إسلام ويب

يعتبر الصحابة هم المنظمون لعلم الاجتهاد، وذلك من خلال أقوالهم التي بنى عليها فقهاء المذاهب مدارسهم، وفقه الصحابة كان مرتكزاً على القرآن والسنة، ولهذا كان على طالب العلم أن يقبل على حفظ القرآن وشطراً جيداً من السنة، وضبط علم المقاصد إضافة إلى ضبط المدارك العلمية، وتراتيب مسائل الفقه؛ لأنها ليست على درجة واحدة، فمنها المجمع عليه، ومنها ما يكون الخلاف فيها قوياً، ولهذا ينبغي جمع أقوال العلماء والأئمة في المسألة حتى يترجح القول التابع للدليل.

المدخل العام للعلوم الشرعية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إن مما يجب على طالب العلم الاهتمام بدراسة مدخل كل فن؛ لكي يحصل به الضبط لمقدمات العلوم، فإنه سبق الإشارة إلى أن ثمة مدخلاً عاماً في علوم الشريعة، يمكن أن يصطلح عليه بهذا الاسم بأنه مدخل عام لا يختص بعلم واحد، أو بفن من الفنون التي سميت باسم خاص كالحديث والفقه والتفسير ونحو ذلك.

وأشير بالمدخل العام: إلى العناية بنشأة العلوم في الجملة، والعناية بكليات علوم الشريعة من جهة أصولها، وأخص هذه الكليات من حيث الأصول هو: العناية بالنصوص، لأن هذه الشريعة والعلم الذي تحصل من جهتها إما قطعي من جهة النصوص، وإما بتحصيل الأئمة، أئمة الاجتهاد وأئمة الفقه، وأخصهم في هذا أئمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

تأسيس الصحابة للاجتهاد والفقه

إن الصحابة هم المؤسسون للفقه والاجتهاد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الاجتهاد عرض للصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معروف في بعض الأحوال التي لم تكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو ما إلى ذلك، كذهابهم إلى بني قريظة فإنهم اختلفوا في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم، إلى غير ذلك من الأمثلة المشهورة.

ولكن هنا فإن الصحابة هم المقدمة الكلية للاجتهاد، بمعنى: هم المنظمون لعلم الاجتهاد، وذلك من خلال قولهم في المسائل، ولا سيما المسائل التي لم تكن النصوص فيها صريحة، وتجد أنه تحصل من فقه الصحابة كـعبد الله بن عمر و عبد الله بن مسعود و أنس بن مالك و معاذ بن جبل وقبل هؤلاء أئمة الصحابة الكبار كالخلفاء الأربعة, فإنه أثر فقه مشهور عن أبي بكر وعن عمر رضي الله تعالى عنه، وتجدون في أقضية عمر في خلافته، وفي اجتهادات حصلت له ما يدل على أن مقام الاجتهاد من حيث المقدمات والأصول الكلية هو على يد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبعد ذلك في أقضية عثمان رضي الله تعالى عنه، وأقضية علي بن أبي طالب وغيرهم من أئمة الصحابة.

وتجدون أن كبار أئمة الفقه والحديث بنوا على فقه الصحابة كما هو مشهور في فقه أبي حنيفة , فإنهم أخذوا من فقه عبد الله بن مسعود ، أعني: الكوفيين ومنهم أبو حنيفة ، فقد أخذوا من فقه ابن مسعود أكثر من كثير من الصحابة، كما أن مالكاً وأئمة المدينة النبوية أخذوا من فقه عبد الله بن عمر ، حتى صار كما يعرف في علم الرواية: أن من أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهذا وإن كان في باب الإسناد والرواية، إلا أنه يدل على أن علم ابن عمر قد اتصل إلى مالك وأمثاله من أئمة المدينة النبوية.

العناية بنصوص الكتاب والسنة

إذاً: المدخل العام أخص ما فيه: العناية بالنصوص، والمقصود هنا: نصوص الكتاب والسنة؛ ولهذا أرى أن المقدمة الكلية لعلم الشريعة هي: أن طالب العلم يحفظ القرآن، ويهتدي إلى جملة التفسير، وكذلك يحفظ السنة، وإذا قيل: يحفظ السنة فإن هذا المعنى فيه تفاوت؛ لأن ما يقال في السنة ليس كما يقال في القرآن من جهة أن ما في كتاب الله سبحانه وتعالى مقصور على ما عرف عند المسلمين، واتفق المسلمون عليه وهو الكتاب المنزل على نبيهم، وأما السنة: فإن أئمة الرواية جمعوا في ذلك جملة من الرواية، وجاء في هذا جملة من الكتب المشهورة رتبها الأئمة بحسب درجاتها، وصار أخصها الكتب الستة.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يقصد إلى حفظ السنة, أي: إلى حفظ ما يكون مناسباً لوقته، ومناسباً لما آتاه الله من القدرة والإرادة وسعة الذهن وغير ذلك، فهذا بحسب أحوال الناس هم يتفاضلون فيه، ولكن المهم المقصود فيما أرى: أنه لا ينبغي لطالب علم، ولا سيما من صار له في العلم اسم، من جهة الكتابة أو التدريس أو التعليم، وصار يضاف إلى علم الشريعة، وصار له نوع من الرأي والقول في مسائلها، فلا ينبغي أن يقصر عن حفظ كثير من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

لأن العلم هو محصل من هذين: من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يزال المسلمون بخير ما عظموا كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام, وأخص من يقوم بذلك: ورثة الأنبياء وحملة العلم، الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه في حديث تعلمون ما فيه من كثير من الكلام، ولكنه من حيث المعنى فإن معناه مناسب لدلائل الشريعة: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ).

فهذا مما يؤكد به على طلبة العلم كثيراً، سواء حفظوا في الصحيحين أو حفظوا في الكتب الستة، أو حفظوا فيما هو أقصر من ذلك كمختصرات أحاديث الأحكام: كبلوغ المرام أو المحرر أو نحوها.

الإقبال على السنة حفظاً وقراءة

ولكن فيما أرى: أن الإقبال على حفظ السنة هذا من أهم المقامات العلمية، ونحن نتحدث عن المدخل العام، فلا يقتصر ذلك على أحاديث الحلال والحرام فحسب، وإن كان لها مقام جليل؛ ولهذا تجدون أن أئمة السنة الكبار، كـالبخاري و أحمد و مسلم و أبي داود و النسائي إلى آخره من أئمة السنة، لما صنفوا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصوا أحاديث الأحكام وحدها، وإنما جمعوا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه كما عبر البخاري بهذا التعبير في اسم صحيحه، فحتى ما يتعلق بأيام النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانت له من الأيام المختصة المشهودة بأقوال أو أفعال أو ما إلى ذلك.

لأن طالب العلم -فيما أرى- إذا ما حفظ جملة أحاديث من الكتب الستة أو ما دونها أو صحيح البخاري ، أو مختصر البخاري أو مختصر صحيح مسلم ، فهذا في المدخل العلمي إذا ما حفظ القرآن وحفظ مثل هذا على حسب استطاعته، فقد صار عنده جملة من الحديث الصحيح المشهور، ولا سيما أن الحافظ يبتدئ في مثل هذه الأحوال بـالبخاري كما هو معروف؛ لأنه أجل كتب الحديث.

فيصير عنده جملة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سائر أبواب الشريعة، سواء كان ذلك في مسائل الصلاة والزكاة والصوم والحج، أو في البيوع والعقود والأنكحة وما إلى ذلك، أو كان ذلك في مسائل الأصول والاعتقاد والإيمان والتوحيد.

وكما هو معروف: أن البخاري كما أنه وضع كتاب الصلاة في صحيحه وضع كتاب الإيمان ووضع كتاب التوحيد، وهذه من حيث الأصول هي الأولى.

ثم بعد ذلك: ما يتضمنه مثل هذه الكتب من أحاديث في أبواب أخرى، حتى في كتاب المغازي والسير وكتب الرقائق وغيرها من الكتب التي حوتها كتب السنة، سواء سميت بهذا أو تضمنتها الأحاديث وإن لم تسم بها.

فالمقصود: أنه إذا كان لدى طالب العلم سعة في حال النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سنته، وفي أمره في مسائل معينة من الصلاة، أو في أحوال صارت له عليه الصلاة والسلام، أو في بيان بينه في أحاديث الفتن أو أحاديث الأدب، أو السير أو المغازي أو ما إلى ذلك، فإن هذا هو الذي يعطي طالب العلم سعة فهم لهذه الشريعة.

