إسلام ويب

يقف التاريخ طويلاً أمام سير ومآثر بعض النجباء والعلماء، وممن طال وقوفه عندهم العلامة ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية عليهما رحمة الله، فقد اجتمع فيه من العلم والزهد والتأله ومكارم الأخلاق ما جعله من أحق الناس بقول القائل: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.

ترجمة الإمام ابن القيم

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, أما بعد:

أحبتي الكرام! إن كل أمة من الأمم تعتز بتاريخها, وتفخر ببطولات رجالها وأبنائها, وإن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز وهذا الافتخار هي أمة الإسلام، وهذا بشهادة العليم الغفار، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110], وليست هذه الخيرية خيرية ذاتية ولا عرقية ولا قومية ولا عنصرية, ولكنها خيرية مستمدة من رسالتها؛ لتكون أمة الإسلام أمة الخلود والبقاء لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا.

هذه الأمة التي أنجبت على طول تاريخها رجالاً وأبطالاً, وأطهاراً وعباداً، حتى يقف التاريخ أمام سيرهم ومآثرهم وقفة إعزاز وإكبار وإجلال وإعظام وافتخار, وإن سماع سير الأبطال ربما يكون خيراً لنا من قراءة كثير من النصائح والتوجيهات, والمواعظ والكلمات، كما قال أبو حنيفة النعمان رحمه الله: نحن إلى قليل من سير الرجال أحوج منا إلى كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم.

فسير الرجال وحياة الأبطال تنسي النفس همومها, وتسري عن الروح غمومها، فبها بعد عون الله وتوفيقه تشرق القلوب وتزدان النفوس, فسيرتهم تعيد للإيمان في النفوس بهجته, وتظهر للقوم حجته؛ لأنهم عاشوا للشريعة الغراء، وتفانوا للملة السمحاء, ونصروا وأعزوا ملة صاحب الشفاعة والإسراء؛ لأن الأمة كانت قبلهم في سبات عميق, وفي حضيض من الجهل سحيق, فبعثه الله على فترة من المرسلين, وانقطاع من النبيين, فأقام الله به صلى الله عليه وسلم الميزان, وأنزل عليه القرآن, وفرق به بين الكفر والبهتان, فهو -بأبي وأمي- معصوم من الزلل, محفوظ من الخلل, سليم من العلل, عصم قلبه من الزيغ والهوى, فما ضل أبداً وما غوى, وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى.

اسمه ونسبه وولادته

تعالوا بنا أحبتي الكرام! كي ندخل واحة أعلام أئمة الإسلام, وحديقة نبلاء الإيمان, كي نقطف باقة من عبير السير لذاك الجيل الذي خاف وادكر.

نعم! ذلك الجيل من سلف هذه الأمة الذي وحد ربه، وأخشع قلبه، وأنار بصيرته, وليس من الصعوبة أخي أن تختار حلوة من بين مجموعة من الحصى, أو زهرة في صحراء من الثرى, ولكن الصعوبة تكمن، والاختيار يصعب إذا أردت أن تصطفي زهرة من باقة, أو حلوة من مجموعة حلوى.

ولكن هذه الصعوبة وهذا العناء قد كفانيه الإخوة الذين وضعوا هذه المحاضرات وجعلوا الاختيار لهم, فجعلوني أتحدث عن إمام من أئمة الإسلام هو شمس الدين أبو الخيرات وأبو البركات محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن سعد بن حريز الزرقي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بـابن قيم الجوزية .

وأنا حين أتحدث عن هذا الإمام العظيم عن أي شيء أتحدث؟ أتحدث عن أسرته وما حباها الله سبحانه وتعالى وأعطاها ومنَّ عليها من فضائله وإنعامه، حتى غدت واحة من أئمة الإسلام, أم أتحدث عن هذا الإمام وعبادته وخضوعه وانتشاره بين يدي رب العزة والجلال, أم أتحدث عن قلمه السيال، وما فتح الله عليه من حقائق الإيمان, ومن أسرار القرآن ما لم يفتحه على أحد من بني جلدته ومن بني جنسه ومن أئمة الإسلام في زمانه, حتى شهد له الأئمة بهذا الأمر.

أم أتحدث عن اعتصامه بالكتاب والسنة في وقت كان التعصب على أشده, ففتح الله عليه ما لم يفتحه على أحد من قومه، من اعتصام بالكتاب والسنة، والاهتداء بهما، وترك ما سواهما؟

أم أتحدث عن نصرته للحق, ودعوته لإحياء سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وترك البدع ومحاربتها, أم أتحدث عن سلامة قلبه وخلقه ونبله حتى غدا ذلك يتحدث به الغادي والرائح؟

عن ماذا أتحدث أحبتي الكرام؟ ولكن علي أذكر نقاطاً، والحر تكفيه الإشارة.

بادئ ذي بدء أتحدث عن ولادته: فقد اتفقت كتب التراجم على أن تاريخ ولادته رحمه الله سنة 691هـ, وذكر تلميذه الصفدي أن ولادته في اليوم السابع من شهر صفر بعام 691هـ.

أما عن شهرته بــابن قيم الجوزية ، والمتأخرون يقولون: ابن القيم فذكر أهل العلم المؤرخون والذين كتبوا في ترجمته أن سبب شهرته بــابن قيم الجوزية هو أن والده أبو بكر بن أيوب الزرعي كان قيماً على المدرسة الجوزية الموجودة آنذاك بدمشق، فاشتهر بــقيم الجوزية ، واشتهرت ذريته وأبناؤه وأبناء أبنائه, بل وأبناء بناته بهذا اللقب.

والجوزية من أعظم مدارس الحنابلة بدمشق, نسبة إلى واقفها ابن الجوزي ، وهو يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي الواعظ الشهير المتوفى سنة 656هـ, والجوزي بالفتح نسبة إلى محلة بالبصرة، وقيل إلى الجوز وبيعه؛ لأن أحد أجداد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي كان يبيع الجوز في الشام, وقيل: إنما اسمه الجوزي بالضم نسبة إلى طير صغير بلسان أصفهان الفارسية.

وهذه المدرسة العريقة لا يزال محلها معروفاً إلى الآن بدمشق في حي البزورية, والفائدة من ذكر مثل هذه المدارس أمور عدة، منها:

أولاً: حتى يعرف الناس أن أهل العلم، وأن رجال الأعمال كانوا يعتنون أيما اعتناء بالأوقاف وبالمدارس لتعليم النشء كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم, فقد كان العلماء في القديم يتخرجون من المدارس التي يوقفها أصحابها, فلم يكن التدريس في حلقات العلم في المساجد فحسب, كما يتخيله الكثير من الناس.

والذي يطلع على كتب الأوقاف في القرون الزاهية في العلم يجد أن أهم مهمات هذه الأوقاف هي الأوقاف على المدارس؛ شافعية كانت أو حنبلية أو حنفية, وقد ذكر أهل العلم أن ابن الصلاح الشافعي حينما حاول جاهداً أن يخرج إشراف المدرسة النظامية من الآمدي الأصولي الأشعري قال: فتح مدرسة النظامية وترك قيمها -يعني بذلك الآمدي - خير لنا من فتح عكا, وهذا من شدة اهتمامهم بالمدارس؛ لأن المدارس هي التي تبث أنوار النبوة, وهي التي تبث أعلام أئمة الإسلام.

ثانياً: من فوائد المدارس التي كان ابن القيم قد تخرج منها: أن القوة العلمية لدى أهل العلم في القديم هو بسبب التأصيل العلمي منذ النشأة العلمية لدى الطالب منذ صغره, فتجده يتنقل بين الكتب, بل بين كتب أئمة المذهب من صغير إلى كبير إلى أكبر، حتى يترقى طالب العلم، ويعرف أسرار أئمة الإسلام في كتبهم, فيتخرج وهو يعرف صغار العلم قبل كباره, وهكذا الرباني, قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79], قال: الرباني الذي يعلم صغار العلم قبل كباره, ولقد كان الأئمة منذ صغرهم يدرسون في هذه المدارس التي يوقفها رجال الأعمال يتعلمون كتب الإسلام شيئاً فشيئاً، حتى يترقى طالب العلم في سلم طلب العلم، ويكون إماماً يقتدى به.

