إسلام ويب

لقد أخبر الله سبحانه أنه يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ليستبشر الناس بنزول الغيث، كما أخبر أنه يسوقه حيث يشاء، وأنه إذا نزل على الأرض فمنها الطيبة التي تنبت النبات الحسن، ومنها الخبيثة التي يتعسر فيها الخير ولا يخرج منها نبات صالح، وكذلك المؤمن ينتفع بالوحي أما الكافر فلا ينتفع به

تشبيه الله تعالى إحياء الناس بعد موتهم بإحياء الأرض بالماء بعد جفافها

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ذكر الله في سورة الأعراف مثلين:

المثل الأول: في الآية السابعة والخمسين والثامنة والخمسين يقول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:57-58].

ففي الآية الأولى يقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فالرياح تأتي مبشرة بأن بعدها مطر وغيث.

وفي القراءة الأخرى: (وهو الذي يرسل الرياح نُشراً بين يدي رحمته) بالنون، أي: أنها تكون سبباً في انتشار هذه الرحمة، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].

قوله: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً، (حتى إذا أقلت) من الإقلال وهو الحمل، أي: حتى إذا حملت هذه الرياح سحباً ممتلئة ثقيلة بالماء، (سقناه لبلد ميت)، هذا السحاب يسوقه الله عز وجل لبلد مجدب.

قوله: فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أي أن هذا الماء يخرج الله به حبوباً وثماراً وفواكه، كما قال سبحانه: فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [النازعات:24-32].

كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أو (تذَّكرون) بتشديد الذال.

مثلما أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، كذلك يوم القيامة إذا أذن جل جلاله بالنفخ في الصور وهي نفخة البعث ينزل من السماء ماء كالطل -كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام- كالطل -أي: كالندى- قليل ليس غزيراً -أي: كثيراً- فينبت الناس منه في قبورهم ويتخلقون، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

وفي سورة فاطر يقول الله عز وجل: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر:9].

مثلما يحيي الله الأرض بعد موتها كذلك يحيي هذه الأجساد بعد موتها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7].

تشبيه القلب الطيب بالأرض الطيبة والقلب الخبيث بالأرض الخبيثة

يقول الله عز وجل: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ، البلد الطيب المقصود به: ذو التربة الطيبة المهيأة للإنبات، يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، يخرج نباته كثيراً، نظيراً، بهيجاً.

وَالَّذِي خَبُثَ[الأعراف:58] يقصد به: الأرض السبخة التي هي غير مهيأة للإنبات، لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً[الأعراف:58]، النكد: هو العسر الممتنع عن إعطاء الخير.

كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ[الأعراف:58]، يبين الله عز وجل أن قلب المؤمن كالأرض الطيبة تؤثر فيه المواعظ وإن كانت قليلة يسيرة، وأما قلب الكافر والعياذ بالله فهو كالأرض السبخة مهما نزل عليها من المطر فإنه صلد لا يتأثر ولا يتغير، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ترتيلاً، ويلقي المواعظ على أصحابه رضوان الله عليهم، فإذا كل واحد منهم رأسه بين رجليه ولهم خنين. أي: بكاء.

وأما المنافقون قبحهم الله فإنهم كانوا يستمعون إلى مواعظه صلوات ربي وسلامه عليه، ثم يخرجون فيقول قائلهم: مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].

تشبيه الله لمن يضل بعد العلم بالكلب الذي يخرج لسانه في كل حال

المثل الثاني: في الآية الخامسة والسبعين بعد المائة يقول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].

يضرب الله عز وجل مثلاً لإنسان كافر، هذا الإنسان ربما يكون المراد به هو بلعام بن باعوراء ، وكان رجلاً من بني إسرائيل علمه الله علماً كثيراً، وبعثه موسى إلى الجبارين بشيراً ونذيراً، فأغراه الجبارون العمالقة الذين كانوا يسكنون أرض فلسطين بالمال وبالنساء، وقالوا له: يا بلعام ! أنت مجاب الدعوة، فادع على موسى، فاستجاب للإغراء والعياذ بالله، فلما قام ليدعو على نبي الله موسى اندلع لسانه، فصار مثله كمثل الكلب.

