إسلام ويب

إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة أمة عدل، وإن الدين الإسلامي بني على العدل والإنصاف بل إن الإنسان مطالب بالعدل في كل شيء حتى في القسمة بين أبنائه وأهله، بل العدل مطلوب حتى مع أعداء الإسلام، حال الحرب، وحال السلم والمصالحة، والاستئمان.. وغير ذلك، وبالمقابل شعوب العالم الملحدة والكافرة التي تدعي وترفع شعار العدل والمساواة والإنصاف لم تحقق شيئاً من ذلك سواء مع شعوبها أو مع شعوب العالم الإسلامي.

العدل وأهميته في الإسلام

الحمد لله الكبير المتعال، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، ومحاسبة أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عملٌ يتلوه موتٌ ليس بعده عمل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

أيها الناس! في عام الفتح سنة ثمان من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، تعلوه السكينة، عزيز منتصراً، وهو يردد قول الباري جل شأنه: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] دخل صلوات الله وسلامه عليه المسجد الحرام، ثم أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، ثم جلس في المسجد، فقام إليه ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده فقال: (يا رسول الله! اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له صلى الله عليه وسلم: هاك مفتاحك يا عثمان ! فإن اليوم يوم وفاء النذر ) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قول الباري جل شأنه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] ).

لا إله إلا الله والله أكبر، انتصار ورفعة واقتدار على كفرٍ وبغي ومعاندين، كل ذلك لم يكن ليجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينسى أنه إنما بعث بالعدل والقسط، حتى في حال المكر والغلبة، إنه العدل الذي ميز الله به أهل الإسلام، حيث جعلهم عدولاً خياراً بين سائر الأمم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً.

ولقد أمر الله بالعدل ومدح أهله، ونهى عن الظلم وذم أهله ومواقعيه، فيما يزيد على ثلاث مائة وخمسين آية من كتاب الله.

العدل أيها المسلمون هو ميزان الأرض، والظلم والجور ليس لهما إلا معول هدمٍ وخرابٍ لكل دابة تدب عليها، وأعلم المظاهر العملية للظلم هي العدوان والقهر، وأشنع الصور العدوانية أغلبها ما كان فيه سفك الدماء، والإفساد في الأرض، والعلو فيها، وجعل أهلها شيعاً؛ ضعيفهم نهباً لقويهم على صورة صراع أهل الغاب.

حقيقة العدل في الحضارة المعاصرة

والعدل في الحضارة المعاصرة ذات البريق اللامع كغيره من القيم الأخلاقية تحدده النسبية مع القابلية لأن يوزن بمزانين أو يكال بمكيالين، عند من لم يؤمنوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أما في الإسلام فالعدل قيمة مطلقة لا مجال للنسبية فيها، له ميزان واحد يعد هو الأدنى في معاملة المسلم مع غيره، حبيباً كان أو بغيضاً، صديقاً أو عدواً، مسالماً أو محارباً، كل ذلك إعمالاً لقوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] وإعمالاً لقوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135] فلا معيار إذاً إلا للعدل، فهو كما يقول ابن كثير رحمه الله: العدل مطلوبٌ من كل أحد لكل أحد في كل حال، ويشهد لذلك قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2] فنهى الله المسلمين أن يعاملوا حتى قتل هؤلاء بغير العدل، ومن هنا بدا ظاهراً جلياً أثر هذه التربية الإسلامية على علوم الأمة المسلمة عبر التاريخ في سلمهم وحربهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المؤمن إن قدر عدل وأحسن، وإن ظلم وقهر وغلب صبر واحتسب. كما قال كعب بن زهير أمام النبي صلى الله عليه وسلم منشداً:

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم>>>>>قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

وسئل بعض العرب عن شيء من خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، وما سمي من سمي من كفار قريش بالطلقاء إلا حينما قال لهم في أوج غلبته، وذكريات طردهم له، وإيذائهم لعفته، تجول في خاطره ومع ذلك لم يتفوه إلا قائلاً: (اذهبوا فأنتم الطلقاء ).

