اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن النسائي - كتاب الطهارة - باب البول إلى سترة يستتر بها - باب التنزه عن البول للشيخ : عبد المحسن العباد
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن النسائي - كتاب الطهارة - باب البول إلى سترة يستتر بها - باب التنزه عن البول للشيخ : عبد المحسن العباد
أخبرنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه أنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كهيئة الدرقة، فوضعها ثم جلس فبال إليها، فقال بعض القوم: انظروا يبول كما تبول المرأة، فسمعه فقال: أوما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم شيء من البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم صاحبهم فعذب في قبره)].
يقول الامام النسائي رحمه الله: باب: البول إلى سترة يستتر بها. هذه التراجم معقودة لبيان أن الإنسان إذا كان في غير البيوت، وفي غير الأماكن المخصصة لقضاء الحاجة، أنه يستتر بشيء، مثل: مكان مرتفع, أو حصاة كبيرة, أو مكان منخفض، إذا نزل فيه استتر عن الناس، أو شجرة من الأشجار الكثيرة التي ليس لها ظل, والتي لا يتأذى الناس بقضاء الحاجة تحتها، أو بشيء يكون معه كما في الحديث الذي أورده المصنف؛ لأنه استتر بشيء معه كهيئة الدرقة، وهي: الترس، وهي تتخذ من الجلود.
يقول النسائي رحمه الله: أخبرنا هناد بن السري بإسناده إلى عبد الرحمن بن حسنة قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كهيئة الدرقة، فوضعها أمامه وبال إليها). يعني: جعلها سترة له.
وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث في باب الاستتار، أنه إذا بال الرجل يتخذ سترة يستتر بها عند البول، وكونه معه مثل هيئة الدرقة، فوضعها وبال إليها، يعني: اتخذها سترة، فهذا يدلنا على أن الإنسان يتخذ سترة تستره عن الناس، حتى لا يراه أحد وهو يقضي حاجته، وقد كشف عورته.
وكما قلت: الاستتار يكون إما بشجرة لا يتأذى بقضاء الحاجة في ظلها إذا كان لها ظل، أو تكون شجرة ليست عالية ولا يستظل بها، أو يكون بحصاة كبيرة، أو منخفضاً من الأرض، أو تلاً مرتفعاً، فيكون أمامه حتى إذا مر أحد لا يراه، وهذا هو المقصود من التراجم.
والفائدة من ذلك كما هو معلوم: عدم تعرض الإنسان لأن يرى عورته ممن مر أو اجتاز أو جاء من أمامه، فيمنعه ذلك الساتر الذي اتخذه, أو يكون معه شيء كما في الحديث الذي معنا، حيث اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام سترة كهيئة الدرقة، وهو مصنوع من جلد، ونصبه أمامه واستتر به، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله في الحديث: (فقال بعض القوم: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أو ما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟).
يعني: ما أصاب صاحب بني إسرائيل من العذاب، أي: ما حصل له، و(صاحب) يجوز فيه الرفع ويجوز النصب، أصاب صاحب -بالنصب- بني إسرائيل، يعني: من العذاب، فيكون الفاعل محذوفاً، وهو العذاب الذي جاء بيانه في آخر الحديث، ثم بين عليه الصلاة والسلام ما حصل لصاحب بني إسرائيل، أنهم كانوا إذا أصابهم شيء من النجاسات قرضوه بمقاريض، وهذا من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فإنهم حصل لهم تكاليف أشد مما حصل لنا، فنهاهم أن يفعلوا هذا الفعل الذي جاء في شرعهم, فعذب في قبره.
وقد قيل: إن هذا الرجل الذي قال هذه المقالة منافق، وقيل: إنه ليس بمنافق وإنما هو مؤمن، ولكنه قال ذلك تعجباً من شيء حصل على خلاف ما ألفوه واعتادوه في الجاهلية من كونهم يبولون قائمين، وكونهم لا يعرفون هذه العادة، وهي غريبة عليهم فتعجبوا، وقد جاء في بعض الطرق في سنن أبي داود: فقلنا، بإضافة القول إليهم، وهذا يدل على أنه ليس بمنافق، ولا معترض على شرع الله، ولكنه حصل شيء غير مألوف لهم في الجاهلية أن يروا الرجل يبول جالساً، بل المألوف أن المرأة هي التي تبول وهي جالسة، فقال هذه المقالة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أو ما علم)، يعني: أن مثل هذا الكلام وإن كان لم يصدر من منافق معترض على شرع الله، وإنما حصل للتعجب من شيء على خلاف ما ألفوه، وعلى خلاف ما اعتادوه؛ ففي ذلك تنبيه على خطورة مثل هذا الكلام، وإن كان صاحبه لا يريد الاعتراض على شرع الله عز وجل، وإن كان قد قاله لكونه على خلاف العادة، فإن العادات وما ألفه الناس يطرح عندما تأتي السنة، وعندما تأتي الشريعة؛ لأن الشريعة كما هو معلوم قد جاءت ناقلة عن أشياء كانوا عليها في الجاهلية، وجاءت مقررة لأشياء كانوا عليها في الجاهلية، ولا يعترض على الشرع.
