إسلام ويب

حكم الأعيان والعقود والمنتفع به قبل الشرع وبعده من مباحث الأصوليين، والأصل في ذلك الإباحة ما لم يرد في الشرع ما يفيد خلافها.

الأعيان والمعاملات وحكمها قبل الشرع

سبق لنا في درس أمس أن المشيئة غير المحبة مطلقاً، وأن الإرادة غير المحبة، وظاهر كلام المؤلف مطلقاً، ولكن الصحيح: أن الإرادة تنقسم، فمنها: ما يكون بمعنى المحبة، ومنها: ما لا يكون بمعنى المحبة، وقلنا: الإرادة التي بمعنى المحبة هي الإرادة الشرعية، أما الإرادة الكونية فهي بمعنى المشيئة.

وسبق لنا أن الله تعالى قد يقدر ما يكرهه كما قدر المعاصي، وقدر الأعيان الضارة، فلما يقدر هذه الأشياء المكروهة؟ قلنا: لحكمة؛ لأن لها غاية حميدة أكثر من وجود الضرر، وضربنا مثلاً لذلك بالوالد يكوي ابنه من المرض بالنار من أجل الشفاء، فهو الآن يكويه بالنار ولا شك أنه يكره أن يتألم ولده من حر النار، لكنه يفعل ذلك من أجل المصلحة والعاقبة التي تترتب على ذلك، فالله عز وجل يقدر المعاصي، ويقدر الأعيان المؤذية الضارة كذوات السموم والسباع لحكمة عظيمة.

وسبق لنا أن الله تعالى خلق كل شيء بمشيئته، ولم يكن شيء بغير مشيئته، وسبق لنا أن المعتزلة والجهمية استدلوا بهذا العموم على أن القرآن مخلوق، وسبق لنا بيان بطلان هذا القول، والرد عليهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله: [فائدة: الأعيان والعقود المنتفع بها قبل الشرع إن خلا وقت عنه، أو بعده وخلا عن حكمها أو لا وجهل مباحة].

الأعيان: مبتدأ، والعقود: معطوف عليه، مباحة: هذه خبر المبتدأ.

ننظر الآن كلام المؤلف: (الأعيان المنتفع بها قبل الشرع)، هل الانتفاع بها حرام أو حلال؟ المؤلف يقول: إنها مباحة، بأي طريق؟ يقول المؤلف: [بإلهام]، يقول: إن هذا بإلهام، [وهو ما يكون في القلب مما يطمئن إليه ويركن إليه، ويدعو للعمل به]، يعني: كقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس).

كذلك العقود، العقود التي تجري بين الناس من بيع، وشراء، وإجارة، ووقف، ورهن، وشركة، ونكاح، وغير ذلك مما يتعاقد به الناس قبل الشرع، إن خلا وقت عنه أو بعده إلى آخره.

وقوله: [المنتفع بها قبل الشرع إن خلا وقت عنه]، إن: شرطية، والشرط بـ (إن) لا يلزم منه الوقوع، قد تدخل (إن) الشرطية على شيء ممتنع غاية الامتناع مثل قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، فـ(إن) هنا شرطية داخلة على شيء مستحيل، قال الله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم:90-92]، مستحيل! ومع هذا يقول: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، فدخلت (إن) الشرطية على أمر مستحيل.

وقال الله تعالى لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] هذا في العمل، ولا يمكن أن يشرك!

وقال له في الخبر: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس:94]، وليس هو في شك من ذلك.

إذاً قول المؤلف: (إن خلا وقت عنه)، لا يلزم من هذا الشرط أن يخلو وقت من الشرع ولا يمكن أن يخلو وقت من الشرع أبداً؛ لأنه لو خلا وقت من الشرع لخلا وقت من الحجة على الناس، والله عز وجل يقول: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلا يمكن أن يخلو وقت من شرع أبداً.

فإذا قال قائل: قولكم هذا منقوض بما قبل الرسل، فإن أول الرسل نوح كما دلّ عليه القرآن والسنة: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26].

وفي الحديث الصحيح حديث الشفاعة: (أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض)، فما قبل نوح خالٍ عن الشرع.

