اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مقدمة في الفقه - اختلاف الأئمة [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان
بعد هذه المقدمة في بيان حال سيدنا أبي حنيفة المتواتر المعلوم كما تقدم معنا، ليرتبط البحث ببعضه أعود -إخوتي الكرام- لطريقته في الفقه رضي الله عنه وأرضاه.
تقدم معنا -إخوتي الكرام- طريقته، وذكرنا قوله: ما جاء عن الله في القرآن نأخذ به، وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام فعلى العينين والرأس، وما جاء عن الصحابة تخيرناه، وإذا آل الأمر إلى التابعين.. إلى إبراهيم النخعي والشعبي والإمام الزهري وحماد رضي الله عنهم وأرضاهم، فأجتهد كما اجتهدوا، وهذه طريقة سديدة رشيدة سار عليها أئمتنا: الكتاب والسنة والإجماع والقياس السوي.
إخوتي الكرام! ذكرنا أنه قد يقول قائل عند هذا المبحث: إذا كانت أصول الأئمة واحدة فعلامَ وقع بينهم الاختلاف في الأحكام؟!
وقلت: يثير هذا الهذيان كثير من أتباع الشيطان في هذه الأيام، وهو: علامَ الاختلاف؟! فإن الدين واحد والمذاهب أربعة، وبعضهم يشتط ويقول: هذه مثل مذاهب النصارى: كاثوليك، وبروتستانت، وأرثوذكس، فبعضهم يشبه المذاهب بتلك، وهذا ضلال مبين إخوتي الكرام! فاستمعوا وانتبهوا لذلك.
وذكرنا: أن الأصول واحدة لا شك، لكن عندنا أمران هما أبرز أسباب الاختلاف، وهذا أمر طبيعي، يقع بين البشر شئنا أم أبينا, لو ألغينا مذاهب أئمتنا سنرجع إلى هذه الأقوال، بل قد نزيد عليها إلى ما شاء الله، والأمران هما: الأول: أن النصوص حمَّالة، تحتمل أكثر من معنى، وذكرنا أن من سمع النص مباشرة من النبي عليه الصلاة والسلام حمل ذلك النص على معنيين؛ لأن النص يحتمل هذا وهذا، ومثلت بمثال وقع في زمن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، في حديث: (لا يصلِّينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة)، وذكرنا حديث: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) أو قال: (حتى يفترقا)، وذكرنا اختلاف الأئمة في ذلك، فمن قائل: إن المراد التفرق بالأقوال باللسان، كما ذهب إلى ذلك الإمام مالك وقبله سيدنا أبو حنيفة النعمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وقائل: حتى يفترقا بالأبدان، كما ذهب إلى ذلك السيدان المباركان الإمام الشافعي وتلميذه الإمام أحمد رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا معتبر وهذا معتبر، وتقدم معنا تقرير كل من هذين القولين، وأن النص يحتملها.
الأمر الثاني: أن مدارك البشر وفهومهم مختلفة متغايرة؛ وقد تقدم معنا كلام الخطيب البغدادي رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الفقيه والمتفقه يقول: أهل العلم في حفظه متقاربون وفي استنباط فقهه متباينون.
فنحن نحفظ النص جميعاً، لكن عندما نستنبط نختلف، وهذا حال أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.
فالنصوص حمالة تحتمل أكثر من معنى, والفهوم تختلف، فوسع الله علينا، فجعل إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وقلت: هذا الكلام الذي قرره أئمتنا قاطبة هو كلام أهل الإسلام: قاله الإمام ابن قدامة في المغني في أوله، والإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثلاثين صفحة ثمانين، وهو مقرر عند سائر أئمة الدين: أن إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة؛ ولذلك -كما قلت- لو أُلغيت هذه المذاهب سنختلف اختلافاً لا نهاية له.
