إسلام ويب

قد يحتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فيكون حمله على الحقيقة أولى، وكذلك حمله على العموم أولى من حمله على الخصوص، وعلى الإفراد أولى من حمله على الاشتراك، وحمله على الاستقلال أولى من حمله على الإضمار، وعلى التأسيس أولى من حمله على التوكيد.

ما يحمل عليه اللفظ من معانيه

حمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز

قال المؤلف: [ويجب حمل اللفظ على حقيقته]، هل يجب شرعاً أم لغة أم عرفاً؟

الجواب: شرعاً ولغة وعرفاً، ففي الأمور الشرعية يجب شرعاً، وفي الأمور اللغوية يجب لغة، وفي الأمور العرفية يجب عرفاً، ولهذا قال المؤلف في آخر كلامه: (وعلى عرف متكلم).

فيجب حمل اللفظ على حقيقته دون مجازه، إلا إذا تعذر الحمل على الحقيقة فحينئذٍ نلجأ إلى المجاز. وهذا على القول بأنه يوجد في اللغة العربية حقيقة ومجاز.

حمل اللفظ على عمومه دون خصوصه

كذلك يجب حمله على عمومه دون تخصيصه، أي: يجب حمل الكلام على العموم دون التخصيص، وهذا يشمل أمرين: الأمر الأول: أن نمنع أن يكون المراد بهذا العموم: الخصوص، والثاني: أن نمنع خروج فرد من أفراد العموم من هذا العموم.

فقاعدة أن العموم يجب حمله على عمومه دون التخصيص نقول: هذا يشمل أمرين:

الأمر الأول: أن يكون المراد باللفظ العام العموم.

والثاني: أن يكون اللفظ العام عاماً لجميع الأفراد فلا يخرج منه شيء.

مثال الأول: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النساء:79] كلمة (للناس) هذه عامة، وكلمة (للعالمين) عامة، يقول النصراني: إن المراد بالناس هنا الخصوص، فيختص بالعرب دون غيرهم، نقول: هذا خلاف الصواب، لأنه يجب حمل اللفظ على عمومه، فقولك: إنه يراد بالناس هنا الناس الخاصين المعينين، هذا خلاف الأصل فلا يُقبل منك.

كذلك لو جاءنا لفظ عام فأخرج بعض الناس منه فرداً من الأفراد وقال: هذا خارج من العموم، نقول له: هذا خطأ؛ لأن الواجب حمل اللفظ على جميع أفراده. مثال ذلك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، سواءً بسواء)، فجاء واحد من الناس وقال: يخرج من الذهب ما كان مصوغاً، فيجوز أن نزيد في غير المصوغ من الذهب ما يقابل قيمة المصوغ، فنخرج هذه المسألة من الحكم العام؛ فنقول له: الأصل العموم.

مثال آخر: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار...) إلى آخر الحديث. قال بعض الناس: الحُلي يخرج من هذا العموم، ونقول: الأصل حمله على عمومه، فالمرأة التي عندها حلي هي صاحبة ذهب أو فضة، فيجب أن يبقى النص على عمومه إلا بدليل.

إذا قال: عندي دليل، الدليل: (وفي الرقة ربع العشر) والرقة هي الفضة المضروبة، (الورق)، نقول: هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأن ذكر بعض الأفراد في الحكم الموافق للعموم لا يقتضي التخصيص.

إذاً: يجب أن يبقى العام على عمومه دون تخصيصه.

حمل اللفظ على إفراده دون اشتراكه

كذلك يجب حمله على إفراده دون اشتراكه، يعني: إذا كان لفظ مشتركاً بين شيئين أو بين معنيين، وعرفتم فيما سبق أن المشترك ما دل على معنيين متساويين في الدلالة لكنهما مختلفان في الحقيقة، مثل: (قرء) اسم للحيض وللطهر، و(عين) اسم للعين الباصرة والجارية والمنقودة.

فالمشترك هل يُحمل على إفراده أم على اشتراكه؟ المؤلف يقول: يحمل على إفراده، بمعنى: أنه يحمل على معنىً واحد من هذه المعاني المشتركة، وهو يومئ إلى قول من قال من أهل العلم: إنه لا يجوز حمل المشترك على معنيين.

وقد سبق لنا تحقيق القول في هذه المسألة، وأن حمل المشترك على معنيين إن كان هناك تضاد بين المعنيين فإنه لا يُحمل عليه، بل يُحمل على أحدهما إن وُجِد مرجِّح، وإن لم يوجد مرجح وجب التوقف؛ لأنه مع الاحتمال يبطل الاستدلال، أما إذا كان لا منافاة بين معنيين فإنه يُحمل على المعنيين جميعاً ولا ضرر، فإطلاق المؤلف أنه يحمل على إفراده دون اشتراكه فيه نظر، يحتاج إلى التفصيل الذي ذكرناه.