احتواء القرآن الكريم على أصول العلوم جملة

من حكمة الله جل وعلا أن الكتاب الذي نزل على نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، لم يكن كتاباً مليئاً بكل مفصل للعبادات أو المعاملات، وإنما فيه أصول العلوم، وفيه أخبار كثيرة عن الأنبياء، وما صار لهم مع قومهم.

ونجد أن قصة نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل تذكر في كتاب الله كثيراً، ولربما أن القصة ذكرت في أربعة أو خمسة مواضع من القرآن، كما في قصة موسى أو في غيرها، وفي قصة إبراهيم وأمثالها من القصص التي فصلت في القرآن.

وهذا لا شك أن فيه قدراً واسعاً من الدلالة العلمية التي تضبط فقه طالب العلم، وتجعل هذا العلم موجباً أكثر من كونه سبباً لتحقيق الديانة والعبودية لله سبحانه وتعالى بهذا العلم، الذي هو المقصود من حيث الأصل، فإن العلم بذاته عبادة يتقرب به إلى الله، وهو العلم الذي يصحح هذا العمل، ويكون على الهدي الذي أراد الله جل وعلا، أو شرعه النبي صلى الله عليه وسلم.

حال طالب العلم إذا لم يصل إلى مقام حفظ السنة

وعلى كل حال من لم يصل إلى مقام الحفظ في السنة فلا أقل من أن يكون مردداً ومتأملاً في أحاديث وكتب السنة، ولا سيما الكتب الستة أو على أقل الدرجات: البخاري و مسلم .

فلا ينبغي لطالب العلم أن يذكر له حديث في البخاري ولا يدري به، أو كأنه لم يمر عليه أبداً وهو قد صار له شأن في العلم، إلا إذا كان هذا من باب النسيان، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما هو معروف، عرض له مقام النسيان في بعض الأحوال، فهذا النسيان أمر ينتاب الناس، ولكن ليس المقصود بهذا: أن يفتش عما في صدور الرجال من العلم ويختبرون بذلك، كلا، فهذا ليس أدباً.

وإنما المقصود: أن طالب العلم بذاته ينبغي أن يحمل هذا؛ لأنه يقصد في هذا العلم التقرب لله سبحانه وتعالى.

وعلى كل حال فهذا سبق التأكيد عليه، ولكني أرى أنه ينبغي أن يؤكد في مجالس العلم على العناية بالنص، وعلى العناية بالكتاب، وعلى العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن طالب العلم بعد ذلك إذا ما أخذ في الفقه فإنه يفقه النصوص فقهاً واسعاً، فقهاً شاملاً كما كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ).

مقدمات هامة لدراسة الفقه

ومن المقدمات التي أشير إليها بعد المدخل العام، المدخل الخاص المتعلق بعلم الفقه، وأشرنا فيما سبق إلى العناية بالنشأة التاريخية من جهتها العلمية، وأن طالب العلم ينبغي أن يعرف التسلسل التاريخي لظهور الاجتهاد الفقهي وتنوعه في المدينة النبوية، وبعد ذلك في أمصار المسلمين الأخرى في العراق وفي بغداد وفي الكوفة وفي الشام إلى غير ذلك.

والعناية بالمدارس الفقهية التي شاع ذكرها، وتعلمون أنه شاع جملة من المدارس أخصها هذه المدارس الأربع من حيث الشيوع فإنها لا تزال تمتد، ويقول باجتهادها الأكثر من أمصار المسلمين، فتجد أنهم يتمذهبون بهذه المذاهب الأربعة، وهي: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فينبغي العناية بمعرفة أصول هذه المدارس وطرق أئمتها في الاجتهاد وما إلى ذلك.

نفي التعارض بين دلالة النصوص والمقاصد

ومما أشير إليه فيما سبق: العناية بضبط المدارس الفقهية لطالب العلم، فهذه مقدمة لا بد منها، وسبق أن ذكرت مثالاً جاء عرضاً، ولكنه تحت هذه المقدمة من حيث القصد، فيما يتعلق بدلالة النص كما يعبر في كثير من المحاورات والبحوث وربما الردود, وبين دلالة المقاصد، حتى صار من يتكلم في بعض هذه التأصيلات ربما أعطى قدراً واسعاً للمقاصد، ولربما صار في ذلك من الرد على هذه الطريقة بما يقابلها.

وقيل في هذا المعنى: إن طالب العلم لا بد له أن يعرف أن المقاصد سواء أريد بها المقاصد الكلية أو أريد بها ما يقع على سبيل التفصيل؛ لأن هذا الاسم -أعني: المقاصد- هو اسم اصطلاحي جعله من حيث الحد عند مصنفيه وقاصديه جعله تسمية من حيث المراد. والشريعة من حيث النصوص هي: نصوص الكتاب والسنة، وقد اشتملت على مقاصد كلية وعلى مقاصد مفصلة، وإن كان كثير ممن تكلم في هذا العلم يريدون بالمقاصد الكلية، وعلى كل حال هذا باب من الاصطلاح.

وإنما الأهم في هذا: أن يعرف طالب العلم أن ما تتضمنه المقاصد من الدلالة هو مقام من دلالة النص، ولا يصح أن يقال: دلالة النص ودلالة المقاصد، فهذا غير صحيح؛ لأن الدلالة التي أفادتها المقاصد مأخوذة من النصوص.

قد يقول قائل: إنه يراد بالنص هنا النص الخاص، والمقصد أي: المقاصد الكلية، فيقال: أليس يقال في النصوص أيضاً: هذا نص خاص وهذا نص عام؟ يعني: أليس في دلالة النصوص ما يستدل بالخاص، وفي نفس الوقت يستدل بالعام؟ ولهذا كثير من المسائل دليلها عام، وفي بعض المسائل يكون الدليل خاصاً.

فإذاً: من حيث التأسيس في النظر في هذا الكلام الذي -فيما أرى- صار له في هذا العصر بعض التمهيدات، وأخشى أن يكون جدلاً غير منظم بين بعض الباحثين والناظرين فيه، أنه تراجع المقدمات.

فمن حيث الأصل: فإن دلالة المقاصد جزء من دلالة النصوص، وهذا من الفقه أعني: فقه المقاصد، أما أن يصل المقصود بالمقاصد إلى أن يقال: تقدم المقاصد على النصوص فلا شك أن هذا مباعدة لطرق الأئمة رحمهم الله، حينما يقال: تقدم المقاصد على النصوص، فإن هذا القول لا يجوز شرعاً ولا يصح علماً. أما أنه لا يجوز شرعاً فإنه لا يجوز أن يقدم على قول الله ورسوله شيء.

فإن قيل: إن هذه المقاصد منها؟ قيل: فكيف يقال: إنها تقدم على النصوص؟

فإذاً: لا بد من بيان أن التعبير من حيث هو لا يصح شرعاً، ولا يقال: إن المقاصد تقدم على النصوص, وإنما هي مسائل من التراتيب، ربما اعتبر الأصل الذي قد يقال: إنه يدخل في باب المقاصد، وربما اعتبر الظاهر الذي دل عليه سياق النصوص.

ولهذا يذكر عز الدين بن عبد السلام في كتاب القواعد مثالاً فيما إذا صار بين يدي المجتهد ما هو من الأصل وما هو من الظاهر، بمعنى: أن هذا الفرع من الفقه والنظر تجاذبه أصل من جهة، وظاهر من جهة أخرى، ومثلوا له بمثال: فيمن كان وامرأته على حسن في الحال، واستقامة في العشرة، ثم بعد ذلك ادعت عليه أنه لا ينفق عليها، هل ترجع عليه بما سبق, أو لا ترجع عليه؟

فمن أخذ بمعنى أن الأصل في النفقة أنها في حكم الدين على الرجل قالوا: إنها ترجع عليه؛ لأن الأصل عدم القبول فيها، ومن اعتبر تحكيم القاعدة العامة (في أن العادة محكمة) فإن الأصل بما سبق من كثرة الاستقامة بينهما أنها لا ترجع عليه في سنين مضت في الدعوة، فمثل هذه المسائل لها طرق عند الفقهاء، فقد تكون هذه طريقة لطائفة من الفقهاء، وهذه لطائفة من الفقهاء بين مالك و الشافعي رحمهم الله.

