إسلام ويب

جاء الإسلام منظماً لحياة البشر، ومانعاً عنهم كل ما يمكن أن يفسد علاقاتهم، أو يعود بالضرر عليهم أو على أفراد منهم، ولذلك حرم الإسلام الظهار، وحرم أيضاً أن ينسب الرجل لغير أبيه، وتوعد من تعمد ذلك، أما من أخطأ فلا إثم عليه، والله غفور رحيم.

تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:4-5].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، أي: لم يجعل الله عز وجل لرجل من الرجال قلبين في جوفه.

سبب نزول قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ...)

سبب نزول قوله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]: يذكر أن رجلاً يقال له: أبو معمر جميل بن معمر من كفار قريش في مكة، وكان ذكياً فطناً، فأعجب الناس به وقالوا: إن له قلبين، واغتر هو وانخدع وقال: نعم، أنا لي قلبان. وشاء الله عز وجل أن تكون غزوة بدر أو وقعة بدر الكبرى، وجاء أبو معمر جميل بن معمر يقاتل، فانهزم مع من انهزموا، فرآه أبو سفيان رضي الله عنه وهو يجري هارباً، ونعل في يده وأخرى في رجله من شدة الهلع والفزع والخوف، فقد نزع نعلاً وجعلها في يده، والأخرى تركها في رجله، فرآه أبو سفيان يجري هارباً، فقال له: ما لك يا ذا القلبين؟! كيف القوم؟ قال: انهزموا. هذا ذا القلبين!

وكذلك بعض المنافقين -وكانوا كثيرين في المدينة في السنة الأولى والثانية من الهجرة- سها يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فتحدثوا فيما بينهم، وقالوا: لمحمد قلبان، قلب كان في الصلاة، وقلب انصرف عنها.

والمهم أنه شاعت هذه النظرية الباطلة، فاجتثها الله من أصلها وأبطلها، فقال عز وجل: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ [الأحزاب:4] لا أبيض ولا أسود .. لا في الأولين أو في الآخرين مِنْ قَلْبَيْنِ [الأحزاب:4] أبداً. وهو كذلك.

ولو جعل لرجل قلبين لافتتن؛ لأنه سيكون قلب يأمره وقلب ينهاه، فيضطربان، أو قلب يفرح ويضحك وقلب يبكي. ولذلك كان من تدبير الله عز وجل وقضائه في عباده أن جعل للإنسان قلباً واحداً، ولكن هناك ملك وهناك شيطان، وللملك لمة فيقول الخير، وللشيطان لمة فيقول الشر ويعمله، كما أخبر بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال تعالى هنا مبطلاً لهذه النظرية الباطلة: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]. هذه المسألة الأولى في الآية.

حكم من ظاهر زوجته

المسألة الثانية: قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]. ففي الجاهلية كان العربي في مكة وخارج مكة إذا قال لزوجته: أنت كأمي تحرم عليه، ويجعلها كأمه. وكانت هذه عادة باطلة شائعة منتشرة بين العرب، فكان إذا قال الرجل لزوجته: أنت كأمي تصبح في نظره كأمه، ولا يحل له أن يطأها.

وقد رفعت القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سورة المجادلة، فقال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:1-2]. وبين تعالى الحكم. فمن قال: لامرأته أنت كأمي فلن تكون كأمه أبداً، بل هي زوجته، وعليه كفارة مقابل هذه الكلمة الباطلة التي اجترأ عليها وقالها. هذه الكفارة بينها تعالى بقوله: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، أي: قبل أن يرجع إليها ويجامعها يعتق رقبة إن وجد الرقبة وقدر عليها، وإن لم يجد الرقبة أو ما استطاع؛ لأن ثمنها غالٍ فإذاً: يصوم شهرين متتابعين ويأتي زوجته، وإن عجز عن الصوم ولم يستطع فيطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين كيلو رز أو دقيق أو تمر، ثم يعود إلى زوجته. هذه في سورة المجادلة.

