إسلام ويب

لقد آتى الله عز وجل قوم عاد بسطة وقوة لم يؤتها أحد غيرهم، فصاروا ينحتون من الجبال بيوتاً، ويتخذون المصانع الضخمة، فلما جاءهم أخوهم هوداً يدعوهم إلى عبادة الله، وشكره على ما حباهم به من القوة والمنعة، إذا بهم يعرضون وبموعظة نبي الله يسخرون، وبعذاب الله يستعجلون، فأتاهم ما كانوا يوعدون، فأهلكوا أجمعين، إلا عباد الله المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن مع سورة الشعراء المكية، فتأملوا الآيات!

قال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:123-140].

شهادة قصص القرآن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور المكية التي نزلت بمكة المكرمة لا تحمل شرائع وأحكاماً، ولكن تدعو إلى إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، يشهد صاحبها عن علم ويقين أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، والجزاء فيها يتم على الكسب والعمل في هذه الدنيا، هذه في السور المكية كافة، أما السور المدنية ففيها بيان العبادات.. بيان الحلال والحرام.. بيان السياسة في الحرب والسلم.

وها نحن هنا مع قصص رابع وقد قص تعالى علينا أولاً: أحداث قصة موسى مع فرعون. ثانياً: قص علينا قصص إبراهيم مع قومه. ثالثاً: قص علينا قصة نوح مع قومه، والآن مع قصة هود مع قومه عاد أو قصة عاد مع نبيهم ورسولهم هود.

وهذا القصص وحده يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن يرد هذا.

هذا القصص مضت عليه آلاف السنين فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم حاضراً بينهم؟

الجواب: لا. هل قومه ومن معه كانوا عايشوا عاد وثمود؟ الجواب: لا.

هل كان يقرأ الكتب ويعرف تاريخ البشرية؟ والله ما كان يقرأ ولا يعرف القراءة.

إذاً: كيف يقص هذا القصص العجيب هذا؟

إن هو والله إلا وحي أوحاه الله إليه، والقرآن الكريم كله كلام الله أنزله عليه صلى الله عليه وسلم.

تكذيب رسول واحد تكذيب لكافة الرسل

قوله تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، عرفنا أن المراد من المرسلين هو هود، وهو رسول واحد، فلم يعبر بالجمع وهو احد؟

الجواب: لأن من كذب رسولاً يعتبر شرعاً كذب عامة الرسل، من كفر برسول وجحد رسالته وكذب بها يعتبر عند الله مكذباً بكل الرسل؛ لأن دعوة الرسل واحدة على اختلافهم، دعوتهم واحدة وهي أن يعبد الله وحده.. عبادة تسعد العابدين وتكملهم في الدنيا والآخرة، فلهذا من كذب رسولاً واحداً يعتبر شرعاً كذب عامة الرسل، قال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، ما قال كذبت عاد الرسول، مع أنهم كذبوا نبي الله ورسوله هوداً فقط.

أين توجد عاد؟ أين ديارهم؟

الجواب: ديارهم ما بين حضرموت جنوب اليمن إلى عمان تلك الرمال هي منازل عاد وديارهم.

معنى قوله تعالى: (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون)

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]. متى كذبوا؟

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ [الشعراء:124]. هذه الأخوة أخوة نسب وليست أخوة دين، ويجوز أن تقول لكافر: يا أخي إذا كان ابن أمك أو ابن أبيك ولا عيب عليك فهذه أخوة نسب.

وتقول للمسلم وإن كان أبيض وأنت أسود، أو كان عربياً وأنت أعجمي تقول له: هذا أخي في الإسلام، فكل مسلم هو أخٌ للمسلمين، لكن ليس كل إنسان هو أخ للمسلمين، فأخوك فقط هو ابن آبائك وأمهاتك.. أخوة النسب محدودة قاصرة وأخوة الدين عامة فنحن إخوان لكل المسلمين والمسلمون إخوان لنا.

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ [الشعراء:124] صلى الله عليه وسلم أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:124].