ومن المؤسف أن الكثير منا ربما يشار إليه بالبنان بمعرفته باباً من أبواب العلم, أو صنفاً من صنوف كتب أئمة الإسلام, لكنك لو جلست وتحدثت معه عن صغار مسائل العلم ربما تجده لا يعرف ذلك, وما سببه إلا أن كثيراً من طلاب العلم, وكثيراً ممن يدرسون ويدرسون في الحلق لم يهتموا بتدرج طالب العلم بالتأصيل العلمي.

ثالثاً: أن الطالب في السابق كان يفهم ألفاظ ومعاني كلمات أئمة وشيوخ كل مذهب, وبالتالي تكون اللغة المتداولة بينهم مفهومة, أما في الوقت الحاضر فأصبح غالب الطلبة يتتلمذ على الصحيفة, ومن كان شيخه كتابه, كان خطؤه أكثر من صوابه.

رابعاً: سعة إدراك رجال الأعمال آنذاك، وتفانيهم لخدمة العلم وأهله, فنجد أن انتشار هذه الأوقاف مما ساعد على انتشار العلم وأهل العلم, وأما اليوم فأصبح الأفق لدى بعض رجال الأعمال في الأعمال الخيرية ضيقاً, فلا يفهمونه إلا ببناء المساجد وطباعة الكتب, وهيئات الإغاثة وتغسيل الموتى ونحو ذلك, وإن كان الأمر أصبح فيه نوع وضوح، لكن ما زلنا نحتاج إلى تثقيف أعلى وأعلى حتى تكون هناك أوقاف لموقع من منتديات الإسلام التي تنافح عن الإسلام وأهله, وتبث السنة وتحارب البدعة.

البيئة الأسرية لابن القيم

البيئة الأسرية لإمامنا ابن القيم رحمه الله: ينبغي لمن أراد أن يبحث عن سيرة عالم من العلماء أو جهبذ من الجهابذة, أو يطلع على سيرة أي شخص صالح أو طالح ألا ينسى البيئة الأسرية لدى هذا المترجم له؛ لأن الأسرة لها تأثير كبير في سلوك واهتمامات هذا المترجم له؛ عالماً كان أو عابداً أو فيلسوفاً أو مفكراً أو قائداً أو إماماً, ولهذا رأيت أن أطلع على البيئة الأسرية التي عاش فيها هذا الإمام الجهبذ رحمه الله, فهذه إلمامة كإلمامة الطيف على أسرة ابن القيم رحمه الله.

أولاً أبوه: أبوه هو أبو بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، قال فيه ابن كثير في البداية والنهاية: هو الشيخ الصالح العابد الناسك أبو بكر بن أيوب بن سعد الدرعي الحنبلي، وأخطأ في هذا، ولعل هذا تطبيع ومن خطأ النساخ, فالصحيح أنه الزرعي وليس الدرعي, يقول ابن كثير : قيم الجوزية كان رجلاً صالحاً متعبداً قليل التكلم، وكان فاضلاً, وقد سمع شيئاً من دلائل النبوة على الرشيد العامري، توفي فجأة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر ذي الحجة في المدرسة الجوزية نفسها, وصلي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير، وقال: وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيراً رحمه الله تعالى, وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.

هذه الإشارة من ابن كثير رحمه الله تنبئك -وأنت خبير- على أن ابن القيم لم يكن خروجه بدعاً من سيرة, ولا بدعاً من تكلف, إنما خرج من مشكاة، إمام من أئمة الإسلام له قدم صدق في تربية النشء, ولا غرو في ذلك فقد استطاع أن ينشئ جيلاً من حنابلة زمانه، وقد كان هو بحد ذاته أمة واحدة, وسبب تسمية والده بـأبي بكر هو أنه في السابق وفي زمانهم كانوا يسمون بكنية الصالحين كما يقول أبو بكر, أبو خالد, أبو وليد أبو فلان، وهذا هو الصحيح من تسميته, فأبوه اسمه أبو بكر ، وليس هذا بكنية.

ثانياً: أما إخوته فهذا زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي بكر , وكان أصغر من إمامنا ابن القيم بسنتين, وشارك أخاه في أكثر شيوخه، ومن تلامذة أخيه الإمام المبجل عبد الرحمن بن رجب رحمه الله صاحب التصانيف الأعجوبات, كفتح الباري في شرح صحيح البخاري ، وكذا القواعد لمذهب الإمام أحمد .

وكذا ابنه عبد الله ، وكان عبد الله بن محمد مفرطاً في الذكاء والحفظ، وصلى بالناس حفظاً وهو ابن تسع سنين، وقد أطنب مترجموه في الثناء عليه علماً وصلاحاً وذكاء مفرطاً وغيرة على دين الله سبحانه وتعالى.

وهذا ابنه الثاني إبراهيم العلامة النحوي الفقيه المتفنن برهان الدين, وكان ثرياً صاحب مال عظيم استنفده في العلم والتحصيل.

وهذه البيئة تعطينا فائدة، وهي رسالة لأولياء الأمور ممن يريد أن يجعل أبناءه أئمة علم وتقوى, فالقدوة لها تأثير كبير في تعامل الفتى واهتمامه بعلياء الأمور دون سفاسفها, وتعطينا فائدة أخرى هي: أن العالم مهما انشغل في العلم والتحصيل والتعليم وقضايا الإصلاح فلا يمكن أن يشغله ذلك عن أهل بيته, فابن القيم الذي كان مشغولاً بالعلم والتأليف والتدريس لم يشغله ذلك عن أن يخرج لنا أئمة من أبنائه تتلمذوا عليه, وتسلموا التدريس والصدارة من بعده، كابنه عبد الله وابنه إبراهيم.

أخلاق ابن القيم

خامساً: أخلاق إمامنا: عرفنا من حياة والده أنه كان قيماً على المدرسة الجوزية, وأنه كان ذا علم وفضل ونبل في العلم والعبادة, ولا غرو أن يطبع هذا على أبنائه وفلذة كبده, ولم لا، وهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يرى هذه العبادة من والده, وهذا الاهتمام الحفي في الطلب والتعليم، فلا عجب إذاً إذا رأينا مترجميه يطبقون على أن ابن القيم هذا الإمام المترجم له إماماً حسن الخلق, لطيف المعاشرة، طيب السريرة, عالي الهمة، ثابت الجنان, واسع الأفق, معدود في الأكابر في السمت والصلاح, والعلم والفضائل والتهجد والتعبد.

قال فيه صاحبه وخليله ابن كثير في البداية: وكان حسن القراءة والخلق, كثير التودد، لا يحسد أحداً, ولا يؤذيهم، ولا يستعيبهم، ولا يحقد على أحد, وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة, وهذه الصفات وصفه بها لصيقه وخليله وصاحبه ابن كثير .

وقد كان يعتز بهذه الصحبة. يقول ابن كثير: وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه, يفتخر ابن كثير أن يكون هذا صاحبه، وهذه فائدة لطالب العلم إذا أراد أن يترقى في سلم الطلب فلينظر في أصدقائه، وفي خلّانه الذين يساميهم في العلم والترقي في الطلب، فإذا وجد طالب علم صاحب همة ضعيفة فليعلم أنه سوف يكون كذلك، وإذا رأى صاحبه صاحب همة عالية فإنه سوف يساميه ويشابهه، وهكذا كان ابن كثير رحمة الله تعالى على الجميع, وهذا ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم, ذا تودد للخلق, وتسامح مع الزملاء, وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وطالب العلم خاصة والداعية الذي يكون حسن الخلق هذا بحد ذاته دعوة للخلق, لا ينبغي أن يحمل في قلبه حقداً ولا حسداً على أحد من المسلمين.

