إسلام ويب

يوجه النبي صلى الله عليه وسلم خطابه إلى قومه داعياً إياهم إلى الاستقامة على أمر الله عز وجل، ومداومة استغفاره من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً، لأن ذلك يخرجهم من دائرة المشركين المعرضين، الذين لا ينفقون المال الذي خولهم الله إياه في سبيله، على ذوي الحاجة والعوز من المستضعفين، ويدخلهم في دائرة أهل الإيمان، الذين يعملون الصالحات، والموعودون عند ربهم بالأجر العظيم وسكنى أعلى الدرجات.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:6-8].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]، الآمر بهذا الله منزل الكتاب، فالله هو الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل مكة وللمشركين: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت:6]. ولم أقل لكم: إنني ملك من الملائكة، ولا أنا جان من الجن، وإنما أنا بشر مثلكم، أوحى الله إلي وكلفني، فأنا أدعوكم وأبلغكم، وأنتم تنكرون هذا، وتتكبرون علي، وتنصرفون عني. وأنا ما طالبتكم بشيء أبداً، لا بمال ولا بدنيا، ولا بغير ذلك، ولا ادعيت أنني كذا وكذا، بل أنا بشر مثلكم، أبلغكم عن ربكم ما أراده منكم فقط.

معنى الوحي

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]. والذي يوحي إليه هو الله، فهو الذي يوحي بكلامه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

والوحي أو الإيحاء: الطريق الخفي، بحيث لا تشاهد أنت ذلك، بل يقع في نفس الموحى إليه. فهو إعلام سريع بطريق خفي. والله يوحي إلى من يشاء من عباده، فيصطفي ويختار رجالاً مؤمنين، ويوحي إليهم؛ ليبلغوا أمره ودعوته لعباده؛ من أجل أن يسعدوا ويكملوا، ويعزوا ويرتفعوا.

معنى قوله تعالى: (أنما إلهكم إله واحد)

قال تعالى: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت:6]. فهو يوحي إلى الرسول أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت:6]. فيا عباد الله! والله إن إلهنا لإله واحد، وليسوا عشرة ولا مائة ولا ألفاً، ولا غير ذلك. وهو خالقنا وخالق كل شيء، وهو ربنا ورب كل شيء، وهو الذي خلق هذه الأكوان كلها. هذا هو الإله الحق، فهو إله واحد، وهذه الآلهة التي تعبدونها آلهة باطلة، لم تخلقكم ولم ترزقكم، ولا هي كلأتكم ولا حفظتكم، ولا تميتكم ولا تحييكم، فلا تؤلهوها، وليس هناك منطق أو ذوق يبرر أن تؤله حجراً، أو أن تقف أمام صنم أو قبر، وتدعوه وتستغيث به، وإنما هو الجهل. وها هو العلم ينزل من السماء، فاشرحوا صدوركم، واستمعوا وتعلموا؛ حتى تسودوا وتنجحوا.

وقوله: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت:6]، أي: معبودكم الحق الذي لا معبود سواه واحد لا ثاني له. وقالت النصارى: الآلهة ثلاثة. وهذا باطل، وإنما هو إله واحد فقط، وليس معه لا عيسى ولا مريم ولا جبريل.

كيفية الاستقامة لله عز وجل

قال تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فصلت:6]. فإذا عرفتم أن إلهكم واحد، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه، فإذاً: فاستقيموا في طريقكم إليه، ولتكن وجوهكم دائماً مع الله، وآمالكم كلها مع الله، فإذا أخذتم طريقكم إلى الله فاستقيموا، ولا تميلوا من هنا وهنا إلى الشرك والباطل، والشر والفساد. هذه هي الاستقامة. اللهم ارزقنا إياها، اللهم اجعلنا من أهلها.

الاستقامة بمعنى أنه لما يكون الرجل ماشٍ في طريق ليصل إلى هدفه المعين فإن سلك الطريق ومشى وصل، وإذا كان يميل يميناً ويميل شمالاً ويذهب يميناً وشمالاً ما يصل ولا يقدر.

