إسلام ويب

الحسن شرعاً ما أمر به الشرع، والقبيح شرعاً ما نهى عنه الشرع، ومن هنا فغير المكلف لا يوصف فعله بحسن ولا قبح لعدم دخوله تحت الأمر والنهي، ومعرفة الله تعالى وشكره واجبات بالشرع، وللعلماء في ذلك تفاصيل مفيدة.

الحسن والقبح شرعاً وعرفاً

سبق لنا أن العقل على كلام المؤلف لا يحسن ولا يقبح، وأنه لا يوجب ولا يحرم، وأن الصحيح أن العقل يحسن ويقبح، وأن هذا هو الواقع، لكن لا بمعنى ترتب الثواب والعقاب؛ لأن هذا ليس إلى العقل ولكنه إلى الله تعالى ورسوله.

وهل يوجب ويحرم؟ لا، يعني: لا يوجب بمعنى أنه يلزم بحيث يكون المخالف مستحقاً للعقاب والفاعل مستحقاً للثواب، وكذلك لا يحرم بحيث يكون الفاعل مستحقاً للعقاب والتارك مستحقاً للثواب.

وسبق أنه لا يرد الشرع بما يخالف بداهة العقول وضرورتها، وأن هذا أمر مستحيل، فلا يمكن أن يرد الشرع بإيجاب ما فيه ضرر؛ لأن هذا يعلم ببداهة العقول أنه لا يصدر من الرب الرحيم، ولا يمكن أن يرد الشرع بشيء متناقض؛ لأن هذا إبطاله بما يعلم بضرورة العقل أن الشرع لا تناقض فيه.

الحسن والقبيح شرعاً

وقال المؤلف رحمه الله: [والحسن والقبيح شرعًا: ما أمر به وما نهى عنه].

الاختصار حقيقة أحياناً يوجب الاشتباه عند بعض الناس، فقوله: (الحسن والقبيح شرعاً: ما أمر الله به وما نهى عنه)، نقول: هذا فيه لفظ مركب. فالحسن شرعاً: ما أمر الله به، والقبيح شرعاً: ما نهى الله عنه، لكن نظراً للاختصار جعله المؤلف من باب اللف والنشر، وعندي أنه لو أفرد كل مسألة على حدة لم يزد عليه إلا كلمة شرعاً فقط، فلو قال: الحسن شرعاً ما أمر الله به، والقبيح شرعاً ما نهى الله عنه، ولم يزد عليه إلا كلمة (شرعاً)؛ لكن بعض الناس من أجل الاختصار يعمل هذا العمل.

وفيه أيضاً فائدة: أن الطالب يتمرن على مثل هذه العبارات التي في كلام الفقهاء رحمهم الله.

إذاً لو سئلت: ما الحسن شرعاً؟

فالجواب: هو ما أمر الله به، وسبق أن قلنا: إن ما أمر الله به حسن شرعاً وعقلاً، وما نهى عنه فهو قبيح شرعاً وعقلاً، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الله لم يأمر بشيء فقال العقل: ليته لم يأمر به، ولم ينه عن شيء فقال العقل: ليته لم ينه عنه؛ أبداً، بل ما نهى عنه فإن العقل يقول: مقتضى العقل أن ينهى عنه، وما أمر به الشرع فإن العقل يقول: إن مقتضى العقل أن يؤمر به.

الحسن والقبيح عرفاً

ثم قال رحمه الله: [وعرفًا] يعني: الحسن والقبيح عرفاً: [ما لفاعله فعله وعكسه].

أي: ما لفاعله فعله هو الحسن، وعكسه القبيح، حتى وإن كان شرعاً ليس على هذا الوضع، يعني: لو كان الشرع يبيح لك أن تفعل كذا لكن العادة تمنعه وصف بأنه قبيح عرفاً أو عادة، وكأن المؤلف رحمه الله في هذه العبارة يرجع إلى أن العقل يحسن ويقبح، لأنه أمر ضروري، فكلٌ يعرف الحسن والقبيح بمقتضى عقله.

لو أنك أكلت في السوق أو لنقل: الأكل في السوق الآن أصبح عادة جائزاً، لكن لو أنك صرت تخلع ثوبك وتلبس الثوب الثاني، أي اشتريت ثوباً جديداً من صاحب الدكان فخلعت الثوب الأول ولبست الثاني، هذا عادة مستقبح، بل الناس يعيبونك، وربما يقولون: هذا في عقله خلل، لكن لو فرض أنك جئت في الليل ما في السوق أحد في نفس المكان وخلعت الثياب الأولى الوسخة ولبست الثياب الجديدة، لم يستقبح.

إذاً: هذا الفعل في حد ذاته ليس بقبيح، لكنه في العادة يكون قبيحاً في حال دون حال، أما الشرع فليس فيه شيء، لكن سبق لنا أن ما يخالف العادة والمروءة فإنه قد يكون قدحاً في الإنسان من ناحية شرعية، لأن الإنسان مأمور بالحفاظ على سمعته، ولهذا لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليشيع صفية حين زارته وهو معتكف ورآه رجلان من الأنصار فأسرعا فقال: (إنها صفية)، كان في هذا من الحكمة ما هو من أعلى الحكمة حتى يحصل للإنسان فائدتان:

الفائدة الأولى: دفع الشبهة عن نفسه.

