إسلام ويب

إن عرض الكافرين بين يدي الله الحكيم العليم، ومحاسبتهم على ما قدمته أيديهم ليس هو آخر ما يعانونه، ولا أصعب ما يقاسونه، إنما هو بداية حياتهم الأبدية، التي ملؤها العذاب والعويل، فبينما هم في النار يصطلون، إذا بهم يدعون إلى مائدة طعامهم المتمثل في شجرة الزقوم، فيغلي في بطونهم كغلي الحميم، ثم يصب فوق رءوسهم الحميم، وهذا دأبهم إلى أن يشاء الله رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن مع هذه الآيات من سورة الدخان المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:43-50].

إيجاد الدنيا للعمل والآخرة للجزاء

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لنذكر ما بيناه قبل، وهو أن هذه الدار -الحياة الدنيا- دار عمل، والعمل صنفان: عمل صالح، وعمل فاسد.

فالعمل الصالح: الإيمان وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والقول والعمل.

والعمل الفاسد: هو الكفر والشرك والمعاصي باتباع هوى الشيطان وتزيينه للناس.

والدار الآخرة دار جزاء، فإننا عاملون وسوف نتلقى جزاء عملنا ليس هنا؛ إذ هذه دار عمل دائماً وأبداً، بل نتلقاه في الدار الآخرة بعد وفاتنا.

وصف شجرة الزقوم وبيان المراد بالأثيم

وهيا بنا لنصغي إلى هذا الخبر الإلهي، يقول تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] شجرة تنبت في وسط جهنم، طلعها كأنه رءوس الشياطين والعياذ بالله، شجرة الزقوم طلعها كأنه رءوس الشياطين في قبحها.

فالذي يدخل جهنم هل يجد الفواكه من عنب وتفاح ورمان واللحم؟ هل يجد البقلاوة والحلاوة واللحم والخبز؟ لا. بل طعامهم الزقوم، هذه الشجرة تنبت لهم وتطلع في كل ساعة ولحظة بأنواع من أنواع الزقوم.

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] من هو الأثيم هذا؟ أول من يدخل في هذا الوصف أبو جهل عمرو بن هشام عليه لعائن الله تعالى؛ إذ نزلت الآيات فيه، والأثيم: المنغمس في الآثام، كالأليم: شديد الألم، فالأثيم: كثير الإثم وقويه من الشرك والكفر إلى أفجر الفجور وإلى أفسق الفسوق.

تفسير قوله تعالى: (كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم)

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44]، يقول تعالى فيه: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] والمهل: الحديد إذا ذاب والنحاس، والنحاس إذا ذاب كيف يكون؟ وكذلك الدردي، وهو آخر الزيت المنتن الأسود، هذا المهل، يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] بطون أهل النار كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:46] الماء الحار يغلي في القدر أو لا؟ فكذلك يصب الماء على رءوسهم ويدخل إلى بطونهم، ويغلي كما يغلي الماء الحار، أعوذ بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون!

تفسير قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ...)

ثم يقول تعالى للزبانية، للملائكة المكلفين بتعذيب الفجار والكفار في النار، يقول لهم: خُذُوهُ [الدخان:47] يا ملائكة، خذوا هذا الجبار هذا الطاغية، هذا الأثيم العزيز خذوه فاعتلوه، والعتل: الأخذ بشدة، وادفعوه إلى جهنم، فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] إلى وسط النار، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47] إلى أين؟ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] وسطها.

وما الجحيم يرحمكم الله؟ عندنا نار في بيوتنا نطبخ عليها وندفئ الماء عليها، هذه النار من أوجدها؟ كيف وجدت؟ متى وجدت؟ هذه النار بحرارتها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.

ثم قد يقول القائل: كيف تتسع هذه النار للبشرية كلها والجن معها؟

نقول: لا تعجب، هذه الشمس فوق رءوسنا أكبر من كرتنا الأرضية بمليون ونصف مليون مرة، لو وضع الإنس والجن كلهم في الشمس فقط ما ملئوها، حتى لا تعجب، فالشمس كوكب نهاري ناري أكبر من كوكب الأرض هذا الذي عليه البشرية بمليون ونصف مليون مرة.

