إسلام ويب

نصر الله المسلمين يوم بدر مع قلتهم وكثرة عدوهم؛ لأنهم بذلوا أسباب النصر من اللجوء إلى الله تعالى ودعائه وتوحيد الصف والمعنويات العالية للقتال، وقد ضربوا أروع أمثلة النصر والبطولات فقتلوا كبار قريش وصناديدها وأسروا منهم سبعين أسيراً، وقد تجلت فيها مبدأ الولاء والبراء وعدم موالاة الكافرين ولو كانوا من الآباء والأبناء والإخوان.

أسباب نصر المسلمين يوم بدر

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار, وعدد ما اختلف الليل والنهار, وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ يوم بدر بأسباب النصر كلها، ومنها:

اللجوء إلى الله بالدعاء

أولاً: الدعاء، فقد كان الناس في تلك الليلة ما بين نائم ومستيقظ, أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مكث سائر الليل يرفع يديه إلى السماء، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض, اللهم هذه قريش قد أقبلت بخليها وخيلائها تحادك وتكذب نبيك, اللهم نصرك الذي وعدتني. ويدعو صلى الله عليه وسلم ويبالغ في رفع يديه حتى سقط رداؤه, فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك, فإن الله منجز لك ما وعدك)؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استعان بالدعاء, فجاءته المكافأة سريعة حيث: ( أخذته صلى الله عليه وسلم سنة, ثم فتح عينية وقال: أبشروا معشر المسلمين, فإني أريت مصارع القوم, هنا يقتل فلان؛ وهنا يقتل فلان, فما جاوز أحد الموضع الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

ترتيب الجيش بذكاء وخبرة عسكرية

ثانياً: صف المسلمين وتنظيم الجيش؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم نظم الجيش فقسمه إلى ميمنة وميسرة وقلب، وأعطى راية الأنصار أحدهم, وراية المهاجرين أحدهم, ولبس صلى الله عليه وسلم درعين, وهذا من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسباب، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما عرفت تأويل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45] -هذه الآية نزلت في مكة- إلا حين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يثب في درعه, وهو يقول: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45] ), فعرفت تأويلها.

ارتفاع الروح المعنوية

ثالثاً: شحذ الروح المعنوية, وقد قيل: السلاح بضاربه. يعني لو أعطوك سلاحاً وأنت رجل جبان فلا يغني عنك شيئاً.

فبعض الناس بمجرد أن يرى الدم يرتجف, ولو كان معه الصواريخ وغيرها فلن تغني عنه شيئاً؛ بل لا بد من قلب عامر بالإيمان, ولا بد من أخذ بأسباب التدرب على هذا السلاح.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم شحذ روح أصحابه بعدما صفهم قال: ( والذي نفسي بيده! لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ), وكما قال ابن القيم رحمه الله: لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم إلا في مواطن قليلة, ربما تبلغ الثمانين موطناً, منها هذا الموطن: ( والذي نفسي بيده! لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً- هذه هي الشروط- مقبلاً غير مدبر, إلا أدخله الله الجنة ), فهذه الكلمات فعلت فعلها في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، حتى إن عميراً رضي الله عنه كان معه تمرات يأكلهن؛ فألقاهن وقال: بخ! بخ! إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات, ودخل رضي الله عنه فقاتل حتى قتل.

رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب القدوة للصحابة بنفسه, قال الله عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21], وفي قراءة متواترة (إسوة) بالكسر, فإذا سمعت إماماً يقرأ بها فلا تنكر عليه.

بعض المواقف البطولية في غزوة بدر

المبارزة التي وقعت في بداية المعركة

مما وقع في يوم بدر أنه خرج ثلاثة من المشركين يطلبون المبارزة، وهم صناديد الكفر, خرج عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة, فخرج لهم ثلاثة من الأنصار, فأبى أولئك الكفار, وقالوا: أكفاء كرام, لكنا نريد من بني عمومتنا, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قم يا حمزة , وقم يا علي , وقم يا عبيدة بن الحارث ), فقام الثلاثة رضي الله عنهم. أما علي فقد كر على الوليد فقتله, وأما حمزة فقد كر على شيبة فقتله أيضاً, واختلف عتبة و عبيدة ضربة لكل واحد منهما, فكر علي و حمزة فأجهزا على الثالث, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، قال تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام:45].