فعلى كل حال بشأن هذه التسمية أرى أن طلبة العلم عليهم أن ينتبهوا لها من حيث أنه لا يقال: المقاصد والنصوص، فإن المقاصد هي مقام من دلالة النصوص، وكما تعظم النصوص فإنها تعظم المقاصد؛ لأن هذه المقاصد هي مما تضمنته هذه النصوص في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

وإذا قال قائل: إن المقاصد تقدم على النصوص فهذا قول كما سبق، لا شك أنه لا يجوز إطلاقه شرعاً؛ لأن أقل ما فيه أنه يوهم كثيراً من الخطأ والسقط وما لا يليق بحق النصوص، هذا في أقل الأحوال، وهو لا يصح علماً، أي: من حيث الحقائق العلمية والتنظيم العلمي.

المدارك العلمية وأسباب ضبطها

والتأكيد على أهمية ضبط المدارك العلمية؛ لأنه ليس غريباً في مثل هذا العصر أن يكون طالب العلم قد انضبطت مداركه، ومن أسباب ضبط المدارك أولاً: أن يكون عنده أصل شريف من حيث القواعد الشرعية، والمدخل العام، وهو الذي أشرنا إليه سابقاً بحفظ كتاب الله؛ لأن القرآن من حفظه وتدبر فيه فإنه يهدى في العلم، كما أنه يهدى في العمل.

ولهذا لما أنزل الله على نبيه هذه القصص قال سبحانه في أول قصة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، ثم قال: وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3]، هذا في أول السورة، وفي ختام السورة جاء قوله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

فإذاً: من حفظ القرآن وتأمل فيه فإنه يهدى في العلم، وفي التعامل، وفي تحصيل المسائل، وما تضمنته هذه الأحوال للأنبياء وللرسل، وأصول العبادات وأصول المعاملات وأصول العقائد، وفيها فقه واسع في كتاب الله، بل هو المتضمن لجميع الفقه في هذا وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: يقال هذا؛ لأن من اتخذ في العلم أصلاً شريفاً من النصوص وعظمها، وعني بتعظيمها وتدين لله جل وعلا بها، وعني مع النصوص بالفقه فيها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما سبق لما دعا لـابن عباس قال: ( اللهم فقهه في الدين )، حتى لا يحمل القرآن على غير وجهه، وحتى لا يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على غير سنته, فهذه جهة العناية بضبط المدارك العلمية؛ لأننا إذا استقرأنا التاريخ لوجدنا كثيراً من الأمثلة، ولا أقول: آحاداً من الأمثلة بل عشرات من المسائل، بعضها في مسائل الأصول التي صارت سبباً لافتراق كثير من الفرق عن سواد المسلمين وجماعة السنة، وحتى في مسائل أصول الاجتهاد والفقه، حينما يتخذ مبدأ من المبادئ المصحح لقاعدة الشريعة الكلية من النصوص والقواعد، وحينما يتخذ جدلاً أن يسلط عليه الجدل، أو ما يسمى باللسان المتداول في كثير من الأحيان ردود الأفعال.

مراتب المجادلة

والجدل على المبادئ يكون مشكلاً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام مع المخالفين له قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، فهذه المرتبة الأولى: (الحكمة) هي العلم، والمرتبة الثانية: (الموعظة الحسنة) التي تقرب نفوسهم.

والمرتبة الثالثة: قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، حتى المجادلة قيدت بالتي هي أحسن؛ ولذا لا تجد أن الله سبحانه وتعالى يأمر نبياً من الأنبياء في ابتداء الجدل إلا ويكون كذلك؛ ولهذا ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الجدل لا يذكر ابتداء بين المسلمين، يقول: ابتداء لا يذكر بين المسلمين في مسائل الديانة، وإنما يقع في مسائل الأحوال الخاصة، كجدل الرجل مع زوجته, قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] .

فالمجادلة في الديانة لا تقع على الإطلاق، يعني: لا تقع إلا مقيدة بمقام الإحسان، فإذا فهم هذا المقصد، فهذا هو الموجب لقولنا: كما تعظم النصوص فإنه يعظم ما دلت عليه وهي المقاصد، وهي جزء من دلالة النصوص.

التحذير من إسقاط رتبة المقاصد بسبب غلو البعض فيها

وقد يخشى أن يغلو بعض الناظرين في العلم من إسقاط رتبة المقاصد؛ لأن قوماً قالوا: تقدم المقاصد على النصوص، ولا شك أن هذا القول، كما سبق أنه غلط شرعاً وعقلاً وعلماً، أي: من حيث الحقائق العلمية، لكن لا يصح أن تكون المسائل ردود أفعال؛ لأن المبدأ الصحيح يجب حفظه، ولا ينازع بردود الأفعال.

ومثال ذلك في مسائل الفقه والاجتهاد لما غلا بعض الكوفيين المتقدمين في إجراء القياس، أليس هذا أمراً قد عرف؟ وعرف كلام كثير من أئمة الحديث وفقهاء المحدثين في التثريب على طريقة أهل الرأي لمثل هذه الأسباب، وجد في بعض الأحوال أو عند بعض الأعيان الزيادة في أمر القياس.

وعلى كل حال لا ندخل في سبب هذا التوسع في القياس، ولكن هل كان السبب أنهم لم تكن عندهم في الكوفة رواية كثيرة أم ماذا؟ المهم أنه وجد التوسع في القياس عند بعض أعيان الكوفيين.

قابل ذلك -كما يقال في اللسان المعاصر، وهذا الذي يخشى منه- ردة فعل, لما منع بعض الكبار من المجتهدين القياس، مثل داود بن علي , وجاء أبو محمد ابن حزم وتأسس المذهب الظاهري الذي يقول فيه ابن حزم : إنه لا قياس، بل ويأتي أبو محمد رحمه الله على جلالته في العلم وسعة علمه ومداركه يأتي أحياناً ببعض الأمثلة الفقهية التي تعجب منها، فلما يقول مثلاً وقد احتج بعض أصحاب الشافعي على هذه المسألة في الزكاة بما جاء في الصلاة.

يقول -وهذا من العجب الذي يعجب منه العقلاء-: فإننا نقول لأصحاب الشافعي : إذاً: أذنوا للزكاة كما تؤذنون للصلاة، ومثل هذا المثال من باب فرار أبي محمد ابن حزم من مسألة القياس.

فإذا رجعنا للأسباب الأولى نجد أنه قوبل الإكثار من القياس والمبالغة عند بعض الكوفيين في القياس إلى أن جاء من ينفي القياس.

مسألة التحسين والتقبيح العقليين

مثال آخر: وقد سبق أن مثلت حتى في مسائل الأصول، لما غلا قوم في الوعيد جاءت المرجئة التي غلت في أحاديث الوعد ونصوص الوعد, ولما ظهر في المسائل المتعلقة بالأصول، والتي هي متعلقة بأحكام الفروع، ظهرت كذلك في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.

لما قالت المعتزلة بتحسين العقل وتقبيحه، وأنه يعين الحسن والقبيح ويكون لهذا التحسين حكم من حيث الشريعة إلى تسلسل الأحكام التي رتبوها على التحسين والتقبيح العقليين، جاء من متكلمة أهل الإثبات من الصفاتية وأبطلوا تحسين العقل لما وقع فيه من الغلو والزيادة، ونفوا أن العقل له أي أثر في التحسين والتقبيح.

ولهذا لما استعمل هذا الأصل بعض المائلين للتصوف قالوا: إن العارف في مقامات العبودية هو الذي لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، فهذا العقل؛ لأن العقل لا يشرع, إنما المشرع هو الله سبحانه وتعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى:13]، المشرع هو الله جل وعلا ومعه الرسول عليه الصلاة والسلام.

فالعقل أبداً لا يجوز أن يكون مشرعاً، لكن هل العقل لا يفرق بين الحسن وبين القبيح؟ ولما وصف الله جل وعلا هذا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات، قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:156-157]، بم يأمرهم؟ انظروا إلى الكلمة الجامعة لكتاب الله، قال: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الأعراف:157]. وما هو المعروف؟

أي: أن الفطر السليمة والعقول الصحيحة تعرفه، لما أمرهم بالتوحيد فالعقول الصحيحة تصدق هذا إلا من كابر، وقال كما حكى الله عنهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] , مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ [ص:7]، وأصلاً الملة الآخرة التي بلغتكم قد وصلها التحريف، وقالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73].

