إسلام ويب

لما كان المشركون يدعون رسول الله أنه كاهن تارة، وأنه شاعر تارة أخرى، بين لهم سبحانه هنا أن الشياطين لا تتنزل إلا على من خبثت نفسه من الكهنة والسحرة والدجالين، وأن الشعراء في كل واد يهيمون، وفي كل فن من فنون الشعر ينظمون، أما محمد فإنه الصادق الأمين الذي يأتيه الوحي بواسطة سيد الملائكة جبريل، وقد جاء بالحق من ربه ليبلغ رسالة محددة ينتفع بها من آمن وصدق، ويحق القول على من كذب وكفر ولم يرد إلا الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن مع سورة الشعراء المكية، فتأملوا الآيات!

قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:221-227].

معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221] سبق في الآيات الماضية أن المشركين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما يقوله من القرآن هو من تنزيل الشياطين، وأبطل الله ذلك في تلك الآيات بالحجة والبراهين، وهنا يقول تعالى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ [الشعراء:221] أي: هل أخبركم خبر الصدق والحق عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221]؟ تَنَزَّلُ [الشعراء:221] والأصل تتنزل وحذفت التاء للتخفيف، تتنزل عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222]. والأفاك: الكذاب الذي يأفك الكذب.. يقلبه، كأن يقول في الرجل الصالح فاسد، وكأن يقول في الخير شر، كأن يقول في الباطل حق.. يعكس، يرد الشيء إلى نقيضه، هذا هو الأفاك والعياذ بالله الذي يكذب الكذب المقلوب.

والأثيم: الغارق في الإثم ما خرج منه. والإثم: كل كلمة من شأنها أن تسود القلب وتعفنه!، كل معصية لله ولرسوله يقال فيها إثم، وهي تفسد القلب الإنساني وتلطخه بأوضار الذنوب والآثام، فيعمى الرجل ويصبح ميتاً لا يفرق بين الحق والباطل.. كالكافرين والمشركين.

أبطل الله دعواهم ثم أخبر أن من تنزل عليهم الشياطين هم أصحاب الذنوب والآثام.

وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأثم؟ والله ما كذب كذبة قط طول عمره! والله ما فعل إثماً قطاً منذ أن خلقه الله! معصوم.. من يوم ما ولدته أمه ما قارف ذنباً ولا خالط سوءاً أبداً، فكيف إذاً تنزل عليه الشياطين؟

الشياطين تتنزل بدعواها وأخبارها وأباطيلها على أصحاب القلوب العفنة المنتنة المظلمة من أهل الشرك والكفر والآثام، أما أصحاب القلوب النقية الطاهرة والأرواح الزكية بالإيمان وصالح الأعمال فلا تستطيع الشياطين أن تنزل عليها.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221] ؟ قولوا: نبئنا ربنا. الجواب: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] الذين توغلوا في الخبث والشر والفساد الشياطين تتنزل عليهم وتخبرهم بأخبار غيبية، وهذا يدخل فيه كل الكهان الذين يتصلون بالجان ويتحدثون معهم ويخدمونهم ويساعدونهم، هؤلاء الذين فسدت قلوبهم وما أصبحت كقلوب الإنسان، هؤلاء تتنزل عليهم الشياطين.

ومن هنا دعوى أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تتنزل عليه الشياطين بالقرآن دعوى باطلة لا وجود لها، والدليل: أنه معصوم من كل إثم وخطيئة، منذ أن ولدته أمه ما قارف ذنباً، فكيف تنزل عليه الشياطين وتوحي إليه؟!

المهم أن تلك الفرية والكذبة التي قالها المشركون أبطلها الله في الآيات السابقة وزاد إنهاءً لها ولم يبق أبداً شيء يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الكذبة فقال: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] وحاشا رسول الله أن يكون أفاكاً كذاباً، أو يكون أثيماً يقارف الذنوب والآثام، والله ما كان، فدعواهم باطلة.