هذا دون ذكر أسباب الاختلاف الأخرى، بل بعد ثبوت النص وحجيته سيقع اختلاف في هذين الأمرين: النص يحتمل أكثر من معنى، وفهومنا تختلف؛ ناهيك عن أسباب الاختلاف الأخرى: هل ثبت النص أم لا؟ قد يثبت عند البعض ولا يثبت عند البعض الآخر، هل يحتج به أم لا؟ قد يرى هذا أنه حجة ويحتج بالمراسيل كما هو حال جمهور الفقهاء، وذاك لا يحتج به، وصار عندنا موضوع آخر، وذكرنا أنه ما جعل الله أحداً من البشر حجة على أحد إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فهو حجة على الخلق، ونحن الآن سنحتج بكلامه، فأنا عندما أفهم ليس من حقك أن تقول: فهمي مقدم على فهمك، وليس من حقي أن أقول: إن فهمي يقدم على فهمك, نقول: هناك أمور أجمعنا عليها، من خالف فيها فهو ضال، ويوليه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيراً، وهناك أمور اختلفنا فيها فنحن في سعة ورحمة الله واسعة, هذا الذي قرره أئمتنا وشهدت له نصوص شرعنا.
أعظم العبادات -إخوتي الكرام- وأعلاها هي الصلاة، وهي أعظم من الصيام، وقد تقدم معنا قول سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه للإمام الباقر: لو قلت بالقياس لأمرت الحائض أن تقضي الصلاة ولا تقضي الصوم؛ لأن الصلاة أعظم وأفضل، لكنها ليست موضوع أقيسة عقلية، والبول في المسجد أحسن من بعض أنواع القياس, كيف أخالف سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟! حديث ثبت كيف سأتركه؟! لكن أنا سأقيس فقط ما لم يقع في العصر الأول على ما وقع، أمور وقعت حديثة ليس فيها نص على أمور وقعت قديمة فيها نص، فأنا وجدت العلة في ذلك النص تنطبق على ما حصل من وقائع؛ فأطبق ذلك الحكم على هذه الحوادث لاشتراكهما في العلة، وهذا هو القياس، أما أن أُلغي النص فلا، وقلت: إن كل من ألغى النص وقاس قياساً يُصادم النص فهو قياس إبليسي، وأول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وإذا صادم القياس نصاً فهو فاسد الاعتبار بإجماع أئمتنا الأبرار؛ ولذلك قال: لو قلت بالقياس لأوجبت على الحائض أن تقضي الصلاة ولا تقضي الصوم، لكن هذا ليس موضوع القياس؛ لأن هذا فيه نص، وهكذا بقية الأجوبة التي ذكرها لسيدنا الإمام الباقر رضي الله عنه وأرضاه.
استمع لهذا الحكم الذي الأمة تختلف فيه اختلافاً مشروعاً محموداً في أعظم شعائر الدين وهو الصلاة, أولاً: هل تتعين الفاتحة على المصلى أم لا؟
الأمر الثاني: إذا تعينت أو لم تتعين إنما تعين غيرها من القراءة, من الذي يُلزم بالقراءة المتعيِّنة من فاتحة أو غيرها، الإمام والمأموم والفرد، أم بعضهم فقط؟
إذاً عندنا مسألتان: الفاتحة تتعين أم يكفي مطلق القرآن؟ الأمر الثاني: هذا الذي هو واجب، لا بد من القراءة في الصلاة هذا محل اتفاق، لكن الفاتحة أم غيرها, هذا هو الواجب المتعين على من يجب من المصلين؟
قالوا: قول الله جل وعلا في كتابه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، وهذا لا يتعين إلا في الصلاة، هذا الأمر الذي وُجِّه إلينا لا يتعين إلا في الصلاة، وعليه فأي شيء قرأناه يجزئ وتصح الصلاة به.
قالوا: وقد ثبت هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث المسيء في صلاته والحديث في المسند والكتب الستة والسنن الكبرى للإمام البيهقي من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وهو في السنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة من رواية رفاعة بن رافع وأبي هريرة رضي الله عنهم وأرضاهم، دخل رجل إلى مسجد النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فصلى وأساء في صلاته، وما اطمأن ولا صلى صلاة مشروعة كاملة، فلما انتهى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصل)، تكرر هذا منه ثلاث مرات، ثم قال: (والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن).. إلى آخر الحديث، فلم يقل له: اقرأ الفاتحة، فدل على أن الأمر فيه سعة
هذا قولهم ودليلهم، وهناك أئمة يرون خلاف هذا -كما سيأتينا- وهم على بينة ونور، وليس صحيحاً أن نقول: إن هذا هو الحق وما عداه باطل، وإلا رجعنا للضلال؛ لأننا سنلغي الأقوال التي لها اعتبار، المقصود أن نقول: هذا قول أخذ من أدلة شرعية من آيات قرآنية ومن أحاديث نبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, أنت تراه بعد ذلك مرجوحاً، فأنت وما رأيت, ما لنا ولك، أنت لست بحجة على خلق الله, ذاك يراه راجحاً وأنت تراه مرجوحاً, ترى أنه لا بد من الفاتحة فأنت وما رأيت، لكن هذا الرأي لا يحق لك أن تلزم به غيرك بما أنه أخذ هذا الحكم من نص شرعي.
وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن هذا الحكم مع شدته أهون بكثير من تأخير صلاة العصر إلى غروب الشمس كما حدث من بعض الصحابة حينما صلوا العصر في بني قريظة، وأولئك صلوا في الطريق، ومع ذلك ما عابوا عليهم، وأسهل بكثير من الصلاة في الطريق ومخالفة الأمر عند مَن فهم أنَّ الصلاة واجبة في بني قريظة، فالحكم هنا أيسر من هناك بكثير، ومع ذلك اتسعت صدور الصحابة، ومن باب أولى اتسع صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه استنبط عدد من أئمتنا أن كل مجتهد مصيب من هذا الحديث، قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما بيَّن أن أحد الفريقين مخطئ، ولا يقر على خطأ، فالأصل أنه لا يعنف وهو معذور ومأجور لا خلاف في ذلك، لكنه ما قال: أنت أيضاً أخطأت وعُذرت وأجرت لكن فعلك خطأ, ما بيَّن أي الفعلين خطأً أو صواباً، وهنا كذلك: حكم أُخذ من دليل شرعي: آية من القرآن.. وحديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا قول سديد.
إذاً: هذا دليل وذاك دليل، ويبقى بعد ذلك الجمع بينهما, ذاك الدليل الحديثي يقولون: نُص عليه في القرآن، وهذا أيضاً نحن نأخذ به معشر الحنفية فنقول: إنها واجبة دون أن تكون فرضاً.. دون أن تكون ركناً؛ ولذلك لو صلى ولم يقرأ الفاتحة فصلاته مكروهة كراهة تحريم، لكنها ليست باطلة، ثم قال الحنفية: أنتم يا معشر المالكية والحنابلة هل أخذتم بهذا الحديث؟ قالوا: نعم، فقالوا: لقد تركتموه في صورة، فأنتم ما أوجبتم على المقتدي -كما سيأتينا- قراءة الفاتحة إذا جهر الإمام، بل ما أوجبتم عليه قراءة الفاتحة إذا أسر, إنما قلتم: يسن له قراءة الفاتحة إذا أسر الإمام، فالمأموم لا ينطبق عليه هذا الحديث عندكم، مع أنه عام فأنتم تركتم عموم هذا الحديث لأحاديث أخرى، ونحن هذا الحديث قد عملنا به، ومعناه: (لا صلاة كاملة)، إذاً: الصلاة صحيحة، وهذا مثل حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)، أي: ترك سنة التسمية، وليس معنى هذا أن الوضوء باطل إذا أتى بأركان الوضوء، وهنا كذلك: المراد أن الصلاة ليست كاملة، بل فيها نقص؛ ويدل عليه قوله: (خداج) يعني: غير تمام، فقد أساء وقصَّر، لكن الصلاة صحيحة وليست باطلة
وعليه نقول: هذا سديد وهذا سديد، وكل منهما حق رشيد, هذه هي الصورة الأولى.
