إسلام ويب

للسنة النبوية مكانتها في التشريع، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، فعلى طالب العلم الذي يريد أن يكون متمكناً في علم الحديث أن يهتم بمعرفة السنة رواية ودراية، ومعرفة ما يعين على فهمها، ومعرفة أحوال الرجال الناقلين لها, وفهم علوم الآلة المتعلقة بها, وقبل ذلك كله الإخلاص لله تعالى في طلبها.

منزلة السنة النبوية في التشريع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن مما لا ريب فيه ولا شك أن الله جل وعلا قد أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحيين شريفين موصوفين بالإنزال، وكلاهما من الله جل وعلا، أنزل الله جل وعلا كتابه وأنزل سنته على رسوله عليه الصلاة والسلام، وأصبحت السنة وحياً يتلى، وهي موصوفة بذلك كما وصفها بهذا غير واحد من العلماء, كما نص على ذلك الشافعي عليه رحمة الله في كتابه الأم، وكذلك ابن حزم في كتابيه الإحكام, والمحلى، وغيرهم من أئمة الإسلام، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا قد قرن طاعة نبيه بطاعته في أكثر من ثلاثين موضعاً، وهذا يدل على تأكيد أهمية السنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء من لدنه، وإن ما جاء به هو من الله جل وعلا بواسطة جبريل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير كله من الله جل وعلا، وما كان من أفعاله عليه الصلاة والسلام فالأصل في ذلك أنه على التعبد، إلا لقرينة صارفة تصرف الفعل من التعبد إلى غيره، كأفعال الجبلة وأفعال العادة، وهذا لا بد له من صارف يعرف من الطبع أو يعرف من سبر الحال وقرائن الزمن التي احتفت برسول الله صلى الله عليه وسلم مما يشاركه في ذلك غيره من أهل عصره من أهل الكفر، وكذلك أهل الإيمان.

وهناك مسائل وفروع تتعلق بأفعاله ليس هذا محل بسطها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قسيمة للقرآن من جهة الاحتجاج، وهي من جهة الأصل مبينة ومفصلة للقرآن، ومعلوم أن ما جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بالقرآن أنه إما أن يكون بياناً لمجمل أو تقييداً لمطلق جاء إطلاقه في كلام الله جل وعلا، وإما أن يكون ذلك من المعاني الزائدة على كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا في الفروع، سواءً كان ذلك من فروع الأصول، أو كان من فروع الفروع، وإلا فالأصل أن أصول الفروع وأصول الديانة ومسائل الدين الكلية كلها قد وردت في كلام الله جل وعلا، كما أشار إلى هذا المعنى غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى وغيره.

الكلام على منزلة السنة ومكانتها مما يطول جداً، وهو أيضاً في المقام المعروف والمشهود؛ لكثرة النصوص المتظافرة في ذلك، وكذلك إطباق الأمة من السلف والخلف على أهمية السنة ومنزلتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين وأتباعهم، والأئمة الأربعة ومن جاء بعدهم من أئمة الإسلام كلهم يطبقون على منزلة السنة ومقامها، ولا يشكل هذا على أحد من أهل الإسلام قاطبة إلا أهل البدع والزيغ والضلال والزندقة الذين حادوا عن الصراط المستقيم، بل أمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان مكانة السنة حتى جعل السنة داخلة في عموم لفظ الكتاب حال إطلاقه، كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن خالد الجهني و أبي هريرة عليهما رضوان الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله )، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء ليس كله مما نص الله جل وعلا عليه في القرآن الكريم، مما يدل على أن الكتاب إذا أطلق يدخل فيه سائر الوحي من كلامه سبحانه وتعالى، وكذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مقدمات مهمة لطالب علم الحديث

إن العناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: ما اصطلح عليها العلماء بالحديث النبوي أو الأثر، وما جاء في كتب علوم الحديث من المترادفات في هذا المعنى كألفاظ الخبر وغير ذلك مما يطلقه العلماء ويريدون بذلك السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إن لهذه السنة مسائل ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها عند البداءة بمعرفة السنة وطرائقها.

تقسيم السنة من حيث الورود

من المعلوم عند أهل الإسلام قاطبة أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه العظيم، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالذكر المذكور في هذه الآية هو كلامه جل وعلا، وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها المتواتر الذي يدخل في أبواب المتواتر بنوعين: ما كان متواتراً من جهة المعنى، وما كان كذلك من جهة اللفظ.

