إسلام ويب

بعد هجرة أهل الإيمان من مكة إلى المدينة أنزل الله عز وجل هذه الآيات معاتباً لهم وداعياً إياهم إلى الإعراض عن الدنيا وملاذها ومفاتنها، والإقبال على ربهم وعبادته، والتفكر في قدرته سبحانه، والإنفاق في سبيله سبحانه في السلم والحرب، وبذل النفس في سبيل نشر دينه ليصطفي منهم شهداء، حتى يكونوا أصحاب منهج إيماني واضح، ولا يكونوا كمن سبقهم من الأمم ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ...)

الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة الحديد المدنية، فهيا بنا لنصغي إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:16-19].

سبب نزول الآية الكريمة

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16], أتدرون لم نزلت هذه الآية؟

يقول عبد الله بن مسعود : ما مضى علينا إلا أربع سنوات في المدينة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية توبخنا، تندد بقساوة قلوبنا، بغفلتنا عن ذكر ربنا، فكيف بنا نحن يرحمكم الله وقد مضى ألف وأربعمائة وعشرون سنة.

إذا لم نجتمع في بيوت ربنا كل يوم على كتاب الله تعالى نتدارسه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعلمها ونعمل بها؛ فلا شك أن قلوبنا تجمد وتمرض وتقسو، ولا يلينها ولا يرققها إلا الوحي الإلهي الذي نتلقاه من كتابنا العزيز القرآن الكريم.

يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ [الحديد:16] ألم يحن الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:16], آمنوا وأقبلت عليهم الدنيا فأقبلوا على الطعام والشراب واللباس والشهوات، فقست قلوبهم بعدما كانت رقيقة لينة، هذا تقريع عظيم، لكن إذا كان هذا لأصحاب رسول الله فكيف بنا نحن؟ ما هي قلوبنا؟ ما رقتها؟ ما خشيتها؟ ما خشوعها لربها؟

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16], لأن الغافلين المعرضين مجالسهم كلها لهو، كلها همز وغمز، كلها مزاح, كلها كلام باطل, ما يذكرون الله، فمجالس المؤمنين في أي مكان كانت لا تخلو من ذكر الله، يجب أن يذكر الله فيها وأن تذكر الدار الآخرة فيها، وأن يذكر مصير الخليقة كلها, وأن يذكر الجزاء يوم القيامة، أما أن نجلس على الأكل والشرب أو على العمل ونقضي الساعة والساعات ما نذكر الله فستموت القلوب، وكم من قلب مات.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:16] ألم يحن الوقت لهم أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]؟ فالمؤمنون إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4], والآن يذكر الله أمامنا فما نشعر برقة في القلب ولا لين ولا عاطفة، ولا نذرف دمعة ولا ترتعد فرائصنا، فما يدل هذا إلا على قساوة القلوب, فها هو تعالى يعاتب أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم للغفلة التي حصلت.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] ألا وهو القرآن الكريم وما نزل فيه من أحكام ومن آداب وأخلاق، ومن عقائد، ومن أحكام شرعية, فالقرآن الكريم إذا ذكر بين يديك، إذا قرئ عليك, إذا سمعته يجب أن يرق القلب وأن تتحرك نفسك وتطلب رضا الله عز وجل، والآن القرآن يقرأ في الإذاعة ونحن نضحك، القرآن يقرأ وهم يضحكون والعياذ بالله تعالى.

معنى قوله تعالى: (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ...)

ثم قال تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد:16], وهم اليهود والنصارى، ما ينبغي للمؤمنين أن يكونوا كاليهود والنصارى، فاليهود أفسدوا التوراة وحرفوها وبدلوها ووضعوا فيها ما وضعوا، والنصارى حولوا الإنجيل إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً فهبطوا وماتت القلوب، لا يتلذذون إلا بالباطل والمنكر والشر والفساد، فلا ينبغي أن يكون المؤمنون كهؤلاء اليهود والنصارى, وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ [الحديد:16], ما بين التوراة واليهود إلى عيسى آلاف السنين، والنصارى كذلك, فمن رفع عيسى إلى اليوم مئات السنين، فمن هنا تقسو القلوب والعياذ بالله تعالى, وإذا قست القلوب أقبلت الشهوات على الإنسان وأصبحوا يعيشون فقط لشهوة بطونهم وفروجهم والعياذ بالله تعالى.

يقول تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ [الحديد:16] والزمان من انقطاع الوحي عنهم وانقطاع الرسل والدعاة بينهم، إذاً: فأكثرهم فاسقون.