عظم خلق الكافر في النار

ولنذكر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن ضرس الكافر في النار كجبل أحد، وهو جبل طويل عال عريض، فضرس الكافر -والله- كجبل أحد، يخلق الله ما يشاء.

وإذا كان ضرسه كجبل أحد فكيف بذاته، كيف طوله؟ يخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد رأى بعينيه النار وعرضت عليه في هذا المسجد وشاهدها، يقول: ( ما بين كتفي الكافر في جهنم كما بين مكة وقديد ) مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، فإذا كان ضرسه كجبل أحد فعرضه مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، والطول لا تسأل.

ويخلدون -والله- لا يموتون أبداً، لا إله إلا الله، سبحان الله الخلاق العليم، سبحان رب العالمين.. سبحان رب العالمين! ماذا فعل؟ ماذا خلق؟ خلق عالمين عالم يفنى وعالم يخلد ويبقى، وأوجد لكل عالم من يسكنه ويعيش فيه.

فالجنة دار النعيم ورثتها المؤمنون المتقون، بيضاً كانوا أو صفراً أو حمراً أو سوداً، أهل الجنة هم الوارثون لها، هم المؤمنون المتقون فقط، والكافرون الفاجرون في جهنم.

والجنة عرضها السماوات والأرض، لو أخذنا السماوات وخِطنا سماء إلى سماء والأرضين كذلك أرضاً إلى أرض، فالجنة أوسع وأعرض من هذا، أتعجبون لهذا؟ اعجبوا أكثر أن كرسي الرب تبارك وتعالى وسع السماوات والأرض، واقرءوا آية الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] هذا الكرسي، والعرش سرير الملك عرش الرحمن كم يكون إذا كان الكرسي مقدار الأرض والسماوات؟ فقولوا: آمنا بالله.

يقول الحبر ابن عباس : نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، هذا العرش عرش الرحمن، فسبحان الله العظيم! فمن خلقنا؟ من خلق هذه العوالم كلها؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه خالق كل شيء، وملك كل شيء، ورب كل شيء، والحمد لله أن آمنا وعرفنا الله، وعرفنا ما يحب وما يكره، فعملنا المحبوب وتجنبنا المكروه، هذا فضل الله علينا أيها المؤمنون.

يقول تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44]، وقرأ أحد الرجال أمام عبد الله بن مسعود : (طعام اليتيم)، ما عرف أن ينطق.

كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ [الدخان:45-46] مثل غلي الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:46-48] يضرب رأسه ثم يصب الماء على رأسه فيغلي في جسمه غليان الحميم.

تفسير قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم)

ويقال له إهانة له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] ذق، تفضل، استهزاء به وسخرية وإهانة وإذلالاً له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] في الدنيا.

وهذه نزلت في أبي جهل ، كان يقول: ما بين جبلي مكة من هو أعز مني وأكرم! ويتبجح، فيقال له يوم القيامة: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49].

ومن عجائبه أنه كان يجمع أولاده في البيت ويضع بين أيديهم تمر العجوة من المدينة والزبدة من اللبن والحليب، ويقول لهم: تعالوا نتزقم، هيا نتزقم، هذا الزقوم الذي يهددنا به محمد! استهزاء وسخرية وطغياناً وكفراً.

يقول تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] ذق يا أبا جهل ، ويدخل في هذا كل كافر وفاجر، ولكن أكثرهم من توغل في الآثام فأصبح الأثيم لا الآثم.