ولو فتشت أخي عن سيرة إمام من أئمة الإسلام, له قدم صدق في العلم والتعليم, وله وصمة حسنة في جبين التاريخ لرأيت أن من أهم مهمات صفاته سلامة قلبه وصدره على إخوانه المسلمين, هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم ولم ينسبوا لي منه شيئاً, وحينما كان بينه وبين يونس الصدفي بعض الخلاف الذي يحصل مع الإخوة, أتى إليه الإمام الشافعي ولقيه وسلم عليه, وابتسم وهش إليه وبش, وقال: يا يونس ! ألا يستقيم أن نتصالح في بعض أمورنا وإن اختلفنا في بعض, فيجد يونس هذا الفضل والنبل من الإمام الشافعي ويقول: ما رأيت أعقل من الشافعي !

وهذا الإمام المبجل إمام أهل السنة والجماعة الذي يفتخر الواحد منا إذا قيل له: أنت على عقيدة من؟ قال بملء فيه: أنا على عقيدة أحمد بن حنبل رحمه الله, هذا الإمام لم يكن إماماً يقتدى به لأنه حفظ فقط ألف ألف حديث, ولا لأنه كتب كتابه المسند؛ بل لأنه يحمل في قلبه من المودة ومن الرحمة للخلق الشيء الكثير, اسمع كيف يصفه لنا ابنه صالح كما ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد رحمه الله. يقول: حينما خرج أبي من فتنة خلق القرآن وقد جلد لأجل ذلك ثمان وعشرين شهراً, يقول ابنه صالح : حتى إن كنت لأضع كفي على بعض فجوات ظهر أبي من شدة الضرب, يخرج إلى المسجد ولا يستطيع أن يتكئ على ظهره من شدة الألم ويجلس جلسة القرفصاء, والناس حوله يسألونه ويستفتونه, يقول ابنه صالح : وإذا رجل بعيد عن الحلقة, حسن البزة والهندام كأنه من أهل الشرط, قال: فلما خرج الناس ونفروا عن الإمام أحمد اقترب إليه وجثا على ركبته وطأطأ رأسه وقال: أبا عبد الله استغفر لي, قال: فرفع أبي رأسه وقال: مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشرط الذين يضربونك على خلق القرآن, قال: فسكت أبي هنيهة وطأطأ رأسه ثم رفعها وقال: يا هذا! أحدث لله توبة, قلت: أبا عبد الله ما جئتك إلا تائباً من ذنبي, مستغفراً لربي، وأنا جئت أستسمحك, قال: فرأيت أبي قد طأطأ رأسه وإذا له نشيج وهو يبكي وقد خضبت لحيته دمعاً, وقال: قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسبـبي, إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدعة!

هذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله اقتدى به غيره من أئمة الإسلام كـأبي العباس بن تيمية رحمه الله, حتى يصفه لنا ابن القيم رحمه الله فيقول في مدارج السالكين في سلامة القلب: ولم تر عيناي رجلاً حقق هذا الأصل -يعني: سلامة القلب- أعظم مما رأيت وشاهدت من شيخي أبي العباس بن تيمية , حتى لقد توفي ألد أعدائه إليه, وكان قد أرغمه وآذاه وسبب له دخوله السجن, قال: فلما هلك جئت إلى شيخي أبي العباس مستبشراً لهلاك هذا العدو, قلت: أبشر أبشر أبا العباس قد أهلك الله عدوك, قال: من؟ قلت: فلان ابن فلان, قال: اسكت. ثم استرجع وطأطأ رأسه يظهر الحزن على وجهه, ثم خرج واشترى بعض الحلوى وبعض الطعام والألبسة، ثم دخل على أهل الميت وعزاهم في ميتهم, وقال لهم: أنا لكم بمنزلة الوالد!

هذا إمامنا رحمه الله تأثر بمن تتلمذ عليه وهو أبو العباس بن تيمية ، وقبل ذلك محمد صلى الله عليه وسلم, وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

وعلى هذا يا طلبة العلم! من أحب أن يترقى في سلم هؤلاء الأئمة فليعرض جانباً، وليعرض صفحاً عن الكلام الذي يكون بين الأقران, فكلام الأقران يطوى ولا يروى, ويقول سعيد بن المسيب: كلام الأقران بعضهم في بعض كتناطح التيوس في الزريبة, وانظر إلى تناطح التيوس في الزريبة كيف يكون, وعلى هذا أخي! تتلمذ على جادة سلف هؤلاء الأئمة، وهؤلاء الذين اصطفاهم الله وأعلى مكانهم وشأنهم تكن من خير الناس.

واعلم أن سلوكك هذا الطريق، ومحاولة تبريره باسم الجرح والتعديل تارة, وباسم جادة سلف أهل العلم تارة, اعلم أنك به على وبال خطير، وأنك لست على جادة سلف هذه الأمة, وأما أئمة الإسلام فهم كما قال الله: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35], ولأجل انطباع هذه الأخلاق وهذه السير في ابن القيم اسمعه وهو يقول في مدارج السالكين: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً, وتكل سريرته إلى الله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو, فلما قدم جاءوا يعتذرون، فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله, انتهى كلامه رحمه الله.

ويقول أيضاً: فصل: المشهد السادس, مشهد السلامة وبرد القلب, وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى, وطلب الوصول إلى درك ثأره, وشفاء نفسه, بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه, فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه, فيكون بذلك مغبون، والرشيد لا يرضى بذلك, ويرى أنه من تصرفات السفيه, فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام, الله أكبر! كلام يكتب بماء الذهب, ويعطيك دلالة واضحة على أن أئمة الإسلام لم ينبلوا، ولم يرتفع صيتهم، ولم يرفع الله شأوهم بسبب ما نالوه من تعليم وتدريس فقط؛ بل بما نالوه من صفاء قلوبهم، وسلامة صدورهم للخلق, رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

عبادة ابن القيم وزهده

أما عبادته وزهده فتعال معي يا طالب العلم! كي تعرف أن العلم بدون العبادة هباء, وأن الاجتهاد بدون انطراح بين يدي الخالق عناء, وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23], وأي دعوة تريد لها النجاح, وأي داعية يريد الصلاح والفلاح فعليه أن يدلف من باب الاستقامة، وبابها هو المحراب, وإذا ظن صاحب المتع والدنيوي أن جناته في دنياه وفي تجارته ونسائه فليعلم الداعية أن تجارته الحقيقية هي مع الله سبحانه وتعالى والانطراح بين يديه، هذا الإمام العابد الذي من اطلع على أي كتاب ترجم له رآه قد شهد له بهذا الفضل وهذا الكرم وهذا النبل.

يقول ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة المجلد الثاني صفحة أربعمائة وخمسين: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد, وطول صلاة إلى الغاية القصوى, وتأله ولهج بالذكر, وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله, والانكسار له, والانطراح بين يديه على عتبة العبودية، لم أشاهد مثله في ذلك, ولا رأيت أوسع منه علماً, ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله, وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -يعني: أبا العباس بن تيمية- في المرة الأخيرة, ولم يخرج حتى مات شيخ الإسلام ، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن, بالتدبر والتفكير, ففتح عليه من ذلك خير كثير, وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة, وحج مرات كثيرة, وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه, انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.

هذه السيرة ذكرها ابن رجب أحد تلاميذه, لكن أحد التلاميذ بطبيعة الحال قد يعجب ويتعجب من شيخه, وربما بالغ في المدح أكثر مما لو تحدث صاحبه وقريبه عنه, هذا ابن كثير الصاحب الخل الذي لازمه وتابع معه تتلمذه وطلبه للعلم, يقول في البداية والنهاية: لا أعرف في هذا العالم -اسمع الكلام الخطير- لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه, الله أكبر.

وكانت له طريقة في الصلاة؛ يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها, ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان, فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى, بل إن من يقرأ مؤلفات إمامنا ابن القيم رحمه الله خاصة كتاب مدارج السالكين يخرج بدلالة واضحة على أن لهذا الشيخ الجليل الكثير من عمارة القلب باليقين بالله, والافتقار إليه, والتبتل والخوف والخشية والخنوع والانكسار والانطراح بين يدي الله, حتى كان يقول كما ذكر ابن حجر في الدرر الكامنة: بالصبر والفقر تنال الإمامة في الدين, وكان يقول: لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه.