أو أن المراد به أمية بن أبي الصلت ، وهو رجل من ثقيف كان يكتب الشعر، ويتأله ويتنسك، ويمجد الإله الأعظم جل جلاله، ويتحدث عن البعث والنشور، فلما بعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر به أمية ، فقال له الناس: يا أمية ! إن محمداً يدعو للذي كنت تدعو إليه. فقال لهم: إني كنت أحدث نفسي أني أنا النبي المنتظر، وإني لأستحي من نسيات ثقيف أن أتبع هذا الغلام القرشي. يعني: أنا رجل كبير في السن، فكيف أتبع هذا الشاب الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد جاءت أخته الفريعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنشدها شيئاً من شعره، ثم قال لها: (إن أخاك قد آمن شعره وكفر قلبه)، والعياذ بالله!

فالله عز وجل يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ، أي: اتل على هؤلاء المعاندين المكذبين نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا، أي: علمه الله العلم ورزقه الله الفقه في الوحي، فَانسَلَخَ مِنْهَا، شبه الله عز وجل تلك الآيات وكأنها كانت جلداً ودثاراً لهذا الإنسان، كما قال الله عز وجل: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[الأعراف:26]، أو في القراءة الأخرى: (ولباسَ التقوى ذلك خير).

فيقول سبحانه: فَانسَلَخَ مِنْهَا، أي: انسلخ من جلده والعياذ بالله، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، ولم يقل: فتبع الشيطان، لا. بل الشيطان نفسه صار تابعاً لهذا الرجل، يعني صار والعياذ بالله ألعن وأخبث من الشيطان، كما قال القائل:

وكنت امرأً من جند إبليس فارتقىبي الحال حتى صار إبليس من جندي

إبليس نفسه صار تابعاً له فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ .

قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أي: لجعلناه رفيعاً، عظيماً، جليلاً، متبوعاً، مطاعاً، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ، كان تفكيره كله في الأرض، في الطين، وفي المال، وفي الشهوات، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، ضرب الله له أسوأ مثل والعياذ بالله، وليس لنا مثل السوء، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، والكلب هو أنجس الحيوانات، ونجاسته مغلظة، ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب ).

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ[الأعراف:176]، خلق الله لسانه مندلعاً دائماً، لسانه إلى الخارج سواء كان مطارداً مرجوماً، أو كان يمشي لوحده، فإنه لا يكف عن اللهاث.

كذلك -والعياذ بالله- هذا الضال المضل، تعلم أو لم يتعلم، الحالة واحدة (سواء)، ما زاده علمه من الله إلا بعداً، فهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إن يتعلم فهو محب للدنيا حريص عليها يبيع دينه بعرض قليل، وإن لم يتعلم فهو كذلك.

وقوله: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هذا الصنف من الناس ما أكثره، فـ أبو جهل لعنه الله قبل أن تبدأ معركة بدر، بعض الناس قال له: يا أبا الحكم نشدتك الله، أمحمد على حق أم على باطل؟

فقال له والله إني لأعلم أنه على حق، ولكننا تنافسنا وبنو عبد مناف أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا تجاثينا بالركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نتبعه أبداً.

إذاً: هو يعلم يقيناً أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك اليهود، كما قال الله سبحانه: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ[البقرة:146]، ومع ذلك كفروا به؛ حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ[البقرة:109].

وكذلك الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، قال ابن عباس : الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها، حين يعود الدين مهنة وحرفة لا ينفعل بها القلب، ولا تنعكس على السلوك؛ يكون هذا هو المصير.

نسأل الله أن يختم لنا بالحسنى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , من سورة الأعراف للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net