وفيها ما هو دون ذلك من أخبار الآحاد على تقسيم العلماء، وما يلزمون من هذا التقسيم من فروع متعددة من أخبار اليقين والظن، أو ما كان يفيد علماً ضرورياً، أو ما كان يفيد علماً نظرياً، قالوا: وما أفاد علماً ضرورياً هو ما عرف من غير بحث ولا نظر، وما أفاد علماً ظنياً أو كان علماً على غلبة الظن أو غلبة اليقين ولكنه يثبت بالنظر، وهذا محل نظر وبحث، وليس هذا محل تسليم عند بعض أهل التحقيق، وذلك أن الأصوليين حينما يقسمون أمثال هذا التقسيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمون هذا التقسيم بلوازم لا يلتزم بها أهل السنة، كمسألة اليقين والظن، وأن الخبر المتواتر يفيد علماً يقينياً، وأن خبر الآحاد يفيد علماً ظنياً، ويقسمون الآحاد إلى أقسام متنوعة، قد يأتي الإشارة إليها في هذا الموضع، في هذا المجلس أو في غيره من المجالس، وقد تطرقنا إلى هذه المسألة في مجالس متعددة، وهو أن هذا التقسيم مما لا ثمرة له من جهة الصحة والضعف، وذلك أنه لا يمكن أن يتقرر في ذهن الإنسان أن الخبر يكون متواتراً، أو يفيد العلم اليقيني، أو يفيد العلم القطعي من جهة الثبوت، أو من جهة الدلالة إلا بعد النظر والتمحيص، وإذا قيل: إن هذا لا بد فيه من نظر وتمحيص علم أن أمثال هذه النظرات تنطبق على المتواتر وعلى الآحاد، كذلك على مسألة اليقين وعلى مسألة الظن، ثم إن هذا التقسيم قد أثمر جملة من المسائل التي نازع فيها أهل البدع أهل الحق؛ كمسألة عدم قبول أخبار الآحاد على مراتب متنوعة في رده، منهم من لا يقبله في مسائل أعلام الدين ومشهورها، ومنهم من لا يقبله في مسائل الاعتقاد ويقبله ما دون ذلك، ومنهم من لا يقبله على الإطلاق، ومن نظر في اصطلاحات الأئمة عليهم رحمة الله من المتقدمين وجد أن منهم من يطلق المتواتر ويريد بذلك ما تلقته الأمة بالقبول، ولو كان يرويه واحد عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هذه الإشارة موجودة في بعض كلام الإمام أحمد عليه رحمة الله.

هذا المجلس هو مقيد كما في عنوانه بمقدمات في علوم الحديث، والمقدمات متنوعة بحسب فروع هذا العلم، وكما لا يخفى فإنه ما من علم من علوم الشريعة إلا وله مقدمات متنوعة سواءً ما يتعلق بعلوم الآلة الموصلة إلى هذا العلم وهذا المعني به، سواءً ما يتعلق بأبواب التفسير، وكذلك أبواب الحديث، وكذلك أبواب لغة العرب، وغير ذلك من العلوم، فإنه ما من علم من العلوم إلا وله علم دراية وله علم رواية، وكذلك له علم آلة توصل إليه، وعلم الآلة الذي يوصل إليه يتشعب ويتنوع، ومن جهة الأصل فإن علوم الشريعة متداخلة، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب معرفة الباب الآخر، ولهذا قد تقرر عند العلماء الحذاق أنه لا يمكن أن يكون العالم بصيراً بعلوم الدين حاذقاً في سائر العلوم حتى يتبصر بعلوم الآلة، وكذلك يكون متبصراً ببقية العلوم الأخرى، فإن فيها تداخلاً، وإذا نظرنا إلى علم الحديث وجدنا أنه لا يمكن لطالب العلم أن يكون متمكناً في علم الحديث حتى يكون متمكناً في علم الرواية، وعلم الفقه، وعلم الآلة الموصلة إلى التفقه في الشريعة بما يسمى بالقواعد الفقهية والنظريات الفقهية، وكذلك الأصولية وغير ذلك، وأن يكون أيضاً متبصراً بعلوم القرآن بأنواعها، وأن يكون ضابطاً للمرويات الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في التفسير، وكذلك ما جاء في هذا المعنى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون أيضاً متبصراً بطرائق التفصيل عن السلف الصالح ومراتبهم في ذلك وطبقاتهم، ومعرفة بلدانهم, وأن يكون أيضاً عارفاً بمناهجهم بما يولون إليه في أبواب التفصيل، فإنه لا يوجد باب من الأبواب، إلا وله فئة من أهل العلم من أهل الاختصاص يتباينون من جهة العناية، كذلك من جهة اختصاصهم بالرواة الذين يأخذون عنهم، هذه الأبواب وهذه الطرق، وهذه المسالك، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب أن يتمكن في بقية الأبواب، على تباين أيضاً في جملة الأخذ في هذه الأبواب، فمن الأبواب ما يلزم أن يكون طالب العلم متمكناً فيه حتى يتمكن في الباب الآخر، ومنه ما لا يلزم منه إلا أن يأخذ الخطوط العريضة في هذا الباب حتى يكون متظفراً ببقية الأبواب، ولا يلزم أن يكون متمكناً فيه كما يأتي الإشارة إليه بإذن الله.