القضية الفلسطينية والعدل

أيها المسلمون! إنه من أجل إيضاح قضية العدل، وتجلية الممارسة الحقيقية لها في هذا الزمن، فلا بد أن نورد مقارنة بين سلوكين هما محط حديث الساعة، إنها المقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين وغزاتهم، وبين سلوك جيوش غير المسلمين، ومنهم بعض جيوش الحضارة المعاصرة، وذلك من خلال منطقة واحدة، تعرضت في خلال ألفي سنة تقريباً لمرات ست من الغزو الخارجي، تلكم المنطقة هي أرض مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها فلسطين وبيت المقدس ، فلقد تعرضت لهجوم الفرس الذين أثمروا إحراق المدينة، ونهبها، وقتل السلطان فيها، وإهانة المقدسات، وبعد أقل من عشر سنين، هاجم البيزنطيون هذه المنطقة، وانتصروا على الفرس المحتلين، فانتقموا منهم ومن اليهود الذين كانوا ساعدهم الأيمن شر انتقام، ولم يكن سلوك البيزنطيين آنذاك أقلَّ وحشية من سابقيهم.

ثم بعد ما يقارب العشر سنين انتصر المسلمون ودخلوا المدينة فاتحين، فلم يسفكوا فيها دماً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة، ثم صدرت إبان ذلك الوثيقة العمرية المشهورة في زمن الفاروق رضي الله عنه، بحيث إن من يقرأها ويرى ما فيها من الإنصاف والعدل والسماحة فقد لا يظن أنها بين جيش منتصر وآخر مهزوم شر هزيمة.

وبعد عدة قرون من الزمن، اجتاحت حملة صليبية أرض المقدس ، فانتصرت على أهلها، وكان معظم أهلها من المسلمين، ولكن ماذا كان السلوك الحربي لأولئك الغزاة؟ إنها كلمات قالها قائد تلك الحملة الصليبية، واصفاً بأن خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين، ويصفها مؤرخٌ أوربي آخر بقوله: لقد انحدرت جموع الصليبين في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، حتى بلغوا عشرة آلاف قتيل.

وبعد أقل من قرنٍ من الزمن ينتصر جيش صلاح الدين على الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وتفتح أمامه أبواب بيت المقدس ويدخلها المسلمون منتصرين غانمين، يظهرون من دروب السماحة والعدل والرحمة في حال الحرب ما أجبر مؤرخي الغرب على الاعتراف بذلك والإشادة به.

ثم تأتي الطامة الأخرى والوحشية العمياء، في العقد الثاني من القرن الماضي، ليدخل جيش الانتداب الأوروبي أرض فلسطين مع الغزاة اليهود، فيصنع فيها مجازر وحشية وألوان عدوانٍ، كان من أبشعها جرماً وأعظمها فتكاً مذبحة دير ياسين المشهورة، والتي وصفها أحد جزاريها القادة بقوله: كان لهذه العملية نتائج كبيرة، فقد أصيب الفلسطينيون بعد انتشار أخبار دير ياسين بالهلع، فأخذوا يفرون مذعورين، فلم يبق على أرض فلسطين إلا ما يقارب مائة وستين ألفاً، بعد أن كانوا يزيدون عن ثمانمائة ألف، ثم يقول هذا الجزار: لولا مذبحة دير ياسين ما كان يمكن لإسرائيل أن تظهر إلى الوجود.

ولم يكن هذا السلوك عباد الله منافياً لتصور الحضارة المعاصرة للعدل، ولأجل هذا منحته جائزة نوبل للسلام.

إذاً: هذه المقارنة عباد الله بين سلوك الجيوش المسلمة والجيوش الكافرة تدل على ما شهد به أحد كبار مؤرخي الحضارة المعاصرة: بأن التاريخ لم يشهد فاتحاً أرحم من المسلمين، ألا إن المسلمين دائماً هم الضحية ضد أي عدوانٍ غاشم، ولم يعرف يوماً ما أنهم كانوا هم المعتدون على أحد، بل حتى في هذا القرن المعاصر فهذه هي فلسطين والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان وغيرها لم يكن أهلها قط هم المعتدين، بل كان المستعمر من أرباب الحضارة المعاصرة هو الغازي المعتدي.

ومن باب الأسف الشديد أن يصبح أرباب الحضارة المعاصرة في اعتماد إعلانهم على غفلة المجتمعات المسلمة وضعف ذاكرتها في استيعاب الأحداث الماضية، والسجلات المشينة، في النظرة الواقعية لمفهوم العدل عند الحضارة المعاصرة، ومن خلال سلسلة من الغزو والاعتداءات والبطش، ولو كانت أحداثاً لم تجف دماؤها بعد، وإلا فلماذا توصف المقاومات المسلحة في بعض الدول الإسلامية بادي الرأي من قبل رواد الحضارة المعاصرة على أنها حركات مقاومة ضد المعتدي، أو جيوبٌ انفصالية في وجه الظالم.

