، ولن يستطيع أن يرد ما تقول وتقرر.

وإن كنت فقط فيلسوفاً اجتماعياً أو نفسياً خريج السوربون وغيرها.. والله ما تعرف الجواب، ولو أُعطيت خمسين عاماً لتفكر.

والجواب: إن الذي أصاب البشرية بهذا الهبوط والسقوط والتمزق والباطل والشر والفساد هو جهلهم بالله، عدم معرفتهم الله، وفكروا! اكتبوها وادرسوها فيما بينكم، من أراد أن يهدي فرداً يعلمه الله، هذا ليس بجديد، هذا موسى الكليم يبعثه الله إلى فرعون لتأديبه وهدايته، أسألكم بالله! ماذا قال له؟ وَأَهْدِيَكَ إِلَى [النازعات:19] من؟ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19]، إذا عرفته خشيته، وإذا خشيته أغمدت سيوف الظلم والشر والفساد، أنت مربوب لست برب.

والآية التي نزلت على نبينا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] هل هم علماء النفس.. الاجتماع.. الكيمياء.. الهندسة.. المعمار؟ أولئك صناع لا شأن لهم بهذا، العلم هنا علم معرفة الله، علم معرفة محابه ومساخطه.

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] امش إلى قريتك يا شنقيطي.. يا مصري.. يا مغربي.. يا كذا.. وانظر إلى أهلها! أعلمهم بالله أتقاهم له، أعرفهم بالله أبعدهم عن التلصص والإجرام والكذب والخيانة، ولا يحتاج هذا إلى برهان أبداً، ولهذا عدو المسلمين لما عجز عن مصاولتهم في ساحات القتال والدفاع قال: تجهيلهم هو الذي يمكننا منهم، جهلوهم، أطفئوا هذا النور من قلوبهم، وفعلوا.

هل علمنا من أين يأتي؟ من الوحي الإلهي قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174] هو محمد، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174].

إذاً: الوحي الإلهي والتعاليم الإلهية موضوعة من أجل إصلاح الإنسان وإكماله وإسعاده ضمن وظائف تعبدية يقوم بها.

إذاً: عرف العدو أنه لن يستطيع أن يقهر المسلمين إلا إذا جهلهم، وعلم أن القرآن العظيم والسنة النبوية هما طريق العلم والمعرفة، فحولوا القرآن الكريم إلى الموتى وفي المقابر قرابة ثمانمائة عام.

متى يقرأ القرآن عندكم يا عرب.. يا مسلمون؟!

في ليالي الموت أو في المقابر، والذين يتعلمون القرآن لماذا؟ ليقرءوه على الموتى مقابل عطايا رخيصة دنيئة لا قيمة لها، هكذا فعلوا، والسنة النبوية يغني عنها الكتب الفقهية، المصنفات والمختصرات، يقولون: اترك السنة على جهة، ماذا نصنع؟ قالوا: اقرءوها للبركة، نقرأ صحيح البخاري للبركة، وحينئذٍ هبطت الأمة.

يا شيخ! كيف تقول: هبطت؟ ما الدليل؟

الدليل أني علمت أن أوروبا استعمرتنا قرابة ثلاثمائة سنة من إندونيسيا إلى المغرب، ألا يكفي هذا دليلاً وبرهاناً؟

هل الكفار يسودوننا.. يتحكمون فينا.. يذلوننا؟ إي نعم. من يبرهن؟

الجواب: لأنهم تفوقوا علينا في آدابهم وأخلاقهم ومعارفهم، هذه أخرى أيضاً، نعم، ما حكمونا حتى تفوقوا علينا، ما زلتم تذكرون وعد بريطاني.. عهد فرنسي، هذه ترددونها؛ لأنهم أطفئوا النور علينا فأصبحنا كالحيوانات، وحينئذٍ كانوا هم بشراً كاملون بعقولهم، فأمكنهم أن يسودوننا وأن يحكموننا، أين ممالك الهند؟ أين إندونيسيا؟ وأين وأين؟ لم تسلم إلا هذه البقعة؛ كرامة لله ورسوله، ننكر هذا؟ أليس هو الواقع؟

يقول الله تعالى من سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] ما المراد بالروح يا أيها المسلمون! يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! ما المراد من قوله: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا [الشورى:52] إنه القرآن، سمى القرآن روحاً؟ إي نعم. لم؟ لأن الحياة به، لا حياة بدون القرآن، ونحن إلى الآن ما عرفنا.