وفي هؤلاء -والعلم عند الله تعالى- نزلت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ[الحج:19-20].

وبعد ذلك دارت رحى الحرب, اشتد الأمر وحمي الوطيس, واحمرت الحدق.

وأشجع الناس في ذلك الموقف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة رجل من أشجع الناس وهو علي رضي الله عنه حيث قال: ( ما رأيت أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق واشتدت الحرب نتقي به؛ فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه, وإن الشجاع منا للذي يحاذيه)؛ فالشجاع الذي يكون محاذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يوجد أحد يتقدم عليه صلى الله عليه وسلم.

قتل معاذ ومعوذ لأبي جهل

ظهرت ضروب من الشجاعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أذكر واحدة منها: يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -والحديث في البخاري ومسلم-: ( إني لفي الصف يوم بدر, إذ رأيت نفسي بين غلامين صغيرين، فقلت: يا ليتني كنت بين أضلع منها ).

دائماً في المحافل يتمنى الإنسان أن يكون معه أناس مثله أو أفضل منه, لكن أن يكون عن يمينه صغار السن وعن شماله مثل ذلك، فهذا يكرهه البعض, وعبد الرحمن في نفسه كأنه تضايق, فقال: ( فغمزني أحدهما في غفلة من صاحبه وقال لي: يا عمي! أتعرف أبا جهل قلت: نعم, وما شأنك به؟ قال له: لقد علمت أن أبا جهل يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي نفسي بيده! لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا)، يعني: لو رأيت أبا جهل الساب للنبي صلى الله عليه وسلم إما أن أقتله وإما أن يقتلني.

(قال: ثم غمزني الآخر فقال لي مثلما قال الأول, قال: فرأيت أبا جهل يجول بين الصفوف؛ فقلت: هذا صاحبكما -أي هذا أبو جهل - قال: فوثب عليه الغلامان وما تركاه حتى أثبتاه ).

هذا الكلب عدو الله الذي كان يستأسد على سمية رضي الله عنها, والذي كان يعذب المستضعفين من المسلمين, جعل الله هلاكه على يدي هذين الغلامين, مثلما جعل الله هلاك فرعون على يد موسى الذي كان غلاماً في بيته.

كما قال ابن كثير رحمه الله: كأن الله يقول لفرعون: يا هذا الملك المتسلط المغرور! إني جعلت هلاكك على يد غلام ينشأ في بيتك, ويتغذى من طعامك, والله يفعل ما يشاء.

فالمقصود بأن هذين الغلامين أثبتا عدو الله، وهذه رواية البخاري .

وزاد البيهقي في دلائل النبوة: فلحق عكرمة بن أبي جهل بأحدهما فضربه في ذراعه، وهو معاذ بن عفراء رضي الله عنه.

يقول معاذ: فمكثت سائر اليوم أقاتل وأنا أجرها خلفي؛ فلما أثقلتني -أي: عاقتني عن القتال- وضعتها تحت قدمي وتمطيت حتى خلعتها, ثم بعدما انجلى غبار المعركة جاء الغلامان كلاهما يقول: ( يا رسول الله! أنا قتلت أبا جهل قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا, قال: أرياني, فجاء كل منهما بسيفه, فقال صلى الله عليه وسلم: كلاكما قتله - يعني: الدم شركة بينكما- وخر صلى الله عليه وسلم لله ساجداً وقال: هذا فرعون هذه الأمة. وأما الغلام الذي قطعت ذراعه فشكى للرسول صلى الله عليه وسلم أنها قطعت في سبيل الله قال: فبصق عليها ثم لصقها فلصقت ), أي رجعت كما كانت, ولا نستغرب فهذه من المعجزات الحسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تنسوا كيف رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عين قتادة وقد قيل:

عين قتادة لا تنساها صارت تنظر حين وسم

( حيث إن قتادة بن النعمان جاء يوم أحد وعينه قد سالت على كفه، قال: فأخذها صلى الله عليه وسلم ووضعها فكانت أحسن من الأخرى ).