التلازم بين الرواية والدراية في علم الحديث

علم الحديث نوعان: علم رواية، وعلم دراية، وعلم الرواية وعلم الدراية بينهما تلازم لا ينفكان، ومن أراد أن يعتني بباب دون باب آخر فإنه يكون من أهل الاختصاص والتقليد فيه, ولا يكون من أهل الحذق والمعرفة، ومن نظر إلى نهج الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله وجد أنهم ينظرون إلى علوم الشريعة على أنها باب واحد، فإن التقسيم الطارئ عند المتأخرين لأبواب علوم الشريعة إلى ما يسمى بالفقه، وكذلك الحديث والتفسير، وكذلك العقائد وغير ذلك من علوم، في هذه العلوم يجد أن العلماء عليهم رحمة الله يقسمون هذه التقاسيم يريدون بذلك تيسيراً للوصول إلى الفهم العام، وإلا من جهة الأصل فهذه التقاسيم ما ولدت إلا في القرن الثالث، قيل: في أوله، وقيل: في أوسطه، ولكن من جهة التقليل إنما وجدت في أوساط القرن الثالث، ووجدت من جهة اللفظ عند بعض العلماء في أواخر القرن الثاني، لكن لم تكن كذلك في علم دراستهم لعلوم الشريعة على هذا التقسيم، ولم يكن حينئذٍ يفرق بين العالم أن هذا يكون من العالمين والعارفين في أبواب الفقه، وليس من العالمين بأبواب الحديث، وهذا عارف بأبواب الحديث، وليس بعارف بأبواب الفقه، أو هذا عالم بالتفسير ليس بعالم بغيره، وإن وجدت هذه الإطلاقات إلا أنهم يريدون بذلك أنهم من أهل العناية بهذا الباب مع وجود العلم بغير هذه الأبواب كعلوم الحديث، وعلوم الفقه.

التلازم بين علم الرواية وعلم الدراية لا بد أن يكون مستقراً لدى طلاب العلم، فإنه لا ينفك بحال على الإطلاق، ومن أراد أن يكون من أهل الاختصاص في علم السنة أو علم الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يطلب تقليداً، فهو يبحث أو يخرج من التقليد إلى تقليد آخر، وهذا هو النقص الطارئ عند كثير من المتأخرين، فمن أراد أن ينظر إلى كثير ممن يشار إليه بالبنان في علم من العلماء المتأخرين، يجد أنهم أهل اختصاص، وكأنهم قسموا الشريعة إلى عدة أقسام، فجعلوا الفقه لا يمكن أن يستوعب علم الحديث، وجعلوا علم الحديث لا يمكن أن يستوعب علم الفقه، ومن كان حاذقاً في علم الحديث أو علم العلل فلا يمكن أن يشرك علمه في الحديث بعلم الفقه، فيكون حينئذٍ فتاواه في أبواب الفقه يسيرة، فلم يكن حينئذٍ قد أفاد في علم الرواية أو كذلك لم يفد بعلم التفسير شيئاً، فأصبح لدى المتلقين عنه قصور في هذا الباب، كذلك في أبواب الفقه ممن يقوم بأهل المعرفة بأبواب القياس والرأي والنظر، ولكنه يكون مقللاً أيضاً في أبواب الحديث، وحينئذٍ لا يخرج عن تقليد من صحيح هذا الحديث أو ضعفه، فإن ضعفه غيره خرج إلى حديث آخر صححه، وإن صحح ذلك الحديث رجل آخر وقع في الاضطراب، ولهذا نجد أن الفقه إذا تجرد عن علم الحديث يكون شبيهاً بالرأي المحض الذي يورد لدى الإنسان تقليداً فيتقلب من تقليد إلى تقليد، فإنه لا يلتزم بكثير من المواضع الالتزامات التي ينبغي أن يلتزمها في نظائر هذه المسألة في بقية أبواب الدين.

