اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حائية ابن أبي داود [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
[ وقل ينزل الجبار في كل ليلةبلا كيف جل الواحد المتمدح ].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
يقول ابن أبي داود عليه رحمة الله: [ وقل ينزل الجبار في كل ليلة ] : صفة النزول لله سبحانه وتعالى كما تقدم، هي من الصفات التي يفرق فيها بين أهل السنة وأهل البدعة، وذلك أن المبتدعة ينفون صفة العلو لله سبحانه وتعالى أصلاً وإن أثبتوها لله سبحانه وتعالى قدراً، ولذلك ذهب الجهمية والمعتزلة إلى نفي علو الله سبحانه وتعالى واستوائه على عرشه، فقالوا: إن الله عز وجل ليس بمستو على عرشه، وتأولوا قول الله جل وعلا في غير ما آية في كتابه العظيم بذكر الاستواء، كقوله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، قالوا: استوى بمعنى: استولى، وجعلوا منه قول الشاعر الأخطل النصراني:
قد استوى بشر على العراقمن غير سيف أو دم مهراق
وهذا تحريف لكلام الله سبحانه وتعالى، فاستوى غير استولى، وقد شابهوا اليهود في تحريفهم لمعاني كلام الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا حينما أمر اليهود بقوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] ، دخلوا الباب وقالوا: حنطة، فزادوا حرفاً كما زاد الجهمية حرفاً في استوى، قالوا: استولى، فلام الجهمية كنون اليهود تحريفاً لكلام الله سبحانه وتعالى، وذلك أنهم ينفون الاستواء، ويجعلونه بمعنى استولى، وهذا يتضمن معنىً فاسداً: وهو أن استولى تدل على أن ثمة مالك متجبر قادر قبل الله، وهذا معنىً باطل من اعتقده فقد كفر.
ولذلك العلماء عليهم رحمة الله تعالى، متفقون على كفر الجهمية وإخراجهم من الإسلام، والله جل وعلا لعلوه مكاناً وقدراً، واستوائه على عرشه حقيقة ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، والسماوات أطباق: سماء تليها سماء كما جاء في قصة الإسراء والمعراج، ونزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
ومن نفى نزول الله سبحانه وتعالى كالجهمية وغيرهم؛ فإنما نفاه لأنه تضمن معنىً فاسداً في قلوبهم من التشبيه، ومن المعاني الفاسدة التي تضمنتها قلوبهم فنفوا النزول، وقولهم: إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فهل يخلو من ذلك عرشه؟ وقالوا: إن الثلث الأخير من الليل أو الثلث الأوسط -في رواية- ينتقل من بلد إلى بلد، فهل يقال: إن الله عز وجل ينزل على الدوام وينافي ذلك استواؤه على عرشه؟
فيقال: إن هذا إنما استقر لدى المبتدعة؛ لأنهم قد شبهوا الخالق بالمخلوق، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، فمن زعم أن الله عز وجل حينما ينزل إلى السماء الدنيا يخلو منه عرشه، لم يأت هذا المعنى إلا لمشابهة قد انقدحت في الذهن، فيقال: إن الله عز وجل ينزل على الحقيقة نزولاً يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
فأهل البدع تأولوا، فقالوا: تنزل رحمته، قالوا: لقرينة جاءت في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل يقول: ( هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له؟ ) ، قالوا: وهذا المراد بالنزول، وهذا تأويل للصفة عن وجهها، وهو تعطيل للمعنى أيضاً، فالله سبحانه وتعالى ينزل على الحقيقة كما هو الأصل.
وقد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء ذكر النزول في ثلاثة أوقات في الليل: جاء أنه في الثلث الأخير من الليل، وجاء أنه في الشطر الأخير من الليل، وجاء أنه في الثلث الأول من الليل، وثمة رواية رابعة: أنه ينزل إذا مضى الثلث الأول من الليل، فيبقى الثلثان ينزل فيهما الله سبحانه وتعالى.
