إسلام ويب

كان النبي صلى الله عليه وسلم أول أمره يقوم ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه، وذلك بأمر من الله عز وجل، فلما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة خفف الله عليه أمر قيام الليل إلى الندب والفضيلة بدلاً من الوجوب والفريضة، وأمره ومن معه من المؤمنين بقراءة القرآن، وأداء العبادات، والمسارعة في الخيرات، ووعدهم على ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدني من ثلثي الليل ...)

الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة المزمل المكية المدنية، وهذه الخاتمة مدنية، فلنصغ مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]. يقول تعالى لرسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبَّكَ [المزمل:20] يا رسول الله! يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، أي: من الأصحاب. وقد تقدم أن الرسول كان يقوم الليل، وأن أصحابه كانوا يقومون الليل، وبعضهم نصف الليل، وبعضهم ثلث الليل، وبعضهم ثلثي الليل، حتى تورمت أقدامهم وانتفخت، فلما علم الله ذلك منهم أراد أن يرحمهم فيخفف عنهم، فلا يجعل قيام الليل واجباً على أحد، لا على رسول الله ولا على أصحابه, ولا على المؤمنين والمؤمنات، وإنما أن يكون مستحباً ومندوباً ونافلة وفضيلة، وأما الوجوب والفرضية فليس واجباً ولا فرضاً. فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [المزمل:20], أي: ساعات الليل والنهار يقدرها الله, ويحصيها ويعرفها كما هي. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] أنتم، وما تستطيعون تعدون ساعات الليل كاملة وتعبدون الله فيها. فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20], أي: نسخ ذلك الحكم, وعوضكم التوبة منه.

نسخ وجوب قيام الليل

قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]. فاقرأ الذي تيسر وسهل عليك, سواء مائة آية .. مائتين آية .. عشر آيات ولو في ركعتين، فقيام الليل من ركعتين إلى ما شاء الله، فمن يصلي ركعتين في كل ليلة بعد العشاء فقد قام الليل. فاعمل بهذا التوجيه الإلهي، واقرأ ما تيسر، يعني: صل ما سهل عليك أن تصلي. والله تعالى يقول للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79], وليس فريضة.

وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في الليل ثلاثة عشر ركعة، وكان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين, ثم يصلي ركعتين, فلا تسأل عن طولهما، ثم ركعتين, ثم ركعتين, فهذه ثمان ركعات، ثم يصلي الشفع ركعتين، وفي آخر أيامه كان يصليهما جالساً، ثم يوتر بركعة، فتصبح إحدى عشر ركعة، وإذا أضفنا الركعتين اللتين في افتتاح الصلاة فهي ثلاثة عشر ركعة، ما زاد على ذلك فلا بأس، وما زال أهل الإيمان والصلاح يصلون هذا العدد، وفي رمضان منهم من يصلي ثلاثة وعشرين, ومنهم من يصلي خمسة وعشرين، والكل واسع. وقد قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20], يعني: بذلك القراءة في الصلاة التي تصلونها.

أسباب نسخ وجوب قيام الليل

قال تعالى: عَلِمَ [المزمل:20] تعالى أنه سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] في التجارة, وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]. فلعلم الله بهذا خفف عنا. فهو قد عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [المزمل:20]. والمريض ما يستطيع أن يقوم الليل، لا ثلثه ولا ربعه ولا نصفه، وكذلك المسافر للتجارة ليعمل على قوته وقوت أهله وقوت بعض الفقراء والمساكين فهذه عبادة, وهو في التجارة ينقل من بلد إلى بلد, ولذلك فهو لا يستطيع أن يقوم الليل, وكذلك المقاتلون في سبيل الله لا يستطيعون أن يقوموا الليل. ولذلك قال تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20], أي: للتجارة، ويقاتلون في سبيل الله. فهؤلاء ثلاثة أصناف: مرضى وتجار يتنقلون من بلد إلى بلد, ومجاهدون يقاتلون في سبيل الله. هكذا يقول تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20], أي: للتجارة, يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] المال الذي يطعمون أهلهم به وأقاربهم ومن في حاجة إليه, وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]. فبناءً على هذا فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20], أي: الذي سهل وتيسر عليك اقرأه في ركعتين .. أربع ركعات .. ست .. ثمان .. عشر، أو ما سهل عليك وتيسر. فصل بالليل بعد العشاء، والصلاة لا بد من قراءة القرآن فيها, ولا صلاة بدون قراءة القرآن.

وقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20], أي: من القرآن، في ركعتين .. أربع .. ست .. ثمان .. عشر، سواء مائة آية أو عشر آيات.

الحث على أداء الفرائض

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20]. فبعد ما خفف عنهم قيام الليل رحمة بهم وشفقة عليهم ولطفاً بهم -ولله الحمد- أمرهم بالفرائض، فقال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [المزمل:20] بلا تساهل، وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20] وجوباً بلا تساهل, وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20], وادفعوا المال للجهاد، وضعوه في يد الله عز وجل. ولا بد أن يكون هذا قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20].