وذلك لما جاء حفيده عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان فقال له عمر بن عبد العزيز : من أنت؟ قال:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد

فعادت كما كانت لأول عهدهافيا حسن ما عين ويا حسن ما خد

فقال عمر بن عبد العزيز :

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ومعنى كلام عمر بن عبد العزيز أي أن هذه هي المكارم, وليست المكارم أن يتحدث الإنسان أنه يشرب كذا من اللبن أو يمدح أكله وأنه مع السمن أو مع اللحم, فهذا كله سيصير بولاً وغائطاً.

وكما قال بعضهم: إني لأكره للمرء أن يكون وصافاً لبطنه ولفرجه، وهكذا بعض الناس ليس عنده حديث إلا عن البطن والفرج أجاركم الله.

ونعود هنا لذكر الآيات التي كانت يوم بدر، وأيد الله بها المسلمين إجمالاً.

أولاً: نزول الملائكة.

ثانياً: نزول الغيث.

ثالثا: النعاس.

رابعاً: تقليل المشركين في أعين المسلمين, وتقليل المسلمين في أعين المشركين.

نتائج غزوة بدر

أيها الإخوة الكرام! انجلى غبار المعركة عن مقتل سبعين من صناديد الكفر, وأسر مثلهم.

ولذلك لما قتل من المسلمين في يوم أحد سبعون, قال الله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا[آل عمران:165], يعني قتل منكم سبعون؛ لكن في يوم بدر قتلتم سبعين وأسرتم سبعين.

وقد كانت هذه خسارة فادحة للمشركين, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك القتلى فجروا بأرجلهم, فألقوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث, ووقف النبي صلى الله عليه وسلم ينادي عليهم بأسمائهم: ( يا فلان! يا فلان! يا فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً, فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، قال عمر : يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟ قال: يا عمر ! ما أنت بأسمع لما أقول منهم, غير أنهم لا يستطيعون الجواب ).

ثم خاطبهم صلى الله عليه وسلم فقال: ( بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس, وخذلتموني ونصرني الناس, وأخرجتموني وآواني الناس ).

التعامل مع أسرى بدر

ثم رجع صلى الله عليه وسلم بالأسرى وكانوا سبعين, حتى إذا كان بمر الظهران وهو مكان بين مكة والمدينة, طلب أن يعرض عليه الأسرى, ونظر إلى النضر بن الحارث نظرة عرف فيها الموت, فلقي مصعب بن عمير قال له: يا مصعب ! إن صاحبك قد نظر إلي نظرة قد رأيت فيها الموت, وإني لأرجو شفاعتك؛ فاشفع لي.. فقال له مصعب : ما أنا بفاعل. فقال له: يا مصعب ! لو كنت مكاني لما تركت قريشاً تقتلك وأنا حي, فقال له مصعب : إني لأراك صادقاً, لكنني لست مثلك؛ فقال له: يا أخي! يريد أن يتكلم، فقاطعه مصعب وقال: لقد قطع الإسلام ما بيننا, يعني: لا توجد بيننا أخوة.

وفعلاً النبي صلى الله عليه وسلم أخرج هذا الصنديد ومعه عقبة بن أبي معيط وأمر بضرب أعناقهما, حيث سلم واحداً لـعلي بن أبي طالب, والآخر لـعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح, أما النضر فقد قتل بدون أن يتكلم, وأما عقبة فأخذ يولول ويقول: ( أنا من بين الناس يا محمد؟ قال: نعم. قال: ولم؟ قال: بأذيتك لله ورسوله, قال: فمن للصبية؟ قال: لهم النار, ثم قال للصحابة: إن عدو الله هذا رآني ساجداً عند الكعبة, فوضع رجله على صفحة عنقي حتى كادت عيناي تندران ), يعني: من شدة الضغط كادت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرجان. قال تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ[الروم:4-5] وقال سبحانه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ[التوبة:14-15].