إذاً: الله يقول: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:157]، لاحظوا التعبير أو السياق في القرآن: وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:157]، إذاً: كلما نهى عنه الشارع فهو منكر في الحقيقة العقلية وفي فطر النفوس، ولا يمكن أن أمراً صحيحاً في العقول والفطر ينهى عنه الشارع من حيث الأصل.

وإذا نظرت إلى تمام الخبر في القرآن: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ [الأعراف:157]، ما أحل الله من المطاعم فهو بحكم الله لا شك؛ لأنه هو المشرع لهذا, يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، فالله هو المشرع للأحكام.

الإباحة ودخولها تحت الأحكام التكليفية الخمسة

ولهذا الصحيح أن الإباحة حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى، وإن كان الأصوليون لما سموا الأحكام الشرعية الخمسة بالأحكام التكليفية ترددوا في كون الإباحة منها، فمنهم من قال: إنها ليست من الأحكام التكليفية؟ وهذا قول بعض النظار من أهل الأصول، وهو غير صحيح.

والسبب في هذا الإشكال حصل لما سموا هذه الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفية، فلو سميت أحكام التشريع الخمسة لما جاء هذا الإشكال؛ لأن الإباحة من أحكام الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، مع أن هذا جاء كما هو معروف في الصحيحين: في قصة شرب النبي صلى الله عليه وسلم للعسل، ثم بعد ذلك لما تواطأت عائشة ومن معها عليه تركه عليه الصلاة والسلام وحلف ألا يشربه، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1].

وسطية منهج السلف بين الإفراط والتفريط

فعلى كل حال لو تسلسلنا بذكر هذه الأمثلة، لوجدنا أن ثمة جملة من الحقائق الشرعية لوجود جدل عليها صار هناك إفراط، وصار هناك تفريط؛ ولذلك فإن منهج الأئمة رحمهم الله -وأولهم أئمة الصحابة ثم من بعدهم- أنهم كانوا وسطاً في هذه الأمور، فلما ظهر من يغلو في الوعيد ما غلا الصحابة في الوعد, وإنما كانوا وسطاً أمضوا نصوص الوعيد على وجهها، وأمضوا نصوص الوعد على وجهها.

ولما ظهر من يتأول الصفات ما مالوا إلى التشبيه، وإنما صاروا وسطاً في إثبات ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله من غير تشبيه.

ولما تكلم من تكلم بعد ذلك في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فإن المحققين من أتباع أئمة السنة صار لهم قول محقق في هذا، وهذا موجود في كلام المحققين من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد .

ولما تكلم من تكلم في القياس وبالغ في طرده، فإن جمهور أئمة الاجتهاد والفقه حتى من الكوفيين كانوا مقتصدين في أمر القياس، وكذلك فقهاء المحدثين؛ فإنهم كانوا على اقتصاد في أمر القياس، فهم أجروه كدليل من الأدلة التي تصح بحسب ما تقتضيه المناسبة لصحته، ولكنهم ما غلوا في نفيه كما غلت الظاهرية، ولا غلوا في إثباته كما توسع فيه بعض الكوفيين.

فهذا التوسط الذي كان، هو الذي ينبغي لطلبة العلم في الحقائق العلمية الكلية أن يقصدوا إليه، حتى لا يوجد بعد ذلك من يميل إلى الظاهر، ويقول: لا نعتبر المقاصد، فهذا لا شك أنه غلط، ولا من يبالغ في أمر المقاصد وكأنها لا تعتبر بظاهر النصوص فهذا لا شك أنه غلط أيضاً, بل يعظم النص أولاً، ويكون هو المرجع في الحكم وهو الأصل، وهو النور كما سماه الله جل وعلا: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ [الأعراف:157]، ولكن على قدر من الفقه، واتباع طرائق المجتهدين التي فيها التحقيق، فهؤلاء هم المتوسطون، وهم الأكثر من أئمة الإسلام وفقهاء المسلمين في شتى العصور والأحوال، فهذا أيضاً فيه تنوع فإنه وإن قيل: إن اجتهاد مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد أنها من هذه الأمثلة الواسعة من التوسط، فإنه يعرف عن الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يتوسع في القياس كتوسع أبي حنيفة ، بل عنايته بأقوال الصحابة أكثر، لكن لا يعني أن أبا حنيفة ما أخذ بأقوال الصحابة, بل له أمثلة مشهورة في فقهه بناها على أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكذا في أخذ الإمام مالك في عمل أهل المدينة، في حين أن الكثير من أهل العلم ولا سيما من العراقيين والشاميين لا يأخذون بعمل أهل المدينة كما كان الإمام مالك يعتبر هذا.

وهذه مسائل هي من تنوع الاجتهاد الذي ينظر فيه طالب العلم، ولكن الذي قصدنا بالتنبيه عليه أن الحقائق الصحيحة، من حيث الشريعة في العلميات والعمليات لا يصح أن تكون مساحة للجدل الذي يتولد عنه الإفراط أو التفريط.

فإذاً: إن وقع خطأ يصحح مع المحافظة على التوسط، كما أن أئمة الفقه والحديث لما غلا من غلا من الكوفيين في القياس ما أعلنوا نفيه، وإن كانوا قد نبهوا بالتصحيح عليهم، فالتنبيه بالتصحيح هذا لمن كان أهلاً لذلك، لكن مجانبة هذا المعنى ولو بلحن القول؛ لأنه قال به من قال، فهذا غير صحيح.

وإذا قرأ طالب العلم ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يذكر أن بعض الوقائع التي في زمن الصحابة كانت مقدمات لبعض الاجتهاد الذي طرأ، ومنها قصة الصحابة لما ذهبوا إلى بني قريظة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر في الصحيح: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فصلى ناس في الوقت في طريقهم, وتأخر من تأخر فصلاها في بني قريظة، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين، يقول ابن القيم رحمه الله: فهؤلاء الذين صلوا في الوقت وفقهوا مقصود الشارع من قوله: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، يقول: هم سلف أئمة الاجتهاد كـمالك و أحمد و الشافعي وأمثالهم.

يقول: ومن لم يصل إلا في بني قريظة كأنهم سلف أئمة أهل الظاهر، وهذا يرجع إلى طبائع الناس، وأنا أؤكد كثيراً أن طالب العلم ينبغي أن يعنى بتأديب طبعه على الشريعة؛ لتكون الشريعة مهيمنة على الطبيعة؛ كما أدب النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بهذا، حتى في المسائل السلوكية، لما قال أبو ذر لغلامه ما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرئ فيك جاهلية )، وهذا من باب تأديب الطبيعة على الشريعة، وهذا معنى الديانة لله، هذا معنى الإسلام والاستسلام لله بالطاعة في كل أنواع العبادة، والقول في العلم منها؛ لأنه الميثاق الذي أخذ الله على أهل العلم أن يبلغوه وألا يكتموه.

فعلى كل حال هذا من المعاني العامة في المقدمات العلمية التي يعنى بها.

تراتيب المسائل الفقهية

وأما إذا جئنا للتراتيب في مسائل الفقه، فثمة جملة من التراتيب نذكر ما تيسر منها:

التصور العام للمسائل الفقهية

الترتيب الأول: المدخل الفقهي، وهو: أن يعتني طالب العلم الناظر في الفقه بالتصور الأول لمسائل الفقه على ما رسمه الفقهاء في مختصراتهم، وهذا هو الابتداء، فتأخذ مختصراً من المختصرات، وفيما أرى أن الأولى أن تأخذ مختصراً قد شاع بين علماء بلدك أو البلد الذي أنت فيه، بمعنى: أنهم يدرسونه والتأليف عليه مشهور، وأصوله مشهورة، وما بين عليه مشهور، كزاد المستقنع في كتب أو مختصرات الحنابلة.

فإن هذا الكتاب المختصر فيه تسمية وتصوير لأكثر المسائل التي دار عليها كلام الحنابلة في كتبهم، هذا كتصور، يأخذ طالب العلم الزاد فيقرأه ويتأمله على شيخ، أو مع نفسه, بحسب درجة طالب العلم أو بحسب أحواله، المهم أن يصل إلى تصور صحيح.

فالتصور الأول ينبغي أن يكون على عارف من الشيوخ بهذا الكتاب وبمادته، فإذا ما قرأ هذا يكون قد تصور المسائل, فيعرف أن الفقهاء يرون أن المياه تنقسم إلى أقسام ثلاثة مثلاً: طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ... ويعرف أن الفقهاء يريدون هذه النجاسة الطارئة، والنجاسة الأصلية لها حكم ينفك عن هذا الكلام؛ فإن النجاسة الأصلية التي لا تكون طارئة على المحل حكمها بلا شك يكون مختلفاً. وهكذا في التسلسل يتصور هذه المسائل في العبادات وفي المعاملات وفي العقود إلى آخره.

