إسلام ويب

يتكلم الأصوليون على مشيئة الله تعالى وإرادته وهل هما بمعنى محبته ورضاه وسخطه وبغضه؟ والصواب في ذلك التفصيل كما فصلت الأدلة الشرعية، فإنها دلت على أن الإرادة إراداتان: إرادة كونية وإرادة شرعية، وقد بين ذلك العلماء بما يشفي ويكفي.

الحكمة والعلة في أمر الله

قال رحمه الله تعالى: [وأمره لا لعلة وحكمة في قول].

وفي قول آخر: لعلة وحكمة، وهذا القول هو المتعين، وهو اللائق بالله سبحانه وتعالى؛ أن يكون فعله وأمره لعلة ولحكمة، لكن كما أشرنا قريباً أن من الحكم ما هو معلوم ومنها ما ليس بمعلوم، لكننا نؤمن ونشهد بأن الله عز وجل لا يفعل فعلاً ولا يأمر بأمر إلا وفيه حكمة، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه حكمة، انظر إلى الآية الكريمة التي تشير إلى هذا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، كل هذه الحكمة تقتضي الأمر به، كل ما أمر الله به فهو دائر بين العدل والإحسان، و(إيتاء ذي القربى) هو الإحسان إلى القربى، ونصّ عليه لأهمية حقه، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، كل أحد يرى أن الحكمة في النهي عن هذه الأشياء.

إذاً: أمر الله تعالى لا بد أن يكون لحكمة، وفعله الذي هو الخلق والإيجاد لا بد أن يكون لحكمة، وأما القول بأنه ليس لحكمة ولا لعلة، وأن مجرد المشيئة مرجح فهو قول ضعيف، وفيه من تنقص الله عز وجل ما نرجو الله أن يعفو عن قائله، وإلا فالأمر خطير؛ لأنك إذا قلت: ليس لحكمة ولا لعلة لزم أن يكون فعله سبحانه وتعالى لغواً وعبثاً ولعباً، والله عز وجل يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39] ، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] ، والآيات في هذا كثيرة.

هل المشيئة في حق الله هي الإرادة؟

قال المؤلف: [وهي وإرادته ليستا بمعنى محبته ورضاه، وسخطه وبغضه، فيحب ويرضى ما أمر به فقط].

(وهي) أي: المشيئة، والإرادة ليست بمعنى المحبة والرضا والسخط والبغض.

قوله: (بمعنى محبته ورضاه، وسخطه وبغضه) فيها لف ونشر غير مرتب، لأن المحبة يقابلها البغض، والرضا يقابله السخط، والترتيب مختلف، فهو لف ونشر غير مرتب، وإن شئت قلت: مشوش كما يقولون.

المشيئة ليست بمعنى المحبة، ولا بمعنى الكراهة، ولا بمعنى السخط، ولا بمعنى الرضا، لا شك في هذا، المشيئة تتعلق بكل ما شاءه من محبوب ومكروه، ومرضي ومسخوط، فالله تعالى شاءٍ لكل شيء حتى الذي يبغضه فقد شاءه، وحتى الذي يسخطه فقد شاءه، والذي يرضاه ويحبه أيضاً فقد شاءه، فالمشيئة عامة لكل مشاء من محبوب ومكروه ومرضي ومسخوط؛ ولهذا لو قال لك قائل: هل شاء الله عز وجل الفحشاء؟ فالجواب نعم شاءه؛ لأن الله تعالى ذكر اقتتال المؤمنين والكافرين وقال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253] ، وذكر تكذيب المكذبين وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137] .

إذاً: ما وقع ولو من مكروه يكرهه الله فهو بمشيئته، فإذا قال قائل: كيف يشاء ما يكرهه؟ وكيف يشاء ما يسخطه؟

فالجواب: أن الحكمة اقتضت ذلك، فقد يكره الشيء ويقع في مشيئته لكن لحكمة وغاية، مثلاً الكفر مكروه إلى الله عز وجل، مبغوض إليه بلا شك، وهو محل سخطٍ، ويقع بمشيئته لحكمة عظيمة، من أجل أن تتم كلمته لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119] ، وقد أشار هو ذلك في قوله: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119].

منها: أن يتبين الكافر من المؤمن، لو كان الناس كلهم مؤمنين ما تميز كافر من مؤمن، ولم يكن للمؤمن شيء يحمد عليه؛ لأن الأمة كلها مؤمنة، فهو لن يخرج عن بيئته، فإذا كان كافر ومؤمن من شاء ذهب للكفار ومن شاء ذهب للمؤمنين، حينئذٍ عرف المؤمن حقاً، علم الجهاد هل يرفع مع كون الناس كلهم مؤمنين؟

الجواب: لا يرفع إلا بوجود الكفار، وعلى هذا فقس، نعمة الله في الإيمان لا يعرفها المؤمن إلا إذا كان هناك كفر، كما أن نعمة الاستقامة لا يعرفها المستقيم إلا إذا كان هناك فسق، وهذا أمر يعرفه من تدبره.

إذاً: المشيئة عامة في كل شيء، فيما أمر الله به وما نهى عنه، فيما أحبه وما كرهه، فيما رضيه وما سخطه، كل شيء واقع بمشيئة الله، ولهذا كان المؤمنون يقولون كلمة عامة شاملة وهي: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. طيب. إذاً: ليست المشيئة بمعنى المحبة والرضا والسخط والبغض.