يحثهم على التقوى ويأمرهم بها ويرغبهم فيها ويدعوهم إليها؛ لأنه شاهد واقعاً لو لم يتوبوا لأهلكوا، وقد نزل بهم العذاب، فهيا نتقي هذا العذاب ونجعل بيننا وبينه وقاية تمنعه منا وتحفظنا منه، وهي أن نؤمن وأن نعبد الله عز وجل.. نؤمن بالله ولقائه ورسوله، ونعبد الله وبذلك ننجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (إني لكم رسول أمين ...)

ثم قال لهم: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125] أرسلني ربي إليكم فأنا أَمِينٌ [الشعراء:125] في رسالته لا أخون فيها ولا أنقص ولا أزيد ولا أكذب، أؤديها كما بعثني ربي بها إليكم، فلا تتهموني بشيء إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125].

معنى قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون)

ثم قال لهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:126]. إذاً: بناء على هذا اتقوا الله.

كيف نتقي الله يا هود؟

الجواب: أن توحدوا الله فلا تعبدوا سواه، قولوا لا إله إلا الله، هود رسول الله، واستعدوا للتكاليف إن أمركم الله بصلاة صليتم، أمركم بزكاة زكيتم، أمركم بجهاد جاهدتم، مستعدين لطاعة الله وطاعة رسوله.

فَاتَّقُوا اللَّهَ [الشعراء:126] أي: خافوه خوفاً يحملكم على أن تعبدوه وتتقوه وتطيعوه.

وقوله: وَأَطِيعُونِ [الشعراء:126]؛ لأن طاعة الرسول مفروضة ولا يمكن أن تستفيد من رسول وأنت لا تطيعه، إذ هو يأمرك وينهاك بأمر الله ونهيه، فإذا لم تطع الرسول كيف ستعبد الله؟ مستحيل، فطاعة الرسول من طاعة الله عز وجل إذ لا يأمر رسول الله إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه، فلا بد من طاعة الرسول،

والله يقول -وهي بشرى لكم- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، أربعة مواكب في دار السلام، كل واحد منا أبيض أو أسود يطع الله والرسول إلا كان معهم.. أربعة مواكب أعلاها موكب النبيين: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] بنعمة الإيمان والعمل الصالح وهم في الجنة وهو معهم.

والشاهد عندنا هو في قول نبي الله هود: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:126]، أي: لا تستطيعون أن تتقوا الله إذا لم تطيعوني.

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)

ثم قال لهم: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:127].

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] كما قالها نوح بالأمس، وقالها إبراهيم من قبل.

وما أسألكم على إبلاغ هذه الدعوة من أجر تعطونيه أبداً، فلا أريد منكم جزاءً ولا درهماً ولا ديناراً فأجري وجزائي ومثوبتي على ربي الذي أرسلني وكلفني، أما أنتم فقط خذوا العلم واعملوا به، وأما أنا فلا أطالبكم بدرهم ولا دينار ولا بر ولا شعير أبداً، ومهمتي أن أبلغكم فقط.

قطع المادة لعلهم اعتادوا أن يقولوا: هذا يريد أن يأكل ويشرب على حسابنا، أو يريد أن يسود بيننا فهو بهذا يدعي الرسالة ويبلغنا.. قطع هذا الوسواس فقال: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] أبداً، ما أجري إلا على الله هو الذي يعطيني ويثيبني على دعوتي وقيامي بها.

إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:127] رب العالمين هو خالق العالمين، رازق العالمين، مالك العالمين، محيي ومميت العالمين.. واحد ألا وهو الله، هذا اسمه الأعظم جل جلاله وعظم سلطانه هو رب العالمين أي: خالقهم ومالكهم ومدبر حياتهم.. هذا الذي نأخذ الأجر منه.

تفسير قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)

ثم قال لهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128]. البناء معروف: بناء المنازل والدور والقصور والفلل.

والريع: الأماكن العالية أو الأماكن الفسيحة الواسعة بين الجبلين أو بين واديين.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشعراء:128] بمعنى شغلتكم الدنيا بالبناء والتفاخر بكل بناء عال وقصر مشيد وكذا، فأعرضتم عن الله وعن عبادته.

