إسلام ويب

إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن هو أبو الأضياف، فكان عليه السلام لا يمنع طعاماً من أحد، بل ولا يكتفي بأن يقدم لأضيافه القليل، وإنما يعمد إلى أفضل ما عنده من القرى فيقدمه لهم، طيبة به نفسه، وقد بعث الله إليه أضيافاً من الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط، فاستضافهم وقام بواجبهم، وقبل انصرافهم من عنده بشروه بغلام عليم، إنعاماً من الله وتفضلاً عليه وعلى أهل بيته المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن مع سورة الذاريات المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:24-30].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لا تنسوا أن السور المكية تعمل على إيجاد العقيدة الربانية السليمة الصحيحة التي يصبح صاحبها حياً كامل الحياة يسمع ويبصر، يعطي ويأخذ، وفاقدها ميت لا يؤمر بصلاة ولا بزكاة لا بالصيام ولا بالرباط.

وأعظم أركان هذه العقيدة: التوحيد بأن يُعبد الله وحده، وإثبات النبوة والرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث الآخر بالدار الآخرة.

وها هو تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] فلو لم يكن محمد رسول الله فمن أين له أن يخاطبه الله؟ فكيف يصرون على تكذيب نبوته ورسالته، ويقولون: ساحر وكذاب، والله يخاطبه فيقول: هَلْ [الذاريات:24] بمعنى: قد أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24]؟ وهل عاش الرسول صلى الله عليه وسلم على عهد إبراهيم؟ هل عرف إبراهيم؟ بينهما ثلاثة آلاف سنة أو أربعة آلاف سنة، فلولا أنه يتلقاه وحياً من الله لما كان يتكلم بهذا الكلام أبداً.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] من هم المكرمون؟ ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، المشهور أنهم ثلاثة، ومن أهل العلم من يقول: كانوا تسعة، هؤلاء الضيوف أكرمهم إبراهيم بعدما أكرمهم رب العالمين، فهم مكرمون من الله وأكرمهم إبراهيم، وستعلمون كيف أكرمهم.

تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون)

قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] أي: دخلوا على من؟ على إبراهيم وهو في بيته، ما هو من العمارات في الدنيا اليوم، بيت من البيوت، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا [الذاريات:25] أي: سلموا عليه سلاماً.

فرد عليهم بقوله: سلام، وهنا جاء الإسلام وجعل السلام سنة، ما من مؤمن يمر بمؤمن وهو جالس إلا ويقول: السلام عليكم. ويجب أن يرد عليه قائلاً: وعليكم السلام، وإن زاد: ورحمة الله وبركاته؛ فهو أفضل.

والقاعدة الفقهية التي ما ننساها: أن السلام سنة والرد واجب، إن سلمت أثبت وأجرت، وإن رددت أسقطت واجباً وأثبت، وإذا ما رددت أثمت، تركت واجباً فأنت آثم.

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] أنتم قوم منكرون ما نعرفكم، ما أنتم من أهل بلادنا، ولا عرفنا مثلكم، وهو الواقع، لكنهم في صورة رجال حسان عظام لا في صورة ملائكة، فجبريل يسد ما بين السماء والأرض بأجنحته، لكن في صورة بشر من خير البشر وأحسنهم، فلم ير مثلهم، فقال: قوم منكرون.

وقام بواجب الضيافة، نزلوا بيته ضيوفاً عليه فلا بد أن يستضيفهم، إذاً: فماذا قال تعالى؟

تفسير قوله تعالى: (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين)

قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [الذاريات:26]، أي: مال إلى أهله، وكان له بقر يملكها، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [الذاريات:26] إلى الغرفة التي فيها أهلها، إذاً: معناه أنه كان في غرفة الضيوف، فدخل عليه الضيوف في غرفة الضيوف، وأهله وماله في الغرف الأخرى.

فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] ذبح عجلاً من أولاد البقر وسلخه ونظفه وشواه، وقدمه لحماً مشوياً، ونعمت الضيافة هذه، ومن هنا فالمسلمون مؤمنون بأن الضيافة واجبة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إكرام الضيف واجب )، من الإيمان إكرام الضيف، لا سيما عندما كانت لا توجد في المدينة مطاعم ولا منازل ينزلونها، فلا بد أن يأتيك الرجل فيستضيفك فتضيفه ثلاثة أيام، بعد ذلك لا حرج، من الإيمان إكرام الضيف، تكرمه بما تستطيعه، وها هو ذا إبراهيم سن هذه السنة وقررها حفيده المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( إكرام الضيف واجب ).

تفسير قوله تعالى: (فقربه إليهم قال ألا تأكلون)

قال تعالى: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27]، ثم من الآداب أنه ما قال: كلوا، فيصبح آمراً لهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]، عرض عليهم الأكل مع أنه قدمه ليأكلوه، لكن ليس من الأدب أن يقول: كلوا فيصبح آمراً لهم، قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] أنتم في خيار، ألا تأكلون؟

فتكلم أحدهم -ولعله جبريل- فقال: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، قال: كلوه بحقه، قالوا: فما حقه؟ قال: أن تسموا الله عند أكله، وتحمدوا الله عند الفراغ من أكله. وهذه سنة عندنا إلى يوم الدين، إذا بدأت الأكل فابدأ بقولك: باسم الله، وإذا فرغت -شبعت أو لم تشبع- فقل: الحمد لله.