وأقول: الثالوث -عصابة المجوسية واليهودية والصليبية- عرفوا هذا من أكثر من ألف ومائتي سنة، ونحن إلى الآن ما عرفنا أن القرآن روح، وهم عرفوا، وإذا عرفنا أن القرآن روح فهل يحيا ميت حياة الحق والصدق والوفاء والطهر والعز والكمال بدون روح؟ ممكن؟ مستحيل!

إذاً: أبعدوا القرآن عنا فمتنا، والقرآن نور، هل يمكن أن يهتدي الماشي في الظلام إلى حاجته؟ إذا كان ثمة حاجات دقيقة في الظلام هل يمكن يصل إليها؟ الجواب: لا. فالقرآن نور، لا هداية بدونه، واقرءوا قول الله تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

إذاً: في الإنجيل هداية.. في التوراة.. في الزبور.. في المذهب البلشفي.. الشيوعية.. الاشتراكية.. الرأسمالية؟ العالم يتخبط، لا هداية إلا في هذا الكتاب فقط، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، أولئك الذين أرادوا الهداية فطلبوها من طريقها لا يحرمهم الله إياها، أما الذين يعرضون عن القرآن وإن حفظوه في صدورهم لن يهتدوا؛ لأنهم ما أرادوا الهداية.

إذاً: هذه الحقيقة جاءت في قول الله تعالى: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19] تأملوها! من عرف الله معرفة حقيقية أحب الله وخافه، ومن أحب الله أطاعه، ومن أخافه أذعن وأسلم له، ومن أذعن وأسلم لتعاليم الله لا يزال يكمل ويسعد حتى ينزل الملكوت الأعلى.

تفسير قوله تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها)

والآن مع هذا الموجز لقصة موسى:

عاد السياق من جديد لتقرير عقيدة البعث والجزاء بالمنطق والبراهين العقلية، فقال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27] يخاطب المنكرين للبعث الآخر، الذين قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ [الصافات:16-18] رغم أنوفكم وأنتم أذلة.

هنا قال: أَأَنْتُمْ [النازعات:27] ويصح مد الهمزة: (آنتم)، أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27] أنتم أيها البشر أعظم خلقاً أم السماء؟ هل خلقنا أكبر وأجل وأعظم أم خلق السماء؟

أما علمتم أننا لو جمعنا البشرية كلها ووضعناها في الشمس فقط -والله- ما تسد ولا زاوية من زواياها، كل البشرية كتلة واحدة في جهنم، والشمس ليست جهنم وإنما هي كوكب مضيء، لكن من ملأها بالحرارة والطاقة التي لا نهاية لها؟ من جعلها أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة؟

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا [النازعات:27] يقولون: نعم نحن، كذب وباطل، من يصدق؟!

وفي سورة غافر يقول تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] أليس كذلك؟ والله لأكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، الذين لا يدرسون الوحي الإلهي يعلمون ماذا؟ لا يعلمون.

وفي سورة يس يرد سبحانه وتعالى على المكذبين بالبعث الآخر فيقول: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [يس:81] أي: مثل هؤلاء البشر؟ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:81-82] لم إذاً تنكرون البعث الآخر؟

ثم يضرب تعالى لذلك الأمثال، فيقول: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11] انظر فقط إلى الأرض الميتة الجدبة التي لا نبت فيها.. ولا عشب.. ولا زرع.. ولا.. ينزل الماء فإذا بها بعد نصف شهر تهتز رابية بألوان الزهور وأفنان النباتات، وهكذا نبعث.

ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:5-6]. قلت لكم: ثلث القرآن يقرر هذه العقيدة؛ لأن صاحبها حي وفاقدها ميت، لا يرجى له خير.

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27] ثم قال: بَنَاهَا [النازعات:27] والسماء مبنية، أليس كذلك؟ نحن الآن نشاهد هذا السقف وهو ممسوك بالقوائم والقواعد، والسماء أيضاً ممسوكة بقواعد لا ترونها، قولوا: الجاذبية، لا بأس أنها الجاذبية. من جذب الجاذبية وخلقها؟ الله. السماء مبنية كقبة زرقاء، ارفع رأسك وانظر هل ترى من شقوق فيها.. تصدع.. تفتت.. انحرافات؟ لا. يقول تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4] انظر ساعة هل ترى شقوقاً أو انفطاراً؟ من جعلها كالزجاجة؟ الله.

تفسير قوله تعالى: (رفع سمكها فسواها)

قال تعالى: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:28].

رَفَعَ سَمْكَهَا [النازعات:28] كم علوها يا عبد الله؟ مسيرة خمسمائة عام للطائر، اركب في منطادك أو طائرتك الأمريكانية أو الروسية وطر، هل تعيش خمسمائة عام؟ هل عاش أبوك خمسمائة عام؟ كيف تعيش خمسمائة عام وأنت طائر؟! هذا سمكها، والوصول إليها كذلك.

سَمْكَهَا [النازعات:28]: غلظها، وما فوقها من المسافة -والله- خمسمائة عام كذلك، وما فوقها وفوقها إلى أن تنتهي إلى دار السلام كذلك.

هل هناك من ارتاد لنا دار السلام؟ إي نعم، ولكنه ليس رائداً روسياً أو أمريكياً كذاب أو دجال، يكذب على الناس ويقول: صعدنا القمر، وافتضحت قضيتهم أخيراً، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيت أم هانئ بجوار المسجد الحرام، قاده جبريل ومن معه إلى زمزم فأجروا له عملية شق صدر ما عرفتها الدنيا بعد ولا كانت تحلم بها، شُق صدره وأخرج قلبه وغسل بماء زمزم وحشي بالإيمان وطاقاته، والحكمة وأنوارها، حتى يصبح قادراً على أن ينزل في الملكوت الأعلى، هل رواد الفضاء يعمل بهم هكذا؟ الإبر.. التشحيم.. التلطيخ، ثم يوم يربطونهم ويرسلونهم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقائق فقط تمت له هذه العملية وعرج به حتى اخترق سبع سماوات، واقرءوا واسمعوا هذا الحلف الإلهي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:1-15].

الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في غار حراء، ورآه في السماء، ورآه عند سدرة المنتهى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:15-18] هذا كلام من؟ كلام الله. هذا العجب! ما إن سمعت الجن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه في بطن نخلة حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً!

تفسير قوله تعالى: (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها)

قال تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:29] هل هناك من شارك الله في هذا.. في إيجاد الليل أو النهار.. أو الظلام والضياء.. هل هناك شريك؟ لا. وحده عز وجل.

قال تعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30] إذ خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماوات، ثم عاد إلى الأرض فدحاها.

تفسير قوله تعالى: (أخرج منها ماءها ومرعاها)

ثم قال تعالى لبيان معنى دحاها: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31] أي: أعدها للحياة حتى ينزل عبده وأمته على ظهرها فتكون هذه البشرية.

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9-12] يومين إلى الأربعة كم؟ ستة، وهو قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].