تواضع ابن القيم

أما تواضعه فلعلي أذكر فقط قصيدته في هضم نفسه وتواضعه رحمه الله، كما ذكر ذلك تلميذه الصفدي الذي أملى ابن القيم عليه, يقول:

بني أبي بكر كثير ذنوبهفليس على من نال من عرضه إثم

بني أبي بكر جهول بنفسهجهول بأمر الله أنى له العلم

بني أبي بكر غدا متصدراًيعلم علماً وهو ليس له علم

بني أبي بكر يروم ترقياًإلى جنة المأوى وليس له عزم

بني أبي بكر يرى الغرم في الذييزول ويفنى والذي تركه الغنم

بني أبي بكر لقد خاب سعيهإذا لم يكن في الصالحات له سهم

بني أبي بكر كما قال ربههلوع كنود وصفه الجهل والظلم

بني أبي بكر وأمثاله غدوابفتواهم هذي الخليقة تأتم

وليس لهم في العلم باع ولا التقىولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم

فو الله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم

قارن أخي بين هذا التواضع العظيم وبين ما إذا سألت أحد طلاب العلم فوجدته يتكلم بكلام العظماء, قلت، وأنا، وهذا لا أستحبه, وأرجو ألا يكون به بأس, وهذا أكرهه، وأجد نفسي تعافه, وغير ذلك من المصطلحات التي ربما لو رآه إمام من أئمة الإسلام لحنق وغضب وقال له: لا تتزبب قبل أن تتحصرم -يعني: لا تكن زبيباً قبل أن تتحصرم، يعني: قبل الزبيب يكون هذا العنب الحامض- فلا بد من الترقي في سلم العلم والتقوى.

ومن المؤسف أيضاً أنك ربما تقرأ بعض كتب الناس من المعاصرين, فترى كلمات فجة, وعبارات عظيمة، ربما لا تصلح إلا لإمام من أئمة الإسلام, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن علم هذا الشخص مدخول.

يقول ابن القيم رحمه الله: إذا رأيت قلبك لا يبكي عند قراءة القرآن, ولا يخشع عند الصلاة, ولا يبتهل لله سبحانه وتعالى فاعلم أن قلبك مدخول, وعلى هذا فينبغي لطالب العلم أن يتواضع في كلماته وفي مشيته وفي حديثه، ولا يتكلم كلام الكبار؛ لأن في ذلك مزلة الأقدام.

حج ابن القيم ومجاورته بمكة

حجات ابن القيم ومجاورته بمكة: كان أهل العلم يقولون: لا ينبغي لطالب العلم أن يتصدر للفتوى حتى يكثر من الرحلة في طلب العلم, وما ذاك إلا لأن الرحلة في طلب العلم تعطي طالب العلم انطباعاً عريضاً في فهم السنة وتطبيقها في واقع المجتمع, وطالب العلم الذي يكون متقوقعاً في بيئته وفي أسرته, أو في مجتمعه أو في حارته تجده يتحدث عن حارته, ويتحدث عن مجتمعه, ولا يتحدث ولا يفقه الواقع, ومعنى فقه الواقع: تطبيق الحكم الشرعي وتطبيقه على واقع الناس.

وكل عالم من أئمة الإسلام أكثر من الرحلة في طلب العلم؛ لأن الرحلة في طلب العلم تعطي طالب العلم سعة أفق، وإدراكاً أعظم مما يعطيه ترك الرحلة, وهذا ابن القيم يذكر مناسبات في رحلاته، خاصة مجاورته إلى مكة, منها تأليفه لكتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، وقد ألفه مدة مقامه بمكة حرسها الله، فيقول في أواخر مقدمته: وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته, وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً, وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً, فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلا, الله أكبر, لا يكاد يؤلف إلا وينطرح بين يدي رب العزة والجلال, يتفرغ للعبادة قبل أن يتفرغ للتأليف, ويسأل ربه أن يلهمه الصواب والفلاح والرشاد والسداد، وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسيلم, كما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا علي ! قل: اللهم إني أسألك الهدى والسداد, واذكر بالسداد سدادك السهم, وبالهدى هدايتك الطريق ).

فهذا الإمام رحمه الله مع كثرة كتبه يسأل ربه أن يفتح الله عليه من محامده وثنائه ومن اطلاع العلم ما لم يفتح لأحد مثله، فحقق الله مراده, وكل من تواضع وانطرح بين يدي الله سبحانه وتعالى فسوف يفتح الله عليه, وهكذا كان شيخه أبو العباس بن تيمية رحمه الله يقول: وإذا عسر علي فهم آية فلا أزال أطلع حتى ربما اطلعت في تفسير آية مائة تفسير, فإذا لم يفتح الله علي فلا أزال أمرغ جبيني بين يدي الله سبحانه وتعالى كثرة استغفار وصلاة وتبتل وانكسار حتى يفتح الله علي شيئاً لا أكاد رأيته عن أحد من أئمة الإسلام.

استشفاء ابن القيم وتفاؤله

أما استشفاؤه رحمه الله بماء زمزم, فيقول كما في مفتاح دار السعادة: ولقد أصابني أيام مقامي بمكة أسقام مختلفة، ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم, ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً، وهذه فائدة يستفيد منها طالب العلم, وهي قضية مجربة، وهو الاستشفاء بالعسل وبماء زمزم.

أما تعالجه بالرقية وشرب ماء زمزم فيقول في مدارج السالكين في معرض كلامه عن الرقية: لقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة, ولا سيما مدة المقام بمكة, فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني, وذلك في أثناء الطواف وغيره, فأبادر إلى قراءة الفاتحة, وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة، ومن المؤسف أن الإنسان إذا أصيب بزكام أو أصيب بصداع قال: هذا من العين الذي أصابني به فلان, وهذا كله بسبب الجن أو بسبب كذا, وربما بحث أياماً وليالي وشهوراً عله يجد أحداً يرقيه، ويترك رقيته لنفسه، ورقيته لنفسه مع الاعتصام والتوكل والإلحاح ربما تكون أعظم من ذهابه لأصحاب الرقى.

أيضاً تفاؤله رحمه الله وهو منقطع عن الناس, حينما ظل وضاع ابنه زمن حجته في يوم التروية؛ لأن ابن القيم رحمه الله حج فلما حج ضاع ابنه يوم التروية, وضاق ذرعاً أهله وزوجه في ذلك, أما ابن القيم رحمه الله المتعلق بالله سبحانه وتعالى -وقد فعل الأسباب- فكان متفائلاً أشد التفاؤل بالله سبحانه وتعالى, وقد أشار رحمه الله في زاد المعاد إلى أن العبد ينبغي أن يتفاءل في أموره، وأن يحسن الظن بالله, ولا يكون ظنه كظن أهل الجاهلية.

يقول رحمه الله في مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك, وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن, فلم أقدر له على خبر, فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجز -الله أكبر يا إخوان! أحياناً العالم يستفيد من صغير, بل من جاهل، بل من رجل ربما لا يكتب ولا يحسن الكتابة, يقول: فقال لي إنسان مجهول لا يعلم، لكنه يستفيد منه, فالحكمة ضالة المؤمن- هذا عجز، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه, فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعة يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته, فلا أدري انقضاء كلمتي أسرع أم وجود الطفل مع بعض أهل مكة في محمله عرفته بصوته.

هذه فوائد أحببت أن اذكرها لك علك أن تعرف فوائد الرحلة في طلب العلم, فالإنسان ربما يفتح الله عليه في بعض المواطن والأزمان والأمكنة ما لا يفتح لأحد.

شغف ابن القيم بالعلم وبراءته من التعصب

أما غرام ابن القيم في كتبه, فـابن القيم معروف لدى كل من ترجم له أنه صاحب التصانيف وصاحب الكتب العظيمة, يقول تلميذه ابن رجب: وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء الكتب, واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره, وكذا ذكر ذلك ابن كثير , وكذا القنوجي صديق خان , وكذا ابن العماد ، وكذا الحافظ ابن حجر ، ولا أطيل عليك.