ثم بين غمضة عينٍ وانتباهتها تنقلب نظرة الحضارة المعاصرة، فتسميها هي الإرهابية المبرِّزَة، يجب أن تستأصل شأفتها وتوأد في مجدها.

موقف الحضارة المعاصرة تجاه الشعوب المسلمة

الحضارة المعاصرة عباد الله! رسمت لنفسها صورة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، أو لمفهوم التراحم والعدل الإنساني على أقل تقديرهم، فتحولت إلى حضارة استكبارية بطشية، تركت الجدال بالحكمة، وجادلت الناس على متن المقاتلات ورءوس المدرعات، حتى جعلوا من ذواتهم أشباحاً مرهوبة، وجعلوا حقوق من سواهم من الناس ندامات ممضوغة يلفظونها بعد العلك بل لمخالب القوى الباطشة، وهي لا تريد من هذه المستعمرات الشافعة إلا أن تجعلها حقول استغلال، ومن ثم اتخاذ أهلها خدماً يعملون ويكدحون ليشقوا هم ويسعد الغازي المعتدي.

ولأجل هذا نجحت ثورة البركان العسكري في الحضارة المعاصرة في أن تجعل معظم العالم الإسلامي اليوم يألف ألواناً من الاعتداءات السياسية والاقتصادية، حتى لقد أصبح الأمان لديهم شبه سرابٍ بقيعة لا يبلغه أحد، ومما لا شك فيه أنه كلما قلت صحوة المسلمين كلما ازداد الوله إلى هذا السراب، والتشبث به، ولقد صدق الله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

ولأجل هذا احمرت جوانب تاريخ هذه الحضارة بدماء الضحايا المسفوكة، فقاتلت الشعوب المتطلعة إلى حريتها وحرمتها من أسباب العلم والقوة والنهوض، ولا يغرنكم عباد الله ما تبثه الحضارة المعاصرة بين الحين والآخر من شعارات الإخاء، والعدل، والحرية في التدين، نعم لقد فصلوا هذا الشعار للعالم إلا للمسلمين، وإن كان ولا بد فلا أكثر من أن يكون مقطوع الصلة بكرامة الإنسان التي أرادها الله له من خلافة الأرض وعبادة الله فيها، وإقامة العدل بين أرجائها، وزيادة على ذلك، فعلى الإسلام أن يكون محايداً بإزائهم مسايساً لهم.

أما أن يؤيد الدين حقوق الإنسان، ويأمروا الناس أن يدخلوا في السلم كافة فلا؛ لأن الإسلام عندهم هو وحده الذي يجب إبعاده عن الحياة العامة، أما ما عداه من الديانات والنحل فليكن بصرها دولٌ، ولترسم على خطاها سياسات.

ولأجل هذا لاطفوا عبدة الأوثان بروح أطيب ونفسٍ أهدأ، فأي حضارة هذه بربكم؟!

وبهذه الصورة لم يبعدوا النزعة أولئك المتخصصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: إن مثل هذه التصرفات يؤسس على مبدأ النصيحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قطاع الطريق أو لدى أي تجمع مفترسٍ في الغابة، وما الضمانات التي تمثلها مواثيق العدل العالمية المزعومة للمحافظة على أمن الشعوب إلا فيما لم يكن للمسلمين أو العرب فيه طرفاً في صراعٍ ما، أما إذا كان الحيف واقعاً على شعبٍ مسلم، أو قطرٍ عربي فقد أصبغوا للقضية لوناً آخر، فهل يفزع بالمنكوب حينئذٍ إذا أساء بالحضارة ظنه؟!

إن مثل هذه الممارسات، هي التي جعلت عدداً ليس بالقليل من عقلاء الحضارة المعاصرة لا يزالون يطلقون صيحات النذارة لأقوامهم، ويحذرونهم سوء المصير، فهل يعي المسلمون ذلك؟!

ألا إن من سنن الله تعالى، أن وضع هذه الحضارة تحصد ما تزرع، وتعرف طعم الجذاذ عند الحصاد.

فما طار طيرٌ وارتفع>>>>>إلا كما طار وقع

وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.