فبعدما خفف عنهم قيام الليل ويسره لهم وأصبح مستحباً فاضلاً, وليس فريضة ولا واجباً أرشدهم إلى ما هو أعظم، فقال: إذاً: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20]. والقرض الحسن هو الذي ما فيه رياء ولا سمعة ولا غير ذلك.

فضل فعل الخير

قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]. ففتح لهم باب النفقات والصدقات, والصلاة والعبادات, فقال: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [المزمل:20] سواء كان صدقة مال .. صلاة .. صياماً .. رباطاً .. جهاداً .. أمراً بالمعروف .. نهياً عن منكر، فكل خير تقدمونه هو أعظم عند الله أجراً، فهو يجزيكم به, ويضاعفه لكم أضعافاً مضاعفة.

هكذا يقول تعالى لهم: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل:20] يوم القيامة، الحسنة بعشر، والحسنة بمائة، والحسنة بألف، كما قال تعالى: هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].

الحث على الاستغفار

قال تعالى مرشداً عباده: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [المزمل:20]. فعلينا أن نستغفر الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم مائة مرة. فاجعل لك ورداً كالرسول صلى الله عليه وسلم، فاستغفر الله مائة مرة. وعلينا أن نستغفر الله على ذنوبنا التي مضت، والتي فعلناها ونحن جاهلون أو ما أسلمنا بعد, فقد قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [المزمل:20] لمن تاب، رَحِيمٌ [المزمل:20] لمن أناب. والمهم أن تستغفر الله من كل ذنب قارفته في الجاهلية أو في الإسلام، وأن تتوب إلى الله عز وجل, وستجد الله غفوراً لك, رحيماً بك.

هكذا يرشد تعالى عباده المؤمنين, فقد يبين لهم أنه نسخ عليهم قيام الليل؛ لأنهم ما يستطيعونه، وأرشدهم إلى العلل التي تمنعهم من ذلك، وهي: السفر والجهاد والمرض، ثم أرشدهم إلى فعل ما هو خير، وهو فعل الفرائض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد في سبيل الله, ثم بشرهم بأنه يتوب عليهم, ويغفر لهم, وهو الغفور الرحيم.

اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

[ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي قرأناها وتدارسناها:

[ أولاً: بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجداً ] فقد كانوا يقومون أحياناً نصف الليل، وأحياناً ثلثي الليل، وأحياناً ثلث الليل، ثم لطف الله بهم وبنا, ورحمنا وإياهم, فرفع هذا الواجب وجعله مستحباً.

[ ثانياً: نسخ واجب قيام الليل, وبقاء استحبابه وندبه ] فقد كان قيام الليل كان واجباً، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]. وبين أن هذا له وللمؤمنين معه، ثم نسخ الله تعالى هذا الواجب, وتركه مستحباً، والمستحب الفاضل من ركعتين إلى ثلاثة عشرة ركعة إلى ما شاء الله، في حدود طاقتك وقدرتك.

[ ثالثاً: وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ] فإقام الصلاة ليس نافلة ولا فضيلة، بل واجب وجوباً حتمياً، وكذلك إيتاء الزكاة لمن كان عنده مال صامت أو ناطق ووجب فيه الزكاة, فيجب أن يزكيه؛ لقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20].

[ رابعاً: الترغيب في التطوع ] بالنوافل [ من سائر العبادات ] من الرباط والجهاد، والصدقة بالمال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذكر والدعاء. فقد رغبنا الله في النوافل كلها، فعلينا أن نتنفل, فإذا أدينا الفرائض فنأتي بالنوافل كذلك. والفرائض في خمسة أوقات، ولكن المصلين يصلون مئات الركعات في اليوم والليلة نوافل، وكذلك الزكاة محدودة بريالين ونصف في المائة، وعليه بعد أن يخرج الزكاة أن يتصدق، وهكذا. فقد رغبنا في النوافل، وهي: ما زاد عن الفريضة. فنؤدي الفريضة ونتنفل، هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].

[ خامساً ] وأخيراً: [ وجوب الاستغفار عند الذنب, وندبه واستحبابه في سائر الأوقات؛ لما يحصل من التقصير ] فمن أخطأ ومن أذنب ذنباً فيجب أن يقول: أستغفر الله. وهذا واجب لا محالة. فأيما مؤمن أو مؤمنة ارتكب زلة يجب أن يقول: أستغفر الله، وهو عازم على ألا يعود لذلك الإثم, وهو باكٍ من أنه ارتكب هذا الإثم.

ففي هذه الآيات: وجوب الاستغفار عند كل ذنب، ومشروعيته طول العام كما قلت لكم. ومن هذا أنك تقول بعد الصلاة: أستغفر الله العظيم ثلاث مرات بعد كل فريضة. وكذلك أن تتخذ لك ورداً في اليوم أو في الليلة, فتستغفر الله مائة مرة، أو سبعين مرة كما كان الرسول يستغفر؛ إذ هذا عمل صالح, فلا نتركه إن شاء الله.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المزمل (3) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net