أما مذهب ابن القيم, فـابن القيم رحمه الله موصوف بأنه من أئمة الحنابلة، غير أن حنبليته هذه لم تؤثر فيه في اعتصامه بالكتاب والسنة, فهو وإن كانت أصوله على مذهب الإمام أحمد إلا أنه بعد التأني والتحري والتثبت والتؤدة في بحثه للمسائل وعدم النظرة السطحية تجده يقتنص هذا الدليل ويعتمد عليه، ولا يبالي بعد ذلك من خالفه, وبعض طلاب العلم أو بعض صغار الطلبة حين ترقيهم يسمع كلام ابن القيم رحمه الله حين يقول: والذي أدين الله به وأرى أن غيره لا يحل لي مخالفته هو أن آخذ بكذا وكذا, فيأتي طالب العلم فيأخذ هذه اللفظة ويقول: الذي أدين الله به هو فعل كذا وكذا, ولا ينبغي لطالب العلم أن يصنع هذا.

فإذا حصل طالب العلم على تكامل في الشخصية العلمية من معرفة في اللغة, ومعرفة في الحديث، ومعرفة في أسرار البلاغة, ومعرفة في الفقه, ومعرفة في الأصول، حتى يكون قد اشتد باعه, واشتد عوده في الطلب، فحينئذ يستطيع أن يختار ما يختار من الأقوال, أما وهو ما زال حصراً فإنه لا ينبغي له أن يخالف أئمته وشيوخه؛ لأن في مخالفتهم العطب، وكثرة الاعتداد بالرأي.

ابن القيم رحمه الله لم يعتمد على الدليل إلا بعد أن ترقى شيئاً فشيئاً في الطلب حتى اشتد عوده في طلب العلم, اسمعه وهو يقول في مناشدة الدليل مع احترامه لأئمة الإسلام, كما في أعلام الموقعين المجلد الرابع صفحة مائة وسبع وسبعين يقول: وكثيراً ما ترد المسألة, نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده, فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول: هذا هو الصواب, وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق, يرجح ثم تنتهي المسألة, أما أن يكون همه الرد على الرد, ورد الرد على الرد فلا, فبهذا تضيع الأعمار، يكون همه فقط الرد على فلان, إذ لم يهتم بهذا الدليل، وقد قامت كتب أئمة الإسلام في أقوالهم وعلمهم على ذكر المسألة عرضاً، ثم يذكرون القول الراجح ويردون على المخالف, ثم يأتون إلى المسألة الثانية وهكذا, أما أن ينشئوا كتباً, وكتب أخرى ترد على الكتب فلم يكن هذا من طريقتهم, إنما كانوا يذكرون ذلك عرضاً، وهذا الذي هدينا إليه يقول فيه الإمام الشافعي: وليست طريقتي أن أرد على كل قائل مقالته, ولو أردت لصنفت في كل خطأ يقع فيه القائل كتاباً في ذلك, ولكن ليست هذه طريقتي، وهذه سجيتي.

وابن القيم رحمه الله يذكر تعصب الناس في هذا الأمر فيقول: ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، وكل إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون, ورءوس أموالهم التي بها يتجرون, وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23], والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلو عليهم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123], قال الشافعي قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس انتهى كلامه رحمه الله.

والتعصب أيها الإخوة في هذا الزمان لم يكن تعصباً لأصحاب المذاهب؛ بل تعصباً لأقوالهم هم, فإذا تناقشت مع أحد الناس ربما تقول: الدليل هو ما رواه الترمذي و أبو داود وصححه فلان, فيقول لك: أنا أول مرة أعرف هذا الحديث, ثم تقول له: صححه فلان, فيقول: والله ما أدري, أحتاج أبحث, وهو يريد أن يتهرب، ولم يعظم الكتاب والسنة في قلبه, ولو كان معظماً للكتاب والسنة لقال حينما سمع كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تتلى بين يديه: سمعنا وأطعنا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

أما أن يكون تعصبه لرأيه وقوله، فتجده إذا ذكرت له سنة محمد صلى الله عليه وسلم ربما لا يتبعها، ويحاول أن يلتوي ويقول: هي محمولة على كذا, ويحتمل أن يكون كذا, وإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال.

وقد تكلم ابن تيمية رحمه الله في المجلد السابع عن هذا الأمر فقال: وينبغي للمجتهد والفقيه أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله, لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر, الله أكبر! كلام عظيم يكتب بماء الذهب, وذكر ابن القيم رحمه الله أنه ينبغي لطالب العلم ألا يتأثر بالشبه, ولا يتأثر بضغط الواقع؛ لأن ضغط الواقع أحياناً يجعله يترك الدليل الصحيح الصريح لبعض الشبه التي ربما أغرت وخدعت كثيراً من الناس بزخرف القول, والتدليس في الألفاظ والأقوال, أما ابن القيم رحمه الله فقد أعطاك أخي نصيحة: ألا تهتم بزخارف الأقوال, قال رحمه الله: من في عقله ضعف تؤثر فيه البداءات ويستفز بأوائل الأمور, بخلاف الثابت التام العاقل فإنه لا تستفزه البداءات ولا تزعجه ولا تقلقه، فإن الباطل له دهشة وروعة في أوله, فإذا ثبت له القلب رده على عقبيه، والله يحب من عنده العلم والأناة فلا يعجل, بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه, ولا يعجل بأمر فيه استحكامه, فالعجلة والطيش من الشيطان, فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم, ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش.

وقديماً قال الحكماء: الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء, وإذا أدبرت عرفها حتى الدهماء.

يقول ابن القيم رحمه الله: ذهبت إلى شيخي وكنت أورد عليه بعض الشبه في قول من الأقوال, قال: وكنت أورد عليه شبهة فيردها, ثم أذكر له شبهة أخرى فيردها, ثم أذكر له شبهة أخرى فيردها, قال: فينظر إلي ابن تيمية فيقول: يا ابن القيم ! -اسمع النصيحة العظيمة- لا يكن قلبك مثل الاسفنجة تتشرب كل ما تجمعه, فليكن قلبك مثل الزجاجة ترى الشيء ولا تتأثر به, وعلى هذا تأثر ابن القيم رحمه الله بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وتواضع لله ورسوله, حتى إن ابن تيمية كان له أثر, وكان له تأثير عظيم, اسمع ابن القيم رحمه الله حينما تأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية ماذا يقول في أدبه مع الكتاب والسنة: ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم ألا يستشكل قوله, بل تستشكل الآراء لقوله, ولا يعارض نصه بقياس, بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه, ولا يحرف كلامه عن حقيقة لخيال يسميه أصحابه معقولاً, نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، وغير ذلك مما تكلم فيه ابن القيم , وعندي نصوص في هذا الأمر كثيرة, لكن الوقت لا يسعف.