وفي الحديث ما حصل لهذه الأمة من التخفيف عليها، وقد جاء في القرآن في آخر سورة البقرة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286]، وفي كل منها يقول الله: (قد أجبت)، يعني: أنه قد غفر وأنه قد أجاب هذه الدعوة، ولن تحصل هذه الأشياء التي كانت على من قبلنا،حيث كانوا يقرضون النجاسة بالمقاريض، ولا يغسلونها! أما نحن فبحمد الله يسر الله لنا، فيكفي أن نغسل النجاسات بالماء.
وفي السنة أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، وكذلك جاء في الحديث: أن الإنسان في قبره عندما يعذب، يصرخ وتخرج منه صيحة يفزع لها كل من كان على وجه الأرض، حتى الحيوانات نفسها تسمع ما يجري في القبور، فالله تعالى أطلعها على ذلك؛ لأنها غير مكلفة، أما الجن والإنس فهم مكلفون، فحجب الله ذلك عنهم حتى يبقى من علوم الغيب, يتميز به من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن، من يصدق ومن لا يصدق؛ لأنه لو انكشف الغيب لما حصل المراد من بيان من يكون من أولياء الله، ومن يكون من أعداء الله، فمن الناس من لا يؤمن إلا بشيء يشاهده ويعاينه، ومن الناس بمجرد ما يسمع الخبر عن الله وعن رسوله يقول: آمنا وصدقنا، ومن المعلوم أن من معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تصديقه فيما أخبر، فكل ما جاء عنه من خبر فالواجب التصديق، ولا تقاس أمور البرزخ وأمور القيامة على أمور الدنيا، فكل ما جاء في الكتاب وصح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب التصديق به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، فكل هذه نصوص دالة على عذاب القبر.
وجاء في القرآن إثبات عذاب القبر في قصة آل فرعون، كما قال الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، معناه: قبل قيام الساعة، وقبل البعث، فإذا قامت الساعة وحصل البعث فإنهم ينتقلون من عذاب شديد إلى عذاب أشد، وفي هذا إثبات لعذاب القبر، وأن الكفار يعذبون في قبورهم.
قوله عليه الصلاة والسلام: ( أو ما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم شيء من البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم صاحبهم فعذب في قبره ).
المقصود من التمثيل: أن صاحب بني إسرائيل نهاهم عن الأمر بالمعروف في شريعتهم، وهو كونهم يقرضون ذلك بالمقاريض، فعذب في قبره؛ لأنه حصل منه النهي عن فعل ما أُمروا به والذي في الحديث وإن كان لم يعترض على شرع الله، وإنما حصل ذلك له لكونه على خلاف شيء معتاد, فقال ما قال، لكن الواجب هو الحذر من مثل ذلك، وإذا وجد شيء في الشرع مخالف لما عليه العادة، فلا يكون هناك ما يستغرب؛ لأن الشريعة ناقلة للناس عما كانوا عليه، ومقرة لبعض ما كانوا عليه. أما ناقلة لبعض ما كانوا عليه، فمثل: ما حرمت من أشياء كثيرة كانت موجودة في الجاهلية، وأمّا ما أقرت فمثل: بيع المضاربة, فقد كان موجوداً في الجاهلية، فأقره الإسلام, وأجمع المسلمون عليه، ومثل: وجود الولي في الزواج، وأن الزوج يأتي إلى الولي ويخطب البنت منه، فهذه من الأشياء التي كانت في الجاهلية فأقرها الإسلام.
فإذا كان الأمر على خلاف العادة، فإنه لا ينبغي إظهار مثل هذا الشيء الذي قد حصل؛ لأنه قد يؤول الأمر بالإنسان إلى محذور، فيحصل له مثل ما حصل لصاحب بني إسرائيل, الذي أشار إليه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.
