إسلام ويب

من مباحث الأصول مبحث الأحكام والكلام على التحسين والتقبيح، وهل هما عقليان أم شرعيان، وهي مسألة اشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة، حيث غالى المعتزلة فجعلوا العقل هو مرد التحسين والتقبيح، وجعلوا الشرع تابعاً له، وهو من أخطائهم الفاحشة.

مبحث الأحكام

الأحكام كونية وشرعية

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [الأحكام].

الأحكام: جمع حكم، والحكم: إثبات الشيء للشيء، كقولنا: هذا واجب وهذا حرام، وهذا صحيح وهذا فاسد، وهذا حلو وهذا مر, وهذا حار وهذا بارد.

إذاً: إثبات شيء لشيء هذا حكم، وتصور الشيء ليس بحكم، ولهذا يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإذا قيل لنا: هل هذا حرام أو هذا حلال؟ وأنا أعرف معنى الحرام ومعنى الحلال؛ لكنني لم أحكم لهذا الشيء بأنه حلال أو حرام؛ فهذا يسمى تصوراً. فإذا قلت: هذا حلال أو هذا حرام صار حكماً.

والأحكام قسمان: كونية وشرعية.

الكونية لا خيار للإنسان فيها إطلاقاً، مثل: الموت، المرض، المطر، القحط، وما أشبه ذلك، فهذه أحكام كونية ما للإنسان فيها خيار، حتى أكفر أهل الأرض لا يمكن أن يختار فيها، فلا يمكن لأكفر الناس أن يمنع المرض عن نفسه ولا أن يمنع الموت عن نفسه.

والأحكام الشرعية التي جاءت بها الرسل تتعلق بالاختيار، فيمكن للإنسان أن يفعل ويمكن أن لا يفعل، فمثلاً: (أقيموا الصلاة) حكم شرعي يمكن للإنسان أن يقيم ويمكن أن لا يقيم. (لا تشركوا بالله شيئاً) حكم شرعي، يمكن للإنسان أن يشرك، ويمكن أن لا يشرك.

التحسين والتقبيح

بقي عندنا أمر ثالث: الحسن والقبح هل هما عقليان أو شرعيان؟

بمعنى: هل العقل يحكم بحسن هذا الشيء أو قبحه أو لا حتى يحكم به الشرع؟

هذه مسألة اختلف فيها العلماء اختلافاً طويلاً، ويتفرع عليها مسائل كثيرة منها مسائل الصفات، فالذين يقولون بالحسن والقبح العقلي يمنعون ما يظنون أن إثباته لله قبيح، ويثبتون ما يظنون أن إثباته لله حسن بقطع النظر عن الشرع.

والذين يقولون: إن هذا إلى الشرع أيضاً يجعلون ما جاءت به الشريعة أمراً تعبدياً محضاً ليس للعقول فيه مدخل إطلاقاً، فالعقل مثلاً لا يستحسن الصدق، ولكنه استحسنه لأن الشرع أمر به، والعقل لا يستقبح الكذب؛ لكن استقبحه لأن الشرع جاء بالتحذير منه، ولا يستقبح الشرك العقل؛ ولكن لأن الشرع جاء بقبحه.

هؤلاء أيضاً أخطئوا خطأً عظيماً، وجنوا جناية عظيمة على الشريعة؛ لأن معنى ذلك: أن الشريعة لا تراعي المصالح، ولا تأتي بما يناسب العقول، والحقيقة: أن الشرع لا يأتي بما يخالف العقل أبداً، بل لا يأتي إلا بما يستحسنه العقل أمراً وما يستقبحه نهياً، وكلنا يعرف أن العقل يحسن الصدق حتى وإن لم يأت به الشرع، ولهذا تجدون أبا سفيان حينما سأله هرقل عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام وصفته هم أن يكذب، لكن قال: لا يمكن أن أكذب كذبة يتحدث الناس بها عني، فاستقبح الكذب مع أنه كافر مشرك، ما هو لأنه شرع، نجد الآن الكفار الآن يمدحون الصدق ويأتون به، ويكرهون الكذب ويذمونه، وهم ليس عندهم دين.