تأثر ابن القيم بشيخه ابن تيمية

قبل الأخير أذكر تأثر ابن القيم بشيخه رحمه الله, تأثر ابن القيم تأثراً واضحاً بشيخه أبي العباس بن تيمية رحمه الله, ومن قرأ نونية ابن القيم في صفات الله سبحانه وتعالى ورده على خصوم أعداء الدين من المعتزلة ومن شابههم من الجهمية والفلاسفة والقرامطة وغيرهم من أهل الأهواء, وبعض ما كتبه نفاة الصفات، يعلم تأثر ابن القيم رحمه الله بشيخه، حتى عقد ابن القيم فصلاً في نونيته في أنه قد وقع في بعض هذه الشبه وبعض هذه المهاترات من أهل الأهواء حتى أزال هذه الأوهام ابن تيمية رحمه الله, وأخذ بيده إلى طريق الحق والسلامة, يقول رحمه الله في نونيته:

يا قوم والله العظيم نصيحةمن مشفق وأخ لكم معوان

جربت هذا كله ووقفت فيتلك الشباك وكنت ذا طيران

حتى أتاح لي الإله بفضلهمن ليس تجزيه يدي ولساني

حبر أتى من أرض حران فياأهلاً بما قد جاء من حران

فالله يجزيه الذي هو أهلهمن جنة المأوى مع الرضوان

أخذت يداه يدي وسار فلم يرمحتى أراني مطلع الإيمان

ورأيت أعلام المدينة حولهانزل الهدى وعساكر القرآن

ورأيت آثاراً عظيماً شأنهامحجوبة عن زمرة العميان

ووردت كأس الماء أبيض صافياًحصباؤه كلآلئ التيجان

ورأيت أكواباً هناك كثيرةمثل النجوم لوارد ظمأن

ورأيت حول الكوثر الصافي الذيلا زال يشخب فيه ميزابان

ميزان سنته وقول إلههوهما مدى الأيام لا ينيان

والناس لا يردونه إلا من الـ آلاف أفراداً ذوو إيمانِ

وردوا عذاب مناهل أكرم بها ووردتم أنتم عذاب هوان

ثم يذكر ابن القيم رحمه الله ما زاده الله سبحانه وتعالى من هذا الفتح، ويقول نصيحة لطالب العلم:

يا طالب الحق المبين ومؤثراً علم اليقين وحجة الإيمان

اسمع مقالة ناصح خبر الذي عند الورى قد شب حتى الآن

ما زال مذ عقدت يداه إزارهقد شد مئزره إلى الرحمن

وتخلل الفترات للعزمات أمـ ر لازم لطبيعة الإنسان

ثم يذكر ابن القيم رحمه الله أثر ذلك فيقول:

والله لو لا أن تحل قيوده وتزول عنه ربقة الشيطان

كان الرقي إلى الثريا مصعداً من دون تلك النار في الإمكان

يعني بذلك: أن أهل الأهواء يضعون قوانين، ويضعون شروطاً لإثبات الصفات، والله لو تركوها وحلوا عقودها، وحلوا قيودها لنجحوا وأفلحوا وعرفوا يقرءون في الإثبات قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], ويقرءون في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

أهم مؤلفات ابن القيم

ختاماً أحبتي الكرام هذا الإمام الجهبذ له مؤلفات عظيمة, أعظمها نفعاً وأكثرها صيتاً زاد المعاد في هدي خير العباد، وأنصح طالب العلم ألا تفوته مكتبة فيها من هذه الكتب.

الثاني: إعلام الموقعين.

الثالث: مدارج السالكين في شرحه لمنازل السالكين لـإسماعيل الهروي .

الرابع: طريق الهجرتين وفيه فصول عظيمة, والبعض الآخر ربما تلاحظون عليه بعض الملاحظات؛ والسبب في ذلك أنه ألفه في أوائل كتبه, ومن أوائل ما كتب وعليه بعض الملاحظات كتاب الروح, أما أعظم ما كتب رحمه الله فهو زاد المعاد، وإعلام الموقعين، ومدارج السالكين, وعدة الصابرين، وآخرها وأحسنها هو الفوائد, فهاتيك الكتب فاقتنها يا طالب العلم.

وفاة ابن القيم وموضع دفنه

وفاته: توفي رحمه الله عن عمر يناهز الستين في سنة 751 للهجرة, وقد غلط من ذكر خلاف ذلك, وقد حضر في جنازته مشهد عظيم كما قال الإمام أحمد : موعدكم الجنائز, وقد ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله, شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة, وتزاحم الناس على حمل نعشه، ودفن بدمشق بمقبرة الباب الصغير عند والدته رحمه الله.

توفي ابن القيم وما زال علمه حياً لا ينضب، يستفيد منه الغادي والرائح والصغير والكبير وهكذا أئمة الإسلام, تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83], أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المتقين, وحزبه المفلحين, وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين, ولا إلى أحد من خلقه, اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل, أو نزل أو نزل, أو نظلم أو نظلم, أو أن نجهل أو يجهل علينا, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

أختم هذه الواحة ولا أقول أقفل البستان؛ لأن كتبه لن تستطيع أن تتحدث عنها, ولكن حسبي أني أعطيتكم رائحة عطرة من بستان هذا الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية , وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا التوفيق والصواب في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

المقدم: شكر الله لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله السلمي على ما قدم, وهنا بعض الأسئلة:

علاقة ابن القيم بالتصوف في أول أمره

السؤال: هل صحيح أن ابن القيم كان في بدايته صوفياً؟

الجواب: ذكرت في آخر هذه المحاضرة أن ابن القيم رحمه الله ذكر في الكافية الشافية في نونيته أنه تأثر بكلام أهل الأهواء, من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم, أما قول بعض المؤرخين أن ابن القيم كان صوفياً فليس بصحيح, ولكن ابن القيم رحمه الله تأثر بكتب الأشاعرة, والأشاعرة في السابق كانوا متأثرين بالصوفية, فـابن القيم رحمه الله من قرأ في أوائل كتبه يلحظ النفس الصوفي في ذلك, فليس بصوفي ولكنه تأثر، وفرق كبير بين أن يتمذهب الإنسان على مذهب الصوفية, وبين أن يتأثر بذلك, فـابن القيم رحمه الله تأثر بذلك ورد ضالته أبو العباس بن تيمية ، رده للصواب كما ذكر ذلك في نونيته.

الانشغال بالجرح والتعديل وضوابطه

السؤال: كثر في الآونة الأخيرة الخلاف بين طلاب العلم, فيقولون: فلان من فرقة كذا, وفلان مبتدع، وفلان فيه كذا من الصفات, فما توجيهكم حفظكم الله لطلاب العلم؟

الجواب: لعلي أذكر نقاطاً وبعض الصور والوقفات في مثل هذا الأمر:

الأمر الأول: أنه لا يعني كلامنا في هذا الأمر، ولا يعني وصفنا لفلان بكذا أننا سوف ننهي الخلاف, فالخلاف قائم ما قامت السماوات والأرض, بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18], فالخلاف بين الأمة والاختلاف قائم إلى قيام الدين, فلا تتصور أخي, ولا يكن عندك حساسية مفرطة أن الأمة لا بد أن تجتمع على قول واحد, فمحال هذا تماماً, ولو أمكن أن تتفق الأمة على قول واحد؛ وليس فيها مبتدع، وليس فيها منافق، وليس فيها كافر، لاتفقت في عهد محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد كان فيها المنافقون، وكان فيها الكفار, وكان فيها الصالحون الأبرار, وعلى هذا فما يذكر في الصحف أو بعض الطروحات بأننا أمة واحدة، لا ينبغي أن يُكفر بعضنا بعضاً فهذا محال تماماً, حتى إن اليهودي يكفر النصراني والمسلم؛ لأنه لم يؤمن بيهوديته, فأنا كافر باليهودية عند اليهودي, والنصراني يعدني كافراً بنصرانيته, وكذلك المسلم يعد هؤلاء كفاراً بالإسلام.

الأمر الثاني: أنه ينبغي أن نعلم أن التكفير والتفسيق والتبديع حق لله ورسوله, لا يجوز الخوض فيه إلا لمن كان ذا دراية وعلم وخشية وابتهال لله سبحانه وتعالى، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله.

يقول ابن القيم: والتكفير والتفسيق حق لله سبحانه وتعالى, ولا ينبغي للمؤمن أن يكفر من كفره لمجرد أنه كفره, كما يقول أبو إسحاق الإسفراييني : نحن لا نكفر من كفرنا, بل التكفير حق لله ورسوله، لا يجوز إطلاق ذلك إلا على من خالف الكتاب والسنة.

الأمر الثالث: أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يقع الإنسان في المحظور وفي المخالفة والنقص, وبين أن يوصف بذلك, يعني: فرق بين إطلاق الكفر على الوصف, وإطلاق الكفر على المعين, فالسلف رحمهم الله يقولون في باب حكم المرتد: من فعل كذا فهو كافر, ولا يعنون الشخص بعينه، بل يعنون الوصف؛ ولهذا أحمد بن حنبل رحمه الله قال واشتهر ذلك عنه: من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر, ولم يكفر رحمه الله أحمد بن أبي دؤاد الداعية إلى خلق القرآن, ولم يكفر بشراً المريسي , ولم يكفر المعتصم ، ولم يكفر المأمون ، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله, بل كان يقول: أمره إلى الله.