أهمية معرفة طالب العلم بعلم الحديث دراية

وكما لا يخفى فإن الدراسة المهمة لعلم الحديث: أن يكون طالب العلم قارناً لجميع العلوم في هذا العلم، وكما تقدم الإشارة إليه أن علم الحديث على نوعين: علم رواية, وعلم دراية، وعلم دراية إذا أردنا أن نتوسع في معناه والمراد به فهو فقه المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقه المروي أن يكون طالب العلم عارفاً بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فهم، وهذا الفهم لا يمكن أن يتلقاه طالب العلم إلا عن غيره، فلا يمكن أن يكتفي بمعنى جديد قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر إلى قواميس اللغة المجردة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم, كما جاء في البخاري ، قال: ( بعثت بجوامع الكلم )، وهذا كما أنه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، فإن كلام الله جل وعلا هو أجمع وأوسع.

ولهذا يقول أهل الفقه والنظر والدراية في علم الأصول: إن كلام الله جل وعلا غائي، أي: أنه يبلغ الغايات من جهة استيعاب المعاني بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها غائية ووسطية، أي: أنها ترد على جميع معاني الألفاظ الكلية، ومعلوم أن الألفاظ الكلية هي ألفاظ قليلة تشمل معاني كثيرة بخلاف الألفاظ التفصيلية، وهذا ما يسميه العلماء في أبواب تفسير القرآن: الألفاظ الكليات، وكذلك ما جاء بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الكلية، أو ما يسمى بجوامع الكلم.

إذاً: الأصل في القرآن أنه كلي يشمل كثيراً من المعاني الواردة في لغة العرب، والسنة تفصل ذلك مما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين المطلق والمقيد، وألا يتجرد بالأخذ بتمرير المطلق على إطلاقه، وتنحية المقيد، أو يجعل قاعدة لديه مطردة بكل حال، كمسألة أن النص لو تعارض مع نص عام ببعض أجزائه بتقييده، أو بيانه ونحو ذلك، فإنه يكون ناسخاً له، فهذا نوع من القصور، فلا بد من استيعاب جميع قواعد الدين حتى يسلم الإنسان في الدين ولا يقع حينئذٍ في التناقض والتضاد، فإنه إذا تجرد عن معرفة الرواية والدراية على طرائق الأئمة يقع في الحيرة في كثير من الأبواب، وإن استوعب هذين البابين وسلك في ذلك نهج الأئمة عليهم رحمة الله في استيعاب الفقه ومعرفة كيف يتلقى فإنه حينئذٍ يكون حاذقاً في الفقه, بصيراً كذلك في أبواب النقد، وينبغي أيضاً أن يعلم أن أبواب الرواية -وهي طرائق التحديد أو معرفة أحوال الأسانيد المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن السلف الصالح- لها أيضاً أبواب متنوعة، ومن هذه الأبواب: علم الرجال، ومن هذه الأبواب: علم ما يسمى بعلم العلل، ومن هذه الأبواب أيضاً ما يسمى بعلم قواعد الحديث أو علوم الحديث، وهذه أبواب متداخلة تتباين من جهة التفصيل، وبينها تداخل، فلا يمكن أن يكون طالب العلم حاذقاً في علم الرواية متبصراً في علم العلل حتى يكون شاملاً لأبواب الرواية هذه مع الاقتران أيضاً بأبواب الدراية، فإن جمع بين الرواية بأنواعها، وكذلك الدراية بأنواعها كان من أهل الحذق، وإذا كان طالب العلم يقلد في معرفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زعم أنه يتحرر بمعرفة صحيح الحديث من ضعيفه، ولكنه لا يستطيع أن يستنبط معنى فقهياً لم يكن عند غيره، فالأصل الذي ينبغي أن ينطلق منه طالب العلم، ويكون حاضراً لديه: أن طالب العلم إذا لم يستطع أن يولد معنى جديداً لا يخالف غيره من السلف في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بطالب علم، وذلك أن طالب العلم إذا تجرد عن ذلك تجرد عن مسألة التحمل وإطالة النظر في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يعلم أنه يبالغ في التقليد.