فالجواب: أنه لم يخل من الشرع؛ لأن آدم نبي موحىً إليه يتعبد بشريعة الله عز وجل، وذريته تابعون له؛ لأنكم تعلمون أن أول البشر سيكونون قليلين غير منتشرين في الأرض كثيراً، لكن لما انتشروا في الأرض كثيراً واختلفوا واحتاج الناس إلى الرسالة أرسل الله نوحاً، كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213].

لا يخلو وقت من شريعة الله

إذاً سؤال: هل يخلو وقت من شريعة الله؟

مداخلة: لا.

الجواب: لا، وما قبل نوح لم يخل من الشريعة، الشريعة هي التي أوحاها الله تعالى إلى آدم، وصار يتعبد بها، وصار الناس في ذلك الوقت ليسوا كثيرين منتشرين مختلفين، فكانوا يتعبدون بما كان عليه أبوهم، فلما كثروا واختلفوا احتاج الناس إلى الرسالة فأرسل الرسل.

إذاً: إذا قلنا: لا يخلو وقت من شريعة، صارت الأعيان والعقود المنتفع بها ثابتة بإلهام أم بشرع؟

الجواب: ثابتة بشرع.

ولا يقال: فما الحكم فيما قبل الشرع؛ لأن المؤلف يقول: (إن خلا وقت عنه)، وهذا لا يمكن أن يخلو، فإذاً نقول: هذه المسألة ما هي إلا فرضية، والغريب من العلماء رحمهم الله تكلموا في هذه المسألة كلاماً كثيراً، وملئوا الصفحات من الأخذ والرد والجدل، مع أنها مسألة واضحة جداً، لكن كما قال بعض العلماء: سمي أهل الكلام أهل كلام لكثرة كلامهم الذي ملئوا فيه الصحف، وكله جدل في جدل، والجدل في جدل يساوي جدلاً، والجدل ليس فيه فائدة، وحينئذٍ نقول: المسألة -الحمد لله- واضحة، فالأصل في العقود الحل، والأصل في الأعيان الحل، حتى يقوم دليل من الشرع على المنع منها، واستندنا في ذلك إلى الشرع؛ لأن الله عز وجل ما خلقها بين أيدينا، ولا جعلنا نتعامل بها إلا وهو آذن فيها، ولو كان لم يرضها لنزل الشرع بتحريمها.

حكم الأعيان والعقود بعد الشرع

يقول المؤلف: [أو بعده]، أي: بعد الشرع، [وخلا عن حكمها] وهذا أشد امتناعاً، يعني: الأعيان المنتفع بها والعقود بعد وجود الشرائع، لكن خلت الشرائع عن الحكم بها، وسبحان الله أن ينزل الله شريعة لخلقه ثم تخلو هذه الشريعة عن الأحكام في الأعيان والعقود، فهذا مستحيل، وهذا من بلاء علم الكلام، أنهم يفرضون أشياء لا تليق بالله وحكمته، هل يمكن أن تنزل الشرائع والأعيان المنتفع بها التي ملأت الدنيا تخلو الشريعة عن حكمها؟ أبداً.

وهل يمكن أن تنزل الشريعة والعقود المنتشرة بين الناس تخلو الشريعة عن حكمها؟ هذا أيضاً مستحيل.

ولهذا قوله رحمه الله: [أو بعده وخلا عن حكمها] هذا أبعد من الأول، نعم لو قال المؤلف: (أو بعده، وخفي حكمها) لصح الكلام؛ لأن الحكم قد يخفى على الناس، وإن كنا نعتقد أنه لا يمكن أن يخفى على كل أحد؛ لأنه لو خفي حكم الشرع على كل أحد ما كان الشرع شرعاً، لكن قد يخفى على أناس من دون آخرين، أو في مكان دون مكان، أو في زمان دون زمان.

ثم قال: [أو لا وجهل]، وهذا صحيح.

ومعنى (أو لا وجهل): أي: أو لم نخل عن الحكم ولكن جهل الحكم، وهذا صحيح، فربما يكون الناس مثلاً في مكانٍ ما أو في زمانٍ ما جاهلين لحكم الشرع في هذه المسألة، وهذا ممكن، لكن الشرع لا بد أن يكون كاملاً مبيناً، حتى التوراة وهي نازلة على قوم معينين من بني إسرائيل قال الله تعالى: ((وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ))[الأنعام:154]، فالكتب النازلة على الأنبياء هدىً للناس في كل ما يحتاجون إليه.