تفسير قوله تعالى: (والجبال أرساها)

قال تعالى: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:32] أرسى الأرض بالجبال فلا تميد، وإليكم ما أخرجه ابن كثير في تفسيره رواية عن أحمد في مسنده، إذ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما خلق الله الأرض مادت ) أي: اضطربت ( فخلق لها الجبال فأرساها بها ) فهي في أعماقها وفي سطحها.

وسلسلة الجبال في كل الدنيا تشاهدونها، من جمعها وكانت غبرات فأصبحت صخرات؟ من تركها عالية شامخة في السماء؟ آباؤكم أم أجدادكم؟ لا أحد، إنه الله. لِم ينكر الله؟ أما يستحي الكافر؟!

ثم لما خلق الجبال العظام وأرسى بها الأرض قالت الملائكة: ( يا رب! فهل من خلقك شيء أشد خلقاً من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. فقالت الملائكة: فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. -النار تذيب الحديد- قالوا: فهل من خلقك أشد خلقاً من النار؟ قال: نعم، الريح. قالت الملائكة: فهل من خلقك أشد خلقاً من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله! )، وهذه تحتاج إلى محطة، انظر إلى قيمة العبد الصالح المؤمن! والله الذي لا إله غيره! لو ملأنا الأرض كلها رجالاً كافرين لكان مؤمن أغلى شأناً منهم، وأعز مكاناً، وأغلى ثمناً، والله يقسم لو تمالأ عليه أهل الأرض كلهم لأكبهم في نار جهنم من أجل مؤمن واحد؛ لأنه غالٍ.

قد تقولون: من أين تأتي بهذه المعارف؟ اسمعوا! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع بعض رجاله -ليس هناك كراسي ولا فوطوات ولا موطوات- على الأرض، وإذا بمؤمن فقير دميم الخلقة، رث الثياب، زري المنظر كما هم الفقراء، مضى بينهم سلّم ومشى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( ما تقولون في هذا؟ ) بمعنى قوموه إن كنتم عقلاء، أعطوه ما يستحق، وهذه من وسائل الإيضاح عندكم في التعليم ( قالوا: هذا حري -أي: جدير- إذا خطب ألا يزوج -أي: أنا لا أزوجه بنتي- وإذا قال لا يسمع -من يصدقه؟- وإذا أمر لا يطاع ) وسكت وسكتوا.

ثم مر رجل جاء مع الطريق متعنتراً، الوجه كالقمر.. اللباس.. الكذا.. كما هم الأغنياء، أرباب الدنيا، فلما مضى قال لهم الرسول: ( وما تقولون في هذا؟ -قوموه- قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا قال أن يسمع لقوله، وإذا أمر أن يطاع -لأنه كامل في عقله وبدنه وجسمه- فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: والله! لملء الأرض من هذا لا تزن ذاك الذي قلتم )، يعني ملء الأرض من هذا المنافق صاحب الأبهة والجمال والطاقة.. لو ملأنا الأرض كلها منه ما وزنت ذلك المؤمن دني الخلقة، زري المنظر.

عرفتم قيمة المؤمن؟ لو عرفتموه ما سرق بعضكم بعضاً.. ما كذب بعضكم على بعض.. ما ضرب بعضكم بعضاً.. ما تكبر بعضكم على بعض، والله ما كان، ولكن العدو جهلنا، حصرنا في القبور والأضرحة والقباب فقط، فانتشر فينا الزنا.. السرقة.. القتل.. الكذب على بعضنا البعض.

تفسير قوله تعالى: (متاعاً لكم ولأنعامكم)

ثم قال تعالى: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:33] فاحمدوا الله واشكروه أن خلق هذه الأرض كالفندق، وملأها بألوان الطعام والشراب من الفواكه والخضر من أجلكم، وهو يريد منكم فقط أن تذكروه وتشكروه، هذه علة الحياة كلها أن يذكر الله ويشكر. فقالوا: لا نذكر ولا نشكر، إذاً فلينتظروا مصيرهم وجزاءهم.

والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليكم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النازعات (4) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net