فذكر الثلث الأول من الليل غير محفوظ، وذكر الثلث الثاني غير محفوظ أيضاً، والصواب روايتي: نزول الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل، وفي الشطر الأخير من الليل، والمراد بالشطر: النصف، قال: ( إذا مضى الشطر الأول من الليل ينزل الله سبحانه وتعالى ) ، فذكر نزول الله عز وجل في الثلث الأول من الليل أو الشطر الأول من الليل أو الثلث الأوسط غير محفوظ، والصواب نزول الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير والشطر الأخير من الليل، وذلك في كل ليلة ينزل الله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره، قال: ( إذا مضى ثلثا الليل ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ) ، وجاء في رواية: ( إذا مضى شطر الليل الأول ينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا ) .
هنا وصف الله سبحانه وتعالى بالجبار فقال: [ وقل ينزل الجبار في كل ليلة ] : هذا الاسم لله سبحانه وتعالى قد جاء في قول الله: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] ، وذكر هذه الصفة بخصوصها في هذا الموضع، لأن نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ليس نزولاً لصفة جبروته ونقصاً فيها ليطلع على عباده أو يدنو منهم، ولكن الله عز وجل علمه واحد على الكمال المطلق، وإحاطته بعباده على الإحاطة المطلقة، فهو سبحانه وتعالى يسمع القريب والبعيد على السواء؛ ولذلك يقول الله جل وعلا عن نفسه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ، وهذا في كل وقت.
وإنما نزول الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل من باب التعظيم لهذا الوقت والتفضيل له عن غيره، لا من باب سماع الدعاء أو الإحاطة بأحوال العباد كما تبادر هذا المعنى إلى أذهان بعض المبتدعة فنفوا النزول كله، أرادوا بذلك تنزيهاً لله سبحانه وتعالى فوقعوا في أعظم من ذلك وهو التعطيل.
ويجب على كل معتقد وعلى كل موحد أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه من غيره، فإذا جاءت الصفات والأسماء فإنها تمر كما جاءت، وأن رسوله عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله وأدراهم به، فإذا لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يخالف الحقيقة من تأويل أو تشبيه، فالواجب على المؤمن في ذلك الاتباع، وأن يعلم أيضاً أن الله سبحانه وتعالى فوق ما يتخيله إنسان، وهذه قاعدة عامة لو طبقها المسلم في كل صفة لسلم له دينه، ولأنصف في باب الأسماء والصفات.
فعليه أن يعتقد أن الله عز وجل فوق خياله، وأن أهل البدع ما وقعوا في بدعتهم إلا من هذا الباب، وأن حسن النية لا يدل على صلاح العمل، فمن أراد تنزيهاً لله وتعظيماً له بمعنىً فاسد فإن ذلك لا يغنيه من الحق شيئاً، ولذلك بشر المريسي عليه لعنة الله، أراد تعظيم الله سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل مع عباده في كل مكان، فدفعه ذلك المعنى وذلك التعظيم إلى مخالفة الصريح مما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل!! أي: أن الله عز وجل مع عبده في علو وفي دنو، والذي حمله على ذلك تنزيه الله عز وجل، وهذا من أعظم مداخل الشيطان.
ولذلك الله سبحانه وتعالى بين ضلال كفار قريش ومروقهم من الحق إلى الباطل وثبوت كفرهم وضلالهم، مع أن الله عز وجل وصفهم بقوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] ، فاعتقاد الإنسان وظنه سلامة ما في قلبه بهذا الفعل وصلاح نيته لا يدل على صلاح العمل، فلو دل على صلاح العمل لدل على نجاة وصلاح كفار قريش، ولما كفروا وخرجوا من الإسلام لأنهم أرادوا بذلك التقرب من الله عز وجل وإحساناً.
يقول: [ بلا كيف ] : والمراد بالكيف: هو السؤال عن الكيفية، ومعناه: هو السؤال بكيف؟ فتقول: كيف ينزل، كيف يتجلى، وكيف يرى وكيف يسمع وكيف يبصر؟! هذا السؤال بدعة، ولذلك قد جاء المنع من ذلك عن السلف، ويكفي في ذلك عدم وروده عن الصحابة بل عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الكيف ينافي قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وأن الله عز وجل لا تدركه الأبصار، ولا تدرك حقيقته العقول، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في هذه الدنيا، ولذلك قال المصنف هنا: [ بلا كيف ] ، أي: أن التكييف محال، فمن سأل بكيف فإنه يريد السؤال عن الحال، والسؤال كذلك عن المثلية والنظير، وهذه منتفية عن الله سبحانه وتعالى.
