إسلام ويب

ابتدأ الله عز وجل خلق آدم عليه السلام من طين، ثم خلق ذريته من سلالة من ماء مهين، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وسخر لهم ما في الأرض جميعاً، ثم هو سبحانه الذي يدبر أمر مخلوقاته من فوق سبع سماوات، فهو سبحانه المستحق للتوحيد، وهو سبحانه الذي يطاع فلا يعصى، وهو سبحانه الذي يشكر فلا يكفر، وهو الغني الحميد.

تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:5-9].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن قول ربنا جل ذكره: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ [السجدة:5] يعني: أن الله خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا، وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، والمسافة بين السماء والأرض هي خمسمائة سنة صعوداً، وخمسمائة أخرى هبوطاً.

وقوله: يُدَبِّرُ الأَمْرَ [السجدة:5]، أي: أمر المخلوقات، فيحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويعز ويذل، هذه التدابير كلها يدبرها الله عز وجل.

وقوله تعالى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة:5]. وهذا هو الذي يستحق أن يعبد وحده، وهذا هو الذي يجب أن نتقرب إليه وأن نتحبب إليه؛ ليحبنا ويقربنا، فهو الذي خلقنا ورزقنا، وهو الذي يدبر حياتنا كل يوم من هذه المسافة التي هي خمسمائة سنة صعوداً، وخمسمائة سنة هبوطاً. وهذا هو الله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه، الذي يجب على العبيد أن يتعرفوا عليه؛ ليرهبوه ويحبوه، ويرغبوا فيما عنده، ويعبدوه عبادة تسعدهم في دنياهم وأخراهم، لا أن يكفروا به ويتجاهلوه، ويعرضوا عن ذكره ويتمردوا على طاعته ويعصوه، فهذا هو الشقاء والخسران الأبدي، والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم)

قال تعالى: ذَلِكَ [السجدة:6]، أي: الله المدبر العليم الحكيم الإله الحق، الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [السجدة:6]. ونحن نعلم، لكن علمنا محدود إذا شاهدنا شيئاً علمناه وإذا غاب عنا لا نعلمه، أما الله عز وجل فهو يعلم الغيب والشهادة، والغائب عنده كالحاضر، فالكل عنده وبين يديه، فيجب علينا أن نرهبه ونخافه ونعظم شأنه، فهو يعلم ظاهرنا وباطننا، وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. ونحن لا ترتعد فرائصنا عند ذكره، بل ونجرؤ على معصيته والخروج عن طاعته.

ثم قال تعالى: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة:6]. والعزيز: هو الغالب الذي لا يغلب، فيعز أولياءه وينصرهم ويسعدهم، ويذل أعداءه ويقهرهم، ويسلط عليهم ما شاء من البلايا والرزايا، والرحيم: هو الذي يرحم أولياءه، فلا يضلهم ولا يشقيهم ولا يذلهم. فهذه صفاته الدائمة من قهر أعدائه وكسر أنوفهم؛ لأنهم عبدوا غيره، ونظروا إلى سواه، وأخلصوا العبادة لآلهتهم، مع أننا برحمة الله تعالى نعيش ونسمع ونبصر، ونجيء ونذهب، وننام ونستيقظ، ولولا رحمته بنا ما عشنا ولا عرفنا الحياة.

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)

قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7] من أراد أن يعرف الله معرفة حقيقية فلينظر إلى هذه المخلوقات كيف أحسن خلقها، وينظر إلى الإنسان كيف خلق وجهه وعينيه، وأنفه وشفتيه وفمه، ثم ينظر إلى عنقه وبدنه، وإلى يديه ورجليه. فالذي خلق هذا الخلق هو الله العظيم، وينظر إلى الحيوانات على اختلافها وتنوعها من السمكة في البحر إلى الفيل في الصحراء .. إلى الشاة في البر، بل ينظر إلى هذه المخلوقات كلها؛ يجد أن الذي خلقها فأحسن خلقها هو الله تعالى. والناس لا يعرفونه، بل يجهلونه، ويكفرون به ولا يؤمنون، وهذه المخلوقات هو الذي خلقها، فلا يوجد أحد يدعي أنه خلق نملة أو ذباباً، بل الذي خلقها هو الله خالق كل شيء. فيجب على عبيده أن يذكروه ويشكروه، ويتعرفوا عليه ويحبوه ويطيعوه؛ إذ هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم، وإليه مصيرهم ولابد، وسواء طال العمر أو قصر فلابد من العودة إلى الله. ولقد ذهبت أرواح من ماتوا وصلينا عليهم إلى الله، وإما أن يسعدها أو يشقيها. اللهم أسعد موتى المسلمين ولا تشقهم. آمين.

معنى قوله تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين)

قال تعالى: .. وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7]، أي :بدأ خلق عالم الإنس من طين، فأبونا آدم عليه السلام لم يخلق من الحديد ولا من العمد ولا من الخشب، ولكن خلق من مادة الطين المعروفة عندنا، فمنه خلق الله آدم، ثم نبأه وأعلى شأنه، وجعل ذريته من نسله مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]. فهذه من مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته، وكلها توجب علينا عبادته، والتحاب من أجله والتباغض من أجله؛ لأنه مولانا، ولا مولى لنا سواه.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)

قال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ [السجدة:8]، أي: ذريته ونحن منهم مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]. والسلالة: هي المني الذي ينسل من الذكر وينصب في الرحم، فهي ماء مهين، ليس بذهب ولا فضة، ولا حديد ولا ساج ولا عاج. ثم نجرؤ على معصية الله، ولا نشكره ولا نحمده. ولو أن واحداً من الناس صنع لك يداً لعبدته، ولو رد عليك بصرك بعدما فقدته لأجللته وأكبرته. فكيف بالذي وهبك حياتك كلها بكل ما فيها؟ فهذه مظاهر قدرته وعلمه وربوبيته المستوجبة لإلوهيته.

تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ...)

قال تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ [السجدة:9]، أي: طفلاً في الرحم. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه [السجدة:9]، أي: فكما سوى آدم من الطين ثم نفخ فيه من روحه فكذلك السلالة حين تصير مضغة ينفخ الله فيها الروح، فإذا هي إنسان يسمع ويبصر.

ثم قال تعالى ممتناً علينا: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [السجدة:9]. فالله لا يشاركه في هذا لا ولي ولا نبي، ولا ملك ولا مخلوق من المخلوقات، بل هو الذي جعل لنا السمع نسمع به الأصوات والنداءات، ولولاه ما كان لنا سمع أبداً، وهو الذي جعل لنا الأبصار، نبصر بها الكائنات بين أيدينا من النملة إلى النخلة بهذه المضغة من اللحم التي لا تساوي شيئاً. وهو الذي جعل لنا أفئدة وقلوباً نفكر بها ونعرف الأشياء، ولم تمتد إلينا يد أحد غيره أبداً.

ثم قال تعالى مخبراً عن الواقع: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:9]، أي: قليل شكركم، والشاكرون منا من كل ألف واحد، بل من كل مليون واحد، ولو نشكر الله عز وجل فقط على السمع والبصر والقلب طول النهار لا نفتر فلن نوفيه حقه.

فكيف نشكره على خلقنا وإيجادنا وعلى إيجاد المخلوقات كلها من أجلنا، وعلى إيجاد عالم السعادة وعالم الشقاء من أجلنا إننا لا نقدر على شكره؛ فلنعترف بالعجز، ولنواصل الشكر باللسان والقلب.

الشكر وأركانه

قد بينت للصالحين والصالحات غير ما مرة أن الشكر أولاً يبتدئ بالاعتراف بالقلب بالنعمة. فتعترف في قلبك بأن نعمة البصر والفؤاد مالكها وواهبها وخالقها هو الله، فتعترف لله بالنعمة.

ثانياً: تحمده باللسان ليلاً ونهاراً، فكلما ذكرت نعمه شكرته.

ثالثاً: من شكر الله على النعم أن نصرفها فيما يحب لا فيما يكره.

مثال ذلك: أن الله وهبك لساناً، فلا تنطق به بكلمة سوء يكرهها؛ فتكون من غير الشاكرين، وكذلك بصرك لا تنظر به شيئاً لا يريد الله أن تنظر إليه، وكذلك يدك لا تمدها في شيء لا يريدك الله أن تمدها له، وكذلك رجلك لا تمشي بها في المكان الذي لا يريدك الله أن تمشي إليه، وكذلك مالك سواء كان ديناراً أودرهماً لا تنفقه إلا حيث يرضى الله؛ لأنه هو الذي أنفقه عليك وأعطاك إياه، وقلبك لا تفكر به إلا في مرضاة الله وفيما يحبه الله، ولا تفكر به فيما يسخط الله ويؤذي عباد الله، هذا هو الشكر، وهو علة الحياة كلها. ولو سئلت عن سر هذه الحياة فقل: من أجل أن يذكر الله ويشكر، فويل للكافرين! وويل للغافلين!

ومن أجل أن يذكر ويشكر خلق السماوات والأرضيين وخلق آدم، ولهذا قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]. وعالم الملائكة لا يفتر عن ذكر الله قط، لا ليل ولا نهار ولا دقيقة ولا ساعة، ونحن بدل أن نذكره والعياذ بالله عز وجل نكفره ونجحده وننكره.

إذاً: هيا بنا نذكر ربنا ونشكره، ولا ننساه، ونحافظ على الصلوات الخمس في مواقيتها المحددة، فوالله إنها لمن مظاهر ذكر الله، فالذي يشهد الصلوات الخمس في جماعة المسلمين في بيت الرب والله إنه لمن الذاكرين الشاكرين، والذي يعرض عن بيوت الله وعن الصلاة فيها مع أولياء الله والله ما هو من الذاكرين والشاكرين.

ولا نكتفي بذكر الله في الصلاة بل نذكره ونحن ذاهبون وآيبون، وقاعدون وقائمون وفي كل حالاتنا، إلا في الحالات التي نكون فيها غير صالحين للذكر، كأن نكون في الحمام أو الخلاء أو غيره، وأما غير ذلك فحتى ونحن نمشي نقول: باسم الله، ونركب ونقول: باسم الله، ونأكل ونقول: باسم الله، ونذكر الله في جميع حياتنا. والجزاء عند ربنا، فعما قريب ننتقل إليه ونلقى جزاءنا بين يديه، فيرحمنا ويسعدنا، وينزلنا منازل الأبرار في دار السلام.

وصلى الله على نبينا، وآله وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة السجدة (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net