والفائدة الثانية: دفع الإثم عن غيره، لأن غيره إذا ظن به ظن السوء وهو ليس بأهل يأثم، ولهذا قال لهما النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً).

فالحاصل: أن الشرع ينهى الإنسان أن يفعل ما يخالف المروءة، لأنه إذا فعل ما يخالف المروءة أساء إلى سمعته.

فعل غير المكلف لا يوصف بحسن ولا قبح

ثم قال رحمه الله: [ولا يوصف فعل غير مكلف بحسن ولا قبح].

غير المكلف هو الصغير والمجنون، وفعله لا يوصف بحسن ولا قبح، إذاً: لو يفعل الصبي ما شاء فليس بقبيح، ولو يترك ما شاء فليس بقبيح، وهذا ليس بصواب، إلا إذا قصد أنه لا يوصف بذلك على وجه نسبي، يعني: لا يوصف باعتبار وقوعه من هذا الذي ليس بمكلف فهذا نعم، لكن باعتبار نفس الفعل يوصف بأنه حسن وبأنه قبيح قطعاً، فلو أن هذا الصبي فعل الفاحشة نقول: فعله هذا قبيح بلا شك، لكن باعتبار إضافته إلى هذا الصبي ليس بقبيح لأنه غير مكلف، وكذلك لو أفسد شيئاً من أموال الناس فهذا قبيح لذاته، لكن باعتبار نسبته إلى هذا الصبي ليس بقبيح؛ لأنه غير مكلف، فيتعين أن يحمل كلام المؤلف على الأمر النسبي، أما على الفعل ذاته فلا شك أنه يوصف بالحسن ويوصف بالقبح، ولهذا أمرنا أن نؤدب أولادنا لنحملهم على الفعل الحسن، فأمرنا أن نأمرهم بالصلاة والصدق، وأمرنا أن ننهاهم عن الكذب وعن إضاعة الصلاة، وما أشبه ذلك.

وجوب شكر المنعم ومعرفته

ثم قال: [وشكر المنعم ومعرفته تعالى، وهي أول واجب لنفسه واجبان شرعًا].

شكر المنعم واجب شرعي، وقد أمر الله تعالى بالشكر في آيات متعددة: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

فالشكر واجب شرعاً، وظاهر كلام المؤلف أنه ليس بواجب عقلاً، بناءً على أن العقل لا يوجب ولا يحسن ولا يقبح، ولكننا سبق أن قلنا: إن العقل يوجب لكن ليس بمعنى ترتيب الثواب والعقاب، وهو بمعنى يحسن، ولا شك أن شكر المنعم واجب شرعاً مستحسن عقلاً، ولكن ما معنى الشكر؟

الشكر هو القيام بطاعة المنعم امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي، هذا هو الشكر حقيقة.

ومتعلقه: القلب واللسان والجوارح.

فالقلب: بأن يعترف الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عز وجل لا من غيره ولا بحوله وقوته.

واللسان: أن يثني على الله بها.

والجوارح: أن يقوم بطاعة المنعم، وأن يظهر عليه أثر النعمة، فإذا كان غنياً ظهر عليه لباس الأغنياء والمنفقين والمحسنين بأموالهم وما أشبه ذلك.

أما معرفته: فمعرفة المنعم عز وجل -وهو الله- واجب شرعاً، وهي -أي: المعرفة- أول واجب لنفسه، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من أنه يجب على الإنسان أن يعرف ربه، لكن يعرف ربه بأنه موجود أو يعرف ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه؟

الجواب: الثاني، أما الأول فهو أمر فطري لا يحتاج إلى نظر وتأمل، ولهذا قول من قال من أهل العلم: إنه يجب أولاً أن تبحث لتصل إلى أن الله موجود ثم بعد ذلك تؤمن بوجوده، ثم تبحث تقول: هذا الموجود لا بد أن يتصف بالنقص أو بالكمال، ثم تقول: هو متصف بالكمال.. وهكذا، نقول: أصح شيء أن أول واجب هو عبادة الله؛ لأن معرفة الله تعالى على وجه الإجمال معلومة ببداهة الفطر، (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

فأول واجب على الإنسان هو العبادة، وأما ما يسبقها من معرفة الله تعالى على وجه الإجمال فهذا معلوم بالفطرة.

يقول رحمه الله: [واجبان شرعًا، وفي قول: لا فرق بينهما] أي: بين الشكر والمعرفة. وقول المؤلف: [وفي قول] يقتضي أن هناك قولين متساويين، لأنه سبق لنا في المقدمات أنه إذا قال: (في وجه) فالمقدم خلافه، وإذا قال (في قول) أو (على قول) فالترجيح مختلف، فعلى هذا يقول: في المسألة قولان: قول بأن الشكر والمعرفة معناهما واحد، والقول الثاني: بينهما فرق، والصواب بلا شك أن بينهما فرقاً، فالشكر مبني على المعرفة، فبعد أن تعرف الرب وتعترف بنعمه فهذا هو الشكر، أي: الاعتراف بعد المعرفة، فالصواب: أن بينهما فرقاً، وأن مجرد المعرفة لا يكون شكراً حتى تقوم بطاعة المنعم على الوجه الذي أراد، والله الموفق.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [25] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net