وكثيراً ما يورد كثير من طلاب العلم مقولة, وهي: لا تقل بقول ليس لك فيه سلف، هذه الكلمة التي ينقلها طلاب العلم، وهي قد جاءت عن غير واحد من السلف كـسفيان الثوري وغيره، هي من جهة الإجمال صحيحة، ولكن من جهة التفصيل ينبغي أن يخرج منها شيء قد اتفق العلماء عليه من مسائل الاستنباط والتدليل، وأنه قد يرد عند بعض طلاب العلم من الاستنباط من المعاني مما لا يخالف قولاً للسلف الصالح، وأما لو استنبط معنى جديداً قد خالف ما كان عليه إجماع السلف الصالح فيقال حينئذٍ: إن هذا الاستنباط لا ينبغي أن يكون، وبه يعلم أن طرائق الاستنباط والاستدلال من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم باب واسع يستفيد منه طالب العلم في الترجيح في كثير من مسائل الدين سواءً المتعلقة في مورد النص في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الله جل وعلا، فإن كان ذلك مما ليس بمورد للنص فإنه يستفيد منه في موضع آخر، وكما تقدم الإشارة إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ومعنى جوامع الكلم: أن طالب العلم يستطيع أن يستفيد من كلامه في أبواب الصلاة في مسألة تتعلق بأبواب الزكاة، كذلك في أبواب الصيام وأبواب الحج، سواءً بما يسميه العلماء بالسبر؛ سبر الألفاظ حتى يستخرج منها طالب العلم طريقة للنبي عليه الصلاة والسلام في الاستدلال، أو كان مؤكداً لبعض الألفاظ العامة التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يسمى بالأمر هل هو على الوجوب أو النهي؟ هل هو على الكراهة أو على التحريم؟ على طرائق وقرائن هي متوسعة، قد يستطيع طالب العلم أن يولد من الألفاظ أو السبر الذي يسلكه في معرفة كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما لا يكون لغيره.

علم الجرح والتعديل

مسألة معرفة أبواب الرواية والعناية بذلك أقسام منها تقدم الإشارة إليه، ومنها معرفة الرجال، ويتفرع عن هذا معرفة ما يسمى بالجرح والتعديل، معرفة ألفاظ الجرح والتعديل، ومراتب كذلك الأئمة المعدلين، وطرائق هؤلاء الأئمة في نقلهم للرواة، كذلك معرفة المصنفات التي تصنف في هذا الباب.

كيفية الاستفادة من مصنفات الجرح والتعديل

وينبغي أن يعلم أن المصنفات في هذا الباب الذي يسمى بعلم الرجال هي على مراتب متنوعة بحسب طرائق الأئمة وقصدهم في التصنيف، هناك مصنفات صنفت للتعليم، منها ما هو بين من جهة العنوان، ومنها ما يعرف بالنظر، فما كان بيناً من جهة العنوان ككتب الضعفاء، كالضعفاء للعقيلي ، والضعفاء للنسائي , والضعفاء للبخاري ، وكذلك الكامل في الضعفاء لـابن عدي وغيرها من المصنفات, ومنها أيضاً ما هو مصنف للعلل، لكن لم يكن بيناً في عنوانه، وإنما يعرف بالسبر، سواءً كان في أبواب الرجال، أو كان كذلك أيضاً في أبواب إيراد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان في أبواب الرجال ككتاب الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، فإنه أورده في الأغلب لبيان حال الرواة المجروحين، وربما أوردوا جملة من المعدلين.

كذلك أيضاً كتاب التاريخ للإمام البخاري سواءً كان كتابه التاريخ الكبير أو الأوسط أو الصغير، قد أوردها البخاري من جهة الأصل للتأليف، وبيان تفردات الرواة، فما يذكر فيه البخاري عليه رحمة الله من الرواة في هذا الباب فإنه مظنة للجرح.