مثال ذلك: (القرء) في اللغة العربية يُطلق على الطهر وعلى الحيض، فقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]؛ هل المراد ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض؟ فيه خلاف طويل عريض ذكره ابن القيم في زاد المعاد وأطال فيه. والصحيح أن المراد به: الحيض، لقول النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة المستحاضة: (تجلس أيام أقرائها) أي: أيام حيضها، فالقرء في لسان الشارع -وإن كان في اللغة يطلق على المعنيين- المراد به الحيض، فهنا دل دليل على الترجيح، فنأخذ بالراجح.

إذا كان ليس هناك ترجيح والمعنيان لا يتناقضان أُخِذ بالمعنيين جميعاً، مثل قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17]، قالوا: إن العسعسة تطلق على الإقبال والإدبار، فنقول: إذاً تُحمل الآية على الإقبال والإدبار، فيكون قسماً بالليل عند إقباله وعند إدباره، لأن كل ذلك آية من آيات الله عز وجل أقسم الله بها.

أما إذا لم يمكن الجمع بين المعنيين فهنا يجب التوقف.

أما ظهور أحد المعنيين فيكون إما بالقرينة وإما باللفظ، فإذا قال قائل: عندي لك عين منقودة، فهنا المراد بها وإذا قال: عندي لك عين جارية، فهي عين ماء، وإذا قال: لك عين واسعة، فيحتمل، أي: يمكن له عين واسعة تجري، لكن لو قال: لك عينك ثاقبة، فالمراد الباصرة.

حمل اللفظ على استقلاله دون إضماره

قال المؤلف رحمه الله: [ويطلق أيضاً على استقلاله دون إضماره].

الحقيقة توجد كلمات مشهورة عند الناس غير هذه الكلمات: استقلاله دون إضماره، يعني: أنه يُحمل على عدم الحذف، فإذا دار الأمر بين أن يكون الكلام قد حُذِف منه شيء أو لم يحذف فإنه يُحمل على عدم الحذف؛ لأنه الأصل عدم الحذف.

قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] إذا قال قائل: المراد جاء أمر ربك، نقول: الأصل عدم الحذف، فيجب أن نحمله على أن المراد جاء هو نفسه عز وجل.

إذا قال قائل: ( ذكاة الجنين ذكاة أمه )، إن هذا على إضمار، أي: كذكاة أمه؛ فالجواب: أن الأصل عدم الإضمار، فيجب أن يحمل على استقلاله دون إضماره.

الذين يقولون: (كذكاة أمه) يقولون: إذا ذبحت البهيمة وفيها حمل، فإن أدركته حياً وذبحته حلَّ، وإن مات في بطنها فهو حرام؛ لأنه لم ينهر فيه الدم؛ لكن الصحيح أن معنى الحديث: ( ذكاته ذكاة أمه )، يعني: أن ذكاة أمه ذكاة له، هذا المعنى، ولأن في اشتراط إراقة دم الجنين مشقة، يلزم منه إما أن نبادر من حينما نذبح الأم نشق بطنها، وفي هذا إيلام لها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق)، وإما أن يذهب علينا خسارة.

حمل اللفظ على إطلاقه دون تقييده

يقول المؤلف: [ويجب أيضاً حمله على إطلاقه دون تقييده].

أي إذا ورد مطلقاً فإنه لا يجوز أن يقيَّد، فقوله: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، هذا من باب العموم، قال: (صلاة) أي: صلاة فريضة، والنافلة تجوز؛ قلنا: لا، يجب حمله على إطلاقه، مع أن هذا الأحسن أن نمثله بالعموم، لأن (صلاة) هنا نكرة في سياق النفي فهي للعموم، لكن لو ورد مثل قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] هذا مطلق، لم يقيد الله تعالى الرقبة بالمؤمنة، فعلى هذه القاعدة نقول: يحمل على الإطلاق دون التقييد، ولو أعتق رقبة كافرة فلا بأس.

وكذلك في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89]، وقد قال به كثير من أهل العلم، وقال: إن الرقبة إن قيدها الله تعالى بالإيمان فهي على القيد، وإلا فهي على الإطلاق.

وفي كفارة القتل قال الله تعالى: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، فيقولون: نمشي على تقييد ما قيده الله وإطلاق ما أطلقه الله.

حمل اللفظ على تأصيله دون زيادته

يقول: [وعلى تأصيله دون زيادته] يعني: لو ادعى أحد أن في الكلام زيادة وقال الآخر: لا زيادة فيه، فما الأصل؟

الجواب: الأصل عدم الزيادة، وليست هذه هي المسألة الأولى، المسألة الأولى ادعى أن في الكلام شيئاً محذوفاً، وأما هذه فادعى أن في الكلام شيئاً زائداً، عكس الأولى، نقول: الأصل عدم الزيادة.