الأمر الرابع: أنه لا يعني إذا لم أكفر هذا الشخص بعينه أنني خالفت الكتاب والسنة, فالتكفير المعين لك مندوحة أن تسكت عنه, أما التكفير الوصفي فيجب أن تكفر وتقول به، فلو أن شخصاً ركل المصحف فأقول لك؟ هل من ركل المصحف كافر؟ فتقول: الله أعلم ما أدري.

أنا أتورع في هذا, أقول: لا يسوغ لك أن تتورع؛ لأنك خالفت منهج أهل السنة الجماعة, فمن ركل المصحف، أو سب الأنبياء، أو قتل الأنبياء، أو سب الله، أو سب الرسول، فهو كافر بعينه؛ لكن تورعك لأنه ربما يكون متأولاً، فلك مندوحة ألا تكفر بالعين, لكن بالوصف يجب ذلك, وهذا في حق من كان عنده أصل الإيمان, أما من لم يكن مؤمناً أصلاً كاليهودية والنصرانية والمجوسية فنقول: هؤلاء بأعيانهم كفار، وهم إن ماتوا على عقيدتهم خالدون مخلدون في نار جهنم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني, ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ).

الأمر الخامس: أنه ينبغي لطالب العلم أن يتورع, وإذا رأيت الرجل -وخذها، وقد كان يرحل في ما دون هذا إلى المدينة- إذا رأيت الرجل أو طالب العلم أو الشاب المترقي في الطلب يتسرع ويقول: فلان صاحب هوى, فلان مبتدع, فلان فاسق, فلان كافر, فلان كذا، فقبل أن تحكم عليه اتئد, وانظره في الأمر والنهي, انظره في تعظيم أوامر الله سبحانه وتعالى, انظره في الصلاة, انظره في الحج, انظره في عبادته، انظره في الصلاة, هل يأتي إلى الصلاة مبكراً؟ هل يحافظ على أداء الصلوات والسنن؟ هل يحافظ على العلم والتعليم؟ إذا رأيت هذا ليس فيه فاعلم أنه صاحب هوى, وأنه مدخول وهو لا يشعر؛ لأننا نلاحظ بعض الإخوة ربما يتسرع في التفسيق والتبديع، وهو من آخر من يأتي إلى صلاة الفجر مع الجماعة, ومن آخر من يدخل المسجد في الجماعة, وإذا قلت له ذلك قال لك: عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل و عمر بن الخطاب يخطب, قلنا: يا أخي! لو أردت أن تفتش عن هذا لوجدت لأهل البدع حيلة في بدعهم من الكتاب أو من بعض سلف هذه الأمة, فنحن عبرتنا ودليلنا هو منهج سلف هذه الأمة, ولا ينبغي لطالب العلم خاصة المترقي في العلم أن يتسرع في هذا الأمر, ولا يقول هذا فلان كذا, وهذا حزبي, وهذا متجه إلى الجهة الفلانية, وهذا كذا, فإن هذا تفريق لأمة الإسلام، والله سبحانه وتعالى قد عافانا من ذلك.

ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، وكان رجل من المهاجرين فيه نوع من المرح والطيش, فكسع رجلاً من الأنصار في دبره, يعني: ضربه من خلفه، فقال الأنصاري: يا للأنصار, فاجتمع الأنصار يريدون أن يأخذوا الحق له, وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فاجتمع المهاجرون يريدون أن ينتصروا لصاحبهم, فلما اجتمعوا وأرادوا أن يتضاربوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوها, أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم, دعوها فإنها منتنة, قالوا يا رسول الله! فأخبروه, قال: لا بأس, انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ), وترك كل هذا الأمر.

وعلى هذا فإذا رأيت الرجل يتشجع في مثل هذا فاعلم أنه مدخول, وقد جلست مع بعض الإخوة الذين يتسرعون. والله يا إخوان إني أستغرب كيف يتجرأ المرء على إطلاق البدعة, أو التفسيق لعالم له كتب في نصر السنة ورد البدعة, وقد شاخت لحيته في خدمة الإسلام والمسلمين ومع ذلك يقول: فلان لا يغرك، فلان مبتدع, فلان كذا, فلان كذا, ووالله يا إخوان إن الإنسان إذا دخل في هذا الطريق لا يخرج منه سالماً, وقد رأيت بعض من اهتم بهذا الأمر فكان مآله أن ضل وخالف طريق المسلمين؛ بل أصبح حليقاً يشرب الدخان، وقد كان في السابق يدعي أنه ينصر مذهب أهل السنة والجماعة، ربما أصابته دعوة صادقة من هذا الداعية وهذا العابد وهذا العالم، دعا على هذا الرجل فصار في بور وهلاك, فحذار حذار أخي من دعوة العابد العالم الصالح الناصح.

وقد كانوا يخافون من دعوة أئمة الإسلام, هذا مطرف بن عبد الله الشخير جاء رجل أو امرأة فغيرت بينه وبين أهل أسرته, فدعا عليها وقال: اللهم إن كانت كاذبة فأهلكها حتف أنفها, فو الله ما أنهى مطرف بن عبد الله كلامه حتى ماتت هذه المرأة, وهذا الحسن البصري رحمه الله الإمام العابد كان في حلقته رجل من الخوارج يؤذيه, ويؤذي طلابه حتى جاء طلابه يقولون: يا أبا سعيد انظر هذا الرجل لقد آذانا في دين الله, ألا تدعو عليه؟ فكان الحسن البصري يصبر حتى اشتدت أذيته، وكان هذا الرجل في المسجد، قال الراوي: فرفع الحسن البصري يده فقال: اللهم إنك تعلم أذية هذا الرجل فينا, اللهم اكفناه بما شئت, هكذا قال الحسن : اللهم أكفناه بما شئت, يقول الراوي: والله لقد رأيته قد سقط من قامته, وحمل إلى بيته مغشياً، فما وصل إلى فراشه حتى مات, الله أكبر! وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ورحمه, حينما بعث رسول عمر بن الخطاب ينظر كيف هي إمرة سعد في أهل الكوفة، فقام رجل فقال: أما وقد سألتنا عن سعد فإن سعداً لا يقسم بالسوية، ولا يعطي العطية، ولا يسير بالسرية, فقال سعد بن مالك بن أبي وقاص : اللهم إن كان هذا عبدك قام رياءً وسمعة اللهم لا تمته حتى تفتنه, فكان وقد صار شيخاً كبيراً يتعرض للجواري والنساء في الطرقات ويقول: شيخ كبير أصابتني دعوة سعد ، فحذار حذار أخي, حذار حذار يا طالب العلم! أن تدخل في غمار وفي أتون هذه الفتن فإني ناصح لك ومشفق عليك, والله سبحانه وتعالى ينتصر لأوليائه: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).

التأخر عن صلاة الفجر مع الأخذ بالأسباب

السؤال: أنا شاب أجد صعوبة في القيام إلى صلاة الفجر مع أني أضع المنبه, فهل هذا من صفات أهل النفاق؟

الجواب: إذا عملت بالأسباب فلا يضيرك إن شاء الله, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تعمل أخي أنت بالأسباب؟ اسأل نفسك متى تنام؟ ربما تقول: أنام الساعة الثانية عشرة, نقول: لم تفعل بالأسباب, وقد ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد العشاء )، وقد بوب البخاري رحمه الله باب الحديث والسمر مع الضيف أحياناً, وفي العلم أيضاً, وذكر قصة مدارسة محمد صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر و عمر , ولكن أن يكون ديدنك ألا تنام إلا في الساعة الحادية عشرة والنصف أو الثانية عشرة أو الواحدة وتقول: أنا أضع المنبه, فبهذا لم تعمل بالأسباب.