وأما هنا فهو إشارة إليها، فقال تعالى: كما لم يجعل لرجلٍ قلبين كذلك لم يجعل من أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]. ولن تكون أمك أبداً ولو قلت ألف مرة: أنت أمي، أو أنت علي كظهر أمي. فلن تكون أمك أبداً. ولكن أسأت وقلت منكراً وباطلاً، فامسح هذا الذنب بواحدة من ثلاثة، وراجع زوجك وارجع إلى زوجتك، وذلك أولاً: بأن تعتق رقبة، فإن لم تستطع فتصوم شهرين متتابعين، وإن لم تستطع الصيام لكبر .. لمرض تطعم ستين مسكيناً، وتعود لزوجتك، ومع هذا لو أنه وقع عليها قبل أن يكفر جاز له ذلك، ولا حرج.

ومعنى: تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ [الأحزاب:4] أي: تقولون: أنت علي كظهر أمي. فمعنى ظاهرها: جعلها كظهر أمه، فيقول: أنت علي كظهر أمي، أي: محرمة علي.

حكم التبني

المسألة الثالثة: قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]. وقد كان يجد أحدهم الطفل في الشارع .. تحت شجرة .. في ظل في كذا فيأخذه ويربيه، ويقول: هذا ولدي، ويقال فيه: ابن فلان.

ومن هؤلاء زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أخذ أسيراً من الشام، ثم بعد ذلك الذي أخذه واشتراه وهبه لعمته خديجة رضي الله عنها، فبقي زيد عند خديجة ، فلما تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهبته إياه، وأعطته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال: زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، وبقي كذلك في مكة، ثم جاء إلى المدينة بهذا الاسم، حتى نزلت هذه السورة وهذه الآية، فأبطل الله التبني إبطالاً كاملاً. فلا يحل لمؤمن أن يتبنى رجلاً أو طفلاً، ويقول: ابني، وهو ليس ابنه، و( من قال هذا ولدي وهو كاذب فقد حرمت عليه الجنة )، وفي رواية: ( قد كفر ). وهذا لقبح هذه القضية. وقد قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4] أبداً.

فمن وجد طفلاً في المستشفى -كما يحدث الآن- وأخذه ورباه فليعلم أنه يحرم عليه حرماناً أبدياً أن يقول: هذا ولدي، وإنما يقول: هذا أخي، أو ابن عمي فقط؛ وذلك لقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]. وإذا لم يعرف أبوه فيقول: أخي أو ابن أخي أو ابن عمي فقط، وإن كان عبداً وتحرر فيقول: هذا مولاي، ولذلك كان زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4] فقط، أي: عندما تقول: هذا ابني، وإلا فهو ليس ابنك والله، وإنما ابنك الذي يخرج من صلبك. فهذه دعوة باطلة، ولذلك قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]. ومن الحق أنه أبطل التبني وأبعده، ومن قوله الحق أنه أبطل فكرة أن قول: أنت علي كظهر أمي يحرم على الرجل زوجته كأمه. وقد أبطل هذا أيضاً لأن الله يقول الحق، وهذا القول باطل، فقولك: أنت كأمي باطل، فهي ليست أمك، وكذلك قولك: هذا ولدي وهو ليس بولدك قول باطل.

وقوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]، أي: السبيل المسعد، المنجي المبعد عن الأباطيل والمفاسد والشرور. والحمد لله.

وقوله تعالى: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، أي: هذا قول بالأفواه فقط، وليس هو الواقع. وسواء قال: هي علي كظهر أمي أو قال: هذا ولدي فهذا قول باطل، وهو قول بالفم فقط. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4].

تفسير قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم ...)

قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]. مثل زيد بن حارثة ، وليس ابن محمد. فـ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]. فإذا عرفت والد فلان فقل: فلان بن فلان، وهكذا. فندعو إخواننا لآبائهم؛ لأننا نعرف آباؤهم، كما قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] وأعدل. ولكن إن فرضنا أننا ما نعرف أباه فنقول: أخي أو ابن أخي أو ابن عمي فقط؛ وهذا لقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، أي: أعدل، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [الأحزاب:5]، أي: فهم إخوانكم في الدين، وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]. فالحر تقول فيه: أخي أو ابن عمي، والمملوك تقول: مولاي؛ لقوله تعالى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5].