فلو قال قائل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] إن الكاف زائدة، قلنا: الأصل عدم الزيادة، وهكذا كلما جاء نص وادعى أحد أن فيه كلمة -اسماً أو فعلاً أو حرفاً- زائدة، قلنا: الأصل عدم الزيادة.

حمل اللفظ على تقديمه دون تأخيره

ويحمل على تقديمه دون تأخيره: ومعنى (على تقديمه دون تأخيره) أن الكلام في موضعه ليس فيه تقديم ولا تأخير، وسيأتي إن شاء الله المثال وبيان أن فيه نظراً؛ لأن المؤلف مثل بآية الظهار وفيها نظر.

المعنى الواجب حمل اللفظ عليه

تقدم أن معنى حمل اللفظ على تقديمه دون تأخيره: أنه إذا دار الأمر بين أن يكون في الكلام تقديم وتأخير فلا يحمل على التقديم، بل يحمل على بقائه وأنه ليس فيه تقديم وتأخير، ولكن في العبارة تسامح.

ومثل لذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]، قال: إن بعضهم قال: تقدير الكلام: والذي يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا، يعني: أنهم إذا حرروا الرقبة عادت المرأة حلالاً لهم، هذا المعنى على رأي هؤلاء، فيقول: لما قالوا، يعني: أنهم إذا حرروا الرقبة عادوا لما قالوا سالمين من الإثم لأنهم كفَّروا، والآية ليس هذا معناها، وهي على ترتيبها ليس فيها تقديم وتأخير، وأن معنى قوله: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [المجادلة:3] أي: يجامعون نساءهم، فعليهم تحرير رقبة، لكن الكلام أننا نقول: إذا دار الأمر بين تقديم الكلام بعضه على بعض فالأصل بقاؤه على ما كان عليه.

حمل اللفظ على التأسيس دون التوكيد

قال: [وعلى تأسيسه دون توكيده]: التأسيس معناه أنه أصل وليس مؤكداً.

يعني: إذا دار الأمر بين أن نقول: هذه الجملة تأكيد للأولى أو هي جملة مستقلة في معناها، فالأصل الثاني؛ أنها كلمة مستقلة بمعناها، وذلك لأننا لو جعلناها توكيداً لكان في الكلام زيادة، فإذا جعلناها مؤسسة لم يكن في الكلام زيادة.

مثل لذلك رحمه الله بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13], في سورة الرحمن، و وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] في سورة المرسلات، فقال: لو قال قائل إن هذه الآيات كُرِّرت للتوكيد، نقول: لا، بل كُرِّرت للتأسيس؛ لأن كل آية قبلها فهي من آلاء الله عز وجل، فتكون كل آية يقال فيها: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] تأسيس.

بعض العلماء يقولون: لو قال: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:1-15]، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] إلى آخره، ويجيء في آخرها يقول: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:18] لكل هذه الآلاء، يقول: لكفى! فتبقى الآيات التي كُرِّرت يراد بها التوكيد.

فيقال: لا توكيد مع فصل. قولك: إن هذا توكيد هذا خطأ؛ لأن من شرط التوكيد أن لا يكون بينه وبين المؤكد فصل، وهنا فصلت كل آية من فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:18] بنعم أو نعمة مستقلة كبيرة تحتاج أن يقال فيها: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:18].

إذاً: ليس فيها توكيد، بل الكلام من ذات التأسيس.

والمهم أنك تأخذ هذه القاعدة، سواء صح المثال أم لم يصح، المهم أن تأخذ أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الجملة مؤكدة أو مؤسسة فهي مؤسسة.

ومن ذلك: إذا قال: أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق وقلنا بوقوع الثلاث، ومات قبل أن يتبين مراده هل أراد التوكيد أو التأسيس، نقول: الأصل التأسيس وتبين منه المرأة ولا ترث منه، وهذا قد يقع، رجل مثلاً قال لزوجته: أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق، ثم خرج من بيته صحيحاً معافى، ثم حصل عليه حادث ومات، إذا قلنا: إنها للتوكيد؛ صار الطلاق رجعياً وترث منه. وإذا قلنا للتأسيس وقلنا بوقوع الثلاث؛ صار الكلام تأسيساً وليس فيه التوكيد، وحينئذٍ تبين منه ولا ترث.

المهم أن القاعدة عندنا: أنه إذا دار الكلام بين أن تكون الجملة أو الكلمة مؤكدة أو مؤسسة فالأصل التأسيس؛ لأن التوكيد زيادة، ولأن الجملة المؤكدة أو الكلمة المؤكدة لو رُفِعت لاستقام الكلام بدونها، والأصل عدم الزيادة.