تجب على الفذ والإمام باتفاق، وهذا على حسب تعيين ما ينبغي أن يأتي به المصلي من فاتحة أو من غيرها, فمن قال: إن الفاتحة واجبة؛ قال: يجب على الإمام والفذ أن يقرأ الفاتحة، ومن قال: يجزئ مطلق القراءة قال: يجب على الإمام والفذ أن يقرأ في صلاته, أما المأموم فله تفصيل على ثلاثة أقوال:
هذا الذي تقولونه هل عليه دليل؟
قالوا: عليه دليل أضوأ من القنديل، فقد ثبت عن نبينا الجليل على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، والحديث في المسند وسنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان ، ورواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار، والإمام الدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وأحمد بن منيع في مسنده، وعبد بن حميد في مسنده، وقد صححه الإمام البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد سنن الإمام ابن ماجه، نعم، طريق مسند الإمام أحمد فيه ضعف؛ لأنه من رواية جابر الجعفي، والحديث من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، لكن رُوي في مسند عبد بن حميد وأحمد بن منيع بسند صحيح، صححه الإمام البوصيري وصححه الإمام ابن التركماني في الجوهر النقي في التعليق على سنن البيهقي في الجزء الأول صفحة تسع وخمسين، وصححه جم غفير من المحدثين، ورُوي عن ستة من الصحابة آخرين، فهو من رواية سيدنا جابر ، ومن رواية عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وسيدنا علي رضي الله عنهم وأرضاهم, هذه روايات ثابتة عن سبعة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، فهو حديث صحيح، وهذا مطلق في جميع الصلوات وفي جميع الركعات، سواء كانت جهرية أو سرية.
هذا الحديث الذي فهم منه سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ما فهم، هل شاركه في هذا الفهم أحد من الصحابة؟ نعم, شاركه رواة هذا الحديث, فرواة هذا الحديث قالوا بهذا القول، ومنهم: جابر بن عبد الله راوي الحديث، فقد روى الإمام مالك عنه في الموطأ والترمذي في السنن وقال: هذا حديث حسن صحيح موقوف على جابر من قوله, قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِّ، إلا أن يكون وراء الإمام)، فإذا كان وراء الإمام فلا يلزمه أن يقرأ.
وثبت في الموطأ بسند صحيح كالشمس من رواية سيدنا عبد الله بن عمر موقوفاً عليه، وهو من رواة الحديث، أنه سُئل: هل نقرأ وراء الإمام؟ فقال: (إذا كنت وراء الإمام فحسبك قراءة الإمام، وإذا صليت لنفسك فاقرأ)، ومن رواة الحديث أبو الدرداء، يروي عنه الإمام النسائي في السنن بسند صحيح رضي الله عنهم وأرضاهم قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! في كل صلاة قراءة؟ قال: نعم)، فقال الصحابي الأنصاري: وجبت هذه، أي: على كل إنسان أن يقرأ، فالتفت إليه أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وقال: كنا نرى أن الإمام يجزئ عن المأموم إذا قرأ، ويتحمل عنه، ولا يلزم المأموم أن يقرأ وراء الإمام. هذا الحديث -إخوتي الكرام- من كلام سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، ورُوي مرفوعاً، لكن النسائي قال: رفعه خطأ، فهو من كلام أبي الدرداء ، هذا الجواب، وأن من كان وراء الإمام تجزئه قراءة الإمام، هذا من كلام أبي الدرداء، لا من كلام نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. هذه ثلاثة آثار من آثار لا تُحصى في هذا المقام تدل أنَّ قراءة الإمام تجزئ عن قراء المأموم.
نعم عليه دليل: روى الإمام مالك في الموطأ والحديث في السنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها)، ورد في بعض الروايات قال: (أُراها صلاة الفجر)، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم قرأ ورائي؟ فقالوا: يا رسول الله! قرأنا وراءك، قال: إني أقول: ما لي أُنازع القرآن. قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الإمام ).
وثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود من رواية سيدنا أبي موسى الأشعري، والحديث في سنن أبي داود من رواية سيدنا أبي هريرة، وتقدم معنا ضمن مواعظ الجمعة أن الحديثين صحيحان كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام مسلم رضي الله عنه وأرضاه, نقل ذلك عنه الإمام المنذري في تهذيب السنن ومختصر السنن في الجزء الأول صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة كما تقدم معنا، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي موسى وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا. فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام)، وهذا دليل معتبر، ولذلك استمع لديانتهم، قالوا: إن الفاتحة ركن، لكن إذا جهر الإمام فلا تقرأ بل تسكت، وإذا ما سمعته أو أسر فيسن لك أن تقرأ، لكن بما أنك مأموم فلا يفترض عليك القراءة كما لو كنت فذاً أو إماماً، هذا مع قولهم بأن الفاتحة ركن, قالوا: هذا الحديث خص ذلك العموم، وعليه فإذا قرأ فأنصتوا.
