إسلام ويب

على مدار الأزمان، وبطول القرون والأعوام، بعث الله عز وجل أنبياءه ورسله إلى الناس يدعونهم إلى توحيد الله عز وجل، فآمن منهم من آمن وكفر من كفر، وهي سنة جارية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهنا ينادي الله عز وجل من آمن من أهل الكتاب بموسى وعيسى عليهما السلام ثم أدرك رسالة النبي الخاتم محمد بن عبد الله أن يؤمن به ويتبعه، ووعد من فعل ذلك منهم بالأجر المضاعف في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ...)

الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة الحديد المدنية، فهيا بنا لنصغي إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:26-29].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ [الحديد:26] الآيات, سبق في الآيات قبل هذه أن الله تعالى أخبر أنه يرسل رسله لهداية العباد، ليكملوا في دنياهم ويسعدوا، ويسعدوا في أخراهم.

فقال هنا مبيناً لبعض الرسل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ [الحديد:26], فمن نوح عليه السلام؟

هذا أبو البشر الثاني, فالأول آدم والثاني نوح عليهما السلام؛ لأن البشرية بعد الفناء.. بعد الطوفان.. بعد أن انتهت انتشرت من أولاد نوح عليه السلام، فلهذا نوح كآدم عليه السلام في هذا الباب.

وإبراهيم عليه السلام الأب الرحيم، أبو الأنبياء أجمعين، ما من نبي بعد إبراهيم إلا وهو من ذرية إبراهيم، فنوح أبو البشر الثاني، وإبراهيم أبو الأنبياء والمرسلين.

هكذا يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26], فهود وصالح وشعيب من ولد نوح، وإسحاق ويعقوب وإسماعيل من أولاد إبراهيم، فمن ذريتهما الأنبياء، والكتب التي أنزلها: التوراة والإنجيل والقرآن.

وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا [الحديد:26] أي: في ذرية نوح وإبراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26], والكتاب المراد به التوراة والإنجيل والقرآن.

فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26], هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيف عنه، ما كل من أرسل اتبعه الناس ومشوا وراءه وقادهم وكملوا وسعدوا، هؤلاء الرسل أرسلهم والكتب أنزلها ومع هذا منهم المهتدي ومنهم الفاسق، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26].

فالمهتدي: الذي يمشي في الطريق إلى الجنة، المهتدي الذي ما ضل عن طريق الجنة، وطريق الجنة إيمان صحيح وعمل صالح، فكل مؤمن صادق الإيمان ذي عمل صالح هو في هدايته وفي طريقه إلى الجنة.

والفاسق -والعياذ بالله تعالى- من خرج عن الطريق، فسق عنها وخرج وما مشى فيها، كفر فلم يؤمن، خرج عن طاعة الله وطاعة رسله ففسق في ذلك كله, فهو فاسق والعياذ بالله تعالى.

والمهتدون إلى الجنة دار النعيم المقيم، والفسقة إلى جهنم دار الشقاء والعياذ بالله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ...)

ثم قال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ [الحديد:27] على آثار نوح وإبراهيم وذريتهما بِرُسُلِنَا [الحديد:27] كموسى وهارون وداود وسليمان عليهم السلام.

وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الحديد:27], فعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، وقبل عيسى أنبياء من بني إسرائيل, من يعقوب إلى داود إلى سليمان، وآخرهم عيسى ابن مريم : وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الحديد:27], فعيسى من ذرية إبراهيم من أمه فقط، ولا أب له، فالله خلقه بدون أب، عيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم بالنسبة إلى أمه، أمه مريم البتول من ذرية إبراهيم، لكن لا أب له، كان بكلمة الله (كن) فكان، نفخ جبريل في كم درع مريم فحملت على الفور وولدت بعد ساعة.

وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الحديد:27]؛ إذ لا أب له، وإنما كان بكلمة الله: (كن).

ومعنى (قفينا): جئنا به بعد أولئك الرسل العديدين.

قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [الحديد:27] وأعطيناه الإنجيل, والإنجيل كتاب من كتب الله التي أنزلها على رسله، أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى.