ولذلك قد ثبت عن ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك عليه رحمة الله أنه سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وهذا مروي عن أم سلمة كما رواه اللالكائي وغيره ولكنه معلول، واشتهر عن الإمام مالك عليه رحمة الله، أنه سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، قال: وما أراك إلا رجلاً مخاصماً فأمر به فأخرج.
ولذلك يجب على المتبع والموحد أن يتجنب السؤال في أمثال هذه المسائل، وأي مسألة مولدة في هذا الباب لم تثبت في الكتاب والسنة يجب الإحجام عنها، وأي سائل يسأل عن ذلك يجب أن يزجر؛ لأن ذلك يجرئ على غيره، فإن الإنسان يدفعه ذلك إلى الإكثار والسؤال عن كل صفة، وإخراج صفة على صفة أخرى من باب اللزوم، وهذا مما ضل فيه أهل البدع.
قال: [ جل الواحد المتمدح ] : والواحد أي: هو الفرد، ولذلك من أسماء الله عز وجل: الواحد، يقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، [ المتمدح ]، أي: الممدوح بجميع صفات المحامد، فلله سبحانه وتعالى الكمال المطلق في صفاته كلها، وكأن المصنف يريد هنا أن لله عز وجل الكمال في صفاته كلها، وأن إثبات الكمال لا يلزم منه إثبات الكيفية، وأن إثبات الكمال من غير كيفية، من علامات الكمال أيضاً لله عز وجل، ومن علامات النقص للإنسان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه العقول، ولا تحيط به الأبصار، وأنه سبحانه محيط بكل شيء.
[ إلى طبق الدنيا يمن بفضلهفتفرج أبواب السماء وتفتح ] .
يقول هنا: [ إلى طبق الدنيا ] : السماء تسمى: طبق، وإنما سميت السماء: سماءً لعلوها، ولذلك تقول العرب: كل ما علاك سماك، ويسمى الجو: سماء، والسحاب: سماء، وقد وصف الله عز وجل الطير أنها: فِي جَوِّ السَّمَاءِ [النحل:79]، وكذلك يسمى السقف: سماء لعلوه وارتفاعه، يقال: سما فلان سمواً إذا ارتفع وعلا عن غيره لمكانته ومنزلته، فهي تسمى السماء من هذا الوجه، وتسمى طبقاً أيضاً؛ لأن السماء طباقاً كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
[ إلى طبق الدنيا ] ، أي: مما كان قريباً من الدنيا وهي السماء الدنيا.
[ يمن بفضله ] : أراد بذلك أن يبين بقوله: [ يمن بفضله ] : أن نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا منةً لعباده ورحمةً بهم لا لحاجة ونقص كما تقدم، وأن ذلك من الفضل الذي أراده الله سبحانه وتعالى لعباده، وأن الله لا يريد بذلك سماع شكوى وسماع دعاء ونحو ذلك، ولكنه رحمةً بعباده وفضلاً ومنة.
قال: [ فتفرج أبواب السماء وتفتح ] : السماء لها أبواب، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة منها:
ما جاء في الصحيحين من حديث أنس : أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان معه جبريل استفتح له أبواب السماء، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما عرج به جبريل إلى السماء كان يستفتح له كل سماء، فيقول له الملائكة: من؟ فيقول: جبريل، فتقول: هل معك من أحد؟ فيقول: محمد، فيفتح له، وهذا يدل على أن السماء حسية حقيقية، وأنها مغلقة ولها أبواب.
[ يقول: ألا مستغفر يلق غافراًومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح ] .
وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله كما في الصحيح: ( إذا مضى ثلث الليل ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له؟ ) ، فالله عز وجل يغفر لعباده في هذا الموضع ما لا يغفره في غيره، وذلك لفضل الزمان، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى من يقوم الليل، ولذلك قد ذهب جماعة من العلماء بل ذهب جماهيرهم إلى أن أفضل صلاة بعد الفريضة هي قيام الليل، وأفضل قيام الليل صلاة الوتر، وقد أقسم الله عز وجل بها، والله سبحانه وتعالى إنما شرع الوتر؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الوتر.