ويعرف منشأ هذا الكتاب؛ فإن بعض طلاب العلم أو الذين يدرسون يأخذون هذا الكتاب ولا يدرون ما أصله، بل ينبغي أن يعرف أصل هذا الكتاب، وكما هو معروف أنه كتاب مفرع على فقه أبي محمد ابن قدامة رحمه الله، وصاحب الزاد اختصره من كتاب المقنع، والمقنع هو من كتب أبي محمد ابن قدامة وهو من أشهر الكتب التي كتبها الحنابلة في مسائل الفقه في القرون المتأخرة، حتى قيل: إنه كتب على المقنع ما يقارب الثلاثمائة كتاباً، ما بين شرح ونكت وتعليق واختصار وتقييد وما إلى ذلك.

ولهذا قال في مقدمة الزاد: (أما بعد فهذا مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد هو الراجح في مذهب أحمد ).

أيضاً التأمل في مسألة ما هو الراجح في مذهب أحمد ؟

وطرق الحنابلة أو المذاهب الأخرى إذا ما أخذت مختصراً من مختصرات الأحناف أو الشافعية أو المالكية أو ما إلى ذلك من المختصرات فتعرف مادة هذا الاختصار، فهذا تصور ينبغي ألا يطول أمره، فلو لم يأخذ طالب العلم الزاد أخذ كتاباً آخر وهذا كما أسلفت، هو يختار ما يكون مناسباً في المقام الأول للبيئة العامة التي يتمذهب عليها علماء البلد حتى يستفيد من التأصيل الفقهي.

وليس بالضرورة ليظل طول دهره على حكم صاحب هذا الكتاب؛ لأن الأصل في العلم الشرعي أن الإنسان يهتدي بهدى الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن من باب التأصيل العلمي الذي لا بد منه، ويعرف لأئمة الفقه قدرهم.

وبعد التصور الذي أراه ضرورياً ولا ينبغي أن يطول، لا ينبغي أن يجلس في الزاد سنوات إلا لمن أراد أن يشرحه، فيتحول عن هذا الترتيب الأول الذي نحن نذكره، لكن في الأصل أن هذه المختصرات تؤخذ للتصور، وليس لبحث الأقوال عليها في داخل المذهب أو خارج المذهب؛ لأنك لو أردت أن تأخذ مسائل الزاد على مذهب الإمام أحمد وحده كخلاف في داخل المذهب لوجدت توسعاً كثيراً؛ لأن هذا الكتاب هو مختصر لكتاب المقنع، وانظر إلى ما كتبه ابن مفلح في كتاب الفروع على المقنع، ستجد أنه حتى في المذهب الحنبلي بين الحنابلة كلام كثير، وانظر إلى ما كتبه المرداوي في الإنصاف وهو على المقنع، تجد الخلاف الشائع بين الحنابلة، وهل هذا القول هو رواية الجماعة أو إحدى الروايتين؟ ومن قدمه؟ هذا قدمه ابن عقيل ، وهذا قدمه أبو يعلى ، وهذا اختيار فلان، وهذا اختيار فلان إلى آخره.

والتوسع هذا فيما أرى لم يأت وقته، فلا بد أن يأخذ أولاً تصوراً فقهياً يعتبر هو التصور الأول لجملة مسائل الفقه المشهورة.

معرفة حكم المسألة مع دليلها

والترتيب الثاني: معرفة الحكم عند الفقهاء في المسألة مع أصل الدليل، وهذا أمر مهم جداً لطالب العلم، وخاصة في هذا الزمن المتغير والمسائل النازلة ليربط السابق باللاحق؛ ولهذا هناك فقه النوازل، والفقه المستجد إنما هو في المسائل المشهورة فتصورها، ثم بعد ذلك تحول مع هذا الكتاب الذي تصورته، ولا ينبغي أن تظل معه طويلاً في التصور إنما تحول إلى معرفة الحكم مع أصل الدليل عند أصحاب هذا القول.

وقد يقول قائل: إن الحكم إذا نظرنا استدلال الفقهاء على أقوالهم يذكرون جملة من الأدلة، هو عند التحقيق في كثير من المسائل وربما في أكثرها الدليل الموجب عندهم للحكم أو المحصل، وبعبارة أصح: الدليل المحصل للحكم هو الدليل الأول من حيث القوة، وما بعده يكون من مسائل الاستئناس في الاستدلال.

بمعنى: لو رفعت الدليل الأول وفرضت أنه لم يثبت، أو لم يوجد بالفرض الذهني لوجدت أن الحكم لا يتجه ضرورة عندهم، وأنتم تجدون أن فقه المتقدمين إذا سموا الحكم يسمونه بدليل واحد في أكثر الموارد، وهذا تجده في مسائل الإمام أحمد وفي جوابات مالك في المدونة، تجدهم يسمون بالدليل الواحد.

فإذاً: اعرف الحكم وأصل الدليل على هذه المسألة.

ولو أخذت مختصر الزاد مثلاً: تجد أن من الكتب التي كتبت عليه فيما أرى أنه من أنفع الكتب كتاب السلسبيل للشيخ الفقيه صالح البليهي رحمه الله تعالى, فإنه عبارة عن تعليقات مختصرة ذكر فيها أصول الأدلة المشهورة على هذه المسائل التي سماها صاحب الزاد.

وإذا كنت في كتاب حنفي ففي كتب الحنفية شهرة كثيرة، وإذا كان مالكياً كذلك، وإذا كان شافعياً كذلك .. وهلم جرا، إنما المقصود المثال وليس التعيين لكتب الحنابلة وحدهم.

فالترتيب الثاني إذاً: أن تعرف الحكم عند الفقهاء في هذه المسألة مع أصل الدليل.

وقد يقول قائل: طالب العلم يريد أن يعمل في بعض القضايا، والمسألة فيها خلاف فبأي الأقوال يعمل، هنا الأحوال العارضة نحن نتكلم عن دراسة فقهية مطردة، ولا بأس وأنت في الترتيب الثاني الذي تعرف فيه الحكم مع أصل الدليل أن تأخذ بعض المسائل وتبحثها بحثاً مفصلاً وتقرأها في كتب الفقه المقارن؛ لأنك تريد أن تعمل فيها من حيث تطبيق عباداتك أو تطبيق المعاملات لديك، أو لتقولها للناس ممن تعلمهم أو يتصل بك أو ما إلى ذلك.

هذه تبقى أنها أحوال تعرض لطالب العلم يعني: وأنت في الترتيب الثاني، ولو مرت بك مسألة مثلاً في الزكاة هل الدين يؤثر في إسقاط الزكاة أم لا؟

تجد أن المشهور في فقه الإمام أحمد يقول: ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، وفي زكاة حلي النساء، أن حلي النساء عندهم لا زكاة فيه, فأنت تبحث هذه المسألة لأنك ستطبقها في بيتك، مع زوجك مثلاً فلا بأس من أن تبحث عنها.

لكن نحن نتكلم عن ترتيب فقهي يتصل بعد ذلك بنتيجة علمية مجزئة في الفقه، حتى لا يقع هذا الإيراد على هذا الكلام، إذاً: هذا الترتيب الثاني.

معرفة درجة الخلاف

الترتيب الثالث: معرفة أقوال الأئمة المشهورة على المسائل التي بنيتها في هذا التصور, وهي أقوال أئمة الفقه والحديث، وأقل ما ينبغي معرفته هو معرفة أقوال الأئمة الأربعة، ولربما أنها متيسرة شيوعاً أكثر من غيرها، فتعرف أنه في هذه المسائل الذي في هذا المختصر في الفقه من مختصرات الأحناف والحنبلية أو الشافعية أو المالكية تخرج ذلك على أقوال الفقهاء، ماذا يقول مالك إذا كان المختصر حنفياً؟ أو ماذا يقول الشافعية؟ أو ماذا يقول الحنابلة؟ وهلم جرا. فيكون عندك تصور لهذه المسائل في الترتيب أولاً، وثانياً: تصور الحكم وأصل الدليل، ثالثاً: تصور جملة الخلاف.