فهو يعتب عليهم ويلومهم ويبين لهم أن الدنيا ما خلقت للمباني والقصور، والله ما لذلك خلقت، بل خلقت ليعبد الله فيها ويذكر ويشكر، وأنتم مخلوقون للذكر والشكر فلم تبدلوا طاقاتكم وجهودكم كلها في البناء على صنوف متعددة وفي أماكن متعددة للعبث واللهو فقط وتتركون العبادة التي خلقكم الله من أجلها.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشعراء:128] الآية هي العلامة الدالة على مادة من القصور والمباني الفخمة المشيدة.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] العبث هو كل عمل أو قول لا يكسبك فائدة ومصلحة في دينك أو دنياك فهو عبث.

والذي يعبث بلحيته وقت الصلاة لا يجوز. هل يستفيد من ذلك شيئاً؟ لا.

والعبث يكون في الأكل وفي الشرب، إذا أنت شبعان لم تأكل؟ تعبث.

أنت ريان لم تشرب؟ تعبث بالري.

أنت مكسو فلم تزيد لباساً فوق لباس؟ يكفي ما أنت عليه، وما زاد فهو من العبث الذي لا ينفع صاحبه.

والعبث واللهو واللعب كلها بمعنى واحد.. يلعب، يلهو، يعبث.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشعراء:128] من القصور المشيدة والمباني الفخمة تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] لأنكم لا تسكنونها ولا تنتفعون بها.. فقط للمباهاة والفخر.

وهنا نعوذ بالله أن نبني بناية فخمة للمباهاة والمفاخرة، والله لو أعطى عمارة من هذه العمارات الفخمة ورائي والله لا أريدها.. أقسم بالله لا أريدها!

لو أعطى عمارة من ذوات العشرين والثلاثين طابقاً والله ما أريدها ولا أقبلها. لم؟ إذا نريد أن نسكن فأنا ساكن في طابق، والباقي لماذا؟ للمباهاة والفخر؟

إذاً: هذا الذي ندد به نبي الله هود صلى الله عليه وسلم.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] يشيدون المباني والقصور على الجبال وعلى الأماكن المرتفعة والأماكن الواسعة لا لشيء إلا ليقال هذا قصر فلان الفلاني.

ولكن نبني لنسكن، لنستر أنفسنا، لنقر أهلنا وأولادنا، أما أن نبني للمباهاة فهذا لا يجوز أبداً، وهذا كلام النبي الرسول يعتب عليهم ويلومهم ويؤدبهم أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128].

تفسير قوله تعالى: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)

ثم قال: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129].

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ [الشعراء:129] جمع مصنع.. مباني أيضاً ضخمة عالية لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129].

هل تريدون أن تخلدوا بهذه المباني؟ والله لا خلد، لا بد من الموت، لا بد من الفناء!

لو تبني بناية إلى السماء عالية والله لا تمنعك من الموت، ولا تحجبك عنه أبداً.

المهم بدل أن يقبلوا على ربهم أقبلوا على الدنيا ففسدوا وهلكوا، فجاء رسول الله هود يبين لهم الطريق، أنتم مقبلون على الدنيا فلم لا تقبلون على الآخرة؟ لم لا تؤمنون وتعملون الصالحات؟ لم لا تجتنبون الباطل والشر والفساد لتكملوا وتسعدوا في دنياكم وأخراكم؟!

هذه رسالة هود عليه السلام: وضع أيديهم على العيوب التي هم متلبسون بها: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129] كي تخلدون، والله لا تخلدون.

والله لو ملكت العالم بأسره فلا بد وأن تموت، ولكن الخلد الحق في دار السلام!