استدراك على المؤلف في إطلاقه أن الإرادة ليست بمعنى المحبة والبغض

المؤلف أطلق أن الإرادة ليست بمعنى المحبة والبغض والرضا والسخط، ولكن هذا الإطلاق فيه نظر؛ لأن الإرادة إما كونية وإما شرعية، فإن كانت كونية فهي بمعنى المشيئة، وليست بمعنى المحبة، ولا بمعنى الكراهة، ولا الرضا والسخط، وإن كانت شرعية فهي بمعنى المحبة، فمعنى يريد: يحب، ولا يريد: لا يحب، فكلام المؤلف رحمه الله على إطلاقه فيه نظر، والصواب التفصيل، فيقال: إن أراد المؤلف بالإرادة الإرادة الكونية فكلامه صحيح؛ لأن الإرادة الكونية بمعنى المشيئة، وتتعلق بكل شيء، فيما يحب ويرضاه، وفيما لا يحبه ولا يرضاه، وإن أراد الإرادة الشرعية فهي بمعنى المحبة، فكلامه على إطلاقه فيه نظر.

فإذا قال قائل: ائتوا لنا بدليل يدل على هذا التقسيم حتى نقتنع. فنقول: استمع إلى قول الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]، والمراد بالإرادة الشرعية، يعني: يحب أن يتوب عليكم، وليس يريد أن يشاء أن يتوب عليكم؛ لأنه لو شاء أن يتوب علينا لتاب الناس كلهم إلى الله، ولكن (يريد) بمعنى يحب، وما أحبه فقد يقع وقد لا يقع.

وانظر إلى قوله تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ [هود:34] ، (يريد) هنا بمعنى: يشاء، فهي كونية؛ لأن الله لا يريد شرعاً أن يغوي الناس، بل يريد شرعاً أن يهدي الناس، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176] ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:26] ، وبهذا عرفنا أنّ الإرادة إما كونية فتكون بمعنى المشيئة، لا بمعنى الأمر والنهي، أو الرضا والسخط، أو البغض والكراهة، وإن كانت شرعية فهي بمعنى المحبة والرضا، فيريد كذا أي: يحبه ويرضاه، لا يريد كذا يعني: لا يحبه ولا يرضاه، وقد سمعتم الأمثلة الدالة على تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين.

الفرق بين الإرادة الشرعية والكونية

فإذا قال قائل: ما الفرق بين الإرادة بالمعنيين؟

فالجواب: الفرق أولاً: الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد، فإذا أراد الله الشيء كوناً فلا بد من وقوعه، والإرادة الشرعية قد يقع فيها المراد وقد لا يقع.

فرق آخر: الإرادة الشرعية تكون فيما أحب، والإرادة الكونية تكون فيما أحب وفيما لم يحب، فالإرادة الشرعية إذاً بمعنى المحبة، والإرادة الكونية بمعنى المشيئة، فهذان فرقان بين الإرادتين.

فإذا قال قائل: هل الله يريد الكفر؟

فالجواب: يريده كوناً لا شرعاً.

فإن قال: هل يريد الله الإسلام؟

فالجواب: يريده شرعاً وقد يريده كوناً فيسلم الإنسان.

ثم قال المؤلف رحمه الله عز وجل: [فيحب ويرضى ما أمر به فقط].

صدق، فالله عز وجل يحب ويرضى ما أمر به، ويكره سبحانه وتعالى ويسخط ما نهى عنه.

ثم قال: [وخلق كل شيء بمشيئته] لم يقل المؤلف: (وإرادته)، مع أنه جعل المشيئة والإرادة في أول كلامه بمعنىً واحد.

وقوله: (خلق كل شيء بمشيئته) حق، فالله تعالى خلق كل شيء بمشيئته، ما كان من أفعاله فهو بمشيئته لا شك، مثل: خلق السموات والأرض، إنزال المطر، الإحياء، الإماتة، وما كان من أفعال المخلوقات فهو بمشيئته أيضاً بدون تفصيل، كل ما كان من أفعال المخلوقات آدميها وبهيمها فإنه واقع بمشيئته، ولو شاء الله ما وقع، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، والآيات في هذا كثيرة.

إذاً: كل شيء من أفعال الله أو أفعال المخلوقات فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى بدون تفصيل.

شبهات وردود

فإذا قال قائل: قول المؤلف: (خلق كل شيء)، هل يشمل خلق صفاته؟ بمعنى: أن الله خلق في نفسه السمع، وخلق البصر، فما الجواب؟

فالجواب: أن المعنى: خلق كل شيء مخلوق، ولا يصح أن نقول: إن الصفات بمخلوق أبداً، كما لا يصح أن نقول: إن الذات مخلوقة؛ لأن الصفات فرع عن الذات.

فإذا قال قائل: كيف تجيبون عن استواء الله على العرش، هل يصح حادثاً؟

قلنا: بلى حادث، لكنه فرد من نوع غير مخلوق وهو الفعل، فالفعل غير مخلوق، وهذا فرد من أفراد أفعاله التي لا تحصى، فحينئذٍ يكون غير مخلوق، فكل شيء فهو مخلوق لكن الخالق بصفاته غير مخلوق.

إذاً: ننتقل من هذه الجملة، هل تقولون: إن القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟

طبعاً ستقولون على لسان واحد: غير مخلوق، لكن إذا قال قائل: أليس القرآن شيئاً؟ نقول: بلى، لكن نقول: أليس الله شيئاً أيضاً؟

إذاً: قل: إن الله خالق نفسه وخالق كلامه، فكما أنك لا تقول: إن الله خالق نفسه فهو ليس بخالق كلامه، ثم نقول: إن الله فصل بين الخلق والأمر، وفرق بين الخلق والأمر فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] ، والقرآن من الأمر لا من الخلق؛ لقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52].

ففرق الله تعالى بين الخلق والأمر وجعل القرآن من الأمر، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [27] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net