أسباب انحراف الحضارة المعاصرة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإن المشاهد لواقع الحضارة المعاصرة اليوم، ليرى أن لانحرافها في تصورها للعدل نتيجة بديهية لا مناص منها، ألا وهي تشبع روحها بالأنانية والعدوانية وإرادة العلو في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] ولا أدل على هذه النزعة الشاذة مما يعد ثمرة هذا الواقع، وذلك من خلال إنتاج هذه الحضارة من أسلحة الدمار الشامل، ما بلغ كمية وكيفية مبلغاً يجاوز سلع الاحتياجات البشرية للطعام والشراب بأضعاف مضاعفة، ولقد عُلِمَ أن دولة من دول هذه الحضارة قد بلغ إنتاجها من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لإفناء العالم ثلاثة وثلاثين مرة، وقبل عقودٍ من الزمن شيعت دولة كبرى موكباً من التوابيت الخرسانية لتلقى في قاع المحيط، حيث تضم وسطها شحناتٍ مروعةً من الغازات السامة بعد أن رأت هذه الدولة أن لديها فائضاً من هذا السلاح يكفي لإفناء العالم ست مرات.

وإن تعجبوا عباد الله! فعجبٌ تلك النزعة الشريرة في هذه الحضارة، إذ كان يكفيها شراً أن تنتج ما هو كفيلٌ بإفناء العالم مرة واحدة، وهنا مكمن الجبروت والعدوانية في الحضارة المعاصرة، فما ذنب العالم إذاً أن يدمر أكثر من ثلاثين مرة، ألا يكفي للحربين العالميتين مثالاً لهذا التصور المنحرف خلال ربع قرن أثمرتا من خلاله ما يعد بالملايين من القتلى.

عباد الله! إن كلامنا هنا ليس المقصود به الهجاء والتشفي في كشف عورة الحضارة المعاصرة، إذ الأمر أبعد من ذلك وأهم، وهو أن صيحات تعالت، ورجع صدىً يسمع في الأقطار الإسلامية أثمر التأثر بهذه الحضارة المعاصرة وزخرفها، فرأينا وسمعنا من بين ظهرانينا تبرير الظلم والعدوان من قبل تلكم الحضارة، وكذا تبرير ازدواجية معايير العدل عندها، في حين أنه كان المرجو في مقابل ذلك أن ينكشف للمسلمين هذا الزيف في تقييم العدل، وأن تتضح لديهم المعاني الرئيسة لمفهوم العدل عند تلك الحضارة، وأنه ليس هو العدل الذي بمعنى الإنصاف، ولكنه العدل الذي هو الميل والانحراف.

وهذا ما يضع على كل عاتق نصيبها من المسئولية أمام الله، من شعوبٍ وحكومات، وذلك بتدارك الأمر من خلال الرجوع إلى الله، ثم بالطرح الإسلامي الصحيح للتربية الواعية عبر المجالات التربوية، ومناهج التعليم، وتوعية الأجيال بحسنات الإعلان لا بسيئاته، ليقف المسلمون موقف العاقل أمام طوفان الحضارة المعاصرة الجارف، وأن يعلموا أن الحق لا يزري به أن تمر عليه سنين عجاف، ولا يضيع جوهره؛ لأنها عجاف، ولا يضيع جوهرة؛ لأن عللاً عارضة اجتاحت أهله، وليعلموا أن الباطل لا يسمى حقاً؛ لأن دورةً من أدوار الزمن منحتهم قوة، وأقامت له دولة في الأرض، إذ لم تتحول جرائم فرعون إلى فضائل؛ لأنه ملك سلطة الأمر والنهي، واستطاع قتل الأبناء واستحيا النساء، فلا ميزان للجميع إلا بمدى قربهم من الله أو بعدهم عنه.

كما يجب علينا جميعاً أن نتجرع الواقع المرير ولو لم نستسغه حتى نواجه الغارة الشعواء، ونستبين أغراضها الكامنة، في جعلنا قصة تروى، وخبر كان، قبل أن يجتمع علينا السالوك الخامس؛ وهو الهدم الروحي، والهدم التاريخي، والهدم العسكري، والذي غايته أن يتلاقى على أنقاضنا، فيا ترى هل يضيع الحق في حومة هذه الدائرة العمياء؟!

كلا. فلقد مر آباؤنا الأولين بمثل هذه المحن، ثم خرجوا منها موفورين، بعد أن أصلحوا أنفسهم وأصلحوا ما بينهم وبين الله بالنصح الجاد، والتصحيح الواعي: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21] (وليأتين زمن تملأ فيه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ) وذلك بلسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين!

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين!

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح بطانته يا ذا الجلال والإكرام.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , إقامة العدل للشيخ : سعود الشريم

https://audio.islamweb.net