والإنجيل عرفنا ماذا فعل به اليهود والنصارى، حرفوه وزادوا فيه ونقصوا منه حتى بلغ خمسة وثلاثين إنجيلاً بعدما كان كتاباً واحداً، فلما عوتبوا جمعوا الخمسة والثلاثين في خمسة أناجيل، فالآن عندهم خمسة أناجيل بين أيديهم، كتاب الله يضيفون إليه الباطل والكذب والخرافة والضلالة فيصبح خمسة أناجيل! فكيف يعبدون الله إذاً؟ والله! لن يعبدوه بهذا الكتاب، ولا يكملون ولا يسعدون، ولهذا بعث الله خاتم الأنبياء وأنزل عليه القرآن العظيم.

معنى قوله تعالى: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة)

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27] منة الله، عطية الله، هبة الله, الذين اتبعوا عيسى في صدق -وهم الحواريون- رزقهم الله الرأفة في قلوبهم والرحمة، فلم تر الدنيا في ذلك الزمان أرحم ولا أرفق ولا أشفق من أتباع عيسى الحواريين.

معنى قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)

وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] قالت العلماء: لما ظهر ملوك فسقة فجرة وأخذوا يلاحقون أهل الدين والإيمان ويطاردونهم ويسجنونهم ويقتلونهم هرب بعض المتدينين إلى الجبال ودخلوا في المغارات تحت الجبال، وعبدوا الله عز وجل بما علموه عن عيسى عليه السلام، وبعد فترة مات أولئك الرهبان وقام أحفادهم يقولون: نكون كما كان آباؤنا وأجدادنا، فترهبوا وانقطعوا في الجبال وغيرها، ولكن على جهل تام لا علم لهم, رهبانية ابتدعوها, وهي: أن ينقطعوا عن الناس ويعيشوا على رءوس الجبال أو في البراري والصحارى، فكانوا يأكلون ما شاء الله ولا يخالطون أهل الفسق والفجور.

هذه الرهبانية مأخوذة من الرهب الذي هو الخوف، خافوا من الله عز وجل فهربوا من الأمة التي فسقت وفجرت، وظلم حكامها وفسدوا, هربوا منها فقيل لهم: الرهبانيون.

هذه الرهبانية ابتدعوها هم, ما هي بمشروعة لهم، ما استقاموا عليها, فالطائفة الأولى استقامت، فلما ماتت وجاء الجيل الجديد ما عرفها، فانتسب إليها, وإلى الآن يدعون أنهم الرهبان وما هم برهبان, يفسقون ويفجرون، فالرهبانية معناها عندهم ترك النساء, لا جماع أبداً, ولا أكل لحم، ويأكلون ما يسد حاجتهم فقط ويعبدون الله.

وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] ما فرضها الله لا في التوراة ولا في الإنجيل، ابتدعوها فقط, فالأولون كانوا صادقين، هربوا من المجتمع الهابط الفاسق الفاجر فلجئوا إلى الجبال والغيران وما إلى ذلك، أما الذين جاءوا من بعدهم فقلدوا تقليداً أعمى, فلهذا هم يفسقون ويفجرون.

وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] رضا الله، ما أوجدوا تلك البدعة الدينية المقبولة إلا طلباً لرضوان الله عز وجل، إذا رضي الله عن العبد كمل وسعد، وإذا سخط الله على العبد خسر وهلك.

ثم قال تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27], الآن الرهبان عند النصارى هل يعبدون الله؟ يعبدون بالبدع، بدع وخرافات وضلالات، لو أرادوا أن يعبدوا الله لدخلوا في الإسلام وعبدوا الله بالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فها هم ضلال يدعون أنهم عباد وزهاد وهم -والله- يفسقون ويزنون أيضاً ويأكلون الحرام.

وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27], ما هي إلا طلباً منهم لرضا الله تعالى عنهم، هذه الطائفة الأولى.

ثم جاءت الطائفة الثانية والثالثة فترهبوا ولكن على الباطل وعلى الجهل سنين وقروناً، ثم جاء الإسلام فرفضوا وما دخلوا في الإسلام.

وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27], ما أعطوها ما تستحق من الاستقامة على دين الله، بل فجروا وأكلوا الحرام وشربوا الحرام.