ومن هنا -معاشر المستمعين والمستمعات- علينا أن نتجنب الإثم سواء كان في نظرة، أو في كلمة، أو في لمسة، أو في خطوة نخطوها، أو في درهم نأخذه، نتجنب الإثم، أي إثم لا نقبل عليه أكلاً كان أو شراباً أو طعاماً أو لباساً أو سكناً، والذين يجتنبون الإثم هم نحن إن شاء الله، ومن زلت قدمه فوقع في إثم فليمحه على الفور، فهناك آلة للمحو، وهي: أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله، والدموع تسيل، والعزم على ألا نعود لهذا الإثم، فوالله! إنه يمحى ذلك الأثر ويزول، والتوبة تجب ما قبلها، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

فالكافر الأثيم يقال له يوم القيامة: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، وهذا الكلام إهانة له وسخرية به واستهزاء، فهل يذوق الحلوى والعجوة والعسل؟ كلا. بل يذوق الزقوم والعياذ بالله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون)

ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50] إن هذا الذي سمعتم -وكأنما شاهدتموه- من الزقوم وجهنم وما فيها؛ هذا الذي كنتم تشكون فيه ولا تؤمنون به.

إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50] تشكون فيه، أي: عذاب الآخرة، إذ الكفار ما يؤمنون بالدار الآخرة ولا يؤمنون بالنار ولا ما فيها من شقاء وعذاب، حتى الذين كانوا والقرآن ينزل كـأبي جهل وفلان كذبوا وتماروا وشكوا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات، وهي عامة في كل من يكذب بالدار الآخرة وينكر البعث والجزاء وما يتم فيه، إِنَّ هَذَا [الدخان:50] العذاب الذي تذوقونه مَا كُنتُمْ [الدخان:50] هو الذي كنتم بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50] وتشكون، بل وتكذبون وتكفرون والعياذ بالله.

معاشر المستمعين والمستمعات! قولوا: آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

والآن نسمع هداية الآيات.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء ].

من هداية هذه الآيات التي تدارسناها في بيت الرب في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: تقرير عقيدة البعث والجزاء، هذه العقيدة التي هي أعظم العقائد، فاقدها شر الخلق، وهي أن تؤمن أنه لا بد من أنك ستحيا وتحاسب على عملك في الدنيا، وتجزى به، إن كان صالحاً ففوق، وإن كان فاسداً فأسفل، إما الجنة وإما النار.

[ ثانياً: عظم عذاب النار وفظاعة ما يلاقيه ذووا الآثام الكبيرة فيها ].

من هداية هذه الآيات: عظم عذاب النار وفظاعته وقوته، ما يطاق أبداً، يصب على رأسه الماء ليغلي في بطنه، ويؤخذ بعنف وشدة ويرمى في جهنم في سوائها، فأي عذاب أعظم من هذا العذاب؟ نعوذ بالله من عذاب النار.

[ ثالثاً: يوجد شجرة بأريحا من الغور لها ثمر كالتمر حلو عفيص، لنواه دهن عظيم المنافع عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقرس وعرق النسا والريح اللاحجة في حق الورك، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى والمقعدين.

ذكر هذا صاحب حاشية الجمل على الجلالين عند تفسير هذه الآية، ولو أمكن أخذ هذا الثمر واستخراج زيته والتداوي به لكان خيراً ].

هذه ما لنا فيها من شيء، وإنما صاحب حاشية الجمل على تفسير الجلالين ذكر هذا، قال: يوجد بمدينة أريحا شجر له نبت، هذا النبت يعالج الأمراض كلها، إذ له زيت، يؤخذ زيته ويستعمل في الأدوية وينفع الله به.

[ رابعاً: من أشد أنواع العذاب في النار العذاب النفسي بالتهكم والسخرية من المعذبين ].

أشد عذاب النار ليس هو الذي يصب على الرأس والجسم، بل التهكم بهم وإهانتهم والاستهزاء والسخرية: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] هذا أشد من الآلام، آلام النفس أعظم من آلام الجسم، وهذا حتى الآن، فالمرء قد تصفعه فما يبالي، لكن إذا سببته وشتمته يتألم أكثر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الدخان (6) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net