والطريق أبناء الإسلام! وإخوة الإسلام! هو الإسلام القائم أولاً على العقيدة، والإيمان بالله ولقائه، والإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله وقضائه وقدره، والإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله؛ لأن الإيمان كما علمتم هو والله بمنزلة الروح، وإن كان بعض الإخوان ما يرضون باليمين، وكان الرسول يحلف، ووالله إن الإيمان بمثابة الروح، وصاحبه حي، يسمع ويبصر، وينطق ويأخذ ويعطي، وفاقده ميت. وهذه الحقيقة. فالإيمان بمنزلة الروح، فمن آمن حيي، فمره يفعل، وانهه يترك، ولكنه قبل أن يؤمن إذا قلت له: صل فإنه لا يصلي، وإذا قلت له: لا تشرب الخمر ما يشربها؛ لأنها ميت ما يسمع نداءك، ولا يفهم قولك.

وهذه الآية مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]. فهم أولاً آمنوا، ولما آمنوا بالله ولقائه استقاموا على الإسلام، ومشوا في طريقه إلى الجنة بإذن الله تعالى.

وهذه الطريق هي أوامر نواه، وهذه المأمورات التي أمر الله بها عن يمينك، والمنهيات التي نهى الله عن شمالك، فامش فقم بالواجب، وانهض بالمأمور، وتخلى وابتعد وتجنب المنهي عنه والمنكر، فإنك تصل والله إلى دار السلام.

وقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فصلت:6]، أي: امشوا مستقيمين إلى ربكم، ولا تلتفتون يميناً ولا شمالاً، ولا اللات ولا العزى، ولا عيسى ولا مريم ، ولا العزير ولا فلان، ولا عبد القادر ولا إدريس ، ولا مولاي كذا وكذا، بل ما هو إلا الله، بل استقيموا بوجوهكم إليه، ولا تلتفتوا إلى غيره، ولا تنظروا سواه. هذا أولاً.

الحث على الاستغفار

قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، أي: استقيموا واستغفروا؛ لأنكم عشتم على الشرك والكفر، والفسق والفجور، ثم حييتم فآمنتم، إذاً: فاستقيموا واستغفروه لذنوبكم التي ارتكبتموها، وهي ذنوب الكفر والشرك وما إلى ذلك.

وباب الاستغفار مفتوح عباد الله! فربنا يدعونا ويطلب منا أن نستغفره ونتوب إليه، فإذا زلت القدم وسقط العبد فقال باطلاً أو فعل محرماً أو ترك واجباً فعليه أن يرجع على الفور، ويقول: استغفر الله. ولا تفارقه هذه الكلمة حتى ينمحي ذلك الأثر ويزول، ولا يبقي في نفسه ظلمة ولا عفن ولا نتن. ولذلك اطلبوا المغفرة منه، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

وعيد الله عز وجل للمشركين به

قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]. فالويل هو العذاب الذي لا يطاق ولا يقدر عليه، ويوجد في جهنم واد يسمى بالويل أيضاً، وهو من أبشع وأشد الأودية عذاباً في عالم الشقاء في النار، والنار عالم، وعالمنا هذا لا يساوي نقطة في بحر منها، وهذه الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وهي كوكب فقط، فكيف بعالم جهنم؟ ففيها أودية لا تطاق، ومن بين أوديته ويل، وكذلك ويل هي كلمة عذاب، فويل للمشركين، لا للموحدين ولا للمنحرفين ولا للمستقيمين، بل وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6].

والشرك -يرحمكم الله- هو: أن تسوي بالله مخلوقاً من مخلوقاته، وتشركه في ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، وفي عباداته، ذلكم هو الشرك، كما تشرك فلاناً في بستانك، أو تشركه في دكانك، فيصبح له حظ معك. فالعبادات التي تعبد الله بها البشرية كلها لله، ولا يصلح أن تعطى لغيره أبداً، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الصالحين.