يقول: [ ألا مستغفر يلق غافراً ] : وهذا أراد به المصنف رحمه الله المعنى، وإلا فالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له؟ ) ، لا يدل هذا على أن الله عز وجل لا يغفر لعباده في غير هذا الموضع، بل الله عز وجل يغفر لمن تاب، وباب التوبة مفتوح، لكن الله عز وجل في هذا الوقت أقرب من غيره، فيجب على المسلم أن يتعرض لنفحات الرحمة التي يقبل الله عز وجل فيها لعباده.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) ، وليس المراد بذلك القرب الحسي ولكنه الاستجابة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى مفسراً لهذا المعنى بقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ، تفسيره: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ، فهذا هو تفسير القرب: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وقد ضل في هذا الباب من ضل من الجهمية الذين قالوا: إن المراد بذلك أن الله عز وجل في كل مكان، بل حملهم ذلك على أن يقولوا: إن الله سبحانه وتعالى حال بعباده، وأرادوا بذلك تنزيهاً، فقالوا: لا ينبغي أن يخلو منه مكان، وجعلوه سبحانه وتعالى حالا في عباده، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.
بل قال غلاتهم: إن العابدين ما عبدوا إلا الله، ولذلك حار بعضهم فأنشد قائلاً:
العبد رب والرب عبد فيا ليت شعري من المكلف
واستدلوا ببعض الظواهر من القرآن كقول الله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] ، قالوا: قضى، والقضاء هو القدر، فيدل على أن الله قدر، ولا يكون إلا ما قدر، وذلك أن من عبد الشجر والحجر والوثن والصنم ما عبد إلا الله؛ لأن الله قضى ولا يكون إلا قضاؤه، ونسوا أن القضاء في كلام الله سبحانه وتعالى على معنيين: بمعنى القضاء والقدر، وبمعنى الأمر، ولذلك ثبت عن مجاهد بن جبر و عبد الله بن عباس عند قوله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23] ، قالا: أمر ووصى، وجاء أيضاً عن عبد الله بن مسعود .
فلما سلموا لعقولهم التأويل وابتعدوا عن تفسير السلف ضلوا وانحرفوا، وقالوا: قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام حينما قابل المشركين: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] ، قالوا: فالله هو الرامي، وهو القائم، وهو الجالس، وهو في عباده! ولذلك ضلوا وانحرفوا في الباب بهذا المعنى، ونسوا أن الله عز وجل قد أثبت الرمي بقوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17] ، إذاً: هو رمى، ولكن الله رمى، أي: أعان وسدد .
وكذلك في حديث أبي هريرة في البخاري : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يقول الله جل وعلا: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ) ، قالوا: وذلك أن الإنسان يتحرك بالله سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل حال فيه، وهذا هو مذهب الاتحادية والحلولية، قالوا: فالله عز وجل حال ومتحد بخلقه، وهذا المعنى الكفري هو الذي ذهب إليه غلاة المتصوفة في هذا العصر الذين يرون أن الله عز وجل يحل في ذوات الأولياء، وهؤلاء وإن كانوا قد كفروا بقولهم ذلك إلا أنهم أخف كفراً ممن قال: إن الله عز وجل يحل في كل مكان كما ذهب إلى ذلك الجهمية الذين يقولون: إن الله عز وجل يحل في كل شيء، حتى قالوا: إنه يحل في النجاسات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل قال بعضهم: ما في الجبة إلا الله! أي: أن الله عز وجل فيها، يستدلون بظواهر النصوص، كقوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به ) .
وهذا باطل من وجهين:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ) ، إذاً: قبل أن يتقرب العبد فالله عز وجل ليس حالاً فيه، وعلى هذا المعنى فالله عز وجل ليس حالاً إلا في الولي، فلماذا تعممون؟
الوجه الثاني: كذلك أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) ، ما معناه؟ معناه قال: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش، أي: بعون الله، والباء هنا للاستعانة، أي: أن الله عز وجل يسدده ويوفقه إلى الخير، فالله عز وجل إذاً قد أثبت لعبده فعلاً وأثبت لعبده مشيئة وقدرة، لكنها بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، والمراد بذلك هو الإلهام والتسديد، وهذا لله سبحانه وتعالى خاصة، ولذلك أثبت لنبيه عليه الصلاة والسلام الرمي، قال: وَمَا رَمَيْتَ [الأنفال:17] ، أي: الإصابة والتسديد، إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17] : رميت فعلاً من جهة الفعل، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] ، أي: سدد ووفق وصوب الرمي، فللعبد فعل ومشيئة لكنها بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] .