قتل هذان الرجلان, عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث .

وهنا نقول بأن الإمام مخير في الأسرى بين أمور أربعة: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً[محمد:4], وإما قتلاً وإما استرقاقاً.

وأما من بقي من الأسرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشار فيهم الصحابة رضي الله عنهم, فاختلفت آراؤهم, فقال أبو بكر : يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة, فامنن عليهم لعل الله أن يهديهم. وقال عمر : أرى أن تمكن علياً من أخيه عقيل فيحتز عنقه, وأن تمكنني من فلان فأحتز عنقه, وأن تمكن فلاناً من فلان فيحتز عنقه حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا محبة لأحد سواه.

وقال عبد الله بن رواحة : أرى أن تنظر في واد كثير الحطب, فتؤجج فيه ناراً ثم تطرحهم فيه, فالنبي صلى الله عليه وسلم تبسم وقال: ( إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن, وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة, وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[إبراهيم:36], وكمثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118]. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا[نوح:26], وكمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ[يونس:88], ثم أخذ برأي أبي بكر )؛ فقبل النبي صلى الله عليه وسلم الفداء من بعضهم, وطلب من بعضهم أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

وبعد ذلك جاء عمر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر جالسين تحت شجرة يبكيان, فقال: ما يبكيكما؟ أخبراني إن كان هناك ما يبكي بكيت وإلا تباكيت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو نزل بنا عذاب لم ينج إلا أنت يا عمر ! وتلا الآيات: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[الأنفال:67] ).

وكانت هذه إحدى موافقات عمر للقرآن وهي خمسة:

الأولى: قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[البقرة:125].

الثانية: قوله: لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر, فنزلت: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53].

الثالثة: هذه التي ذكرتها في أسرى بدر.

الرابعة: قوله: لما نزلت الآيات من صدر سورة المؤمنون قال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين, فنزلت كما قال.

والخامسة: خطابه لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما طلبنه النفقة: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ[التحريم:5].

دروس مستفادة من غزوة بدر

هنا نذكر الدروس والعبر المستفادة من تلك الغزوة:

الرضا بقضاء الله مع العمل بأسباب النصر

أقول: من الدروس المستفادة من غزوة بدر:

أولاً: أن الإنسان يرضى بقضاء الله وقدره، قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:216], فإن الصحابة خرجوا يريدون العير, وكان الخير في النفير, مع أنهم في البداية خافوا, كما قال الله عز وجل: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ[الأنفال:7], وكما قال: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[الأنفال:6], لكن الله عز وجل قدر أن يكون قتال لما أعد لهم من الكرامة.

ثانياً: إن من أسباب النصر ما كان عليه المسلمون من تعاطف وتكاتف ووحدة في المعتقد والرأي, وكانوا خلف قيادة واحدة, يأتمرون بأمرها, وينصاعون لرأيها.

الأخذ بالشورى

ثالثاً: الشورى؛ فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخذ بالشورى في أحلك المواقف؛ ففي يوم بدر شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ويوم أحد أيضاً استشار, ويوم الخندق استشار؛ بل في يوم بدر لما قال له الحباب : ( أهذا منزل أنزلكه الله, أم هي الخديعة والحرب؟ ثم قال له الحباب: ما هذا بالمنزل ), فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ برأيه.

وفي يوم الخندق أخذ برأي سلمان , ولما فاوض عيينة بن حصن الفزاري و الحارث بن عوف المري على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة استشار السعدين فقالا: ( يا رسول الله! كنا وهؤلاء أهل جاهلية ووثن, وما كانوا يطمعون أن يأخذوا شيئاً من تمر المدينة إلا شرى أو قرى, أفحين أكرمنا الله بالإسلام وبك نعطيهم؟ والله لا نعطيهم إلا السيف ).

علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى حتى في القضايا العائلية, فإنه لما حصلت حادثة الإفك شاور الرسول صلى الله عليه وسلم علياً فقال له: ( النساء سواها كثير. وشاور زينب بنت جحش فقالت: أصون سمعي وبصري, ما علمت إلا خيراً.