ففسق اليهود والنصارى ما سببه؟ إعراضهم عن كتاب الله، انقطاع الدعوة عنهم، ما فيهم من يدعوهم, مات العلماء, مات الأنبياء فبقوا في الضلالة فضلوا، وهنا نحن أيضاً انقطع الوحي من ألف وأربعمائة سنة, إن لم نجد علماء ربانيين في مجالسنا وفي قرانا ومدننا نقرأ كتاب الله ونتلوه بيننا؛ فوالله! لتقسون القلوب ولتفسقن النفوس، ولنكونن من أكثر الفاسقين.

وهذا أمر مشاهد، أليس بيننا من يزنون, من يفجرون، من يرابون، من يكذبون، من يقتلون النفوس ويزهقون الأرواح, وقل ما شئت, فما سبب ذلك؟ البعد عن آيات الله، البعد عن ذكر الله والدار الآخرة، ما يذكرون الله والدار الآخرة.

وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد:16] يعني اليهود والنصارى فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16], من هو الفاسق؟ الذي يخرج عن طاعة الله ورسوله هو الفاسق, كالفأرة تخرج من مخبئها.

فمن كان ملتزماً بفعل الواجبات وترك المنهيات ليلاً ونهاراً طول عمره فهذا -والله- ما هو بفاسق، ومن أصبح يترك فريضة هنا ويفعل محرماً هنا ويفعل كذا فقد فسق، خرج عن طاعة الله والعياذ بالله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها ...)

ثم قال تعالى: اعْلَمُوا [الحديد:17] أيها المؤمنون، هذا على عهد الحبيب صلى الله عليه وسلم, فكيف بنا اليوم؟

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17], والله العظيم! لا يشك في هذا إلا مجنون، الأرض يابسة ميتة فينزل المطر فتحيا بالنباتات والزروع.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] إذاً: فقلوبكم كالأرض الميتة, إذا سمعت كلام الله وكلام رسوله ودعيت إلى ذلك حييت كما تحيا الأرض، وإن أعرضت عن كتاب الله وهدي رسوله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها تموت كالأرض, بل أشد من الأرض، وهذا الذي نشاهد.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [الحديد:17] في كتابنا القرآن العظيم، آيات بينات ببيان الحلال والحرام، الآداب والأخلاق، الحق والباطل، التوحيد والشرك، الإيمان والكفر, عجب في هذا الكتاب، ولا تجتمعون عليه ولا تتدارسونه، ولا تجتمعون عليه فتقرءونه لوجه الله, ما نجتمع على القرآن إلا على الميت والعياذ بالله تعالى.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17], لتكونوا عقلاء رشداء تتجنبون النقائص، تتجنبون الفساد والشر وتقبلون على الخير والحق والمعروف، لتكملوا في دنياكم وتسعدوا فيها، وتتهيئوا لسعادة الدار الآخرة والكمال فيها, فهذه منة الله.

قد بينا لكم الآيات من أجل ماذا؟ لتعقلوا وتعرفوا أننا ما خلقنا للهو واللعب، ما خلقنا للباطل والشر، ما خلقنا للفساد, والله! ما خلقنا إلا لذكر الله وشكره، ما خلقنا إلا لأن نذكر الله لا يفارق ذكر الله ألسنتنا، وقلوبنا ما تنسى الله والدار الآخرة أبداً، وبذلك نستعصم ولا نقوى ولا نقدر على فعل فاحشة ولا إتيان باطل ولا منكر.

معشر المستمعين! هكذا يبين تعالى لنا فيقول: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [الحديد:17] لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17] من هو العاقل؟

الذي يعصم نفسه عن الشر والباطل ولا يسمح لها أن تقع فيه، ويدفعها دفعاً قيماً إلى أن تعمل الصالحات في هذه الحياة، هذا هو العاقل، فهل العاقل يشرب السم؟ والله! ما يشربه، هل العاقل يطعن نفسه بحديدة؟ هل العاقل يربط نفسه في عمود؟ الجواب: لا، فالذي يشرب الخمر -والعياذ بالله تعالى- ويدخن بهذا المنتن هل هو عاقل؟ يفسد قلبه، يفسد فمه الذي هو محل ذكر ربه، يفسد ماله!

فاللهم قو عقولنا بما أنزلت علينا من آياتك، آمنا بالله وكتابه، آمنا بالله ورسوله. ‏

تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ...)

ثم قال تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ [الحديد:18] أي: إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم لمن يحتاج إليها من فقراء المسلمين ومساكينهم, أو يقدمون للمجاهدين والمرابطين في سبيل الله، ما لهم؟

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [الحديد:18] بهذا الشرط، لا يتصدق للرياء ليقال: فلان بنى مسجداً، فلان أعطى كذا، فلان وضع كذا, القرض الحسن هو الذي يكون خالصاً لله لا رياء فيه ولا سمعة ولا منة أبداً، ما تريد إلا وجه الله، بل تريد ألا يراك أحد من الناس، هذا القرض الحسن على أن يكون المال حلالاً طيباً ما هو بمغصوب ولا مسروق ولا مختلس.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [الحديد:18] ما لهم؟ يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18], المضاعفة والله من حسنة إلى سبعمائة إلى ألف ألف، يضاعف من سبعة إلى سبعمائة إلى ألف ألف، يضاعف لهم الأجر، أجرهم كان كذا فيعطون مثله آلاف المرات.

يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18] ما هذا الأجر الكريم الذي نعطاه إن أحسنا في صدقاتنا؟

إنه الجنة، فوق السماء السابعة، هل رآها أحد؟ نعم رآها محمد رسول الله، وعرج به إليها ووطئ أرضها بقدميه الشريفتين، وشاهد والله حورها وقصورها وأنهارها، وارتفع إلى مستوى ما وصل إليه جبريل, وكلمه ربه كفاحاً، ونزل إلى الأرض.

إذاً: لهم أجر كريم مبارك طيب وهو الجنة, وما هناك ما هو أكرم من هذا النعيم.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ...)

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19], هذه آية جديدة: الذين آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان أولئك هم الصديقون، من يرغب منكم أن يكون صديقاً بين الصديقين فيؤمن حق الإيمان بالله ورسوله، وحق الإيمان هو طاعة الله وطاعة الرسول فيما يأمران به وينهيان عنه، أما إيمان بلا عمل كلا إيمان، صاحبه كاذب ما آمن؛ إذ والله! لو آمن لما استطاع أن يعصي الله، لو آمن بأنه ملاق ربه وأنه بعد الموت تؤخذ روحه وتعذب أو ترحم فلن يستطيع أن يعصي الله، لن يعيش فاسقاً فاجراً، قد تزل قدمه لكن يبكي بالدموع حتى يزول ذلك الإثم والضرر من نفسه.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:19] والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً, أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19] كـأبي بكر الصديق ، وفي هذا يعطينا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الوردة فيقول: ( لا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ), لا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق في حديثه وفي فعله حتى يكتب عند الله صديقاً، كصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون وأبي بكر الصديق ، من أراد منكم أن يكون صديقاً فليصدق في كلامه وعمله, لا غش لا كذب لا باطل, صدق كامل، لا يزال كذلك حتى يدون في ديوان الصديقين فيقال: فلان صدّيق.

معنى قوله تعالى: (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم)

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19] هذه درجة، وَالشُّهَدَاءُ [الحديد:19] درجة ثانية، والشهداء: جمع شهيد، ذاكم الذي حمل السلاح يقاتل الكافرين والمشركين ليدخلهم في الإسلام, إن مات بينهم بجراحاته سمي شهيداً وهو شهيد، ومنازل الشهداء منازل عالية، أرواحهم في حواصل طير خضر في الجنة إلى يوم القيامة، من هم الشهداء؟ جمع شهيد، من هو الشهيد؟ الذي يقاتل المشركين والكافرين ليدخلهم في الإسلام، فإن مات وهو يقاتل فهو شهيد, وإن جرح ثم مرض ومات في جرحه فهو شهيد، هذا هو الشهيد.

والآن النفوس المريضة يقول أصحابها: هيا لنقوم ونستشهد, وها هم يستشهدون، فلا بد من إمام تبايعونه وتلتفون حوله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب, إمام المسلمين، وكل البلاد الإسلامية ولايات تابعة لإمام المسلمين, وهو الذي إذا أراد أن يقاتل أمة من الأمم ليدخلها في الإسلام فالقاتل معه هو الجهاد، ما هو بالهوى، هذا الجهاد الذين نشر الإسلام من المدينة غرباً إلى الأندلس، ومن المدينة شرقاً إلى الهند، هل كان بإمامة أم بلهو ولعب؟

فعندنا جماعات يقاتلون ويقولون: نحن شهداء ويستشهدون، فأي شهيد هذا؟

فأقول: إن لم يكن لكم إمام تبايعونه على طاعة الله ورسوله ويسودكم الأمن والطهر والصفاء، وتعلو كلمتكم إلى السماء, وحينئذ إن رأيتم أن لكم قوة فتراسلون دولة من الدول تقولون: ندعوكم إلى الإسلام لتنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، فإن قالوا: نعم فالحمد لله، فإن قالوا: لا، نقول: اسمحوا لنا فقط أن ندخل لنعلم الناس الإسلام حتى يسلموا، فإن قالوا: نعم دخل رجالنا ونشروا الإسلام، فإن قالوا: لا؛ فإنا نقاتلهم حتى نغلبهم وندخلهم في الإسلام.