قال: حقه أن تذكروا اسم الله عند بدئه، وأن تحمدوا الله عند الفراغ منه. فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! هذه جائزة تعدل جوائز الدنيا كلها، جبريل يقول لإسرافيل أو لميكائيل: حق لهذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً، أليس إبراهيم خليل الرحمن؟ كيف استحق هذه الخلة ووصل إليها؟ بهذه المراتب السامية، بهذه المقامات العالية، ومن بينها أنه بنى البيت الحرام الكعبة، أعظم من ذلك أنه أراد ذبح إسماعيل بأمر الله إلا أن الله منع السكين من الذبح فما مات.

وهجرته من أرض العراق إلى فلسطين هجرة في سبيل الله، وهكذا، ما اتخذه ربه خليلاً إلا وقد استوجب مقام الخلة الإلهية.

تفسير قوله تعالى: (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)

قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:26-28] حين لم يأكلوا حدث في نفسه شيء على ما هي طبيعة البشر، فإذا دخل الرجل بيتك ووضعت الطعام وأبى أن يأكل فذلك دليل أنه يريد أن يضربك أو يأخذ مالك، ما جاء للأكل، يريد شيئاً آخر، فلما أبوا أن يأكلوا حصل في قلبه الخوف فخاف منهم.

قَالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:28]، شاهدوا خوفه، إما ارتعدت فرائصه أو تغير لسانه أو وجهه، قَالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:28] ما جئنا لنؤذيك أو نضربك أو نقتلك أو لنسلب مالك، لا تخف.

قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] هذه بشرى عظيمة، فهنيئاً لإبراهيم وسارة .

امرأته سارة العراقية بلغت من العمر تسعين سنة وهي عقيم ما تلد أبداً، وإبراهيم تجاوز المائة، وهذا الولد كان بعد إسماعيل، إسماعيل ابن هاجر المصرية القبطية، فمضت فترة من الزمان وبشر الله إبراهيم بهذا الغلام العليم وهو إسحاق أبو يعقوب، قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] أي: ذو علم، وكيف لا وهو إسحاق نبي الله ورسوله؟!

وهنا فضيلة العلم، فولد عليم أفضل من عشرين ولد جاهل، فللعلم درجته ومنزلته العالية، فذو العلم ما يؤذي أباه أبداً ولا يضره، بل ينفعه حياً وميتاً، بخلاف الجاهل.

تفسير قوله تعالى: (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم)

قال تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] هنا السيدة سارة كانت تسمع من وراء حجاب في غرفتها أو كذا، سمعت البشرى، فماذا تصنع؟ انفعلت وضربت وجهها، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29] يا ليتها أمي أو أمك، فصكت وجهها وقالت: عجوز وعقيم، لو كنت غير عقيم غير عاقر فلا بأس، ولكن مع تسعين سنة العقم، فكيف هذا؟ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29].

قال تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات:29]، الصرة هي قولها: آه بصوت عال، والصك هو الضرب، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ [الذاريات:29] أي: هي عجوز عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف تبشر بالولد؟ من أين يكون هذا؟ فبم أجابها الملائكة؟

تفسير قوله تعالى: (قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم)

قال تعالى: قَالُوا كَذَلِكِ [الذاريات:30] يا سارة، هكذا قال ربك، نحن بشرناك لأن الله بشرك، ونقول بقول الله، فما قاله الله اسمعيه واقبليه، هكذا بشرك الله عز وجل فلا تغضبي ولا تسخطي ولا تتعجبي، قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:30] العليم بخلقه وما تتطلبه حياتهم الحكيم في كل ما يعطي ويمنع، فإنه عليم حكيم، فسلمي بالبشرى واحمدي الله عليها. وبالفعل حملت بإسحاق وبشر به إبراهيم، ومن وراء إسحاق يعقوب.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

والآن مع هداية الآيات.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: تقرير النبوة المحمدية ].

من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير النبوة المحمدية، والله! لو لم يكن رسول الله حقاً وصدقاً لما استطاع أن يقول هذا القول، أمي لا يقرأ ولا يكتب بلغ الأربعين سنة، فمن أين له أن يقص هذه القصص؟ مستحيل، فهذه الآيات كلها تشهد أن محمداً رسول الله.

[ ثانياً: فضيلة إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين ].

إبراهيم عليه السلام تجلت فضيلته، نزل عليه ملائكة السماء واستضافهم وقدم لهم الطعام وبشروه بالغلام الحليم، أي كرامة أعظم من هذه الكرامة؟

[ ثالثاً: وجوب إكرام الضيف ].

فمن استضافه مؤمن وقال: استضفتك يا فلان فضيفني؛ وجب عليه أن يضيفه، ويقدم له ما يملكه من طعام وشراب، والمدة حددها الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، وما فوقها فلا ضيافة.

[ رابعاً: الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركاً ].

من هداية الآيات: أن الخوف الغريزي الفطري الطبيعي لا يتنافى مع التوحيد والإيمان، ها هو ذا إبراهيم خاف حين أبوا أن يأكلوا وهم ثلاثة رجال أقوياء.

فالخوف الطبيعي ما يتنافى مع العقيدة أبداً، ولا تقل: كيف تخاف وأنت مؤمن؟ لو تمر بين يديك عقرب تخافها ولا حرج، ولا يتنافى مع التوحيد؛ لأن إبراهيم خاف، هذا الخوف طبيعي ما يضر ولا يتنافى مع معتقده.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الذاريات (3) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net