وقوله (مباحة): خبر المبتدأ وما عطف عليه، والله أعلم.

إثبات الأحكام بالإلهام ومدى كونه طريقاً شرعياً

قال المؤلف رحمه الله: [بإلهام وهو ما يحرك القلب بعلم يطمئن به يدعو إلى العمل به].

هذه مسألة الإلهام يرى المؤلف رحمه الله أنها في قول ما هو متفق عليه طريق شرعي، يعني: أن الإنسان قد يلهم شيئاً، فهذا الإلهام طريق شرعي على أحد الأقوال، والصواب: أنها مباحة لا بالإلهام ولكن بالدليل العقلي، وهو ليس بإلهام.

والصحيح أيضاً أن الإلهام ليس بطريقٍ شرعي، والقول بأن الإلهام طريق شرعي أفسد الدين في الواقع؛ لأن الصوفية الآن يدعون أنهم يلهمون، وأن الله تعالى يلهمهم أن هذا طريق صحيح، والرافضة أيضاً يلهمون أئمتهم، يدعون أنهم يتلقون التشريع بإلهام من الله عز وجل، ويدعي هؤلاء اللاهمون أنهم أفضل من الأنبياء؛ لأنهم يأخذون عن الله بدون واسطة، والأنبياء بواسطة جبريل، فهم أعلى مرتبة، ولهذا يقول قائلهم:

مقام النبوة في برزخفويق الرسول ودون الولي

أيش هذا التعبير أعوذ بالله! مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ما هو بعيد عنه، بالنسبة للولي دون، كلمة (دون) تدل على انحدار بعيد، فالولي إذاً هو أعلى شيء على زعمهم، ثم النبي وهو بعده بمراحل، ثم يأتي الرسول، فهم في الحقيقة قد عكسوا الأمر، فمقام الرسالة أشرف المقامات، ثم النبوة، ثم الولاية، على أن كل نبي أو رسول فهو ولي بلا شك.

المهم أن القول الراجح: أنها مباحة بمقتضى العقل، وأن الإلهام ليس طريقاً لإثبات الأحكام الشرعية، صحيح أن الإنسان قد يوفق لإصابة الصواب بما يلهمه الله، لكن لا بد من عرض ذلك على الكتاب والسنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن يكن فيكم محدثون فـعمر)، وكان رضي الله عنه يوافق الصواب كثيراً، ومع ذلك ففي مقام الضنك والضيق يكون أبو بكر أوفق منه للحق، وأشد إصابة، في صلح الحديبية ضاق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشروط التي وافق عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وناقشه في موضوع وأجابه، ثم ذهب إلى أبو بكر وناقشه، فأجابه أبو بكر بما أجاب به الرسول عليه الصلاة والسلام حرفاً بحرف، إذاً أيهما موافق للصواب؟

الجواب: أبو بكر .

لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام قام عمر قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يمت، وليبعثنه الله فليقطعنّ أيدي رجالٍ وأرجلهم، حتى إنه قيل أنه قال: من قال: إن محمداً قد مات ضربت عنقه، فجاء أبو بكر وهو أشد الناس مصيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رأى عمر يفعل ما يفعل أو يقول ما يقول، قال: على رسلك! ثم صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، وتلا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، قال عمر : فعقرت حتى ما تقلني رجلاي؛ لأنه علم الحق، فصار أبو بكر أوفق من عمر وأصوب في هذا المقام.

وكذلك في حروب الردة.

المهم أنا قصدي أن الإنسان قد يلهم الصواب؛ لكن لا نقول: إن هذا الإلهام طريق شرعي، بل يعرض على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة أو أقره الوحي في زمن الوحي صار صواباً، لا بالإلهام ولكن بالموافقة.

وقوله: [وهو في قول: طريق شرعي] الخلاف إذاً على اصطلاح المؤلف؟ متساو متكافئ، يعني: أن فيها قولين مطلقين، ولكن الراجح ما قلت لكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [28] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net