والآن ما هناك قتال، ولا نقول لأحد: الآن بايعناك وأنت الإمام فهيا نقاتل، هل نقاتل بريطانيا؟ والله! ما يجوز، الإسلام فيها والمسلمون بالآلاف, والدعوة قائمة، فكيف تقاتل؟ هل نقاتل فرنسا وفيها ثلاثة آلاف مسجد والدعوة فيها؟

فالبلد الذي يقبل أهله دعوة الإسلام ما يقاتل؛ لأن القتال ما هو من أجل المال, بل لأجل نشر الإسلام، فأسبانيا الآن لا يجوز قتالها, زرناها من أيام وصلينا في أعظم مسجد في بلادها, والمسلمون ينتشرون، فما هناك حاجة الآن إلى الجهاد في هذا الوقت.

إذاً: جهاد النفس، نجاهد أنفسنا حتى ما نعصي ربنا ورسولنا أبداً، ولا نخرج عن طاعتهما, ولنعم الجهاد جهاد النفس.

معنى قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ [الحديد:19] البعداء أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:19] إي والله, والجحيم نار ملتهبة، وتعرفون النار وتعرفون الجحيم في الأفران، وتعرفونها في الشمس, لكنها لا حد لها ولا نهاية، بدليل أن ضرس الكافر فيها كجبل أحد، وأن ما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، وهم ملايين من البشر، عالم نسأل الله أن يبعدنا عنه وأن ينجينا منه, اللهم آمين.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: التحذير من الغفلة ونسيان ذكر الله وما عنده من نعيم وما لديه من نكال وعذاب أليم ].

من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: دعوتنا إلى الإيمان بالله ورسوله، وإلى ذكر الله والدار الآخرة لإبعاد الغفلة، فالغفلة شؤم والعياذ بالله تعالى، القلوب تموت من الغفلة, يغفل فيموت قلبه، فهذه الآيات تذكرنا بأنه لا يجوز لنا أن نغفل أبداً عن طاعة الله وذكره، ولا أن نغفل عن ذكر الدار الآخرة وما يتم لنا فيها.

[ ثانياً: وجوب التذكير للمؤمنين والوعظ والإرشاد والتعليم خشية أن تقسو قلوبهم فيفسقوا كما فسق أهل الكتاب ويكفروا كما كفروا ].

يجب على المسلمين أن يجتمعوا في بيوت ربهم في مدنهم وقراهم كل ليلة بين المغرب والعشاء طول العام نساء ورجالاً وأطفالاً, يتعلمون كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تزول الغفلة وترق القلوب، ومن ثم تطيب النفوس ويصبحون كالملائكة في الأرض, أما ندد الله باليهود والنصارى, فلما ابتعدوا عن كتاب الله وهدي رسوله حصل الذي حصل لهم.

[ ثالثاً: تقرير حقيقة, وهي: أن الأرض تحيا بالغيث والقلوب تحيا بالعلم والمواعظ والتذكير بالله ].

من هداية الآيات: تقرير حقيقة أن الأرض تحيا بالماء إذا نزل عليها، وأن القلوب تحيا بالذكر والوعظ والإرشاد، فالذين يجتنبون مجالس الذكر ويبتعدون عن المواعظ تقسو قلوبهم، هذه سنة الله عز وجل.

قال المؤلف في الهامش: [ عن مالك قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي يبعد من الله ولكنكم لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب, وانظروا فيها كأنكم عبيد, فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ].

هذا مالك إمام المسجد النبوي رحمه الله وغفر له, قال: بلغني آن عيسى عليه السلام قال لقومه بني إسرائيل: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، ونحن أين الذاكرون فينا؟ لا تكثروا من الكلام فتقسوا قلوبكم، يجب ألا يفارق ألسنتنا وقلوبنا ذكر الله حيثما كنا.

قال: فإن القلب القاسي يبعد من الله ولكنكم لا تعلمون أنه بعد، ما ينظر الله إليه ولا يرحمه.

ثم قال: ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولا تنظروا إلى سلوك الناس كأنكم أرباب مالكون, تقولون: لماذا هذا وهذا وهذا، وإن كانوا مذنبين آثمين, ما ننظر إليهم بنظرة الإهانة, بل ننظر إليهم بنظرة الدعوة والتوجيه والقلب الرقيق, لا أن نتكبر عليهم ونعلو عليهم.

قال: فإنما الناس رجلان: رجل معافى ورجل مبتلى، فاللهم اجعلنا من المعافين.

قال: فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

إذاً: فارحموا -أيها المعافون- أهل البلاء، ارحموهم وعلموهم، انصحوا لهم، قدموا لهم ما تستطيعوا أن تقدمونه حتى يعودوا إلى الله ويتوبوا، هذه نصيحة مالك في هذا المسجد.

[ رابعاً: بيان أصناف المؤمنين ورتبهم, وهم المتصدقون والمقرضون في سبيل الله أموالهم، والمؤمنون بالله ورسله حق الإيمان، والصديقون وشهداء الجهاد في سبيل الله, جعلنا الله منهم ] اللهم آمين.. اللهم آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحديد (4) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net