سبق أن مر بنا، وهو كوفي ثقة، روى له مسلم , والأربعة , والبخاري في خلق أفعال العباد كما ذكرنا ذلك فيما مضى.
وهناد بن السري كنيته أبو السري، فكنيته توافق اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث: معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، يعني: اسم أبيه متفق مع الكنية، والفائدة من هذا النوع هي حتى لا يظن التصحيف، فإنه إذا كان معروفاً بالنسبة فتركت النسبة وجيء بالكنية؛ فالذي لا يعرفه يظن أن هذا تصحيف، ويظن أن (أبو) مصحفة عن (ابن)، فلو جاء في بعض الأسانيد: حدثنا هناد أبو السري، فالذي لا يدري أن كنيته أبو السري، ويعرف أن اسمه هناد بن السري فسيقول: أن (أبو) مصحفة عن (ابن)، فتكون خطأ, فتحذف ويجعل مكانها: (ابن) ، لكن الذي يعلم أن هذا الراوي قد وافقت كنيته اسم أبيه لا يلتبس عليه هذا، فإن جاء هناد بن السري فهو صواب، وإن جاء هناد أبو السري فهو صواب أيضاً؛ لأنه ابن السري وأبو السري، فهذا النوع من أنواع علوم الحديث ينصون عليه، وأنواع علوم الحديث كثيرة، وابن الصلاح في المقدمة جمع منها شيئاً كثيراً، والذين جاءوا بعده أضافوا إضافات ما ذكرها ابن الصلاح، وكلها من أنواع علوم الحديث.
[ عن أبي معاوية].
هو: محمد بن خازم الضرير الكوفي ، محمد بن خازم بالخاء والزاي، وهو كوفي, ومن رجال الجماعة، وهو ثقة، وقيل: إنه أثبت الناس في حديث الأعمش، وهو مشهور بكنيته ومشهور باسمه، وهنا الكنية فقط، أبو معاوية، ويأتي في بعض الأسانيد: حدثنا محمد بن خازم، ومعرفة الكنى هي من أنواع علوم الحديث، وفائدتها كما ذكرنا سابقاً: حتى لا يظن الشخص الواحد شخصين، إذا جاء مرة بالاسم ومرة بالكنية فيقال: هذا غير هذا، فالذي يعرف أن هذا كنيته كذا، يعلم أنه جاء مرة بالكنية ومرة بالاسم، ولا يلتبس عليه، فهو شخص واحد، مرة جاء باسمه ومرة جاء بكنيته، وأبو معاوية كوفي، كما أن تلميذه هناد بن السري كوفي أيضاً.
[ عن الأعمش ].
الأعمش كما مر بنا في مواضع هو: سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو كوفي أيضاً، فكل الثلاثة من الكوفة، والأعمش مشهور باسمه ومشهور بلقبه، يأتي في بعض المواضع: سليمان, كما مر بنا، ويأتي في بعض المواضع: الأعمش، ومعرفة الألقاب للمحدثين فائدتها: حتى لا يظن الشخص الواحد شخصين، فإذا جاء مرة الأعمش، ومرة سليمان بن مهران, فالذي لا يعرف أن سليمان بن مهران لقبه الأعمش فإنه يظن أن الأعمش ليس سليمان بن مهران.
[ عن زيد بن وهب ].
زيد بن وهب هذا تابعي, مخضرم، وهو ثقة جليل, كما قال ذلك الحافظ ابن حجر، وهو من رجال الجماعة، ومعنى هذا أن عندنا في الإسناد بعد هناد : أبو معاوية ثم الأعمش ثم زيد بن وهب، فهؤلاء من رجال الجماعة، أما الأول فمن رجال الجماعة إلا البخاري؛ فإنه لم يرو له في الصحيح، وإنما خرج له في كتاب خلق أفعال العباد.
أما عبد الرحمن بن حسنة الصحابي، فهو لم يخرج له أصحاب الكتب الستة إلا هذا الحديث, خرجه النسائي , وأبو داود ، وابن ماجه . ومثله عبد الرحمن بن أبي قراد الذي مر بنا قريباً، والذي يروي عنه شريح بن هانئ، الذي روى عن عائشة أنه سألها: (بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل المنزل؟ قالت: بالسواك)، ليس له إلا ذلك الحديث الواحد، فهو مقل.
أخبرنا هناد بن السري عن وكيع عن الأعمش سمعت مجاهداً يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير: أما هذا فكان لا يستنزه من بوله، وأما هذا فإنه كان يمشي بالنميمة، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين، فغرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً، ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
قال: خالفه منصور، رواه عن مجاهد عن ابن عباس ولم يذكر طاوساً ].