ونلفت النظر إلى ما هو بيننا، وهو: أن العوام ما زالوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: يا رسول الله! ويدعون فاطمة ، ويدعون حسين ، ويدعون عبد القادر ، ويدعون البدوي ، ويدعون كذا كذا؛ لأنهم ما عرفوا والله. فادع الذي يسمع دعاك ويقدر على إجابتك، وأما الذي تدعوه وهو ميت فإنه ما يسمع، ولا يعطيك، بل أنت فقط بهذا تغيظ الله عز وجل، وتتحداه بأن تدعو غيره، ودعاء غير الله شرك أعظم، ومن أقبح أنواع الشرك؛ لأن الذي أقبل على ميت يدعوه معناه أنه نسي الله عز وجل، وسلب الله ربوبيته وألوهيته، ووضعها على هذا الميت، فهو يدعوه أو يحلف به.

فاعلموا يرحمكم الله أن الشرك ذنب عظيم، وسبب عظمه: أنك سويت مخلوقاً بالخالق، وجعلته مثله، وفوق ذلك فأنت لما تدعو الآن وتقول: يا رسول الله! المدد أو الغيث، والله إن هذا الرسول لا يسمعكم، وهو في الجنة، وإن فرضنا أنه سمع فلن يمد يده إليكم، ولن يعطيكم، فليس لكم حق في أن تدعوه.

والرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا إلا بالسلام عليه، فسلموا عليه حيثما كنتم، فإنه يبلغه سلامكم، فإذا وقفت على قبره الشريف وقلت: السلام عليك رسول الله! فعلى الفور يرد عليك السلام فقط، وأما أن تقول: زوجتي أو ولدي مريض فادع الله لي أو افعل بي كذا وكذا، فهذا كله باطل ومنكر، وحرام وشرك.

فيا عبد الله! أقم وجهك لله، ولا تلتفت إلى أحد، ولا ترى إلا الله.

وقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]، هو عذاب جهنم لهم؛ لأنهم جهلوا الله، وأعرضوا عنه، وسووا المخلوقات به، وأصبح الله ليس بولي لهم، ولا هم أولياء له، وإنما هو عدوهم، وهم أعداء له، ولذلك فلن يسعدوا ويكملوا.

تفسير قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)

قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7]. والمشركون أولاً: لا يعطون ما يزكي أنفسهم من الإيمان وصالح الأعمال، ولا يؤتون ولا يعطون الشيء الذي يزكي نفوسهم كالذكر والعبادة، والصلاة والجهاد والرباط أبداً.

ثانياً: كان المشركون في مكة يسقون الحجاج، ويطعمون الفقراء والمساكين، ويؤوون الضالين، ثم لما جاء الإسلام أصبحوا لا يعطفون على مسلم أبداً، لا بلال ولا عمار ولا أحد، ومنعوهم من تلك الزكاة التي كانوا يعطونها، فلهذا قول تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:7]. فهم أولاً: لا يعطونها لأنفسهم؛ لتزكو نفوسهم وتطيب وتطهر.

وثانياً: منعوا المؤمنين الذين هم فقراء بين أيديهم، فقد منعوهم مما كانوا يعطونهم في الجاهلية وأيام الكفر.