فللعبد مشيئة خلافاً لما ذهب إليه الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله، فكل ما يفعله مأمور به، وليس له مشيئة مطلقاً، وقالوا: إن الإنسان من جهة فعله كالميت بيد الغاسل، وهذا قد قال به بعض أهل البدع وضلوا في ذلك.
يقول: [ ألا مستغفر يلق غافراً ] : المستغفر: هو من يطلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لي، أو يسأل الله عز وجل التوبة، والمراد بالغفران: هو ستر الذنب، ولذلك يسمى: المغفر مغفراً؛ وذلك أنه يستر الرأس حال الحرب، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر، لأجل أن يغطيه من أن يصاب، وكذلك الإنسان يسأل الله عز وجل المغفرة، وهي ستر الذنب، وقد استدل بهذا المعنى من قال من السلف: أن الاستغفار لا يعني محو الذنوب من الصحيفة، ولكنها تستر وتغطى، قالوا: فمن استغفر من ذنبه فإنه يسأل ويقرر به يوم القيامة لكنه لا يعذب به، فيقال: فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا لكن الله عز وجل لا يعذبه بذلك، وقد روي هذا عن غير واحد من السلف كـالحسن البصري وغيره.
والذي عليه جمهور العلماء: أنها تمحى، ولذلك قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الإسلام يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، والحج يجب ما قبله ) ، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح الإمام مسلم عليه رحمة الله.
والمستغفر حينما يستغفر الله عز وجل من ذنبه، فإن كان صادقاً في توبته منيباً عازماً على عدم الرجوع، فإن الله عز وجل يغفر له ذلك الذنب، شريطة أن يكون ذلك الذنب من حقوق الله عز وجل لا من حقوق الناس، أما حقوق الآدميين فلا تغفر وهي خارجة من المغفرة، فالديون والتعدي على الناس بدمائهم وأعراضهم وأجسامهم لا يغفر للإنسان إلا بحالين:
الحالة الأولى: بإعادة الحقوق إلى أهلها.
والحالة الثانية: بالقصاص إن كان مما يكون فيه القصاص بالدماء والجروح.
أما ما عدى ذلك فلا تذهب إلا بالاستحلال، وهو أن يتحلل الإنسان من صاحب الحق سواءً كان مالاً أو دماً، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن)، وهذا قسم: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها ) ، يعني: في الدنيا، ( أو ليقتصن الله يوم القيامة من الشاة القرناء للشاة الجماء ) ، وهذا غاية في العدل والإنصاف، ولذلك من كمال عدل الله عز وجل أن حرم الظلم على عباده مطلقاً كما قال الله سبحانه وتعالى: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) .
[ يلق غافراً ] ، أي: ساتراً لذنبه وعيوبه، قال: [ ومستمنح ] ، أي: طالب خيرا، يطلب من الله عز وجل منحة من منح الدنيا أو الآخرة، فيطلب رزقه ومعاشه، وفي هذا إثبات كمال ربوبية الله عز وجل وألوهيته، ولذلك الدعاء لله عز وجل هو أعظم أنواع العبادة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان في السنن وغيرها: ( الدعاء هو العبادة ) ، فمن دعا الله عز وجل فقد أكمل العبادة لله سبحانه وتعالى، لأن من سأل الله عز وجل ساجداً أو رفع يديه، فهو ضمناً يثبت أن الله عز وجل يسمعه، وأن الله يراه، وأن الله قادر على إعطائه سؤله فلا يسأل إلا القادر، فهو يثبت لله عز وجل ربوبيةً وألوهية وأسماءً وصفاتاً، ويثبت أن الله عز وجل يعلم ويسمع ويبصر مكانه، وأنه قادر على الإجابة، ولذلك كان الدعاء من أعظم أنواع العبادة، حتى جعله النبي عليه الصلاة والسلام العبادة كلها بقوله: ( الدعاء هو العبادة ) .