روى أهل السنن الأربعة إلا الإمام ابن ماجة من رواية سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة وسلم قال: لعلكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: إي والله يا رسول الله! إنا نقرأ، فقال عليه الصلاة والسلام: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، يعني: لا تقرءوا غيرها، فهذه يرخص لكم في قراءتها، ولا زلتم تنازعونني القراءة ويتشوش ذهني، فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب، وفي رواية: (لا يقرأن أحدكم إذا جهرت إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).
حقيقة هذا الدليل في منتهى الوضوح على هذه الجزئية، وعلى هذا الحكم: أن المأموم مطالب بقراءة الفاتحة وإن جهر الإمام.
الذي يبدو لي والعلم عند ربي: أن هذه النصوص كلها أراد نبينا عليه الصلاة والسلام منها التوسعة على الأمة، وكلها احتملتها الأدلة، فمن رأى أنه أخشع لقلبه أن يقرأ فليقرأ، ومن رأى أن الإنصات أخشع له فلينصت, ومن رأى أنه إذا ما سمع القراءة أو أسر الإمام بالقراءة فهو يقرأ ولا يريد أن يسكت؛ لئلا يُشغل بوساوس هنا أو هناك ولا يستطيع أن يستحضر المعاني وأن يخشع فله ذلك، فهذه الأقوال كلها دلت هذه النصوص على جوازها؛ بقي بعد ذلك أن تفعل ما تراه أخشع لقلبك, نعم! الاحتياط مطلوب، وكما قال أئمتنا: السير مع الجمهور مرغوب، ويد الله مع الجماعة, دون أن نقول: إن في قول من تلك الأقوال عيباً من العيوب, فهذا حق وهذا حق وهذا حق، ولك أن تقول: أنا أرى أن هذا القول الذي قال به الجمهور هو أحوط، ثم تأتي بعد ذلك لمسلك آخر أحوط من حيث الكثرة, فتقول: لو قرأتُ الفاتحة وراء الإمام فإن الصلاة جائزة بالإجماع، سواء فيها كراهة أو لا, لكن إن تركتُها فيوجد من نازع في صحتها، فأنا أرى من الاحتياط أن أقرأ, والأمر -كما قلت- فيه سعة, هذا كله للفعل الفردي الذي سيفعله الإنسان في عبادته للرحمن, لكن ليس من حق أحد أن يقول لأحد: هذا القول هو الصحيح، وهذا القول ينبغي أن نأخذ به, والأقوال الأخرى باطلة، ومن فعلها لا تصح صلاته. فمن قال هذا فهو ضال, فلا بد من أن نقف عند حدودنا، وأن نتقي ربنا, نقول: النصوص احتملت، وأئمة الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا هذه الاحتمالات، وما أجمعوا على حكم في هذه القضية، وعليه فالأمر فيه سعة، ورحمة الله واسعة.
وتقدم معنا مراراً: أن ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل؛ فهو حكم في شرع العزيز الجليل.. حكم شرعي خرج عن كونه بدعة, بعد ذلك أنت تراه راجحاً أو مرجوحاً هذا في نظرك، لا أنه راجح في حقيقة الأمر، أو مرجوح في حقيقة الأمر, إذا قلت: أنا تطمئن نفسي إلى هذا، أرى أنه أخشع لقلبي, فأنت وما اخترت، وما أحد ألزمك لا بهذا المذهب ولا بهذا, لكن الخروج عن المذاهب الأربعة هلاك وعطب، ولا يخرج الحق عنها، فأنت ابق ضمنها، ثم بعد ذلك رأيت ما هو أخشع لقلبك, ما هو أحوط لدينك, كل واحد عنده اعتبار لعبادته للعزيز القهار, هذا الاعتبار لا ينبغي أن يخرج عن الأقوال المعتبرة، ولا يجوز أن يلزم غيره بما رآه معتبراً أو راجحاً أو سديداً.