وأنا أسألك أخي: هب أن عندك امتحاناً في الساعة السابعة صباحاً, وأنت تدرس ولم تنم إلا في الساعة الثالثة ليلاً, هل مرة من المرات قد تأخرت عن الامتحان؟ الجواب بكل بساطة لا, أليس كذلك؟ نعم؛ لأن عندك من الاهتمام الكثير، وقد امتلأ قلبك بالخوف والهلع من مدير المدرسة ومن مدرس المادة, ولم يمتلئ قلبك خوفاً وهلعاً من الله سبحانه وتعالى.

أمر ثالث أخي: هب أنك عندك رحلة وسفر في الطائرة, وكانت الرحلة في وقت الأذان متى تقوم؟ أجزم بأنك ستقوم قبل الوقت بساعتين, بل إنني لربما أقول: لا تستطيع أن تنام من شدة الهلع والخوف, فربما لو سمعت طارقاً يطرق لفزعت من شدة النوم.

وهكذا كان سلفك رضي الله عنهم, قال صلى الله عليه وسلم: ( نعم الفتى عبد الله لو كان يقوم الليل ), قال نافع : فكان عبد الله بن عمر يقوم من الليل خمس مرات, وكان البخاري رحمه الله هكذا هو ديدنه, وأقول لك: إذا فعلت الأسباب فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم النائم حتى يستيقظ ), أما أن يكون ديدنك التأخر عن صلاة الفجر فاعلم أنك مدخول والعياذ بالله.

الواجب على المسلم عند تضارب الفتوى

السؤال: شيخنا الفاضل! بارك الله فيكم وفي علمكم, يكثر في هذه الأيام الحديث في المجالس عن الفتاوى, سواء عن الأسهم أو الاكتتابات أو غيرها, فأصبح الرجل لا يدري يأخذ الفتوى ممن؟ ويعمل بفتوى من؟ خصوصاً مع تضارب الفتاوى بين الحلال والحرام, أو بين النقي والمختلط. فما هي وصيتكم لنا في ذلك؟

ثم أيضاً سؤال آخر متعلق بهذا يقول: اشتريت أسهماً بناء على فتوى أحد المشايخ بأنها جائزة, وبعد أشهر أخرج قائمة أخرى وذكر بأن الأسهم التي اشتريتها مختلطة, فما الواجب علي؟ علماً بأنها ستكون خسارة بنسبة خمسة وسبعين بالمائة, وجزاكم الله خيراً.

الجواب يكون بأمور: الأمر الأول: أن أهل العلم وضعوا علامات ومنارات لمن يؤخذ عنه العلم, وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في فضائل الصحابة, وذكر أثر محمد بن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الرجال, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم, وقال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين, ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء, وقال: العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم.

وعلى هذا فينبغي لطالب العلم أن يتثبت ممن يأخذ العلم منه, وإذا كان العالم معلوماً علمه، وممن جثوا بالركب عند أهل العلم فالحمد لله, وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات فصلاً عظيماً في أن أهل العلم الذين علا كعبهم, وارتفع صيتهم كانوا قد جثوا بالركب أمام أهل العلم, قال الشاطبي : ولذا عيب على أبي محمد بن حزم حيث أنه لم يكثر الطلب مع العلماء, ولـمالك قصب السبق في ذلك, وعلى هذا فينبغي لطالب العلم أن يعرف ممن يأخذ, وهكذا عامة الناس عليهم أن يعرفوا ممن يأخذون هذا العلم, فإذا كان الإنسان عالماً بالحديث, عالماً بالفقه، عالماً بالاستدلال فإنه يؤخذ منه العلم.

قيل لـإسحاق بن راهويه : أترى الرجل يفتي وقد حفظ ألف حديث؟ قال: لا, قيل: أيفتي وقد حفظ ألفين؟ قال: لا, قيل له: فثلاثة؟ قال: لا, قيل: فأربعة رحمك الله, قال: لا, قال: فسكتوا, ثم قالوا: فخمسة, يعني: خمسة آلاف حديث, قال: يجزئ.

فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يتعجل في الفتوى, وينبغي له أن يأخذ العلم من حملته, وحملته معلومون معروفون, وإذا رأيت الرجل يهتم بصغار العلم قبل كباره فاعلم أنه على هدى, كما قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].

الأمر الثاني: أن الإنسان إذا سأل أحداً فينبغي له تعظيماً للنص أن يقول ما دليله؟ ويبحث عن الدليل حتى ولو لم يفقهه, وهكذا كانوا رحمهم الله كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم: إذا سأل يقول ما الدليل على هذا؟ حتى يعرف وجه كلامه.

والأمر الثالث: أن الإنسان إذا تعارض عنده قولان أو ثلاثة من أقوال أهل العلم, فإن أهل العلم -كـشيخ الإسلام وغيره ممن كتب في الأصول- ذكروا قواعد, قالوا: أن ينظر من هو أعلمهم وأتقاهم له, فإن كانوا في العلم والتقوى سواء, فقد اختلف العلماء في ذلك والأقرب والله أعلم وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يختار الأيسر؛ لأن ( الرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ), فإذا لم يكن في قرارة نفسه ترجيح أحد القولين, لا تعرف أي القولين أقرب, ولم يستقر في ذهنك أي القولين أرجح أهو التحريم أم الإباحة, فحينئذٍ تختار الأيسر.

أما لو وقع في ذهنك وفي قلبك شيء فإنه ينبغي أن تذهب إليه, قال صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد -وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم بإسناد جيد- من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: ( يا رسول الله! ما يحل لي وما يحرم علي؟ قال: البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب, والإثم ما لم تسكن إليه النفس ), فإذا اطمأن قلبك إلى أحد القولين, أو رأيت أحد القولين أقوى فلا يسوغ لك أن تختار خلافه بحجة اجعل بينك وبين النار ظهراً من ظهور أهل العلم، كما يقوله العوام، فليس هذا بصحيح, ولن يعفيك، وهذا هو تتبع رخص العلماء, ومعنى تتبع رخص العلماء أنه يستقر في ذهنك قول فلا تأخذ به, بل تأخذ بالأيسر دائماً, وبحلاوة هواك دائماً، وقد ذكر قتادة وغير واحد كما ذكر ذلك ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أن من تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله.

وأخيراً من أخذ بقول عالم من العلماء, ثم بعد ذلك رأى أن هذا القول فيه نسبة من الحرام, أو أخذ بقول الإباحة ثم بدا له أن يأخذ بقول التحريم؛ لأنه رأى عالماً أعلم منه يقول بالتحريم, أو يقول بالإباحة ثم تغير واقع الحال في الشركة إلى التحريم, ماذا يصنع؟ نقول كما قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد التاسع والعشرين: وكل من تعامل بمعاملة اجتهاد أو تأويل أو تقليد لأحد من أئمة الإسلام فما أخذه من هذا المال فهو حلال له, وقال: من تعامل بالحيل التي يرخص فيها بعض الفقهاء فأخذ بها, ثم علم بالحكم بعد فما أخذه قبل ذلك فلا حرج عليه.

وعلى هذا فمن دخل في سهم, وهذا السهم فيه نسبة ربا وهو لا يشعر, ثم باعه بعد ذلك وعلم بعد البيع فنقول كما قال ابن تيمية في كتابه العظيم: تفسير آيات أشكلت: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275], يعني: لك ما سلفت ولا تخرج شيئاً, أما إذا بقي هذا السهم عندك وتبت وفيه نسبة من الحرام فيجب عليك أن تخرجه.

واعلم أخي أنه كما قال عبد الله بن المبارك -واسمع هذا الكلام العظيم-: درهم رباً من شبهة تتقيه خير لك من أن تتصدق بمائة ألف, ثم مائة ألف, ثم مائة ألف, الله أكبر, وهذا محل طول لكن أكتفي بهذه الإشارات.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لدينه، وأن يجعلنا من أنصار دينه وسنته وأتباع هديه في السراء والضراء, وفي الخلوات والجلوات، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإمام ابن القيم للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net