فالصواب في هذه المسألة: أن العقل يحسن ويقبح لكن لا يوجب ولا يحرم، فالأحكام التكليفية هي للشرع، وأما الحسن والقبح فمعلوم بالعقل، لكن من الأشياء ما لا يعلم العقل حسنه إلا بعد ورود الشرع به، ولا يعلم العقل قبحه إلا بعد ورود الشرع به، ومن الأشياء ما يعلم العقل حسنها وقبحها قبل أن يعلم بما جاء به الشرع.

المؤلف رحمه الله يقول: [الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، أو صفة كمال ونقص للقبح عقلي، وبمعنى المدح والثواب، والذم والعقاب شرعي].

أي: الحسن بمعنى ملاءمة الطبع، عقلي لا شرعي.

الإنسان يعلم بالعقل ما يلائم طبعه، ويعلم ما ينفر منه الطبع أيضاً بالعقل، كلٌ يعلم أنه إذا أصابه البرد يتغطى فيزول عنه البرد، فحسن الغطاء عند وجود البرد اللاذع عقلي، ولا يحتاج إلى دراسة.

فالحسن بمعنى أن هذا الشيء يلائم الفطرة، أمر عقلي ولا نزاع فيه.

كل إنسان يعرف أن الوفاء بالوعد عقلي، ولا أحد يقول: ما شاء الله، فلان رجل طيب لأنه لم يعد عدة إلا غدر بها!

كذلك بمعنى صفة كمال أو نقص، فصفة الكمال والنقص ينطبق عليها الصدق والكذب، فالصدق كمال، والكذب نقص.

الوفاء كمال والغدر نقص، فالحُسن والقُبح بمعنى الملاءمة والمنافرة في الأمور المحسوسة، وبمعنى الكمال أو النقص في الأمور المعنوية هذا أمر معلوم بالعقل.

وكلام المؤلف رحمه الله فيه لف ونشر مرتب، بمعنى ملاءمة الطبع يعود على الحسن، ومنافرته يعود على القبح، وهذا في المحسوسات، إذا جُعْت وأكلت فهذا حسن معلوم بالعقل، لكنه في الأمور المحسوسة نقول: هو الملاءمة والمنافرة. الكمال والنقص مثل الصدق والكذب، والوفاء والغدر.

أو صفة كمال يعود على الحُسن. ونقص يعود على القبح.

وقوله: (عقلي) يعني: يُدرك بالعقل، ولا رجوع إلى ما يلائم الطبع أو ينفر منه الطبع لو جُعِل من الأمر الحسي لكان أقرب إلى التحقيق؛ لأن كوني أعرف أن هذا الشيء يلائمني طبعاً أو ينفر منه طبعي هذا أمر يدرك بالحس، لكن الكمال والنقص يدرك بالعقل.

قوله: (وبمعنى المدح والثواب) المدح في الحسن، والثواب في الحسن أيضاً، (والذم والعقاب) في القُبح، يعني: كوننا نقول: هذا ممدوح أو هذا مذموم هذا على رأي المؤلف شرعي، أي: كوننا نقول: هذا فيه الثواب وهذا فيه العقاب؛ هذا أمر شرعي.

فكلام المؤلف الآن تضمن مسألتين:

المسألة الأولى: تعليق المدح والذم.

والمسألة الثانية: تعليق الثواب والعقاب.

زعم المؤلف أن كلتا المسألتين شرعية لا تعلم إلا بالشرع، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أن المدح والذم عقلي وشرعي أيضاً، الله عز وجل امتدح أهل الكمال وذم أهل النقص، وكذلك العقل يقتضي مدح أهل الكمال وذم أهل النقص، أما الثواب والعقاب فهذا صحيح أنه إلى الشرع، لا يمكن أن نقول لهذا الرجل: إنك مثاب أو لهذا الرجل: إنك معاقب، إلا بدليل من الشرع، فعندنا الآن الحسن والقبح له عدة معان:

أولاً: بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، فهو حكم عقلي، وقلت: إنه ينبغي أن نقول: حكم حسي.