تفسير قوله تعالى: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون)

ثم قال تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] من الذين يلقون السمع؟ الشياطين. يلقون السمع في آذان إخوانهم من الإنس وأكثرهم كاذبون.

الشيطان أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسترق السمع من السماء فإذا ما رمي بشهاب واحترق استرق كلمة من كلمات الملائكة في السماء ينزل بها إلى إخوانه في الأرض ويضيف إلى الكلمة مائة كذبة. بهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشياطين يسترقون السمع من الملائكة في السماء، لكن الملائكة ترجمهم بالشهب ولكن قد يختطف كلمة يسمعها من ملك فيقولها.. ينزل بها على من؟ يلقيها إلى من؟ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] على الكاذبين من إخوانهم وهم الكهان الذين يدعون أن الجن تخبرهم وأنهم يتحكمون في الجن ويطلبون منها كذا وتعطيهم كذا وهي أباطيل.

الذين خبثت أنفسهم وأصبحوا من أهل الآثام والإفك تتنزل عليهم الشياطين بالأخبار لكنها كلها كذب، ويشهد لهذا قوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223].

يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشعراء:223] أي: الكلام في أذن الإنس الذين هم إخوانهم، وأكثرهم يكذبون ويقولون الباطل، ونسبة الكذب مائة إلى واحد. وهنا انتهت فرية المشركين ودعواهم أن الرسول يتلقى القرآن من الشياطين وتنزل به عليه.

تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)

ثم قال تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] هنا أيضاً يبطل فرية أخرى عظيمة إذ قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر. اتهموه بالشعر ووصفوه به، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شاعراً، فما قال بيتاً من الشعر أبداً. ولكن.. كيف يصرفون الناس عنه؟ مرة يقولون: أفاك. ومرة يقولون: شاعر. ومرة يقولون: ساحر. ومرة يقولون: يتلقى هذا الكلام من الشياطين. وكل ذلك حتى يصرفوا الناس عن دعوة الإسلام فلا يدخلون في الإسلام.

ومن جملة الأباطيل والترهات والأكاذيب: قولهم: أن محمداً شاعر. فقال تعالى: وَالشُّعَرَاءُ [الشعراء:224] من يتبعهم؟ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] الشعراء.. أرباب الشعر وأصحابه الذين يشعرون ويقولون الشعر هؤلاء يتبعهم الغاوون من أهل الغي والفساد والكذب والزنا والخمر وما إلى ذلك

وهذه حقيقة باقية إلى اليوم! الشعراء من يجري وراءهم؟ من يقدسهم؟ من يحبهم؟ من يقول بهم؟

الغاوون. من هم الغاوون؟ الفاسدون الذين فسدت نفوسهم وغويت بالذنب والإثم.

أبطل تعالى هذه الفرية ودفعها دفعاً بعيداً بقوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ [الشعراء:224] من؟ الْغَاوُونَ [الشعراء:224].

من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أبو بكر الصديق هل هو غاو؟ هل عمر غاو؟ عثمان غاو؟ بلال غاو؟ الجواب: والله ما كان رضي الله عنهم.

انظر إلى الشعراء يلتف حولهم أصحاب الخمر والأغاني والزنا والفجور.. هذه وحدها كافية: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224].

ومحمد من يتبعه؟ المصلحون الصالحون الطاهرون الطيبون، فكيف إذاً تقولون شاعر؟ فأبطل هذه الفرية إبطالاً كاملاً بهذه الحجة.. من هم أتباع محمد؟ هل بينهم من يشرب الخمر ويلعب القمار؟ الجواب: لا. هل بينهم من يزني ويفجر؟ لا أبداً. هل بينهم من يتغنى بالنساء؟ أبداً.

فأبطل هذه كما أبطل الأولى، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يتلق أبداً من الشياطين الأقوال والكلمات، ولا هو أيضاً شاعر؛ لأنه لو كان شاعراً لاتبعه الغاوون، لكن الذين اتبعوه صالحون مصلحون من أبي بكر إلى بلال وفلان وفلان رضي الله عنهم.