ذكر النسائي هذه التراجم وهي: باب التنزه عن البول، يعني: أن الإنسان يحترز من أن تصيبه النجاسة بالبول، إما على ثيابه أو على بدنه، فعليه أن يحترز من ذلك ويتنزه من ذلك؛ لئلا يقع في العقوبة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
وأورد النسائي رحمه الله فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين)، يعني: اجتاز في طريقه وهو يمشي ومر بقبرين، فقال: (إنهما يعذبان)، يعني: أن صاحبي القبرين يعذبان. وبين عليه الصلاة والسلام سبب العذاب أيضاً، لماذا عذبا في قبريهما، فقال: (أما هذا فكان لا يستبرئ من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة أو بعسيب رطب وشقه قطعتين, وغرز على كل قبر منهما قطعة، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
فهذا الحديث يدل على التحذير من التهاون في أمر البول بحيث تقع النجاسة على الإنسان في جسده أو بدنه ولا يتحرز من ذلك، ولا يتنزه منها ويتخلص منها، ففي ذلك تحذير وترهيب من ذلك، وبيان أن هذا من الكبائر؛ لأن التعذيب في القبر إنما يكون على أمر كبير.
فلو علم الناس ما يجري في القبور ما حصل التمييز بين أولياء الله وأعداء الله، بل لما هدأ للناس بال، وما تلذذوا بالنوم وهم يسمعون الصراخ من شدة العذاب، لكن الله تعالى أخفى ذلك وأطلع عليه نبيه، وأطلع عليه البهائم؛ لأنها غير مكلفة.
والحديث فيه: إطلاع الله عز وجل نبيه على ما شاء من غيبه، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، والذي يعلم الغيب على الإطلاق هو الله وحده لا شريك له في ذلك كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27]، وقال تعالى: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188]، وقال سبحانه وتعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، فالغيب على الإطلاق لا يعلمه إلا الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، ولكنه يعلم ما يطلعه الله عليه من الغيوب، وقد أطلعه الله على غيوب كثيرة جاءت بها السنة، مثل: كل ما أخبر عنه في الماضي من الغيوب، وكل ما أخبر عنه في المستقبل من الغيوب، وكل ما يجري في السماوات, وما يجري في الجنة والنار وهما موجودتان الآن، فهي من الغيوب التي أطلع الله تعالى عليها نبيه، لكن لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق، فهذا الوصف -وهو علم الغيب على الإطلاق- لا يليق إلا بالله عز وجل، والله عز وجل يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له قضايا تدل على عدم علمه بتلك المغيبات في تلك القضايا، ومنها ما جاء في الحديث: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فإن شاء فليأخذها، وإن شاء فليدعها)، فدل ذل على أنه لو كان يعلم الغيب فبمجرد أن يأتي الخصمان يقول: أنت محق وأنت مبطل، أنت على الصواب وأنت على الخطأ، لو كان يعلم المبطل من المحق بدون بينات وبدون كلام، لكنه ما أطلعه الله عز وجل على ذلك، وهو يقضي على نحو ما يسمع عليه الصلاة والسلام، وما شاء الله تعالى إطلاعه عليه أطلعه إياه.
ومن ذلك: قصة الإفك المشهورة المعروفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك عائشة مدة، ويأتي إليها ويقول: (إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري) وبعد مدة نزل القرآن فأعلمه الله أنها بريئة، ولو كان يعلم الغيب بمجرد ما حصل الكلام, فإنه سيقول: لا، أنا أعلم الغيب، وما حصل منها هذا.
وكذلك قصة فرض التيمم، لما كان الصحابة في سفر ومعهم عائشة، وكانت قد فقدت عقداً لها، وعندما أرادوا الرحيل أخبرت النبي عليه الصلاة والسلام فجلسوا ينتظرون، وانتشر الناس يبحثون، وذهبوا إلى المكان الذي ذهبت إليه لتقضي حاجتها، فما وجدوه، وقل الماء ونفد, وأنزل الله آية التيمم وتيمموا، ولما أرادوا الرحيل, والعقد قد ضاع ولا يعرفون عنه شيئاً، أثاروا الجمل الذي تركب عليه عائشة وإذا العقد تحته، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق, ما احتاج إلى أن يجلسوا هذه المدة.