وبمعنى الكمال والنقص حكم عقلي.

وبمعنى المدح والذم عقلي شرعي.

وبمعنى الثواب والعقاب شرعي محض، فصارت أقساماً: عقلي محض، وشرعي محض، وعقلي شرعي، والله الموفق.

وهذه المباحث أحدثها المتكلمون وملئوا بها الصفحات وفائدتها قليلة وعلمها معروف بالفطرة والتأمل، وهذا كله مما يجعل علماء السلف يذمون علم الكلام؛ لأنهم يملئون الدنيا كلاماً لا طائل تحته، كل يعرف أن الصدق حسن والكذب قبيح، وكل يعرف أنه ليس لنا حق في أن نقول: هذا فيه إثم وهذا فيه عقوبة، هذا إلى الله عز وجل.

فالحاصل: أن ما قاله المؤلف رحمه الله قول مرجوح.

لا حاكم إلا الله

قال المؤلف رحمه الله: [فلا حاكم إلا الله].

وهذا صحيح، لا حاكم إلا الله لا كوناً ولا شرعاً، كما قال الله تعالى: وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالحاكم هو الله وحده لا حاكم غيره.

فإن قلت: هذا أنت الآن أتيت بحكم ودليل، الحكم أنه لا حاكم إلا الله، والدليل قوله تعالى: وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة، ولكن كيف تجيب عما أقره الفقهاء جميعاً في قولهم: النظر للحاكم، حكم الحاكم يرفع الخلاف، يذهبان إلى الحاكم فيحكم بينهما، بل إلى قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]؟ كيف تقول في هذا؟

نقول: إن الحاكم والحكم يحكمان بحكم الله، فالحكم الأول لله، وما الحاكم إلا مبين لحكم الله وملزم به، فحينئذٍ لا إشكال في الموضوع.

الحكم لو قلت إنه حكم شرعي وحكم قدري كوني، فالله تعالى هو الحاكم لعباده تشريعاً، وهو الحاكم لعباده تقديراً.

التحسين والتقبيح العقلي

قال المؤلف: [والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب ولا يحرم].

هذه غريبة، العقل لا يحسن، فهل هو جماد لا يعرف؟ هذا قول في غاية البعد، فالعقل بلا شك يحسن الحسن ويقبح القبيح، حتى إنه جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح).

فالعقل يحسن ويقبح خلافاً لما قاله المؤلف رحمه الله؛ لأن العقل يشهد شهادة قطعية أن الصدق حسن، وأن الوفاء حسن، وأن بذل المال إلى المحتاج حسن، وأن معونة الإنسان على شئونه حسنة.. وهكذا لا شك في هذا.

ويقبح العدوان والظلم، والكذب والغدر وما أشبه ذلك، كيف نقول: لا يحسن ولا يقبح؟ بل لولا أن العقل يحسن ويقبح ما عرفنا حسن ما أمر الله به ورسوله، ولا قبح ما نهى الله عنه ورسوله.

إذاً: فقول المؤلف: (لا يحسن ولا يقبح) مرجوح.

وقوله: (ولا يوجب ولا يحرم) صحيح، فالعقل لا يوجب إيجاباً يترتب عليه ثواب، ولا يحرم تحريماً يترتب عليه العقاب، لكن قد يوجب العقل شيئاً حسب العادة، وقد يحرم شيئاً حسب العادة، لكن لا يقول لك: إن هذا حرام شرعاً يعاقب عليه، أو هذا واجب شرعاً تثاب عليه، فنفي الإيجاب والتحريم عن العقل قد نقول: إنه عند التحقيق فيه تفصيل، كيف ذلك؟