وقد جاء في السنن تعظيم هذه العبادة، وأن الله عز وجل إن لم يسأل يغضب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر المسألة لله سبحانه وتعالى لأمور الدنيا والآخرة، فإن الدعاء يتضمن عبادة الله عز وجل وإن كان من فضول الدنيا، ولكنه لا يجعل ذلك يغلب على أمر الآخرة، وذلك أنه يتضمن توحيداً لله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يحب أن يسأل.
قال: [ ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح ] : فيه إثبات أن الله عز وجل المتفرد بالرزق والخير، وكذلك ما جاء في هذا المعنى من الإحياء والإماتة والقدرة، وإنزال الغيث ونحو ذلك.
[ روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ].
يقول: [ روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ] : المراد بهذا هو نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، وقد ذكرنا أنه قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة منها حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي تقدم، وحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرها، بل جاء ذلك عن نحو عشرين من الصحابة، وقد صنف في هذا الباب الأئمة عليهم رحمة الله تعالى، رداً على أهل البدع والضلال، الذين نفوا نزول الله سبحانه وتعالى، فممن صنف في هذا الإمام ابن النحاس عليه رحمة الله، وصنف في ذلك يحيى بن عمر الكناني ، وصنف في ذلك الإمام الدارقطني عليه رحمة الله كتاب: الرؤية وكذلك كتاب: النزول، وقد فصل هذه المسألة بما لا مزيد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في رسالة سماها: شرح حديث النزول.
وقد ذكر السلف عليهم رحمة الله تعالى أن نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا متواتر، ولا أعلم أحداً من السلف من الصحابة والتابعين نفى نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا، وقد جاء نزول الله سبحانه وتعالى في بعض الأحاديث في أوقات وهو ضعيف، كنزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان، ولكن قد ثبت نزوله يوم عرفة، ونزول الله عز وجل في الثلث الأخير من الليل، وكذلك في الشطر الأخير من الليل منةً وفضلاً من الله سبحانه وتعالى.
قال: [ لا يرد حديثهم ] : مما يدل على أنهم أطبقوا على ذلك وهم أئمة ثقات، ويريد بذلك الصحابة عليهم رضوان الله تعالى والتابعين.
قال: [ ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ] ، أي: من كذب ما جاء عن السلف من الصحابة والتابعين وأجمعوا عليه، فإنه خاب وخسر ويستحق التقبيح والزجر والردع، فإذا أجمع الصحابة على شيء فلا يكون إلا حقاً، وإذا أجمعت الأمة وخاصةً السلف من الصحابة والتابعين على أمر فهو الإجماع الحق، ولذلك يقول الإمام أحمد عليه رحمة الله: الإجماع إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم تبع لهم .
فينبغي لطالب العلم أن يعتني بإجماع الصحابة وأن يضبطه، وأن يديم النظر فيه سواءً في مسائل الفقه أو مسائل الاعتقاد، بل حتى في مسائل السلوك، فإن إجماعهم حجة، وأي خلاف يطرأ بعد ذلك فهو خلاف مردود مهما كان قائله، وهم خير الأمة وأعلمهم بالله سبحانه وتعالى بعد أنبياء الله جل وعلا، ولذلك اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لفضلهم لأنهم أبر الأمة قلوباً وأزكاهم منزلة.
والمصنف عليه رحمة الله بين جلالتهم وفضلهم في أنهم لا يرد قولهم ولا يرد حديثهم حينما يخبرون عن الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه إما أنه لا يقال من باب الرأي وإما أنهم يروون عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيسندون ويحيلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
والصحابة عليهم رضوان الله تعالى كالنجوم في السماء يهتدى بها، فقد روى الإمام مسلم عليه رحمة الله في صحيحه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى مع أصحابه المغرب، ثم ذهب إلى داره ثم رجع إلى صلاة العشاء فوجدهم مكانهم، فقال عليه الصلاة والسلام: لا زلتم مكانكم؟ قالوا: نعم ننتظر الصلاة، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) ، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينقض أجلة الصحابة وكبراؤهم إلا وقد دبت الفتنة ووقعت الفرقة، وكلما مضت السنون في عصر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كلما زادت الفتنة والفرقة.