حكم من دعا رجلاً لغير أبيه

أخيراً: قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]. فلو أخطأت وقلت: يا ابن فلان وأنت مخطئ، وليس هو ابن فلان فلا إثم عليك. فلو ظننتني أنا ابن جابر مثلاً وأنا ابن موسى، فقلت: يا ابن جابر فقد أخطأت، ولكنك لست متعمداً، فلا إثم عليك، وإذا قلت لفلان: يا ابن فلان وأنت تريده، ولكنه ليس كذلك فقد أخطأت، فيغفر الله لك هذا، ولا يؤاخذك به. دل على هذا قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [الأحزاب:5]، أي: إثم وحرج فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ [الأحزاب:5] الإثم والحرج مَا تَعَمَّدَتْ [الأحزاب:5] به، قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]. بأن تعرف أن هذا ابن إبراهيم وتقول: يا ابن عيسى، فتنسبه إلى غير أبيه متعمداً، وأما إذا أخطأت وقلت: يا ابن عيسى وأنت لا تدري أنه ابن إبراهيم فلا حرج، وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، وقلتموه.

وهذه فضيلة ورحمة من الله، فالخطأ لا يؤاخذ به العبد سواء في هذه القضية أو في غيرها، فلا يؤاخذنا الله بالخطأ، ولكن يؤاخذنا بالعمد.

فمثلاً إذا حلفت قلت: والله ليس في جيبي شيء وتبين أن في جيبك شيئاً وأنت تظن أنه ليس في جيبك فقد أخطأت، ولكنك لا تؤاخذ على هذا، ولا كفارة عليك؛ لقوله تعالى: وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، أي: الذي تقصده وتريده باطلاً وتقوله، فهذا الذي يؤاخذك الله به بالعقوبة في الدنيا والآخرة.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

هيا بنا نسمع شرح الآيات من الكتاب أيضاً.

قال: [ معنى الآيات:

لما كان القلب محط العقل ] كمحطة الإذاعة [ والإدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضاً يؤدي إلى الفساد في حياة الإنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه، كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان؛ لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه، وغره ذلك فقال: إن لي قلبين ] وأصبح يعرف بذي القلبين [ أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى الله عليه وسلم ] وكان في الجاهلية في مكة في الشرك [ فكانت الآية ] المباركة هذه [ رداً عليه، قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]. وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه، وطاعة الله وطاعة أعدائه ] فالذي له قلب واحد ما يحب الله ويحب أعداءه أبداً، بل لابد إما أن يحب الله وإما أعداءه؛ لأن القلب واحد.

قال: [ وقوله: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] ] ومعنى: تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ [الأحزاب:4]: يقول لها: أنت علي كظهر أمي.. أنت كأمي [ أي: لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر منها أماً لمن ظاهر منها، كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي. وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محرماً للزوجة كالأم، فأبطل الله تعالى ذلك، وبين حكمه في سورة المجادلة، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ] وقد بينا أن من قال لزوجته: أنت كأمي أو أنت علي كظهر أمي أو أنت كجدتي أو أنت كابنتي أو أنت كأختي وهو يعني تحريمها فقد وجب عليه كفارة من ثلاثة أنواع: إما عتق رقبة إن وجدت وقدر عليها، وإما صيام شهرين متتابعين، أي: ستين يوماً إن قدر على ذلك، وإن عجز يطعم ستين مسكيناً، وكل مسكين يعطيه كيلو دقيق أو تمر مثلاً.

قال: [ وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4] ] ومعنى: أَدْعِيَاءَكُمْ : الذين تدعون أنهم أولادكم [ أي: لم يجعل الله الدعي ابناً، إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإسلام يطلقون على المتبنى ابناً، فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة، من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها ] والإرث كذلك.

[ وقوله: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، أي: ما هو إلا نطق بالفم، ولا حقيقة في الخارج له، إذ قول الرجل للدعي: أنت ولدي لم يصيره ولده ] أبداً [ وقول الزوج لزوجته: أنت كأمي لم تكن أماً له.

وقوله تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ [الأحزاب:4]، فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم، ولا على الدعي لفظ ابن. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]، أي: الأقوم والأرشد، سبحانه لا إله إلا هو ] ولا رب سواه.

