إسلام ويب

من أقسام خطاب الوضع السبب، وهو ما يلزم من وجوده وجود المسبب ويلزم من عدمه عدمه، ويطلق السبب عند الفقهاء على ما يقابل المباشرة.

مبحث السبب

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسبب لغةً ما توصل به إلى غيره. وشرعًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، فيوجد الحكم عنده لا به، ويراد به ما يقابل المباشرة كحفر بئر مع تردية. فأول سبب، وثان علة، وعلة العلة كرمي هو سبب لقتل، وعلة للإصابة التي هي علة للزهوق، والعلة الشرعية بدون شرطها كنصاب بدون الحول وكاملةً، وهو وقتي كزوال لظهر ومعنوي ما يستلزم حكمةً باعثةً كإسكار لتحريم. والشرط لغةً].

تعريف السبب في اللغة

قول المؤلف: [والسبب لغةً: ما توصل به إلى غيره].

السبب هو أحد أحكام الوضع؛ لأن الأحكام الشرعية تنقسم إلى مداخلة: قسمين:

تكليفية ووضعية، فالتكليفية خمسة: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة، هذه خمسة أحكام يسمونها الأحكام التكليفية.

والوضعية هي التي لا تتعلق بمكلف، ولكنها علامات وضعها الشرع لتصحيح الشيء، أو إبطاله، أو إيجابه، أو ما أشبه ذلك، وقد مر علينا منها العلة؛ لأن المؤلف ذكر أربعة: العلة والسبب والشرط والمانع، تقدمت العلة، أما السبب فقال: (لغةً: ما توصل به إلى غيره)، كل شيء تتوصل به إلى غيره يسمى في اللغة سبباً، ومنه قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15]، ومنه سمي الحبل سبباً؛ لأنه يوصل إلى استخراج الماء من البئر مثلاً.

تعريف السبب شرعاً

أما في الشرع فقال: (ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، فيوجد الحكم عنده لا به).

أي: ما يلزم من وجوده وجود المسبب، يعني: إذا وجد السبب وجد المسبب.

ويلزم من عدمه العدم، أي: إذا عدم السبب عدم المسبب، لكن لذاته، يعني: أنه هو نفسه يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، وقد يعدم الشيء لوجود مانع، فلا يوجد مع وجود السبب، فمثلاً القرابة من أسباب الإرث، والرق من موانع الإرث، فهنا وجد السبب ولم يوجد المسبب، لوجود مانع، إذاً فالسبب من حيث هو سبب يلزم من وجوده الوجود، ولكن قد يوجد مانع يمنع من وجود المسبب الذي يلزم من وجود السبب وجوده.

فخرج بقول المؤلف: (ما يلزم من وجوده الوجود) الشرط؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود، فلو توضأ الإنسان للصلاة لم تلزمه الصلاة، قد يصلي وقد لا يصلي؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود.

وقوله: (من عدمه العدم) خرج ما يلزم من وجوده العدم، مثل: المانع.

تأثير الأسباب وخلاف العلماء في ذلك

وقول المؤلف رحمه الله: (فيوجد الحكم عنده لا به) أي: يوجد الحكم المعلق بالسبب عند السبب لا بالسبب، وهذا مبني على قول ضعيف في هذه المسألة، أعني على قول من ينكر تأثير الأسباب، والناس في هذه المسألة طرفان ووسط.

منهم من نفى تأثير الأسباب، وقال: إن الأسباب غير مؤثرة؛ لأنك لو أثبت تأثيرها أثبت مع الله خالقاً، ومعلوم أن إثبات خالق مع الله شرك.

ومنهم من قال: بل هي مؤثرة لذاتها، والتأثير الناشئ عن السبب حاصل به نفسه، فهي مؤثرة ولا بد.

والقول الثالث: أنها مؤثرة لا بنفسها، لكن الله أودع فيها التأثير فصارت مؤثرة، والشيء يحصل بها بما أودع الله فيها من أسباب التأثير، وهذا القول هو الصحيح الموافق للمنقول والمعقول، بل والمحسوس أيضاً.

ودليل ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أثبت في آيات كثيرة تأثير الأسباب الكونية والأسباب الشرعية، فذكر أن الله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [الروم:48]، فهل إذا قلنا: إن الرياح تثير السحاب نكون مشركين؟ لا؛ فهي تثير بما أودع الله فيها من القوة، فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ [فاطر:9]، جعل الله تعالى هذا المطر سبباً لإحياء الأرض، لولا المطر ما حييت الأرض، إذاً فحياة الأرض كانت بالمطر، هذا سبب كوني.

السبب الشرعي: أن الله سبحانه وتعالى يهدي المؤمنين بإيمانهم، وينجي المتقين بمفازتهم، ويدخل العاملين الجنة بعملهم، هذه أسباب شرعية.

فأثبت الله التأثير للأسباب الكونية والأسباب الشرعية، والواقع شاهد بذلك الحس شاهد بذلك، فإنك تضع الورقة في النار فتحترق، وتضعها في الماء فتبتل، فالله هو الذي جعل النار محرقة والماء بالاً؛ لكن الواقع أن النار فعلاً تحرق الورق، وأن الماء فعلاً يبل الورق، ولا يمكن أن ينكر ذلك أحد، والدليل على هذا: أن الله سبحانه وتعالى ربما يجعل النار غير محرقة، كما قال تعالى في نار إبراهيم: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت برداً وسلاماً عليه، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الأسباب إنما تؤثر بما أودعه الله فيها من قوة التأثير، لا أنها مؤثرة بذاتها استقلالاً.