كفر المشركين بيوم القيامة

قال تعالى: وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:7]. وقد علمتم زادكم الله علماً أن السور المكية كلها تقرر: لا إله إلا الله، محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق. فقد انتقل من التوحيد إلى الإيمان بالدار الآخرة، فقال: وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:7]، أي: ما يؤمنون بالحياة الثانية، ولا بالدار الآخرة. وهذه الدار أولى، فنحن سنموت، وسننتقل إلى الدار الثانية الدار الآخرة. فهذه الدار جعلها الرب تعالى موقوتة ومحدودة الزمان بخمسين ألف سنة .. ستين ألف سنة .. مائة ألف عام أو غير ذلك، ثم والله لتنتهي، فإذا انتهت ومات من عليها انتقلوا إلى الدار الآخرة، والدار الآخرة داران: جنة فوق، ونار أسفل فقط. وهذا العالم لا تتصوره ولا تقدر على تصوره أبداً؛ لأن منازل أهل الجنة يتراءونها كالكواكب في السماء. وإذا آمنت بالله فغمض عينيك وطأطئ رأسك وفكر ما الذي فوق، وإلى أين ينتهي، ثم طأطئ رأسك وانظر أسفل إلى أين تنتهي هذه السفلية. والله علمنا أن فوقنا الجنة دار السلام، وأن جهنم في أسفل الكون أسفل سافلين، ونسبة الآخرة إلى الدنيا كالذي يغمس أصبعه في اليم في البحر.

وقوله: وَهُمْ بِالآخِرَةِ [فصلت:7] أي: بالدار الآخرة وبالحياة الآخرة الثانية هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:7]، أي: جاحدون منكرون بالبعث، وأنه لا حياة بعد الموت.

وهذا هو واقع العالم اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، فالمؤمنون بالدار الآخرة ولا (1%)، وسواء كانوا نصارى أو يهوداً أو غيرهم، وإن ادعى النصارى أنهم يؤمنون بالآخرة ولكنهم ما يعملون لها، ولا عرفوا الطريق إليها، ولا رضوا بذلك، فكفرهم كإيمانهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فصلت:8]. فالمؤمنون العاملون الصالحات مصيرهم لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:8].

وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [فصلت:8]، أي: بالله ولقائه، وكتبه ورسله، وقضائه وقدره، ولقائه في الدار الآخرة وبكل ما أمر العباد أن يؤمنوا به ويصدقوا، ثم بعد ذلك عملوا الصالحات. والصالحات ضد الفاسدات، فالفاسد ضد الصالح. وهذه الأعمال التي تقوم بها البشرية كلها بعضها صالح وبعضها فاسد والله العظيم. والصالح هو: ما أمر الله به وشرعه، وأنزل به وحيه وبعث به رسوله، وما عدا ذلك فكله عمل فاسد. فأعمال البشرية صنفان: أعمال صالحة، وأعمال فاسدة. والأعمال الصالحة هي تلك التي فرضها الله، وانتدب إليها، وأنزل وحيه بها، وبعث رسوله بها، من شهادة أن لا إله إلا الله، إلى إقام الصلاة .. إلى كل العبادات، مع اجتناب كل المحرمات. فالذين يقومون بها هؤلاء هم أهل العمل الصالح.

والذين يكفرون بالله ولقائه، ويفجرون ويفسقون، ويكذبون ويخدعون، ويغشون ويتكبرون أولئك أعمالهم كلها أعمال فاسدة، وليسوا أهل الأعمال الصالحة.

وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فصلت:8] بدأ بالإيمان؛ لأن الذي ما آمن ميت، ولن يعمل أبداً. وأنت إذا قلت ليهودي: صم فلن يصوم، وإذا قلت لنصراني: أخرج زكاة ما يزكي؛ لأنه ميت.

إذاً: الإيمان هو بمنزلة الروح، وإذا دخلت روح في الجسم حيي، فالعين تبصر، واللسان ينطق، واليد تأخذ وتعطي؛ لحياته، ولذلك قال في الآية: آمنوا أولاً، ثم عملوا الصالحات.

وهكذا إذا جاء يهودي أو نصراني أو بلشفي يقول: أريد أن أدخل في الإسلام فنقول له: أولاً قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا دخل في الإيمان وشهد شهادة الحق قلنا له: صل، فيقوم يصلي، وإذا قلنا له: انزع البرنيطة من على رأسك والله ينزعها على الفور؛ لأنه آمن. وقبل أن يؤمن فهو ميت، لا يؤمر بشيء أبداً، ولا ينهى عن شيء.