كذلك أيضاً ما يريده من الأحاديث في ترجمة هذا الراوي هو مظنة للتعديل، ولم يكن هذا ظاهراً في عنوان هذا الكتاب، كتاب التاريخ، لكنه من جهة النظر والسبر يعرف أنه قصد بذلك مواضع الظنة في الجرح، كذلك أيضاً ينبغي أن يعلم أن المصنفات منها ما هي مصنفات متقدمة، ومنها ما هي مصنفات متأخرة، وينبغي العناية بالمصنفات المتقدمة وتفضيلها على المتأخرة من وجوه متعددة، من هذه الوجوه أن الرجوع إلى ألفاظ الأئمة المتقدمين يفيد طالب العلم دراية وخبرة وعناية بطرائقهم في السياق، وكذلك في الكلام، وكذلك معرفة ما لا يتيسر للإنسان عند المتأخرين.

كذلك معرفة جلالة هؤلاء الأئمة في التصميم، مما لم يكن لغيرهم مع شح المصادر، فإنهم جمعوا هذه المصنفات في حال شح مصادر، وتفرق الرواة في البلدان، بخلاف المتأخرين الذين جمعوا هذه المصنفات فلديهم من مصنفات وبطون كتب متيسرة بين أيديهم، فقلبوا الأوراق، وألفوا بينها، فخرجوا بمصنفات عديدة في أبواب الرجال، بخلاف الكتب المتقدمة مثل: كتب التاريخ للبخاري ، وكذلك الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم والكامل لـابن عدي ، وكذلك الضعفاء للعقيلي ، وكتب النسائي وسؤالات الدارقطني ، والعلل للإمام أحمد وغيرها، فهذه المصنفات إنما جمعت ولم يكن ثمة مصادر، والرواة متفرقون في البلدان.

كيفية معرفة أحوال الرواة

ومعرفة الرواة عند الأئمة عليهم رحمة الله لا يمكن أن تتم من جهة الجرح والتعديل إلا في الحالتين:

الحالة الأولى: بمعرفة الراوي وبمعاينته والمخالطة، والمخالطة سواءً تكون بمعرفة حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو في سائر أمور دنياه، يعرف الصادق من الكاذب، فإذا عرف الصادق من الكاذب فهذا ييسر للناخب معرفة عدالة الراوي من غير عدالته، وذلك أن الإنسان إذا خالط الرجل بالبيع والشراء وخالطه كذلك بالمجاورة، أو أنه كان من جماعة مسجده ونحو ذلك فإنه يعرف بالسبر إذا عاشره سنوات هل هو ضابط للحديث وينقل الأخبار جيداً أو أنه مندفع؟ وربما أتى بحكاية وزاد عليها، وهذا ينقدح في أذهان الناس عن بعض الناس مع السبر وطول المخالطة، فيعرف أن فلاناً ضابط وفلاناً متحرٍ، أو فلان يلقي الكلام على عواهله، فيطلقون هذه الأوصاف بالمخالطة، وهذا يحتاج طول مخالطة وصبراً وتأنياً، وما هو أشد من ذلك هو أن يخالط الراوي أو يخالط المحدث ذلك الراوي مخالطة تعتني بعلم الحديث، أي أن يعتني بحديثه ويسمع منه كثيراً، ثم ينقل من ذلك بمعرفة كلام الرواة من أهل بلده، أو من أصحابه في ذلك الشيخ، هل خالفهم أو لم يخالفهم، فإن خالفهم فإنه يعلم أنه تفرد بأحاديث لم يأت بها هذا الراوي، والأمر الآخر الذي يتيسر للمتقدم والمتأخر هو أن يكون لدى الراوي مرويات هذا الراوي ويجمعها في جزء ثم يصدرها كاملة، وأن يقارنها بطبقته وكذلك معرفة شيوخه، وأن يقارنها أيضاً بالأصول من الكتاب والسنة، ويعرف ما تفرد به وما خالف غيره، فيعرف حينئذٍ أنه قد شذ أو انفرد أو وافق، فيعلم حينئذٍ أنه قد وافق أكثر الرواة، ويكون حينئذٍ هذا الراوي قد ضبط ما لم يضبطه غيره، فيستطيع طالب العلم المتأخر أن يصف الراوي بالثقة، وكذلك بالعدالة، وإن لم يجد ثمة نصاً، والعناية بالمصنفات المتقدمة كما تقدم الإشارة إليه مهم جداً في هذا الباب، ولباب آخر أدق، وهو أن العناية للمصنفات المتأخرة المجموعة في كلام الرواة يجتزئون كلام الأئمة الأوائل في الراوي، فيقولون: إن الإمام أحمد عليه رحمة الله قال في الراوي: إنه صدوق، أو قال: لا بأس به، أو قال: ضعيف، أو قال ثقة، هذه الكلمة جاءت في سياق طويل، أو في حكاية ونحو ذلك، الأئمة على سيبل الاختصار؛ لأنهم يجمعون كلام أحمد وغيره يجمعون هذه الألفاظ مجردة عن السياق، وهذا السياق مهم لطالب العلم، فربما كان التضعيف لأجل سياق معين، أو في حديث بخصوصه، فإن الأئمة حينما يجدون حديثاً من الأحاديث فيه راوٍ معتدل، أو راوٍ ثقة، أو متوسط، ولكن في هذا الموضع كان هذا الراوي ضعيفاً، ولكن لضعف هذا الراوي في هذا الحديث ويسئل عنه يقولون فيه: فلان ضعيف، ولكن عند الإطلاق والسؤال العام يقال: إنه ثقة أو صدوق.