وقوله تعالى في الآية (5) من هذا السياق: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، أي: ادعوا الأدعياء لآبائهم، أي: انسبوهم لهم يا فلان ابن فلان! ] إلى أبيه [ فإن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه ] بخلاف الدعوة إلى غير آبائهم [ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [الأحزاب:5] ] أي: [ فادعوهم باسم الأخوة الإسلامية، فقولوا: هذا أخي في الإسلام. وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]، أي: بنو عمكم. فادعوهم بذلك، فقولوا: يا ابن عمي، وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له: مولاي. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [الأحزاب:5]، أي: إثم أو حرج، فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5] من قول أحدكم للدعي: ليس ابن فلان، لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد، أو ظناً منكم أنه ابنه، وهو في الواقع ليس ابنه، ولكن الإثم في التعمد والقصد المعتمد.

وقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5]، أي: غفورًا لمن تاب، رحيماً لم يعاجل بالعقوبة من عصى؛ لعله يتوب ويرجع ] إلى الحق بعد الخروج عنه.

هداية الآيات

[ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات، فتأملوا.

[ من هداية الآيات:

أولاً: إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية ] فيا أبناء الإسلام! لو قال أحدهم لزوجته: أنت كأمي فلن تكون كأمه، ولن تحرم عليك أبداً، وإنما عليك كفارة للذنب الذي ارتكبته، حيث قلت لها: أنت كأمي. وهذه الكفارة حفظتموها، وقد جاءت مبينة في سورة المجادلة، وهي عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً.

[ ثانياً إبطال عادة التبني، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنَّى ] وقد قلت لكم: ظهر في هذه الأعوام أنهم يتبنون أطفالاً أولاد الزنا، فإذا فجرت المرأة وخافت من كشفها فإنها تلد في المستشفى وينقلون الولد إلى المستشفى. وبعض المغفلين والجاهلين يأتون إلى المستشفى ويأخذون الأولاد ويتبنونهم، وهذا لا يجوز.

والزنا والعهر والفجور حرام. وإن وقع زنا وأنجبت المزني بها فلا ترمي ولدها في الشارع، بل تتركه في حجرها، وتتوب إلى الله وتستغفره، ويعرف بابنها ولا أب له، والناس يقولون: هذا ابن أخينا فقط في الإسلام.

[ ثالثاً: وجوب دعاء الدعي المتبنى بأبيه إن عرف ولو كان حماراً ] فيقولون: يا ابن الحمار! فإذا كان هناك متبنى تبناه فلان وبعد سنوات عرفنا أباه من هو، فندعوه بأبيه، ولو كان حماراً أو كان يهودياً أو نصرانياً. فما دام قد عرفنا وتبين لنا أن أباه فلان فندعوه بأبيه ولو كان أبوه حماراً، فنقول: يا ابن الحمار! ولا حرج.

[ رابعاً: إن لم يعرف لمدعى أب دعي بعنوان الأخوة الإسلامية، أو العمومة أو المولوية ] فإذا كان هذا الولد ما نعرف أباه فنقول له: يا ابن أخي! أو يا ابن عمي! وهذا ابن أخينا أو ابن عمنا، ولا حرج، وأما أن ننسبه إلى أب مجهول فلا يصح أبداً، بل نقول: هذا ابن أخي أو هذا أخي أو ابن عمي.

[ خامساً ] وأخيراً: [ رفع الحرج والإثم في الخطأ عموماً، وفيما نزلت فيه الآية الكريمة خصوصاً، وهو دعاء الدعي باسم مدعيه سبق لسان بدون قصد، أو بقصد؛ لأنه يرى أنه ابنه، وهو ليس ابنه ] وهذه فضيلة من الله ورحمة من الله عز وجل، وهو أنه لا يؤاخذنا بالخطأ، فأنت إذا كنت صائماً ونسيت، فتغديت كامل الغداء فصيامك لا يفسد أبداً؛ لأنك أخطأت فقط، وأنت ناسٍ، ولست متعمداً، وإذا كنت صائماً وأخذت حفنة من تمر في فمك ومضغتها وأكلتها فلا يضرك ذلك؛ لأن مخطئ. وكذلك إذا كنت تصيد فضربت مؤمناً فقتلته فلا تدخل جهنم ولا النار أبداً، وعليك فقط كفارة؛ لأنك أخطأت، ولم تتعمد. وكذلك هذا الإدعاء خصوصاً، فإن قلنا: يا ابن فلان! وأخطأنا فليس علينا إثم ولا حرج؛ لأننا غير قاصدين ولا متعمدين. وقد رفع الله عنا الخطأ في هذه الأمة في كل باب من أبواب الحياة، وبخاصة في المدعى هذا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأحزاب (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net