معنى قوله تعالى: (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون)

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27], لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وظهر في الأرض وخرج في مكة وجاء المدينة فالرهبان الصادقون أسلموا ودخلوا في الإسلام، والكاذبون رفضوا ذلك, وهم إلى الآن كافرون فاجرون فاسقون، فمن آمن منهم عظم شأنه وعلا قدره؛ لأنه آمن بموسى وعيسى والأنبياء، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, واستقام على دين الإسلام يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويعبد الله بما شرع، فهذا نجا وفاز.

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27] وكثير من النصارى من الرهبان فاسقون.

خلاصة القول: ختم الله رسل بني إسرائيل بعيسى, فاتبعه أناس رجال ونساء, وهم الحواريون، فكانوا أكمل الناس وأسعدهم، ولما رفع عيسى إلى السماء جاء اليهود -والعياذ بالله تعالى- واحتالوا وصرفوا الناس عن دين عيسى وضموهم إلى اليهودية الباطلة، ومن ثم ظهرت فرقة الرهبان, فلما فسدت البلاد التجئوا إلى الجبال وغيرها فعبدوا الله، بعد ذلك ماتوا وجاء أناس فقلدوهم في تلك الرهبنة، ولكن ما عرفوا الله ولا عبدوه, فهم فاسقون.

ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن آمن به من أهل الكتاب من علمائهم ورهبانهم فلهم أجرهم عند الله وهنيئاً لهم, وكثير منهم ما آمنوا, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ...)

ثم نادى تعالى بقوله الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:28], نادى المؤمنين من بني إسرائيل من يهود ونصارى, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28].

هذا النداء لليهود والنصارى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28] أولاً، اخرجوا عن الفسق والفجور، خافوا من الله فلا تعصوه ولا تخرجوا عن طاعته، إنكم رهبان فكونوا رهبانيين بالفعل تخافون الله وتخشون عقابه وعذابه.

وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28] خاتم الأنبياء وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والجزاء: يؤتكم أجركم مرتين، أجراً على إيمانكم بعيسى وموسى والأنبياء، وأجراً ثانياً على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذه ثمرة طيبة فاز بها بعض وتركها البعض، الذين دخلوا في الإسلام من الشام ومن أي مكان، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنون بعيسى وموسى لهم أجران: أجر على إيمانهم بالأنبياء السابقين، وأجر على إيمانهم بخاتم الأنبياء وإمام المرسلين.

هكذا ناداهم تعالى بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28] أي: محمد صلى الله عليه وسلم, يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28] يعطكم أجركم مرتين, ووعد الله صادق، فمن آمن فاز, ومن كفر وبقي على اليهودية أو النصرانية فهو في جهنم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28], فيا معشر المستمعين! كيف يتقى الله، بم يتقى الله؟

يتقى بالإيمان وصالح الأعمال والتخلي عن الشرك والكفر والفسق والفجور، ما يتقى بالحديد ولا بالنار، ولا بالسلاح ولا بالرجال، ما يتقى الله إلا بطاعته, آمن واتق تنج وتسعد وتكمل.

فها هو ذا تعالى نادى النصارى واليهود: يا من آمنتم بالأنبياء والمرسلين قبل! آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتقوا الله يؤتكم أجركم مرتين، يضاعف لكم الأجر, يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28] ألا وهو نور الإسلام، ألا وهو نور القرآن.

يا من آمن بالرسل من قبل! وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سيؤتيك الله أجرك مرتين, ويجعل لك نوراً تهتدي به إلى يوم القيامة, ألا وهو نور الإسلام، فالإسلام نور، إذا جعلته أمامك ومشيت لن تنتهي إلا إلى دار السعادة، ومن تنكب وأعرض وتعامى هلك والعياذ بالله تعالى.

هكذا يقول تعالى في هذا النداء لليهود والنصارى -وخاصة الرهبان منهم-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28] أي: محمد صلى الله عليه وسلم, يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28] أجرين مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28], مهما كانت ذنوبكم السابقة يغفرها لكم ويرحمكم, فآمنوا واتقوا فقط، وهذا الخطاب قائم إلى الآن، فلو يؤمن الذين آمنوا بعيسى وموسى ويدخلون في الإسلام ويتقون الله فسيظفرون بهذا الجزاء، ويدخلون في الإسلام ويعيشون على نور الإسلام, وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28], يغفر لهم ذنوبهم التي ارتكبوها من الشرك والكفر والباطل وهو رحيم يرحمهم كما يرحم سائر عباده.