إذاً: هذه اللفظة التي تذكر في كتب الرواة، أو كتب الرجال المتأخرة تؤخذ من سياقها، ولهذا يجد طالب العلم في بعض كتب الرجال بعض الخلاف عند بعض الأئمة، فيقول له: الإمام أحمد قد اضطرب كلامه في راوٍ من الروات، تارة يقول: صدوق، وتارة يقول: ضعيف، وتارة يقول: ثقة، وتارة يقول: لا بأس به، وهذا فيه نوع تضاد، ولو رجع إلى الأصول لوجد أن هذا في سياق وذاك في سياق، والأئمة في الأغلب كلامهم متوافق؛ لأنهم أهل حذق ودراية بحال الرواة والسبر لأحوالهم، فلا يطلقون الكلام جزافاً؛ لأنهم يعلمون أن هذا الأمر يتعلق بأمور الديانة والذب عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجرح والتعديل هو سلاح له حدان:

الحد الأول: أنك إذا وثقت الراوي الضعيف، يعني: أنك تقبل سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ضعيف، ثم أنك تصححها.

والحد الثاني: أنك تضعف راوياً ثقة في حال التضعيف فترد الناس عن الاحتجاج والتعبد بهذا الدين، وهذا رد لهذا الدين، وكلاهما خطر، والأئمة عليهم رحمة الله يستشعرون هذا الأمر، ولهذا يقل الاضطراب في كلام الأئمة لو رجع طالب العلم إلى الكتب الأولى في معرفة الجرح والتعديل، وأخذ منها.

اختلاف مناهج الأئمة في الجرح والتعديل

ثم إنه ينبغي لطالب العلم في أبواب الرجال أن يعلم أن للأئمة مناهج ومسالك، فمنهم من هو شديد الورع، لا يلقي الكلام جزافاً، بل إنه يتشدد جداً، وينقل كلام اللطيف الجارح الذي يعرفه من سبر كلامه، كطريقة الإمام البخاري عليه رحمة الله، وكذلك في بعض الأحيان نهج الإمام أحمد عليه رحمة الله، ومنهم من يشدد في العبارة كـشعبة بن الحجاج ، وكذلك كـأبي حاتم و أبي زرعة يشدون في العبارة على الرواة، ولو كان ضعفهم يسيراً، ولهذا يستطيع طالب العلم أن يأخذ موازنة أن لكل إمام طريقاً.