إذا كنت تريد أن تخلد في الجنة دار السلام فآمن واستقم.. آمن واتق الله واعبد ربك وابك بين يديه فتقبض روحك والله من جسدك إلى الملكوت الأعلى وتزف بمواكب نورانية إلى الملكوت الأعلى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)

ثم قال لهم: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] عتاة طغاة متكبرون، إذا ضربوا الشخص آذوه وحطموه، يضربون بعنف، يأخذون بشدة لعتوهم وطغيانهم، وحقاً كانوا أعتى الناس، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر:6] المسماة إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8] وكان طول أحدهم ستين ذراعاً، وهذه العمارة التي بنوها المسماة بإرم هي ذات عماد، ومع هذا أزالها الله فأذهبها بما فيها.

ألم ينته إلى علمك يا رسولنا كيف فعلنا بعاد إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]؟!

فهو يقول لهم: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ [الشعراء:129-130] بأحد بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] لا رحمة ولا شيء، ولا.. ولا.. إلا العنف والغلظة؛ لأنهم جبابرة.

ومعنى هذا: أن المؤمن لا يكون عنيفاً ولا شديداً، فلا يبطش بالناس ولكن بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة وباليد اللينة وليس بالعنف والشدة.

إذا أردت أن تؤدب ولدك فلا تؤدبه بالعنف والشدة أبداً؛ لأن هذا ذمهم تعالى به فقال: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] والجبار هو الذي يجبر الناس على ما يريده رغم أنوفهم.

إذاً: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:131] كرر الدعوة! يا قوم عاد! يا عاد اتقوا الله وأطيعون.. اتقوا الله: آمنوا به ووحدوه واعبدوه وأطيعون فيما أبين لكم من الحلال والحرام وأنواع العبادة، افعلوا كذا واتركوا كذا؛ إذ هذه مهمة الرسول بينكم، ولا بد من طاعة الرسول.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ...)

ثم قال: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء:132] خافوا الرب العظيم الذي أعطاكم وأنعم عليكم وأمدكم وزادكم بما تعلمون.

أَمَدَّكُمْ [الشعراء:133] أولاً بِأَنْعَامٍ [الشعراء:133] الإبل، البقر، الغنم، الماعز، الضأن.. كل أنواع الأنعام عندهم، أنواع الأنعام أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ [الشعراء:133] كلهم لهم أولاد ممكن الواحد عنده خمسين ولد أو ستون.. أجسام جبارة قوية وطغاة وكذا وأمدهم الله بهذه النعم ليمتحنهم ويبتليهم.

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ [الشعراء:133] أي: وأولاد وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:134] بساتين ضخمة لا يقادر قدرها. وعيون: ماء عذب يتفجر هنا وهناك يسقون به مزارعهم وبساتينهم.

من أعطاكم هذا؟ أليس الله؟ أنتم وجدتم شيئاً؟ اتقوا الله واعبدوه، اتقوا الله الذي أمدكم بأنعام وبنين، وبجنات وعيون.

تفسير قوله تعالى: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)

ثم قال لهم: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] وهو يوم هلاكهم وعذاب بعثهم وجزائهم في الدار الآخرة.

ومن سورة الأحقاف، والأحقاف: هي الرمال من حضرموت إلى عمان، جاء في هذه السورة قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [الأحقاف:21] من هو أخو عاد؟ هود عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف:21-22] في آيات كثيرة لهذه القصة من سورة الأحقاف مبينة مفصلة.

هكذا يعظهم ويذكرهم ويقول لهم: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] عذاب يوم هلاكهم، وقد أهلكهم الله فقط بريح ولكنها صرصر سبع ليال وثمانية أيام فوالله ما بقي على وجه الأرض أحد من ديارهم، سبع ليالي وثمانية أيام والريح العاصفة تقتلع الأشجار وتهدم المباني والقصور كاملاً عن آخرها.

وعندنا لطيفة: آخر أيام البرد تسمى قرة العجوز. قالوا: الريح العاصفة هذه لما دمرت كل شيء كان هناك عجوز هربت ودخلت في غار بعيد في جبل وإذا بالريح في اليوم الثامن أو في الليلة السابعة تدور حتى دخلت ذلك الغار وضربتها على حافة الغار ولذلك تسمى بقرة العجوز.

إذاً: هنا يقول الله: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:123-124].

ومن سورة الحاقة: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]؟ والله لا شيء.