وذلك يدل على فضل هؤلاء الأخيار، وأنهم إنما فضلوا على غيرهم لا لأشخاصهم ولكن لقلوبهم، وأنهم عاينوا التنزيل وأبصروه، فكانوا أعلم الناس بالله بعد أنبياء الله سبحانه وتعالى، وهم أولى بالاتباع من غيرهم، فلا يكون فعل يفعله الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بدعة أبداً؛ وذلك أنهم خير السلف، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، فالعبرة ليست بالعمل الظاهر ولكن بعمل القلب.
فلا يتجرأ متجرئ على قول يفعله أحد من الصحابة أو يقول به أن يجعل فاعله أو قائله مبتدعاً، وإن كانت العبرة بالسنة والاقتداء بها، لكن هؤلاء لمنزلتهم وعلو مكانتهم وشرفهم وفضلهم، وأن الله عز وجل قد زكاهم في كتابه فرضي عنهم، وأخبر أنهم راضون عنه، وهذا الوصف لا يكون إلا لمن علت منزلته وارتفعت مكانته، وهو أن يوصف بأنه راض عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله جل وعلا: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] ، لمكانتهم ومنزلتهم عند الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الباب - أي: في باب الاعتقاد وباب الأسماء والصفات - لا حجة في قول أحد من الناس إلا في الكتاب والسنة وما ينقله الصحابة، وإنما قيد ذلك بأن لا يكون من قبيل الرأي، وإنما يكون من قبيل الوحي المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبين عليه رحمة الله أن أولئك لا يرد حديثهم، إما لصحبتهم، وإما لجلالتهم وفضلهم ومكانتهم وأنهم من جملة الثقات كأئمة التابعين، فلا يرد حديثهم حينئذ بكل حال، فمن خالفهم قد خاب، ومن كذبهم فإنه يستحق التقبيح والذم؛ لأنه بذلك قد خالف الكتاب والسنة، فإنهم خير حملة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) ، والمراد بالقرن في هذا الخبر ليس هو مائة سنة كما اصطلح عليه المؤرخون من المتأخرين، بل المراد بالقرن هنا هو حقبة زمنية، قيل: أنها عشرون سنة، وقيل: أنها ثلاثون، والصواب أنها عشرون سنة.
فالمراد بالقرن: ( خير القرون قرني ) ، أي: من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام، ( ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) ، فقد تزيد وقد تنقص عن ذلك، ولذلك يطلق بعض السلف الطبقة على العشر أو الخمس عشرة سنة كما روي ذلك عن عبد الله بن عباس ، وعن عكرمة مولى عبد الله بن عباس، وغيرهم من السلف.
ثم بعد بيان أن هؤلاء لمكانهم وفضلهم لا يردون حينما ينقلون الأخبار، وأن من خالفهم فإنه خائب وخاسر ومستحق للتقبيح، أراد أن يبين تفاوتهم في المنزلة والفضل.
[ وقل: إن خير الناس بعد محمد وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح ].
يقول: [ وقل: إن خير الناس بعد محمد وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح ].
وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم هما أبي بكر و عمر ، وإنما يسمى الوزير: وزيراً، لأنه يشد به الأزر، فإن هذين هما أعظم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤازرةً وشداً له، ولذلك كانا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته؛ وذلك أنهما قد بلغا درجة الصديقية فنصرا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان بحاجة إلى النصر، فـأبو بكر نصره وآزره بمكة فهو أول من آمن به من الشيوخ، وكان صاحبه في الغار، وذكره الله عز وجل إشارةً في كتابه العظيم وكفى بذلك منةً وفضلاً ومنقبة، وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في صلاة الجماعة حينما يمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقربه ويقدمه حتى في الذكر، فحينما يذهب يذهب هو و أبو بكر ، وإذا أراد أن يذكر أحداً من الصحابة و أبو بكر فيهم يقول: أبو بكر وفلان، وإن كان عمر فيهم قال: أبو بكر و عمر وفلان؛ وذلك لمكانتهم وفضلهم، ولذلك أجمع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على استحقاق أبي بكر لالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحابة عليهم رضوان الله تعالى كلهم عدول، ومن قدح فيهم فقد ضل وغوى وسلك طريق المبتدعة من النواصب والروافض الذين كانوا بين طرفي نقيض، فمن مادح لقوم وطاعن في قوم، ومنهج أهل السنة في هذا الباب أن يترضى عن الصحابة كلهم، وأن يمسك عما شجر بينهم من خلاف، وأن يعتقد أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الشجرة، وأن أفضل أهل الشجرة هم العشرة المبشرون بالجنة، وأن أفضل العشرة المبشرين بالجنة هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأن أفضل الخلفاء الراشدين هم أبو بكر و عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب .
ولذلك ثبت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، كما رواه ابن سعد و أبو نعيم في الحلية من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفضل فنقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ثم نمسك لا نفضل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وهذا دليل على الإقرار.
فمن طعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك علامة الهلاك، وهو بذلك مخالف عاص لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، والأحاديث في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تذكر، والحديث في هذا الباب بحاجة إلى مجلس كامل، لذا سوف نتكلم عليه في المجلس الآتي بإذن الله تعالى.
السؤال: يقول السائل هنا: هل يثاب الإنسان على ترك المعاصي، وهي قد لا تخطر بباله، كترك شرب الخمر والزنا ونحوه؟
الجواب: الإنسان لا يثاب على ترك المحرم إلا إن نوى واحتسب، أما إن تركه غفلةً أو عدم ذكر ونحو ذلك فإنه لا يثاب عليه؛ وذلك أن الإنسان لا يثاب إلا على النية، لكنه يرزق منع ورود الوزر عليه من غير نية، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) ، لكنه من باب عدم لحوق الإثم لا يلحق به الإثم لأنه تركه لغير الله، فمن فعل عبادة لغير الله كالصلاة والصيام والصدقة ونحو ذلك يأثم مع حبوط عمله ذلك، لكن من ترك المعصية لغير الله كمن خاف من فلان أن يراه وهو يشرب الخمر فترك الخمر فإنه لا يثاب على ذلك، وقد يلحقه الوزر إذا كان فيه هم للفعل، والغالب أن الله عز وجل لا يلحق الإثم عليه؛ لأن الله عز وجل قد جعل الوازع الطبعي في قدر الإنسان في ترك المحرمات كالوازع الشرعي، ولذلك يسوغ في حال النهي أن يذكر الإنسان بالشهامة والمروءة في ترك المحرمات، لكن في باب العبادات لا يكون إلا بالتذكير بالمشروع وبالأدلة من الكتاب والسنة.
السؤال: هل رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وفي الجنة لوجه الله سبحانه وتعالى فقط؟
الجواب: الإنسان يمسك عما زاد عن النص، فيثبت لله سبحانه وتعالى الرؤية وأن الله عز وجل يرى، أما أن يقال تفاصيل الرؤية وما يرى ونحو ذلك، فتقول جاء في النص أن الله عز وجل يرى وجهه، وما عدى ذلك فالإنسان يمسك عنه.
السؤال: يقول: هل السماء من الأشياء التي بناها الله عز وجل بيده أم بقدرته؟
الجواب: قدرة الله عز وجل عامة في كل شيء، لو أراد الله عز وجل أن يقول لشيء كن كان، ولكن الله سبحانه وتعالى يفعل أشياء ويخلق أشياء لحكمة بالغة، ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد جعل خزنة جهنم تسعة عشر، لماذا جعل العدد هكذا؟ فتنة لمن في قلبه مرض، فالله عز وجل لا يسأل عما يفعل، لكن الإنسان هو الذي يسأل، فيقال في مثل هذه الحال: إن الله عز وجل خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولا يسأل الإنسان: لماذا لم يخلقها في يوم أو في لحظة بكن فتكون، الله عز وجل خلق ذلك ولا يسأل عن ذلك، ويعلم أنه لحكمة بالغة، وخلق الله عز وجل السماوات بيده: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حائية ابن أبي داود [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net