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ...)

ثم قال تعالى وقوله الحق: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29], لم أنزل الله هذه الآيات؟ لم بين هذا البيان؟

من أجل أن يعلم أهل الكتاب، فقوله: لِئَلَّا [الحديد:29] هذه اللام مزيدة لتقوية الكلام، أصل الكلام: ليعلم أهل الكتاب، ناداهم بهذا النداء وبشرهم بهذه البشرى ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ودخلوا في الإسلام، واستناروا بنوره وعبدوا الله بما شرع من العبادات، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء أبداً، إلا إذا آمنوا حق الإيمان ودخلوا في الإسلام.

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ [الحديد:29], فمن أين يطلب إذاً؟ من الله تعالى, فصاحب الفضل هو الله، فيا من يبتغي الفضل! اطلب الفضل من الله، اطلب الجنة وما فيها من نعيم مقيم، والدنيا وما فيها من سعادة وكمال وطهر وصفاء, اطلب ذلك من الله فهو ذو الفضل العظيم.

هكذا يقول تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد:29] اليهود والنصارى أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد:29] إلا من الله، إذاً: فليطلبوا الفضل من الله، فليؤمنوا بالإسلام وليدخلوا فيه, وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29].

فمن أراد أن يطلب من الله شيئاً فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك العظيم؛ فإنه لا يملكه إلا أنت، هذه لطيفة في الدعاء, قل: اللهم يا ذا الفضل العظيم! إني أسألك من فضلك العظيم الذي لا يملكه إلا أنت، فأعطني كذا وقني من كذا، وهكذا يدعو الله عز وجل، يتوسل إلى الله بهذه الجملة؛ لأن الله قال: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29], فأنت قل: يا ذا الفضل العظيم! يا رب! يا ذا الفضل العظيم! أسألك من فضلك العظيم أن تغفر لي، أن ترحمني، أن تلطف بي، أن تحسن إلي.. وهكذا.

هذه هداية الله عز وجل: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ [الحديد:29] عز وجل ذُو [الحديد:29] أي: صاحب الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29] الذي لا فضل مثله أبداً، وفضل الله العظيم أن يدخلك الجنة بعد أن هداك للإيمان وصالح الأعمال، ولا فضل أعظم من هذا الفضل.