وسأل صلى الله عليه وسلم بريرة ماذا تعرفين عن عائشة ؟ فقالت: يا رسول الله! ما علمت عليها إلا خيراً سوى أنها جارية حديثة السن, كانت تعجن العجين ثم تنام عنه فتأتي الداجن فتأكله )، يعني: أنها لا تحسن تدبير أمر البيت.

فالرسول صلى الله عليه وسلم دائماً كان يستشير, وقد قال أبو هريرة : (ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولذلك عود نفسك حتى في البيت أن تتشاور مع زوجتك, وقد ذكر الله التشاور حتى في موضوع الرضاعة، قال الله عز وجل: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا[البقرة:233].

علو منزلة عقيدة الولاء والبراء في الدين الإسلامي

رابعاً: أن الولاء والبراء أس ديننا, وركيزة معتقدنا, ينبغي لكل مسلم أن يوالي من والى الله ورسوله, وأن يعادي من عادى الله ورسوله.

وقصة مصعب بن عمير مع النضر بن الحارث خير دليل على الولاء والبراء, وكذلك لما وجد أخاه أبا عزيز مقيداً فقال للأنصاري الذي أسره: اشدد وثاقه, وأغلِ فداءه, فإن أمه ذات مال. فقال له أبو عزيز: أهذه وصاتك بي يا أخي؟ قال له: إنه أخي دونك. أي: الأنصاري الذي أسرك هو أخي, أما أنت فلست أخي؛ لأن الله عز وجل يقول: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10], وهذا الأصل يغيب عن كثير من الناس.

وكذلك عمر بن الخطاب فقد قتل خاله العاص بن هشام , و أبو عبيدة قيل: إنه قتل أباه الجراح , وقل مثل ذلك في آخرين.

وكذلك أبو حذيفة بن عتبة رضي الله عنه كان في صفوف المسلمين, وأبوه من صناديد الكفر, وأخوه الوليد كذلك وعمه شيبة فقتلوا جميعاً أمامه.

وأبو بكر الصديق في صفوف المسلمين وعبد الرحمن ولده مع المشركين, حتى بعدما أسلم قال له: يا أبت! لقد رأيتك يوم بدر, ولو شئت لقتلتك, فقال له أبو بكر : لكنني لو رأيتك لقتلتك.

فلا بد من الولاء والبراء حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا محبة لأحد سواه. كما قال عمر رضي الله عنه.

معركة المسلمين والكفار عقدية تستلزم الدعاء الكثير

خامساً: أن نعلم أن معاركنا عقدية, فإنه لما أراد مشرك أن يكون في صفوف المسلمين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنا لا نستعين بمشرك, ولكننا نستعين الله عليهم ).

سادساً: الاستعانة بالدعاء, ورد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله.

عظم محبة الصحابة لرسول الله

سابعاً: عظم حب الصحابة رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كان يسوي الصفوف ( رأى سواد بن غزية بادياً صدره من الصف فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده وقال: استو يا سواد ! فقال: أوجعتني يا رسول الله! أقدني فداك أبي وأمي ), يعني هذه الضربة كانت قوية, وأنا لا بد أن أقتص منك.

لو كنت أنا لقلت له: استح, خل عندك أدب, أو أقول له: يا أخي! الظروف غير مناسبة للقصاص الآن، إن شاء الله بعد المعركة ننظر في أمرك هذا, أو في نفس الوقت نقول: يا رب! في هذه المعركة خلصنا من هذا الرجل.

( لكن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه القضيب وقال له: استقد يا سواد ! ), يعني: خذ بحقك: ( فقال: يا رسول الله! طعنتي وأنا حاسر -أي: كانت بطني مكشوفة- فالنبي صلى الله عليه وسلم كشف عن بطنه, فأقبل سواد رضي الله عنه يمرغ وجهه في بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عليه الصلاة والسلام: ما حملك على هذا؟ قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى, وإني لأرجو الشهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ).

نقف عند هذا الحد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , بدر الكبرى [2] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net