تعرفون النخيل إذا حطمت وكسرت على الأرض صارت أجسامهم كذلك لطولهم كالنخيل كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8] يا رسولنا؟ الجواب: لا.

إذاً: لم لا يتذكر ويتعظ بهذا أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وفلان.. وفلان؛ إذ من أجلهم نزلت هذه القصة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا سواء أوعظت أم لم تكن من الواعظين ...)

قال لهم رسولهم: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] فماذا قالوا هم؟ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136] قل ما شئت، ذكرنا، خوفنا، عظنا بالخير.. ما نحن بمستجيبين؛ وذلك لطغيانهم وجبروتهم وعتوهم، ما خافوا ولا ارتابوا، حتى قالوا: سواء علينا أوعظتنا أم لم تعظنا كل هذا سواء، تكلم أو اسكت، قل ما شئت فلسنا بمستجيبين لك.

وعللوا لذلك بقولهم: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] هذه عادات ممن مضى من الأمم تقولها وترددها لا أقل ولا أكثر، ما هي إلا أخلاق الأولين وعاداتهم. ومعنى هذا أسكتوه! أبطلوا دعوته، لا استجابة أبداً، فلم يبق إذاً إلا نقمة الله عز وجل.

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:138] ما تهددنا به لن يقع أبداً، هذا كله مضت به أجيال وتحدث به الناس، وأنت تكرره وتعيده وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:138].

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)

ثم قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:139].

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [الشعراء:139] كذبوه.. وبعد أن قام بينهم عشرات السنين وما استجابوا أهلكناهم عن آخرهم، والله ما نجا إلا هود والجماعة المؤمنة، رحلوا من البلاد قبل نزول العذاب واتجهوا شمالاً إلى مدائن صالح.

وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ [الشعراء:139] الذي سمعتم من القصص لَآيَةً [الشعراء:139] علامة ظاهرة كالشمس في السماء.. كالقمر في السماء تدل على أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يعبد إلا الله، وأنه يجب أن يعبد الله ويتقى.

هذه هي الآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:139] لعلم الله تعالى بأن أولئك الطغاة في مكة لا يؤمنون.. ما آمن أكثرهم وهلكوا في بدر فإلى جهنم.

وَإِنَّ رَبَّكَ [الشعراء:140] يا رسولنا صلى الله عليه وسلم لَهُوَ الْعَزِيزُ [الشعراء:140] الغالب الذي لا يمانع فيما يريده أحد، إذا أراد أن يهلك أمة أو فرد أو جماعة يهلكهم.

الرَّحِيمُ [الشعراء:140] بأوليائه وصالح عباده. هذه صفاته: العزة والغلبة والقهر للطغاة والجبابرة والكافرين الفساق، والرحمة والرأفة واللطف بالمؤمنين الصالحين. هذه سنة الله في خلقه.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: الأمر بالتقوى من النصائح المأمور بها؛ لأن النجاة والفوز لا يتمان للعبد إلا عليها ].

من هداية الآيات: أنها تأمرنا بتقوى الله عز وجل، بأن نطيعه ونطيع رسوله فنحب ما يحبان ونكره ما يكرهان، ونجاهد أنفسنا والشياطين، ونعتز بصلتنا برب العالمين؛ إذ التقوى هي الخطوة الثانية لدخول الجنة، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فالآيات والله تأمرنا بأن نتقي ربنا.

كيف نتقيه؟ نحبه ونطيعه، نحب رسوله ونطيعه.. بهذا تكون تقوانا، ولكن لا بد من العلم أي: معرفة ما نحب وما نكره مما يحب ربنا ويكره، والجهل لا مقام له بيننا.

[ ثانياً: الرسل أمناء على ما يحملون وما يبلغون الناس ].

وهذه قاعدة عامة: الرسل عامة ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً كلهم موصوفون بالأمانة، كلهم أمناء على ما يبلغون العباد من دين الله وشرعه، فالله وصفهم بالأمانة رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:125].

[ ثالثاً: حرمة أخذ الأجرة على بيان الشرع والدعوة إلى ذلك ].