نقول: إن أردتم الإيجاب الذي يترتب عليه الثواب، والتحريم الذي يترتب عليه العقاب؛ فهذا نفيه عن العقل صحيح، وإن أردتم إيجابه الشيء حسب العادة بدون أن يترتب عليه الثواب والعقاب فهذا قد نقول: إن نفيه غير صحيح، وإن العقل يرى أن هذا الرجل الذي فعل ما يعتب عليه عادة، أي فعل محرماً في العادة، وإذا فعل ما تقتضيه العادة فعل واجباً في العادة، لكن قد نقول: لا ينبغي أن نطلق عليه إنه واجب أو محرم؛ لأن المعروف شرعاً: أن الواجب شرعاً ما أمر الله به على سبيل الإلزام، والمحرم ما نهى عنه على سبيل الإلزام بالترك، فهذا قد يوجد إذا قلنا إنه يوجب أو يحرم، وحينئذٍ نقول: يصح أن ننفي لفظ (يوجب ويحرم)؛ لأن (يوجب ويحرم) لا يتبادر منه إلا الإيجاب الذي يترتب عليه الثواب، أو التحريم الذي يترتب عليه العقاب، وحينئذٍ نقول: الأولى كما قال المؤلف أن ننفي ثبوت ذلك للعقل؛ لئلا يوهم معنىً فاسداً، أما من حيث إن العقل يقتضي أحياناً أن يلزم الإنسان بهذا الشيء المعروف عادة تركاً أو فعلاً فهذا أمر واقع.

كثيراً ما نسمع من الناس في الأمور العادية يقول: هذا واجب عليك، واجب عليك أنك تفعل كذا، واجب عليك أن تفعل كذا، وهو ما هو بواجب شرعاً، لكن يرونه واجباً عقلياً حسب ما تقتضيه العادة.

عدم رد الشارع بما يخالف بداهة العقول

قال: [ولا يرد الشرع بما يخالف ما يعرف ببداهة العقول وضروراتها].

هذا كأن المؤلف رحمه الله أراد أن ينفي شيئاً لازماً له حينما قال: إن العقل لا يحسن ولا يقبح. فكأنه قيل له: فهل يرد الشرع بأمر يخالف ما يعرف ببداهة العقول وضروراتها؟

فأجاب بأنه لا يمكن، فكل ما ورد به الشرع فإنه لا يخالف ما يعلم بضرورة العقول وبدهياتها.

والبداهة تعني: الذي يعلم بأدنى تأمل أنه مخالف للعقل.

والضرورة: ما يقتضيه العقل على وجه الضرورة.

فمثلاً: الشرع لا يمكن أن يرد بإباحة الزنا؛ لأنه يعلم ببداهة العقول قبحه وفساده، وأن الأنساب تختلط، ولا يعرف ابن فلان من ابن فلان.

ولا يمكن أن يرد بإباحة الظلم؛ لأنه معلوم ببداهة العقول وضروراتها أن الظلم منكر، والشرع لا يأتي بمثل هذا.

فالشرع إذاً لا يأتي لا خبراً ولا طلباً بشيء يخالف ضرورات العقول وبدهياتها أبداً؛ لكن قد يأتي الشرع بما تحار فيه العقول، وفرق بين ما تحيله العقول وما تحار فيه العقول؛ فما تحار فيه العقول لعدم إدراكها وضعف إدراكها، مثل أمر الشرع بالوضوء من لحم الإبل، هذا أمر مسلَّم وواجب علينا قبوله والعمل به، لكن العقل يحار: لماذا؟ ما الفرق بين لحم الإبل ولحم البقر مثلاً؟ نقول: هذا ممكن، يعني: يمكن أن يأتي الشرع بأمر تحار فيه العقول ولكنها لا تحيله، ولهذا يقال: الشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها، محاراتها أي: محل الحيرة وعدم الوصول إلى الحكمة لقصور العقل، لا محالاتها يعني: لا الأمور المستحيلة.

المؤلف كأنه في هذه العبارة قرب من القول بالتحسين العقلي والتقبيح العقلي، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [24] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net