فالحاصل أن علم الغيب على الإطلاق لا يكون إلا لله، والله تعالى أطلع نبيه على كثير من الغيوب في الماضي والمستقبل وفيما هو موجود غير مشاهد، ومن ذلك: إخباره صلى الله عليه وسلم بعذاب القبر وما يجري في عذاب القبر، وكونه اطلع على أن هذين المقبورين يعذبان، وأيضاً اطلع على سبب العذاب، وهو: عدم التنزه من البول، والمشي بالنميمة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، وفي بعض طرق الحديث الصحيح: (بلى إنه كبير) فنفى أن يكون عذابهما في كبير، وأثبت أنه كبير، والنفي غير الإثبات، يعني: (ما يعذبان في كبير) أي: في أنفسهما يعتبرونه هيناً وهو كبير عند الله عز وجل، أو يكون المقصود بالنفي: (ما يعذبان في كبير) أي: في أمر يحتاج إلى مشقة ويحتاج إلى عناء، بل هو هين سهل، وهو التنزه من البول، وهو سهل لا يحتاج إلى عناء ومشقة، وقيل في التوفيق بين النفي والإثبات أقوال كثيرة.
ثم بين عليه الصلاة والسلام أن كل واحد منهما يعذب بسبب كذا، ومحل الشاهد منه: كون أحد المعذبين لا يستبرئ من البول، وأما المعذب الثاني فكان يمشي بالنميمة، وهي: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، يأتي إلى هذا ويقول: فلان يقول فيك: كذا، ويأتي إلى هذا ويقول: فلان يقول فيك: كذا، فيفسد بينهما، وقد كان بينهما ود وبينهما تآلف وتقارب، فهذا عمل قد لا يلقي بعض الناس له بالاً، فيكون هيناً عنده، ولكنه عند الله عظيم.
وقيل في هذين المقبورين: إنهما كافران, أو منافقان، وقيل: إنهما مسلمان، وكونهما يعذبان بسبب ما ذكر في الحديث، فمعلوم أن المسلم هو الذي يتوضأ ويحتاج إلى النظافة، وهو الذي يستسلم وينقاد لأمر الشرع, وإن كان الكل مكلفاً، المسلمون والكفار، إلا أنه لما كان هؤلاء هم المنقادون لشرع الله، وهم الذين يمتثلون أمر الله، فجاء التعذيب بسبب هذا الفعل، أما الكافر: فهو يعذب في قبره بسبب الكفر، كما جاء في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فالأقرب: أنهما مسلمان، وإنما عذبا في شيء يحسبونه هيناً وهو كبير. أما لو كانوا كفاراً، فإن عندهم شيئاً يستحقون العذاب به وهو الكفر، فليس الأمر بكونه لا يتنزه من بول، أو كونه يمشي بالنميمة، بل عنده ما هو أخطر من ذلك، وما هو أطم من ذلك، وهو الإشراك بالله عز وجل.
هناد بن السري هو شيخه في الحديث المتقدم، ووكيع هو ابن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة إمام جليل، ومن الحفاظ، وهو من شيوخ الشافعي، وهو الذي جاء عنه البيتان المأثوران عن الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظيفأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نورونور الله لا يؤتى لعاصي
وقد روى عنه أصحاب الكتب الستة كما عرفنا ذلك من قبل.
[عن الأعمش].
هو: سليمان بن مهران، وقد مر في أحاديث، منها الحديث الذي قبل هذا.
[ عن مجاهد].
هو: مجاهد بن جبر المكي، وهو إمام في التفسير وفي العلم، وهو ثقة جليل، وهو من أصحاب ابن عباس، وهو الذي أخذ التفسير عن ابن عباس، وهو يروي عنه مباشرة وبواسطة كما في هذا الحديث؛ لأنه جاء من طريقين: من طريق الأعمش، ومن طريق منصور بن المعتمر، فـالأعمش يرويه عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، ومنصور الذي هو رفيق الأعمش يرويه عن مجاهد عن ابن عباس، ولا تنافي بين الروايتين؛ لأن مجاهد بن جبر من تلاميذ ابن عباس ويروي عنه بواسطة وبغير واسطة، فلا تنافي بينهما، وهذا كثير يأتي في الصحيحين وفي غيرهما، وهو مبني على أن الراوي روى عن التلميذ ثم لقي الشيخ فروى عنه ما رواه عن التلميذ، فكان يروي أحياناً بالواسطة، وأحياناً بدون الواسطة، فإذاً: لا تنافي بين الروايتين، فـمجاهد بن جبر من تلاميذ ابن عباس, وأخذ عن ابن عباس, وروى عن ابن عباس، وكذلك يروي عن طاوس، فكونه روى عنه بواسطة في بعض الطرق، وفي بعضها بدون واسطة، فلا تنافي بينهما، وهذا كثير.