وقد يقول قائل: وما النتيجة من معرفة الخلاف؟

نقول: إن معرفة الخلاف في الفقه هو مقام أصل الفقيه، أن يكون عارفاً بالخلاف، ويعرف مواضع الاجتهاد ومواضع الإجماع ومواضع الخلاف، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: لا تقل في مسالة إلا ولك فيها إمام، من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك لعلهم اختلفوا. ومن أخص ما ميز فقه الإمام أحمد كما يذكر المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان واسع الفقه بأقوال الصحابة وخلافهم.

إذاً: معرفة خلاف الكبار ومنهم الأئمة الأربعة هذا مهم لطالب العلم، ويا ليتنا نرى طلبة العلم يدركون المسائل التي فيها خلاف ودرجة هذا الخلاف؛ لأنه ليس المهم فقط أن تعرف أن فيها خلافاً, بل تعرف معه درجة الخلاف وهذا سيأتي بعد ذلك.

إذاً: الترتيب الثالث معرفة جملة الخلاف.

معرفة القول المقدم في المسألة الفقهية

الترتيب الرابع: معرفة المقدم، ولا أحب أن أقول في هذا المقام: الترجيح؛ لأن الترجيح مقام في النهايات يأتي في الغالب, حينما يستوي عود الناظر في العلم وفي الفقه، لكن لما يكون ناظراً حسن النظر في الفقه, ولكنه لم يصل إلى الامتياز فيه فإنه لا بد له من تقديم، في تعليمه وفي قوله وفي ترتيبه العلمي وفي اتصاله، فينظر في تقديم أي هذه الأقوال التي نشأ الخلاف فيه.

وعند الكلام في التقديم يعتبر فيما أرى بأمرين:

الأمر الأول: وهو أن الأصل في التقديم بالنصوص والأدلة، فينظر في أقرب هذه الأقوال إلى الأدلة بحسب علمه، وبحسب مداركه إذا كان أهلاً، بالنظر في تقديم الأدلة، يعني: لا بد أن يتأهل بحسب القواعد العلمية ليكون عارفاً بطرق التقديم والترجيح، ومعرفة الأدلة من حيث الصحة فيما يتعلق بالرواية، ومعرفة أوجه الدلالات التي لا ينبغي لناظر في الفقه أن يقصر فهمه وإرادته عنه.

إذاً: التقديم بالدليل وهو النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، هذا هو الأصل أو الأدلة التي سماها الفقهاء أو الأصوليون، وبعضهم سموها بالأدلة المختلف فيها. فهذا هو الاعتبار الأول: أن يقدم بالدليل.

وكما قلت سابقاً: لا يزال المسلمون بخير ما عظموا كتاب ربهم وسنة نبيهم، مع حفظهم لمقام أئمتهم وعلمائهم وصالحيهم من أئمة الاجتهاد والفقه، وألا يشذوا عنهم بقول من الأقوال.

الأمر الثاني: أن يعرف رتبة الخلاف، فالإشكال الذي يقع أن البعض ينظر، ويقول: أريد أن أقدم وهو لا يعرف رتبة الخلاف، إنما يقول: سأنظر في الأدلة، ومما يجعلك فقيهاً في الأدلة أن تعرف رتبة الخلاف، وقد كان السابقون من كبار الفقهاء يعنون بمعرفة رتبة الخلاف؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله وهو من أئمة الفقه والحديث، ويعد كما هو مشهور من فقهاء المحدثين, لما روجع في قضاء الحائض لصلاة الظهر إذا طهرت في وقت العصر، وهو كالجمهور من الفقهاء يرون أن الحائض إن طهرت في وقت العصر فإنها تقضي صلاة الظهر، مع أنها كانت وقت صلاة الظهر حائضاً ممنوعة من الصلاة، فالإمام أحمد لما روجع في هذا، مع أنه ليس هناك نص صريح في هذا، قال: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن البصري ، كما روى ذلك عنه أصحابه.

إذاً: ترون أن الإمام أحمد رحمه الله اعتباره بأقوال السواد من التابعين بين في هذه المسألة، وهذا مما نشير إليه في مسألة أنه كما تقدم بالدليل وهو الأصل، فينبغي أن تعتبر مسألة رتبة الخلاف، حتى لا تتوهم دلالة نص على غير مراد الشارع.

وقد يقول قائل: وما أثر ذلك؟

نقول: لأن السواد من أئمة الفقه والاجتهاد إذا ذهبوا في مسألة إلى قول، فإن هذا القول في الجملة هو الصحيح، وقولنا: (في الجملة) يعني: في الغالب، وإلا فإن الصواب المطلق هو الإجماع المنضبط، وهذا المعنى نبه عليه المحققون من المتأخرين كـــــأبي عمر بن عبد البر رحمه الله، بل إن أبا عمر وهو ممن يعنى بهذا كثيراً حتى يجعل ما يخالف الجماهير من الشاذ، وكأنه يوصي الفقيه والناظر أنه لا يعتبر به، ويتوسع رحمه الله في كلمة الشذوذ بمثل هذه الطريقة، من توقيره لأقوال الجماهير.

وفي كلام الحافظ ابن رجب كلام متين في هذا ومفصل، وإن كان بعضه ربما ألح فيه الحافظ ابن رجب زيادة في هذا الباب، لما أوجب بعض المسائل، وقال: إنه لا يخرج عن خلاف الأئمة الأربعة إلى آخره.

والإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: تأملت مسائل الاجتهاد والقول بالشريعة فإذا القول الذي عليه الجمهور من سلف هذه الأمة من أئمة الفقه والحديث هو الصواب في الجملة, هذا كلام شيخ الإسلام .

يقول: لأنه عند التحقيق يتعذر أن ينقطع فقه هؤلاء الأئمة مع اختلاف أمصارهم عن الصواب في مراد الله ورسوله، يقصد: أنك إذا نظرت في جمهور المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، وهذا يربطنا بمسألة فهم النشأة التاريخية إذا استصحبت في نظرك اختلاف الأمصار، فوجدت أن أئمة الشاميين وأئمة العراقيين من أهل بغداد وأهل الكوفة والبصرة وأئمة المدنيين يقولون بهذا القول، فإذا وجدت أن الليث بن سعد إمام مصر، و الأوزاعي إمام الشام، و الثوري ، والإمام أحمد ، و إسحاق ، ومن قبلهم من أئمة التابعين ومن الصحابة يكون هذا القول شائعاً في الأمصار.

قد يقول قائل: هل يلزم هذا الإطلاق؟

نقول: لسنا في قضية الإلزام؛ لأنه من حيث الإلزام: اللازم هو فقط بالإجماع، ولكن معرفة رتبة الخلاف هذا فقه أراه في هذا الزمن قليلاً، وينبغي لطلبة العلم أن يعنوا به.

إذاً: التقديم هو المرتبة الرابعة، والتقديم يكون: باعتبار النصوص من حيث الأصل, وباعتبار يتبعه: وهو العناية برتبة الخلاف، أو برتبة المسألة عند الأئمة.

درجات المسائل الفقهية

وهذا يتولد عنه معرفة درجات المسائل الفقهية، وهي خمس:

مسائل الإجماع أو الخلاف الشاذ

الدرجة الأولى: ما انضبط فيه الإجماع واستفاض، وقد عرف أن هذه المسألة ولو كانت في العمليات فقد أجمعوا عليها، فهذه حكمها تكون منتهية إذا استقر الإجماع على مسألة من المسائل المسماة في كتب الفقهاء، وهذا يقع في أوائل المسائل في جملة الكتب، كتاب الصلاة، الطهارة، الزكاة، العقود، المعاملات؛ تجد أن مقدمات هذه الكتب تكون إجماعاً في كثير من الأحوال.

الدرجة الثانية: أن يذكر في هذه المسألة إجماعاً ولكن عند التحقيق يوجد خلاف لكنه ليس محفوظاً، والذي يقابل المحفوظ هو الشاذ، يعني: أن السواد يطبقون على هذا القول, لكن يؤثر عن واحد أو اثنين من بعض الفقهاء أنهم خالفوا في هذا.

فهنا ينبغي لطالب العلم ألا يخرج عن قول العامة من أهل العلم، وألا يقول بالشاذ, بل القول بالشاذ عليه إشكال كبير، ولا يصح منهجاً لطالب العلم.

إذاً: هاتان درجتان حكمهما منتهي, ولا ينبغي لطالب العلم، بل لا يصح من حيث الأصل في مسائل الإجماع التردد في ذلك.