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:8]، أي: غير مقطوع أبداً. فأجر الجنة لا ينقطع، وثمارها لا ينقطع عاماً بعد عام، ولا فصلاً بعد فصل والله، فلا ينقطع أجرها أبداً، بل نعيم الجنة دائم كعذاب النار دائم. وهذا العالم عالم الزوال والفناء، وليس هو عالم الخلود، وأما ذلك العالم فهو عالم الخلود، وليس بعده شيء، بل يبقى هكذا دائماً. فقولوا: آمنا بالله .. سبحان الله العظيم! .. سبحان الله وبحمده! .. سبحان الخلاق العليم! .. لا إله إلا الله!

وهذا العالم في السماء في الجنة، وهو ما يفنى ولا يزول. وكذلك هناك عالم تحت الأرض السفلية، لا يفنى ولا يزول أبداً، وليس فيهما ليل ولا نهار أبداً، ولا عام ولا شهر، بل حياة أبدية. فسبحان الله العظيم!

وهذا الذي فعل هذا يجب أن يُعبد وأن يُحب، وأن يتقرب إليه ويتزلف إليه، وويل للمشركين وللكافرين.

اللهم اجعلنا من صالحي عبادك يا رب العالمين!

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها عباد الله!:

أولاً: تقرير النبوة ] المحمدية [ والتوحيد ] فهي تقرر أن محمد بن عبد الله والله لنبي الله ورسوله، فقد قال فيها: يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]. وها هو الوحي بين أيدينا، والذي أوحاه ليس معدوماً بل موجود، وهو الله. فهي تقرر لا إله إلا الله، محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ ثانياً: وجوب الاستقامة على شرع الله ] وكيفية الاستقامة على شرع الله: أن نبر الوالدين ونعبد الله رب العالمين، ولا نسرق ولا نفجر، لا نرابي ولا نقول الباطل، ولا نكذب ولا نخدع، ولا نترك واجباً ولا نفعل محرماً. هذه هي الاستقامة، فليس هناك اعوجاج، فاستقيموا إلى ربكم، ولا تنظروا إلا إليه، ولتكن قلوبكم معلقة بربكم فقط، فهو الذي يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ولا يفعل هذا غيره، لا صنم ولا حجر، ولا نبي ولا ملك.

[ ثالثاً: وجوب الاستغفار ] الحتمي [ من كل ذنب، صغيراً كان أو كبيراً ] فإذا نظرت نظرة إلى امرأة في الطريق فقل: أستغفر الله وأتوب إليه، وإذا قلت كلمة نابية .. سخرت من عبد أو استهزأت به فقل: أستغفر الله، وإذا مشيت خطوة إلى معصية فقل: أستغفر الله. فلا بد من الاستغفار؛ ليزول ذلك الظلام والعفن والنتن، وتبقى النفس طيبة مشرقة؛ ليرضى الله عنها، وإذا توفاها ينقلها إليه. فالاستغفار من فضل الله علينا، فهو كالماء والصابون في غسل أبداننا وثيابنا، ولو ما وجد ماء وصابون ما تغسل أبداً، بل تزيد تتلطخ.

والاستغفار أعظم من الماء والصابون للأبدان، فإذا استغفرت الله وقلت: أستغفر الله في صدق وجد وأنت عازم على أن تترك المعصية والله ليغفر لك ذنبك ويمحى.

[ رابعاً ] وأخيراً: [ وجوب الزكاة في الأموال، ووجوب تزكية النفوس بالإيمان وصالح الأعمال ] والنفوس تزكى بمعنى: تطيب وتطهر، كالثياب تغسل وتنظف. والأنفس البشرية تتدسى وتخبث، ويظهر ذلك في سلوك صاحب النفس، فصاحب النفس الخبيثة المنتنة ترونه بينكم كذاباً سارقاً، مجرماً عاقاً؛ لأن نفسه مظلمة عفنة منتنة. وصاحب النفس الزكية الطيبة الطاهرة لا تسمعون منه إلا الخير، ولا ترون إلا الخير؛ لزكاة نفسه وطهارتها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة فصلت (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net