قوله: [عن طاوس ].
هو ابن كيسان اليماني، وهو من رجال الكتب الستة، وهو ثقة.
قوله: [ عن عبد الله بن عباس ].
هو: أبو العباس، ويقال: إنه ليس في الصحابة من كنيته أبو العباس إلا اثنان: عبد الله بن العباس وسهل بن سعد الساعدي، كلٌ منهما كنيته أبو العباس.
إذاً: فـعبد الله بن عباس وافقت كنيته اسم أبيه، فهو عبد الله بن عباس وهو أبو العباس.
وعبد الله بن عباس هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار الصحابة، جاء عنه في الصحيح أنه قال في حجة الوداع: كنت قد ناهزت الاحتلام، وذلك عندما جاء على حمار أتان إلى منى، يعني: هو من صغار الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك هو من المكثرين من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة الذين كانوا في عصر واحد، وهم: عبد الله بن عباس , وعبد الله بن عمر , وعبد الله بن الزبير , وعبد الله بن عمرو بن العاص، هؤلاء من صغار الصحابة، وهم العبادلة الأربعة، وليس فيهم ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود متقدم الوفاة، فقد توفي سنة اثنين وثلاثين من الهجرة، وأما هؤلاء فعاشوا واستفاد الناس منهم، وأدركهم خلق كثير من التابعين، وما أدركوا عبد الله بن مسعود، فمنهم من ولد بعد وفاة ابن مسعود وروى عن هؤلاء؛ لأن هؤلاء عاشوا بعد ابن مسعود فترة طويلة تقارب الضعف بالنسبة لبعضهم، لأن هذا مات سنة اثنين وثلاثين، والعبادلة مات بعضهم بعد الستين للهجرة، ومنهم من هو بعد السبعين.
فالعبادلة الأربعة الذين هم في طبقة واحدة، هم من صغار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
فعند ذلك تبين لهم ما عنده من دقة الفهم، فكانوا يقولون: عن عمر أنه يقول: إنه غواص، يعني: أنه يغوص في الفهم, وفي استنباط الأشياء الخفية، فلذلك كان يقربه مع الكبار ويستشيره رضي الله تعالى عنه.
وذكر في الخلاصة: أن له في الكتب ألفاً وستمائة وستين حديثاً، اتفق البخاري , ومسلم منها على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وعشرين، وانفرد مسلم عن البخاري بتسعة وأربعين، فهو مكثر، وهو أحد السبعة المكثرين الذين ذكرهم السيوطي وجمعهم في بيتين في ألفيته، حيث قال:
المكثرون في رواية الأثرأبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدريوجابر وزوجة النبي
قال: (والبحر) يقصد به: ابن عباس، البحر والحبر، يقال له: البحر، ويقال له: الحبر، فهو أحد المكثرين، ولهذا له في الكتب ألف وستمائة وستون حديثاً، وقد قال في الخلاصة: إنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثاً. هو له ألف وستمائة وستون، والذي سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام خمسة وعشرين، فمعناه أن الباقي مراسيل من مراسيل ابن عباس، ومن المعلوم أن مراسيل الصحابة حجة؛ لأنه مما أخذوها من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة، والصحابي إذا حذف أو لم يعلم لا يؤثر، لكن ابن حجر في فتح الباري بين أنه تتبع أحاديث عبد الله بن عباس في بعض الكتب وأبلغها إلى أكثر من هذا الذي قاله صاحب الخلاصة. مع أن صاحب الخلاصة بعد ابن حجر، فصاحب الخلاصة في القرن العاشر، وابن حجر وفاته في منتصف القرن التاسع, سنة ثمانمائة واثنين وخمسين، فذكر في فتح الباري: أنه تتبع، وأنه وجد له أحاديث كثيرة كلها يقول فيها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، يعني: صرح فيها بالسماع، لكن مهما يكن من شيء فلا شك أن صغار الصحابة كثيراً من أحاديثهم مراسيل، لكن مراسيل الصحابة حجة عند العلماء ولا يؤثر، فهي ثابتة وتعتبر حجة، ولو لم يصرح الصحابي بالسماع.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن النسائي - كتاب الطهارة - باب البول إلى سترة يستتر بها - باب التنزه عن البول للشيخ : عبد المحسن العباد
https://audio.islamweb.net