إخوتي الكرام! هذا إذا ما استقر في أذهاننا فسيضلل بعضنا بعضاً، ويكفر بعضنا بعضاً, ويستبيح بعضنا دماء بعض، والأمة تقع في هَرْج ومَرْج، وهذه المسألة على وجه الخصوص قلت ولا أزال: تقوم الساعة ولا ينتهي الخلاف فيها، ابذل ما شئت، والذين جاءوا وقالوا: لن نتقيد بمذهب؛ فرجعوا إلى هذه الأقوال الثلاثة إن لم يزيدوا، فبعضهم يرى إذا قرأ فأنصتوا، يقول: يلزم ألا نقرأ الفاتحة إذا قرأ الإمام, هذا الآن من المجتهدين الجدد، وبعضهم يقول: حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) يقضي على هذا، وهو يدل على أنه لا بد من الفاتحة، وأن الإمام يتحمل عن المأموم ما عدا الفاتحة, وقراءة الإمام له قراءة فيما عدا الفاتحة، هؤلاء ممن يقولون: لا نريد أن نأخذ بالمذاهب، وهاهم قد رجعوا إلى نفس الأقوال وما هو أزيد، لكن بمهاترات أحدثها هؤلاء في هذه الأوقات!!
هذه مذاهب مشت عليه الأمة الإسلامية ما يزيد على عشرة قرون, فتذكر الأدلة وتبسط الأقوال، ولم يؤت بقول من مصدر غير شرعي, بقي بعد ذلك أنت وما تطمئن إليه نفسك ويخشع له قلبك, فالأمر -والحمد لله- فيه سعة، أما أن نقول: هذا القول هو الصحيح، كما يفعل الشاذون في هذه الأيام، وما عداه باطل! يا عبد الله! رفقاً بنفسك, يا عبد الله! اتقِ ربك، يا عبد الله! أقوال قالت بها هذه الأمة المباركة ومشت عليها ما يزيد على عشرة قرون، ورحمة الله واسعة، وأنت تأتي وتحجر بعد ذلك هذه الرحمة وتضيقها! وهذا هو الضلال المبين، وكما قلت: إجماع أئمتنا حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة.
إخوتي الكرام! بعد هذا فيما يتعلق بعبادة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وديانته وخشوعه وإمامته رضي الله عنه وأرضاه، حقيقة كان في نيتي أن ننتهي من هذا في هذه الموعظة، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
قال الإمام الذهبي في جزء ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه صفحة عشرين: تواتر قيام سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه بالليل، وتهجده وتعبده. هذا أمر متواتر، تهجد وتعبد لا خلاف فيه.
وقال العبد الصالح أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد الشيباني، وهو ثقة ثبت إمام مبارك، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، قال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يسمى الوَتِد -أو الوتَد، بكسر الواو وفتحها وهو واحد الأوتاد، معروف- الذي يدق في جدار أو في أرض, خشبة تغرز أو حديدة من أجل أن تربط بها دابة أو من أجل أن تمسك الخيمة -قال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يُسمى الوَتَد؛ لانتصابه لعبادة ربه. أحيا الليل أربعين سنة- وكثيراً ما كان يختم في ركعة واحدة.. هذا حقيقة هو العابد، كأنه شيء مضروب في الأرض لا يتحرك رضي الله عنه وأرضاه، لكثرة قيامه وطول تعبده لربه سبحانه وتعالى.
وكنت ذكرت إخوتي الكرام أن سيدنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كان يقسم الليل ثلاثة أقسام: قسم للنوم، وقسم للعبادة والذكر، وقسم لطلب العلم, أما أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فالليل من أوله إلى آخره للعبادة، كله لقراءة القرآن وذكر الرحمن من أوله إلى آخره، فالليل للعبادة، والنهار للتعلم, ومتى سينام؟ ينام نصف ساعة بعد الظهر وهي القيلولة, ما له إلا هذا النوم فقط، أما نوم في الليل فلا ينام هذا الإمام رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك إخوتي الكرام! كما قلت: من هذا حاله فينبغي أن يذكر فقط للبركة رضي الله عنه وأرضاه، أما النفس الشريرة التي تأتي لتنتقص هذا الإمام، أو لتقع فيه؛ والله هذا أكبر عنوان على غضب الرحمن على من وقع في هذا الإمام أو في غيره من أئمة الإسلام.
ما يتعلق بعبادته وديانته والعبادة تدور على أمرين: تعظيم الله والشفقة على خلق الله، وكيف قام بالأمرين على أتم ما يكون، يأتينا إيضاح هذا في الموعظة الآتية بتوفيق الحي القيوم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مقدمة في الفقه - اختلاف الأئمة [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان
https://audio.islamweb.net