أما الذين يقولون: بأن الأسباب لا تأثير لها، ولكن المسببات تأتي عند الأسباب لا بالأسباب، فإن قولهم يكاد يكون ضحكة للعقلاء، يقولون: إذا وضعت الورقة في النار فاحترقت فإنها لم تحترق بالنار، لكن احترقت عندها، كما قال المؤلف: (فيوجد الحكم عنده لا به)، كيف عندها؟ احترقت بالنار، حطها حول النار لا تحترق، أدخلها في النار تحترق، لو أنك ضربت زجاجة بحجر، تنكسر الزجاجة بالحجر، وهم يقولون: لا تنكسر بالحجر، انكسرت عنده لا به، فإذا ضربت الزجاجة بحجر بقوة قالوا: والله هذا ليس بالحجر؛ لكن قدر الله الكسر فانكسر عند ملاقاة الحجر له، وهذا غير معقول، ضع الحجر على الزجاجة برفق وانظر هل تنكسر أم لا تنكسر؟ لا ينكسر الزجاج

فالقول هذا في الواقع غريب جداً، وكل هذا قصدهم به خير؛ قالوا: لئلا نثبت موجداً مع الله، وإثبات موجد مع الله شرك.

فنقول لهم في الجواب عن هذا الاشتباه: نحن لا نقول إن الأسباب مؤثرة تأثيراً استقلالياً، بل بما أودعه الله فيها من التأثير، والدليل على هذا أنه لو كانت الأسباب تؤثر تأثيراً استقلالياً ما صح أن تكون النار برداً وسلاماً على إبراهيم؛ لأنه لو قال الله لها: كوني برداً وسلاماً، قالت: والله أنا طبيعتي الإحراق والحرارة، ولكنها لما قال: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69] صارت برداً وسلاماً عليه.

إذاً قول المؤلف: (يوجد الحكم عنده لا به) قول ضعيف يخالف المنقول والمعقول والمحسوس.

إطلاق السبب على ما يقابل المباشرة

قال: [ويراد به ما يقابل المباشرة، كحفر بئر مع تردية].

يعني: يطلق السبب عند الفقهاء لا بالمعنى الأول الذي هو ما يلزم من وجوده الوجود، بل يراد به ما يقابل المباشرة، (كحفر بئر مع تردية)، يعني: مثل إنسان حفر بئراً، فوقف رجل على هذا البئر، فجاء رجل ثالث فدفع هذا الرجل حتى سقط البئر، فحافر البئر متسبب، والذي دفع الرجل حتى سقط في البئر مباشر.

إذاً: فحفر البئر سبب، والتردية -يعني: الدفع حتى تردى- مباشرة، فيراد بالسبب عند الفقهاء ما يقابل المباشرة؛ ولهذا من قواعدهم الفقهية: أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر، إلا أن تكون المباشرة مبنية على السبب، أو يكون المباشر غير صالح للتضمين، فيضمن المتسبب.

إذاً: إذا اجتمع سبب ومباشر فالضمان على المباشر إلا في حالين:

الحالة الأولى: أن يكون المباشر مما لا يمكن تضمينه.

والحالة الثانية: أن تكون المباشرة مبنية على السبب، فحينئذ يكون الضمان على السبب.

مثال الأول الذي لا تمكن إحالة الضمان عليه: لو أن رجلاً قذف برجل أمام أسد، فأكله الأسد، فعندنا الآن مباشر ومتسبب، المباشر الأسد، والمتسبب الذي ألقى الرجل، فلما أردنا أن نحكم على من ألقاه بالضمان وقف وقال: إن من القواعد المقررة عند الفقهاء: أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر، وهذه قاعدة فقهية، فضمنوا الأسد، ما تقولون في هذا الكلام؟

نقول: الأسد لا يمكن تضمينه، فالضمان عليك أنت أيها الملقي.

ولو أن رجلاً ألقى بشخص أمام السيارة على وجه يمكن لصاحب السيارة أن يقف، ولكن صاحب السيارة لم يقف ودعسه وقال: أنا ماش بالطريق، فالضمان على الملقي، فعلى من يكون الضمان هنا؟

الجواب: على صاحب السيارة؛ لأنه مباشر.

كذلك إذا كانت المباشرة مبنية على السبب فالضمان على المتسبب، مثال ذلك: شهد رجلان على شخص بردة لا يمكن معها رفع القتل، مثل: أن يشهد رجلان على شخص بأنه سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسب الرسول ردة موجبة للقتل، فلما شهد الشاهدان قرر القاضي بأنه يقتل حتى ولو تاب على القول الراجح، فقتل، ثم قال الرجلان: إننا قد كذبنا في شهادتنا، لكنه رجل يؤذينا فأردنا أن نتخلص منه، فقال القاضي: إذاً تقتلان، وحكم بقتل الشاهدين، فوقف الشاهدان وقالا: على رسلكم، الضمان على القاتل الذي باشر القتل، أما نحن فنحن سبب، والقاعدة الفقهية أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر، فاقتلوا الأمير الذي قتل هذا المرتد.

فنقول: الضمان على الشاهدين؛ لأن هذه المباشرة مبنية على السبب، فلولا هذه الشهادة ما قتل، والله أعلم.

لو أن إنساناً وقفت سيارته في الشارع فاصطدمت بها سيارة، فعلى من يكون الضمان؟

الجواب: إذا كان الشارع مما جرت العادة بإيقاف السيارات فيه فلا ضمان على صاحب السيارة الموقفة، وإذا كان معتدياً بحيث أوقفها في مكان لا يمكن الوقوف فيه فالضمان عليه.

قال: [فأول سبب، وثان علة]، أي الحفر سبب، والتردية علة. والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [45] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net