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] وإلى الآن أصحاب الشعر من أهل الزنا والخمر والباطل يلتف حولهم الغاوون الذين لا يعبدون الله ولكن يعبدون الهوى والدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ...)

ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ [الشعراء:225] أيها السامع أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:225] إذا أحببت وأردت أن تدافع عن الشعراء ولماذا يهانون كذا وكذا فاسمع! أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ [الشعراء:225] من أودية الباطل والشر يَهِيمُونَ [الشعراء:225] كالبهائم، يمدحون العاهرة ويرفعونها إلى عنان السماء، ويتمجدون ويتمدحون بشرير من أخبث الناس وأنتنهم.

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ [الشعراء:225] من أودية الباطل والشر والفساد يهيمون كالبهائم على وجوههم؟ فكيف يكون رسول الله شاعراً؟ حاشاه!

والدليل الأول: أن أتباعه مصلحون طيبون طاهرون، وأتباع الشعراء فاسدون غاوون.

ثانياً: الشعراء يقولون كل باطل، والرسول والله لا يصدر منه إلا الصدق والحق، وهذا كلام الله من أوله إلى آخره، ليس فيه كلمة باطلة!

أَلَمْ تَرَ [الشعراء:225] أي: ألم ينته إلى علمك أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226]؟

الشعراء يقولون في شعرهم ما لا يفعلون. الشعراء: جمع شاعر: وهو الذي ينظم الكلام بقواعد خاصة عندهم وأنظمة خاصة بالشعر. فهل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام الشعراء؟ كلا.

وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:226] يتبجحون وينطقون بكذا ويمدحون وهم لا يفعلون شيئاً مما يقولون.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً ...)

ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

هنا وقبل أن تنزل هذه الآية الكريمة جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون، وهم من أفاضل الشعراء وأكابرهم، كانوا يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءوا يبكون، فسألهم: ما يبكيكم؟ قالوا: نزل القرآن فينا: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226]، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الآية: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227] فمن هنا الشعر إذا كان من باب نصرة الدين الإسلامي ودعاته وحماته فلا بأس به، وكذا إذا كان في نظم الحكم والعلوم والمعارف لا بأس به.. مشروع، وإذا كان في الدفاع عن الحق وأهله لا بأس به أيضاً، وما عدا ذلك فهو باطل، وهاهو ذا أبو سفيان قبل أن يسلم يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره فرد عليه حسان بن ثابت يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:

هجوت محمداً فأجبت عنهوعند الله في ذاك الجزاء

فإن أبي ووالدتي وعرضيلعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفءفشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيهوبحري لا تكدره الدلاء

ونعود إلى تقرير هذه الحقيقة: الشعر منه المذموم، ومنه المحمود، فما كان من أجل الزنا والعهر والربا والخمر والباطل والتمدح بالكذب، ومدح أصحاب الأهواء فهذا حرام ولا يصح من المؤمنين، وما كان لنظم الحكم والعلم والمعرفة، أو للدفاع عن الإسلام وعن رسول الإسلام، وعن عظماء المسلمين فهو محمود ولا بأس به، والله أجازه في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227] هؤلاء شعرهم محمود، وهم مقربون ومحمودون.

كم صفة لهم؟ ثلاث صفات: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، كما انتصر حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( اهجهم يا حسان ! اهجهم يا حسان ! ) وقد برز في الدفاع عن الإسلام ورسول الله هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم وأرضاهم.

وأخيراً: يختم الله هذه السورة لكل ما فيها فيقول: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وسيعلم الذين ظلموا بالشرك والكفر وآذوا رسول الله، وحاربوا دعوته، ووقفوا في وجه المؤمنين والمسلمين يحاربونهم؛ هؤلاء سيعلمون أي منقلب ينقلبونه.. يصبحون كالقردة والخنازير في جهنم.. يصبحون شر الخلق. فنبرأ إلى الله من الظلم والظالمين.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

تأملوا الآيات! هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221]؟ بلى نبئنا يا ربنا. قال: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] والعياذ بالله. نعوذ بالله أن نكون من الأفاكين الآثمين!