حمل اللفظ على تبيانه دون ترادفه

ويحمل اللفظ أيضاً على تباينه دون ترادفه، يعني: إذا دار الأمر بين أن تكون هذه الكلمة مرادفة للأخرى أو مباينة حُمِلت على التباين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى)، الأحلام ترد بمعنى العقول لا شك، وترد بمعنى البلوغ: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59] .

النُّهى: بمعنى العقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54] فهنا هل نقول: إن قوله: (الأحلام والنهى) كلمتان مترادفان بمعنىً واحد، أو كلمتان متباينتان؟

الجواب: نقول: الأصل التباين وأن نقول: أولو الأحلام يعني: البالغين، والنُّهى يعني: العقلاء. هذا هو الأصل، لو جعلتهما مترادفتين لكان في الكلام تكرار لا فائدة منه، بل تكرار يؤدي إلى التشويش وعدم الفهم، فإذا جعلناهما متباينتين صح.

لكن لماذا لا نقول: هذا من باب التوكيد؟ ليش قال: (تباينه دون ترادفه)، ولم يقل: (تأسيسه دون توكيده)؟ لأن التوكيد لا يصح مع وجود العطف؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.

وفي الأحكام لو قال: أنتِ طالق وأنتِ طالق وأنتِ طالق؛ فقال: أردت توكيد الأولى بالثانية؛ قلنا: لا يصح، لأن العطف يمنع التوكيد.

ولو قال: أردت توكيد الثانية بالثالثة، صح؛ لأنه أراد أن يؤكد واو العطف والجملة التي بعدها، فيصح.

حمل اللفظ على بقائه دون نسخه

قال: [وعلى بقائه دون نسخه].

يعني: إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام النص منسوخاً أو محكماً فالأصل بقاؤه وعدم النسخ، ومثل لذلك بمثال غير مستقيم، قال: كقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]؛ فإن ظاهر هذا حصر المحرمات في ثلاثة، مع أنها وردت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فقال بعض العلماء: إن هذه الآية منسوخة بالحديث.

وهذا خطأ؛ لقوله: (قُلْ لا أَجِدُ)، إذاً: كونه لا يجد الآن لا يمنع أن يتجدد تحريم آخر.

لكن نمثل لهذا بكثير من الآيات التي أمر الله فيها بالصفح عن المشركين والإعراض عنهم، وما أكثرها في القرآن، ذكر كثير من العلماء أن كل هذه الآيات منسوخة بآية السيف التي يأمر الله فيها بالقتال، فإذاً: قالوا هي منسوخة وقال آخرون: غير منسوخة؛ فنقول: إنها غير منسوخة، لكنها تنزل على حالات من الأحوال: فمع العجز فرضنا السلم والمصالحة والإعراض، ومع القوة فرضنا القتال حتى يكون الدين لله عز وجل ولا تكون فتنة.

إذاً: المثال الصحيح ما أشرنا إليه، وهذه الأمثلة كثيرة أيضاً فيما ترد، بعض العلماء رحمهم الله إذا عجزوا عن الجمع بين الأحاديث أو بين النصوص قالوا: هذا منسوخ، وهذا خطأ، والعلماء المحققون قالوا: إن النسخ في الشريعة الإسلامية لا يتجاوز عشرة أحكام، بينما تجد بعض العلماء لو تحصر الأحكام التي قالوا بنسخها وجدت مئات!

قوله: [وعلى بقائه دون نسخه إلا لدليل راجح]، وهو معلوم، فإذا وجد دليل على النسخ وجب العمل به.

فقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] إذا قال قائل: هذه الآية منسوخة، وقال آخر: محكمة، فالقول قول من قال إنها منسوخة؛ لأن فيها دليلاً: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66].

حمل اللفظ على عرف المتكلم به

قال: [وعلى عرف متكلم].

معناه: إذا تكلم الإنسان بكلام وكان له معنىً لغوي ومعنىً عرفي؛ فإننا نرده إلى عرف هذا المتكلم، فإذا وجدنا كلمة (فاعل) في كتب النحويين نقول هي: الاسم المرفوع المذكور قبله فعله. وإذا وجدنا (فاعل) في اللغة العربية نقول: هو الذي قام به الفعل، سواء كان مبتدأ أو كان فاعلاً أو غير ذلك.

فالصلاة في لسان الشارع تحمل على الحقيقة الشرعية، والحقيقة الشرعية: هي عُرف شرعي للشارع، ولا تحمل على الحقيقة اللغوية، فقول الرسول: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، لا نقول: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأن الدعاء لا يقبل إلا بطهارة لأن هذا هو اللغة؛ بل نحمله على عُرف الشرع، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [23] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net