من هداية الآيات: حرمة أخذ الأجرة على دعوة الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يقول: يا فلان تعال أعلمك وأهديك وأرشدك إلى الحق ولكن مقابل ثمن تعطينيه. والله لا يجوز.

أو تقول: تعال أعلمك كيف تتوضأ ولكن هات عشرة ريال. والله لا يجوز. أخذ الأجرة على الدعوة ممنوع محرم، وربنا هو الذي أمره أن يقول لهم: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:127].

[ رابعاً: ينبغي للعبد أن لا يسرف فيبني ما لا يسكن ويدخر ما لا يأكل ].

ينبغي للمؤمن ألا يسرف لا في البناء فيبني العمارات ولا يسكنها.. يبني القصور ولا ينزل فيها، ولا في اللباس، ولا في الطعام، ولا في الشراب، ولا في المركوب.. سيارة عند الباب فلم تضع عشر سيارات؟

الإسراف ممنوع والله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، وندد بقوم عاد على المفاخرة بالقصور والمباني العالية.

[ خامساً: استنكار العنف والشدة في الأخذ وعند المؤاخذة ].

استنكار العنف والشدة في الأخذ والعطاء: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] فالمؤمن لين، سهل، رقيق العاطفة، ما هو غليظ ولا شديد ولا عنيف أبداً؛ لأنه ولي الله الرحمن الرحيم.

[ سادساً: تنويع أسلوب الدعوة وتذكير الجاحدين بما هو محسوس لديهم مرئي لهم ].

الدعاة ينوعون دعوتهم بأساليب متعددة حتى يهدوا الناس إلى ربهم، ولا يلتزمون مبدأ واحداً فقط، بل ينوعون الأحاديث والأنباء والقصص لأجل هداية الناس.

[ سابعاً: التخويف من عذاب الله والتحذير من عاقبة عصيانه من أساليب الدعوة ].

من أساليب الدعوة: التحذير من معصية الله، والترغيب في طاعة الله بأساليب الترغيب وأساليب التحذير والإنذار، وهذا هود عليه السلام استعمل هذا الأسلوب فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135] حذرهم من يوم يهلكون فيه وقد تم هلاكهم فيه.

[ ثامناً: بيان سنة الناس في التقليد واتباع آبائهم وإن كانوا ضلالاً جاهلين ].

بيان سنة موجودة عندنا في كل مكان: التقليد للآباء والأجداد بدون دليل ولا علم ولا.. ولا، فقط وجدنا أهل بلادنا يعملون هذا فنعمله، والتقليد ممنوع في الإسلام.

ولنا أن نقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلد علماء الأمة إذا ما عندنا علم ونقتدي بهم، أما أن نقلد عوام الناس وآباءنا وأجدادنا فلا، ولا نقول: قريتنا دائماً فيها كذا وكذا.

على سبيل المثال: سألني الآن سائل يقول: هل نقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ونحن حاملون للجنازة؟

حذر العلماء من هذه البدعة من سنين، وبقي أناس مصرين عليها، يقولون: وجدنا آباءنا وأجدادنا يفعلون هذا.

ما الدليل؟ فقط وجدنا آباءنا.. لا ينفع هذا. الدليل قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الآية تحذرنا من التقليد الأعمى، فلا نقلد ولكن نقتدي بأهل الاقتداء ونأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

[ تاسعاً] وأخيراً [ تقرير التوحيد والنبوة والبعث إذ هو المقصود من هذا القصص ].

تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر، وهذه السور المكية كلها تعمل على تحقيق هذه المبادئ الثلاثة: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وبين رسوله، وأن عملنا هذا ما نطلب جزاءه اليوم إنما جزاؤه في الدار الآخرة، بعد موتنا نتلقى هذا الجزاء.. تعبد الله وأنت جائع، تعبد الله وأنت عار، تسأل الله وأنت تتألم.. فلا تقل: لم وأنا أعبد الله؟ لأن الجزاء ليس هنا، اعمل فقط والجزاء بعد وفاتك يا عبد الله.

والله تعالى أسأل أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشعراء (10) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net