فالفضل في الدنيا أن يهديك إلى الصراط المستقيم لتمشي على الطريق المستقيم حتى تقرع باب الجنة وتدخل الجنة.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: بيان منة الله على عباده بإرسال الرسل ].من هداية هذه الآيات: بيان منة الله ونعمة الله وفضل الله في إرساله الرسل إلى البشرية، لو لم يرسل الله الرسل فكيف تعبد البشرية ربها؟ فإذا لم تعبده فكيف تسعد، كيف تكمل، كيف تطيب, كيف تطهر؟ والله! ما كان، إذاً: فإرسال الرسل نعمة إلهية أنعم الله تعالى بها علينا.[ ثانياً: بيان سنة الله في الناس, وهي: أنه إذا أرسل الرسل لهداية الناس يهتدي بعض ويضل بعض فيفسق ].بيان سنة الله في الخلق: إذا أرسل الرسول في القرية أو في البلاد يؤمن البعض ويكفر البعض دائماً وأبداً، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ما أرسل الله من رسول إلا وآمن بعض وكفر بعض، بل الأكثر هو الكافر.[ ثالثاً: ثناء الله على عيسى ابن مريم وأتباعه بحق الحواريين وغيرهم, إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى ].من هداية الآيات: بيان فضل الله تعالى على عيسى بن مريم عليه السلام، وعلى الحواريين الذين كانوا أتباعاً لعيسى عليه السلام، فلما تغيرت البلاد وحكمها فساق وفجار وضلوا هرب من هرب من الرهبانيين فنجوا وسعدوا، ثم جاءت أمة بعد ذلك فابتدعت بدعة وما استطاعت أن تعبد الله, فهلك الجميع.[ رابعاً: تحريم البدع والابتداع, ولا رهبانية في الإسلام, ولكن يعبد الله بما شرع ].من هداية الآيات: تحريم الرهبانية، لا رهبانية في الإسلام، فمن الذي ينقطع إلى جبل وإلى بناية ولا يصلي مع الناس ولا يصوم معهم ولا يتعامل معهم، ثم يقول: أنا خائف من الله فترهبنت؟ لا رهبانية في الإسلام، فحين تنقطع في بيتك فقط يفوتك الغدوة والروحة إلى المسجد، يفوتك خير الدنيا والآخرة، لا رهبانية في الإسلام، إياك أن تبقى في بيتك وتقول: أنا أعبد الله في بيتي، ولا أصلي مع الناس، ولا أخرج معهم فراراً وهروباً من الباطل؛ فتصبح في رهبانية, والرهبانية بدعة ولا تصلح من المسلمين.ففي الآيات تحريم البدع, ومن أفظع أنواع البدع الرهبانية، ولا رهبانية في الإسلام, ولكن يعبد الله بما شرع، فنصلي مع المؤمنين ونقاتل مع المسلمين، ونمشي معهم ونتعامل معهم بإحسان, هذا هو الإسلام، أما الانقطاع في بيت أو في جبل وتقول: أعبد لله؛ فهذا باطل محاه الإسلام وأبطله، لا رهبانية في الإسلام.[ خامساً: أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة ].أعظم نصيحة وجهها الله لأهل الكتاب اليهود والنصارى، والله! لو أخذوا بها لسعدوا وكملوا في الدنيا والآخرة, وهي قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ))[الحديد:28] محمد صلى الله عليه وسلم (( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ))[الحديد:28]، وقد آمن -والحمد لله- من آمن من اليهود والنصارى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكملوا وسعدوا، ومن رفض الإيمان بمحمد وتقوى الله عز وجل فهو مع الهالكين. [ سادساً: فضل الإيمان والتقوى؛ إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة ].من هداية الآيات: بيان فضل الإيمان والتقوى؛ إذ هما سبب الكرامة والسعادة في الدارين، ولا ننسى قول الله تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62], لا في الدنيا ولا في البرزخ بين الحياتين ولا يوم القيامة، وإلى الآن ولي الله يخاف أهل البلاد وهو لا يخاف، يحزن أهل البلاد من الجوع أو كذا وهو ما يحزن, ولي الله لا يخاف ولا يحزن لا في هذه الحياة ولا في الحياة بين الحياتين في البرزخ بعد الموت إلى يوم القيامة، ولا يوم القيامة.(( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62] من أخبر بهذا الخبر؟ الله، هذه آية من سورة يونس عليه السلام المكية، وكأن سائلاً يقول: من أولياء الله؟ هيا نكن معهم. فأجاب تعالى بنفسه قائلاً: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63] هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، من هم؟ بيض أو سود؟ عرب أم عجم؟ في الأولين أو الآخرين؟ الجواب: لا، وإنما هم المؤمنون المتقون.ولهذا فكل مؤمن تقي هو لله ولي، يجب أن تحترم أولياء الله، يجب ألا تؤذيهم، يجب ألا تضرهم بأي ضرر، فكل مؤمن تقي هو لله ولي كيفما كان.وقال تعالى: (( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:64] والله! لا يموت ولي الله حتى يرى مقامه في الجنة, وفي الدنيا إما يرى رؤيا هو أو يراها مؤمن ويبشره بها, (( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:64], سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن البشرى فقال: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ) هذه هي البشرى.[ سابعاً: إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم، وإعلامهم بأنهم محرومون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ].من هداية الآيات: إبطال مزاعم اليهود والنصارى من الرهبان وعلمائهم، وأن الجنة لهم وليست لأحد سواهم، فأبطل الله هذا الزعم إبطالاً كاملاً, وبين أنهم أصحاب النار، فإما أن يؤمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويدخلوا في الإسلام وإلا فكلهم في جهنم والعياذ بالله تعالى.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحديد (7) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net