مسائل اتفق فيها الجمهور وفيها خلاف محفوظ

الدرجة الثالثة: أن تكون المسألة فيها خلاف محفوظ، ليس شاذاً, ولكن الجمهور من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين هم أئمة الاجتهاد على قول معروف، يعني: انضبط لهم قول واحد.

فهذا النوع الذي يكون الجمهور من المتقدمين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة على قول فيه، وصار لبعض الفقهاء قول آخر، فإن طالب العلم فيما أرى لا ينبغي أن يتقدم قول هؤلاء الجمهور، إلا وقد استقر عوده في العلم واستبان له موجب هذا التقدم من الأدلة, فإنه إذا استبان الدليل ولو بمخالفة الجمهور فإن المقدم هو الدليل؛ لأن الله تعبد الناس بما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وبما أوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام.

لكن لا ينبغي لطالب العلم وهو في الابتداء أن يتوسع في مخالفة الجمهور، ولا سيما إذا اختلفت أمصارهم، إذا قيل: الليث وهو إمام أهل مصر، وإذا قيل: الأوزاعي وهو إمام أهل الشام، إذا اختلفت الأمصار وصار السواد من الكبار من الفقهاء والمحدثين على قول، فلا ينبغي لك أن تتقدمه إلا وقد استقر علمك, وتكون عارفاً بدلائل النصوص ومواردها, وإلا فلا شك أنه لا يقدم على قول الله ورسوله قول أحد كائناً من كان.

لكن الذي يقصد: أن يتوهم بعض المبتدئين أن القول الذي يخالف هؤلاء الكبار، والجمهور من سلف هذه الأمة وأئمتها يتوهم أنه هو الصوب، وهو عند التحقيق والقواعد العلمية ليس هو الصواب من حيث الدليل.

مثلاً: لو قال قائل -وأحياناً قد يصح المثال وقد لا يصح لكنه مثال عارض- في غسل الجمعة: إنه واجب, فإن قلت له: لماذا؟ قال: هذا صريح في السنة، في حديث أبي سعيد المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ).

وربما يقول بعض المبتدئين: هذا حكم صريح وحكم قطعي؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه يقول: ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ).

فإن قلت له: فالجماهير والأئمة الأربعة لا يرون وجوبه؟ قال: نقدم قول الله وقول رسوله على قول الناس، فهذا صحيح كأصل إيماني، واجب أن نقدم قول الله وقول نبيه على قول كل أحد، لكن لا بد من الفقه, ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وهل ترى أن هؤلاء السواد من المحدثين والفقهاء ما عرفوا هذا الحديث؟

إذاً: المهم هو ألا يتجاوز قول الجمهور إلا لمن تبين في العلم، وصار أهلاً، فلو خالف الجمهور لظهور الأدلة فهذا هو المشروع، وهو الأصل، مع حفظ حق قول الجمهور وحرمتهم, وألا يأتي بشاذ في المسائل.

فحاصل ما سبق: أن المسائل ودرجات المسائل المنقولة في كتب الفقهاء هي على هذه الدرجات الخمس، ما جعلوه من مسائل الإجماع وما انضبط في الإجماع فهذا حكمها منتهي. وما قاله بعض الفقهاء أنه لا خلاف فيه أو لا يعلم فيه خلافاً, وهذا يستعمله كثير من الفقهاء، وفي كلام أبي عمر ابن عبد البر و ابن قدامة أحياناً يقول: لا نعلم فيه خلافاً، وتجد في التتبع بعض الخلاف, ويكون هذا الخلاف ليس محفوظاً وشائعاً، وإنما قد يكون شاذاً, فإذا تحقق الناظر أن هذا من الخلاف الشاذ فإنه لا ينبغي الاعتبار بالشاذ.

إذاً: الدرجة الثالثة: أن يكون الجمهور من أئمة الأمصار من الفقهاء والمحدثين على قول، وخالفهم بعض الفقهاء خلافاً محفوظاً له وجهه وله دليله وله استدلاله.

الأمور التي ينبغي مراعاتها عند الأخذ بقول يخالف الجمهور

الأصل في التقديم أنه ينظر ما يراه أقرب إلى دلائل الكتاب والسنة، لكن هذا لا بد له من أمور:

أولاً: أن يكون الناظر أهلاً.

ثانياً: أنه إذا خالف الجمهور يكون مؤدباً في مخالفته لهم، وإلا فكما سبق أن الشرط على المحققين أنهم يوقرون قول الجمهور لموجب علمي في نفس الأمر؛ لأنك إذا تأملت في النظر يبعد أن قولاً يذهب إليه جماهير أئمة الأمصار كما سبق، أو يذهب إليه الجمهور من الصحابة ويكون هذا القول على خلاف الأدلة.

قد يقول قائل: نجد بعض الأمثلة على مثل هذا؟

فيقال: ليس المقصود هنا القطع بقول الجمهور أو التصويب لهم مطلقاً، ولكن الأهم من هذا التأكيد هو: أن النظر من المبتدي ليس دليلاً على صحة هذا النظر، وإلا كما قلت في المثال السابق: ربما بعض المبتدئين في العلم يقول: إن غسل الجمعة واجب بنص صريح. وربما يعجب أحياناً أنه كيف خولف هذا النص عند الفقهاء؟!

فهذه مسألة لا بد لطالب العلم من التبين فيها؛ ولهذا حتى المحققون من الفقهاء المتأخرين، سواء من الحنفية أو من المالكية أو من الحنابلة أو من الشافعية فستجدون أن مخالفتهم لقول الجماهير من المتقدمين قليلة.

توجيه مخالفة ابن تيمية الجمهور في بعض المسائل

من أشهر الأمثلة في المحققين من المتأخرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأحب أن أذكره؛ لأنه قد أخذ عليه رحمه الله من بعض الفقهاء ولا سيما من الشافعية وغيرهم، أنه خالف وخرج عن أقوال الأئمة الأربعة وما إلى ذلك.

ومع ذلك فإنه عند التحقيق: نجد أن المسائل التي خرج فيها الإمام ابن تيمية عن أقوال الأئمة الأربعة محدودة، وهو الذي يقول هذه القاعدة أو المعنى الذي سبق أن أشرت إليه، عندما يقول: تأملت في مسائل الشرع فإذا القول الذي عليه الجمهور من سلف هذه الأئمة من الفقهاء والمحدثين هو الصواب في الجملة. وتعرفون تعبير ابن تيمية في الجملة يعني: في الغالب أو ما يقارب هذا.

ولهذا فإنه رحمه الله لما تكلم عن مسألة المرأة إذا حاضت وهي لم تطف طواف الإفاضة، ومعلوم أن طواف الإفاضة ركن في الحج، فإذا حاضت المرأة ولم تطف طواف الإفاضة وهي من الأمصار المجانبة بعيداً عن مكة، ومعها رفقة لا ينحبسون لها أو ما إلى ذلك من العوارض التي كانت في ذلك الزمان، وموجود بها وقائع حتى في هذا الزمان مع تنوع الوسائل أو اختلاف الوسائل.

والقول المشهور عند جماهير الفقهاء: أنها إما أن تحتبس، وإما أن تعود، ولا تطوف وهي حائض، وإن كان بينهم فرق في المذاهب الأربعة، فيما لو طافت هل يصح طوافها أو لا يصح؟ هل يلزمها ما يلزمها من الدم أو ما إلى ذلك؟ فهذه مسألة أخرى.

لكن الإمام ابن تيمية : أراد أن ينظر فيها نظراً يجيز به للحائض إذا حاضت ولم تطف طواف الإفاضة، ولم تستطع الاحتباس وهي من بلد بعيد، وتخاف على نفسها إلى غير ذلك من القيود التي ذكرها، أراد أن يصل إلى حكم يقول في نتيجته مع جملة القيود التي نص عليها في الموضع: إنه يجوز لها أن تتلجم بثوب وتطوف.

وذلك أنه كان يرى أن ذلك قد كثر في المسلمات اللاتي يأتين الحج، وأنه صارت فيه مشقة, والمشقة تجلب التيسير؛ كما يقول رحمه الله، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري وغيره: ( إن هذا الدين يسر )، فلما أراد أن يتكلم بهذا الحكم جعل مقدمات, ومن ضمن التعبيرات التي يقول: ولولا أن هذا الأمر قد زادت مشقته على المسلمين، وقد رفع الله الحرج عن هذه الأمة وما إلى ذلك, لما تجشمت القول في هذه المسألة, وقد قال فيها الأئمة ما قالوا.