من هو الأفاك؟ الذي يقلب الكذبة، الحق يقول فيه باطل، والخير شر، والخبث طهر .. هذا هو الأفاك.

والأثيم: المغموس في الذنوب والآثام، إذا تكلم فبالإثم، وإذا أكل آثم.. شرب آثم.. حياته كلها إثم. هذا الأثيم والعياذ بالله.. هذا الذي تتنزل عليه الشياطين.

لما خبث وأصبحت نفسه منتنة لا علاقة لها بالملكوت الأعلى حينئذ الشياطين تجد مكاناً تنزل فيه؛ لأنها خبيثة فتنزل في خبث تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] .

يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشعراء:223] إلى من؟ إلى أوليائهم الكهنة والسحرة والدجالين .. يلقون السمع إليهم، وقد أخبر الرسول بذلك فقال: ( يقر في أذنه كما تقر الدجاجة ) والعياذ بالله.

وهنا انتهت الآيات من موضوع التدجيل والكذب والادعاء الباطل ونفي أن الشياطين تتنزل على الرسول بالقرآن وجاء أمر ثان: قال تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] أبطل الفرية الأولى وأن الرسول ليس بشيطان ولا يتلقى عن الشياطين، ولا تتنزل عليه الشياطين.

وأبطل الفرية الثانية: وهي قولهم: الرسول شاعر من الشعراء. لما يعجب السامعون يقولون: هذا شاعر! وهذا شأن الشعراء، فأبطل الله هذه الفرية إبطالاً كاملاً. أولاً: الرسول ما قال شعراً أبداً، ولا نظم بيتاً.. حفظه الله عز وجل من ذلك.

ثانياً: الشعراء كيف هم؟ والشعراء من يتبعهم؟ من يجلس معهم؟ من يحمدهم ويثني عليهم؟ الجواب: الغاوون؛ لأن الشعراء يتمدحون بالعهر والزنا والخمر.. وما إلى ذلك من أنواع الباطل، أو يتمدحون لأجل يأكلوا أموال الناس، فيحمدون الضال ويشكرون الكافر الفاسق .. هذه حالهم.

من يلتف حولهم ويمشي وراءهم ويقول بقولهم؟ أمثالهم الغاوون: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، والغاوون: جمع غاوي. والغاوي: الفاسد بالذنوب والآثام.

ثم بين تعالى حال الشعراء، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:225]، يخلطون ويخبطون، ويقولون في كل المجالس الكلام.

وهل الرسول كان يقول هذا؟ لا. فدعوته واضحة: لا يعبد إلا الله بما شرع الله، ليسعد العابدون ويكملوا في دنياهم وأخراهم .. القرآن كله هذه دعوته: أن يعبد الله وحده بما شرع؛ ليسعد العابدون ويكملوا في الدنيا ويسعدوا في الآخرة، فلا خلط ولا خبط أبداً.

والشعراء في كل واد يهيمون أولاً وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:226] ثانياً.

راجعوا شعر الشعراء العرب في الجاهلية تجدونهم يقولون ما لا يفعلون، وإلى اليوم أيضاً الشعراء الذين همهم الشعر ولا يصلون ولا يصومون ولا.. ولا، شأنهم هكذا يقولون ما لا يفعلون.

ثم استثنى الرب تعالى الشعراء المسلمين الربانيين، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227] أولاً بالله ولقائه ورسوله. ثانياً: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وجاهدوا في سبيل الله. ثالثاً: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الشعراء:227] ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله عز وجل. وأخيراً: وَانتَصَرُوا [الشعراء:227] للحق وأهله من الظالمين وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227] انتصروا ممن ظلمهم انتصروا أيضاً ودفعوا الظلم عنهم.