فإذاً: حتى الإمام ابن تيمية رحمه الله ترى مخالفته أو اجتهاده الذي خالف فيه قول الجمهور هو في مسائل محدودة، يعني: ليست شائعة، والمسائل التي خالف فيها الأئمة الأربعة ليست كثيرة ظاهرة بحيث يقال: إنه في أكثر مسائلها وكثير منها خرج عن المذاهب الأربعة.

عناية ابن تيمية بفقه الأئمة وتتبع الدليل

إن ابن تيمية رحمه الله يقول في مذهب الإمام أحمد : تأملت المسائل فإذا القول الذي هو الراجح في الجملة يكون لـأحمد رحمه الله فيه رواية وإن لم تكن هي المذكورة، يقول: وقد قال بعضهم: إنه أخرجها عن مذهب الإمام أحمد يقول: ونقول: أولاً: إن الأصل هو الاتباع لكتاب الله وسنة نبيه.

ثم يقول رحمه الله: وكأنه يشير إلى فقه العناية بفقه الأئمة وتتبع هذا الفقه.

أي: أن ما يقال في أنه مذهب الإمام أحمد , فإن هذا اصطلاح يصطلح عليه أصحابه من بعده فهل الإمام أحمد قال: هذا مذهبي، أو في بعض الروايات يذكرها ويقول: هذه مذهبي، وفي الثانية يقول: هذه لا، يقول: هذا اصطلاح اصطلح عليه أصحابه، يقول: ومشهور في الأئمة الأربعة وفي الحنابلة خاصة كثرة الخلاف في تحرير المذهب.

وهذا صحيح حتى الشافعية عندهم خلاف في تحرير المذهب، صحيح أن ثمة مشهوراً تواطأ -ولا سيما المتأخرون في الجملة- عليه إلى حد ما، وهو مثله في الحنابلة لما يتواطئون على كتاب الإقناع والمنتهى, وأنها هي المحررة للمذهب، لكن عند النظر في الإنصاف نجد أن بين علماء الحنابلة في التاريخ خلافاً في تحرير المذهب، وهو في النتيجة أصلاً من التحصيل العلمي وليس من التحصيل العبادي الديني؛ لأن الحق سواء كان مذهباً للإمام أحمد أو مذهباً لغيره هو الذي يعمل به، فكان هذا الباب للتحصيل العلمي.

فـابن تيمية يقول: إن المذهب هو ما يصطلح عليه أصحابه.

ويقول: وقد تأملت في المسائل، فإذا المسائل التي فيها قول، وهو الصحيح من حيث الأدلة يقول: يكون لـأحمد فيه رواية، وإن لم تكن عند أصحابه، أو عند أكثرهم هي المذهب.

ولهذا تجدونه في بعض المسائل يتكلم رحمه الله بقوة، وهذا عن مذهب أحمد خاصة في بعض مسائل التطبيقات العلمية، يقول: وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة، وفي بعض المسائل يقول: وهذا ذكره بعضهم مذهباً لـأحمد ويقول: وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة.

إذاً نقول: حتى المحققون في أتباع المذاهب الأربعة يترفقون ويكونون حكماء في مخالفة الجمهور، وإلا فلا شك أن التأصيل لطلبة العلم وللمسلمين أجمعين هو الهدي من كتاب الله وسنة نبيه، لكن لا بد أن تعرف رتب المسائل عند الفقهاء, على كل حال هذه الدرجة الثالثة.

المسائل التي يكون الخلاف فيها متكافئاً في الشهرة والاستفاضة

الدرجة الرابعة: أن يكون الخلاف مشهوراً إلى نحو من التكافؤ في الشهرة والاستفاضة، ولا يستبين أن للجماهير من أئمة الأمصار مذهباً في هذا، بل تجد أن البغداديين بينهم خلاف، وأن أئمة المدينة بينهم خلاف, ولربما أن أئمة الحديث منهم من يذهب هذا المذهب، ومنهم من يذهب إلى مذهب آخر.

يعني: تكون المسألة شائعة الخلاف، والخلاف فيها قوي، فلا تستطيع أن تقول: إن كبار الأئمة أكثرهم على هذا القول أو على هذا القول، فيكون فيها من الشيوع قوة، وأضرب لها مثلاً بمسألة القراءة خلف الإمام، فلو جهر الإمام في قراءته فقرأ الفاتحة ثم شرع في السورة, فالمأموم هل يقرأ أو ينصت لقراءة الإمام؟

لأنه من المعروف أن الجمهور لا يرون أن الإمام يسكت لقراءة المأموم سكتة تامة، ومن حيث النصوص لا توجد نصوص تدل على مشروعيتها بالتفصيل. فهل يسكت المأموم لقراءة الإمام أم يقرأ والإمام يقرأ؟

هذه المسألة قوية الخلاف، ولهذا من قوة الخلاف فيها أن الإمام البخاري رحمه الله مع أنه لم يكن من عادته جمع مسائل أحاديث مختصة لمسائل فقهية معينة، ومع ذلك ألف فيها جزءاً معروفاً جمع فيه آثاراً وأحاديث ونصوصاً في هذا, وجمع فيه كلاماً لكثير من أئمة السلف والفقهاء من الصحابة ومن بعدهم.

فهي مسألة مشهورة في الخلاف, حتى إن ابن تيمية لما جاء إليها قال: هذه المسألة لا يدخلها الاحتياط، فإنه على كلا القولين لا بد فيها من تحرير الاجتهاد، يعني: لا يتحصل لك على ترتيب شيخ الإسلام وأنت تقول: الأحوط هذا أو هذا, إنما هو عزم بأحد الاجتهاديين أو تقليد لمجتهد لأحد هذين الاجتهاديين.

ففي مثل هذا النوع من المسائل التي قوي الخلاف فيها، وفيما أرى أن طالب العلم إذا قدم لا ينبغي له أن يبالغ في التقديم، وأقصد بالمبالغة في التقديم بعض العبارات التي تطرأ في بعض التعبيرات لدى بعض طلبة العلم والناظرين فيه، أو الباحثين في كتبهم لما يقول: وهذا القول هو الصحيح, وأما القول الآخر فقد تمت الإجابة عن كل أدلته، وتبين عدم صحتها أو عدم مناسبتها للاستدلال, أو يقال: القول الثاني لا دليل عليه، أو ما إلى ذلك من التعبيرات التي أرى أنها فيها الزيادة ولا بد.

بل يكون طالب العلم إذا قدم هذا القول؛ لأنه أقرب إلى الأدلة عندهم، يبقي للقول الآخر قدر من السعة؛ لأنه عند التحقيق هو كذلك, أما أن تقول عن قول عليه كبار من أئمة العلم كـالشافعي أو مالك و أبي حنيفة و أحمد وأمثالهم تقول: إنه قول لا دليل عليه, فهذا أقل أحواله أنه ليس أدباً، فضلاً عن كونه ليس تحقيقاً علمياً راسخاً.

إنما الأقوال التي يقال: لا دليل عليها هي التي تخالف الإجماع، أما أقوال الأئمة في مسائل شبه متكافئ الخلاف فيها من حيث الشهرة، وإلا فأدلة الشارع لا تتكافأ ولا تتعارض كما هو معلوم من البدهيات العلمية، لكن قصدي: أنها متكافئة من حيث المختلفين وشهرتهم وإمامتهم واستفاضة علمهم، فهذا نوع فيه سعة فيما أرى.

قيود أتباع الأئمة الأربعة على مذاهبهم

الدرجة الخامسة ونختم بها: وهي القيود التي يعلقها أتباع الأئمة الأربعة على مذاهبهم، وهي تطبيقات وتعليقات كثيرة في الكتب المتأخرة خاصة، فهذه لو أن طالب العلم لم يكثر من الاشتغال بها في مراحله الأولى وفي مبادئه الأولى لكان أولى.

وكنا نريد أن نشير إلى العناية بمعرفة المشهور من مسائل الإجماع، وقد كتب في الإجماع كتباً، وهذا بحث متصل وهو مدخل، ولربما أن المدخل من طبيعته أنه لا يتم, وهكذا كان هذا المجلس لم يتم المقصود من البحث فيه، وإنما ما سبق ذكره لعله يكون مقدمة, ويستكمل في وقت آخر، أو يستكمله طالب العلم والناظر في العلم لبحثه ونظره.

نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الفقه في الدين! وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يرزقنا التمسك بهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المدخل لدراسة الفقه [2] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net