وهنا كلمة للإمام الشافعي وهو قرشي هاشمي يقول: لولا أن الشعر بالعلماء يزري لكنت أشعر من لبيد.

هذا الإمام الشافعي يقول: لولا أن الشعر بالعلماء يزري لكنت أشعر من لبيد ، ولكن لا نقول الشعر.

إذاً: أبطل الله عز وجل الفريتين: فرسول الله لا يتلقى الوحي عن الشياطين، ولا رسول الله شاعر من الشعراء الكاذبين الذين يتبعهم الغاوون.

ثم أذن لنا ورخص أن نقول شعراً ندفع به عن الإسلام والمسلمين، أو ننظم قصيدة فيها حكم وآراء وعلم ومعرفة كسائر العلوم.

ثم ختم الله هذه السورة بقوله: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الشعراء:227]، سيعلمون بعد موتهم ما إن تخرج أرواحهم حتى يعرفوا حقيقتهم ومصيرهم أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، والله ليكون أسوأ من القردة والخنازير، فنبرأ إلى الله من الظلم وأهله.

والآية تندد بالظلم فما قال: سيعلم الشعراء، ولا سيعلم الكذابون.. كذا، بل قال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الشعراء:227] حتى لا يظلم المؤمن أخيه المؤمن.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات:

لما ادعى المبطلون من مشركي قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى من الشياطين] كلامه ووحيه [ كما تتلقى الكهان منهم؛ رد تعالى عليهم هذا بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221]؟ وأجاب عن السؤال قائلاً: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ [الشعراء:222] كذاب يقلب الكذبة قلباً، فيقول في الظالم: عادل. وفي الخبيث: طيب. وفي الفاسد: صالح] هذا هو القلب [ أَثِيمٍ [الشعراء:222] أي: كثير الآثام إذ لم يترك جريمة إلا يقارفها، ولا سيئة إلا يجترحها؛ حتى يغرق في الإثم. فهذا الذي تتحد معه الشياطين، وتلقي إليه بما تسمعه من السماء؛ لكونه مثلها في ظلمة النفس وخبث الروح. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أبعد الناس عن الكذب والإثم، فلم يجرب عليه كذب قط، ولم يعرف منه ذنب أبداً، فكيف إذاً تتحد معه الشياطين وتخبره وتلقي إليه بخبر السماء؟ وبهذا بطلت التهمة.

وقوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] أي: إن الشياطين قبل أن يحال بينهم وبين استراق السمع بإرصاد الشهب لهم كانوا يلقون أسماعهم للحصول على الخبر وأكثرهم كاذبون، حيث يخلطون مع الكلمة التي سمعوها مائة كلمة كلها كذب منهم] والعياذ بالله [ ويلقون ذلك الكذب إلى إخوانهم في الكفر والخبث من كهنة الناس] وسحارهم.

[ وقوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] أي: أهل الغواية والضلال هم الذين يتبعون الشعراء، فيروون لهم] أشعارهم [ وينقلون عنهم] أخبارهم [ ويصدقونهم فيما يقولون. والدليل على ذلك: أَنَّهُمْ [الشعراء:225] أي: الشعراء فِي كُلِّ وَادٍ [الشعراء:225] من أودية الكلام وفنونه يَهِيمُونَ [الشعراء:225]، أي: على وجوههم ماضون في قولهم، فيمدحون ويذمون، يهجون ويفخرون، ويدعون أنهم فعلوا كذا وكذا، وما فعلوا، فهل محمد صلى الله عليه وسلم الذي اتهمتموه بأنه شاعر وما يقوله من جنس الشعر أتباعه غاوون؟ انظروا إليهم واسألوا عنهم، فإنهم أهدى الناس وأبرهم فعلاً وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم عن الريبة، فلو كان محمد شاعراً لكان أتباعه الغاوين، فبهذا بطلت الدعوى من أساسها.

وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، إنه لما ذم الشعراء استثنى منهم أمثال عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت ممن آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا، يردون هجاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينافحون عن الإسلام وأهله بشعرهم الصادق النقي الطاهر الوفي.

وقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الشعراء:227]] ظلموا من؟ [ رسول الله صلى الله عليه وسلم باتهامهم له بالكهانة مرة، وبالشعر مرة أخرى، وظلموا الوحي الإلهي بوصفه بما هو بعيد عنه من الكهانة والشعر.

أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] أي مرجع يرجعون إليه. إنه النار وبئس القرار ] والعياذ بالله الواحد القهار.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: إبطال فرية المشركين من أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان ]. إبطال ما ادعاه المشركون الظالمون من أن القرآن من جنس ما يقوله الشياطين وتلقيه على السحرة والكهنة، فأبطل الله هذا إبطالاً كاملاً في الآية الأولى حيث قال: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212].

[ ثانياً: إبطال أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن وشاعر ]. أبطلت الآيات دعوى المشركين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كاهناً كالكهان وكان شاعراً من جملة الشعراء، فأبطل الله هذه الفرية من أساسها، ووالله ما كان شاعراً ولا كان كاهناً، ولكن الله انتزع هذا من صدور الضلال الهالكين.

[ ثالثاً: بيان أن الشياطين تتحد مع ذوي الأرواح الخبيثة بالإفك والآثام ].

شياطين الجن تتحد مع أصحاب النفوس الخبيثة والقلوب الميتة وتوحي إليهم وتتحدث معهم، وتزين لهم الباطل؛ وذلك لأنهم من جنس واحد، هؤلاء شياطين الإنس وهؤلاء شياطين الجن، فبينهم أخوة صادقة؛ فيتعاونون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد وتكفير البشرية والإثم معهم حتى لا يدخلوا الجنة.

قال: [ وفي الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال: ليسوا بشيء )]. سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكهان قال: ( ليسوا بشيء ) أبداً [ ( قيل: يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً! )] يقع في الدهر مرة. فبم أجاب الرسول؟ [ ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة )] كما تقدم. الكلمة يختطفها من الملك في السماء؛ لأنه يترصد هذا، فإذا فاز بكلمة يأتي بها ويقرها في أذن وليه من البشر، وعلى هذه الكلمة يضيفون مائة كلمة.. يضيفون إليها مائة كذبة والعياذ بالله، فلهذا لا يصلح تصديق الكاهن ولا الساحر أبداً ولا العراف.

[ رابعاً: بيان أن الشعراء المبطلين أتباعهم في كل زمان ومكان هم الغاوون الضالون ].

الشعراء المبطلون أتباعهم في كل زمان ومكان الغاوون، لا يتبعهم إلا الغاوون الفاسدون، أما أهل الإيمان وصالح الأعمال والاستقامة فلا يجالسونهم ولا يأخذون عنهم ولا يتمدحون بهم، لكن الشعراء الغاوون المفسدون يتبعهم الغاوون.

[ خامساً: جواز نظم الشعر وقوله في تقرير علم، أو تسجيل حكمة، أو انتصار للإسلام والمسلمين بالرد على من يهجو الإسلام والمسلمين ]. كما قدمنا، جواز قول الشعر ونظمه ونقله وروايته إن كان في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وإن كان في نصرة الحق وأهله، وإن كان لبيان الحكمة والعلم.. لا بأس به ولا حرج فيه، مأذون فيه، لكن إذا كان من أجل تزيين الباطل وتحسين القبائح والدعوة إلى الفتن والشر والفساد فذلك الشعر المحرم، وأصحابه في النار والعياذ بالله.

[ سادساً:] وأخيراً [ التحذير من عاقبة الظلم فإنها وخيمة ] والله نسأل أن لا نكون من الظالمين.

اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين الصالحين! وأبعدنا عن الظالمين والفاسدين يا رب العالمين! وتوفنا وأنت راض عنا! وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشعراء (17) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net