ومن الأئمة من يطلق بعض الألفاظ التي فيها نوع تعديل، ولكن لما كان كتابه كتاب تصنيف جمع الضعفاء والمتروكين أراد أن ينتشل هذا الضعيف الضعف المتوسط عن مستوى هذا البحر من الضعفاء ككتاب الكامل لـابن عدي وهو الكامل في الضعفاء، قد جمع فيه بحراً متلاطماً من الضعفاء والمتروكين وكذلك الكذابين ونحو ذلك، فإذا كان رجل فيه نوع اعتدال أراد أن يخرجه من ذلك، فيقول: إنه لا بأس به، وهو من جهة الأصل داخل في دائرة الضعف، فيقول: إنه قال: لا بأس به، رأيت الأئمة قد أطبقوا على أن هذا الراوي ضعيف، فيقول: إن ابن عدي قد قال: إنه لا بأس به، فيقال له: أين قال هذا؟ قال: في كتاب الكامل، وكتاب الكامل الغالب فيه أنه فيه المطروحين والمتروكين وهذا مترفع عنهم شيئاً، لكنه لا يخلو من ضعف.

فإطلاق ابن عدي لكلمة لا بأس تختلف عن غيره، كذلك كلام الأئمة عليهم رحمة الله في بعض السياقات على بعض الأحاديث كـابن معين عليه رحمة الله، قد يتكلم على حديث من الأحاديث في باب من الأبواب، فيطعن في هذا الراوي لضعف الحديث بسبب هذا الراوي، ولكن من جهة الأصل هذا الراوي ثقة وعدل، وذلك أن هذا الراوي مثلاً يروي مائة حديث، تسعون منها جيدة، وعشرة منها ضعيفة، فإذا أراد الإمام أن يعل هذا الحديث ويسأله سائل: ما علته؟ فيقول: فيه فلان ضعيف، يعني: أنه ضعيف في روايته لهذا الحديث لا يعني ضعفاً عاماً، فالرجوع للأصل في حال السياق مطلب مهم، كذلك لا بد لطالب العلم من الاستفادة من كتب الأئمة عليهم رحمة الله في أبواب الجرح والتعديل المتأخرة، أو الكتب المعاصرة، فيأخذها طالب العلم ويجعلها كالدليل إلى الكتب الأولى، وثمة كتب متينة في هذا الباب قد جمع فيها الأئمة، ومن أفضل وأمتن هذه الكتب المتأخرة للأئمة المتأخرين بعد عصر الرواية كتاب تهذيب الكمال للمزي عليه رحمة الله، وكذلك من الكتب المعتنية في أبواب الجرح كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وثمة كتب هي فروع عن هذه الكتب، وهي كثيرة من الكتب المختصرة، ولكن ينبغي لطالب العلم عند البداية أن يهتم عناية بالغة بكتب الأئمة الأوائل حتى يتوسع في هذا، ثم إذا ملك الآلة، وملك آلة التمييز فلا حرج عليه أن يرجع إلى المختصرات، عكس ما لا يقوله كثير من طلاب العلم، يقولون: أنا نعتمد على كلام بعض الأئمة المتأخرين؛ لأنا لا نملك الآلة، نقول: إن هذا فيه تباين، وذلك أن طالب العلم إذا قلد ابتداءً، خاصة في أبواب الرجال يصعب عليه أن يخرج من طور التقليد حتى يستمر على هذا النحو، ولو اجتهد ابتداءً في الرجوع إلى كلام الأئمة عليهم رحمة الله، وحاول أن يؤلف بينهم خاصة أن طالب العلم في بداية الأمر لا يكون ممن يتصدر، ولا يسمع قوله، ولا يقلد، ولا يفتي الناس، ولو أراد لم يتيسر له ذلك حتى يتمكن بالنظر في كلام الأئمة عليهم رحمة الله، ويتوسع ويكون حينئذٍ من أهل التمكن.

إذا توسع في معرفة كلام الأئمة وطرائقهم استطاع أن يرجع إلى المختصرات وأن يميز أن هذا المختصر قد أصاب أو لم يصب، أو أن هذا المختصر يدله إلى ما هو أوسع منه كلاماً، أو وجد ريبة في هذا اللفظ المجمل في هذه الكتب المختصرة، ونحو ذلك، فيكون حينئذٍ هذا كالكشاف الذي يوصل طالب العلم إلى ما هو أوسع من كلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في أبواب الجرح والتعديل.

كيفية التعامل مع قواعد العلوم الشرعية

ومن المهم أيضاً: أن يعلم طالب العلم أن باب الرواية كما أنه متعلق بأبواب الرجال فهو متعلق أيضاً بمسائل وقواعد مهمة، ويسميها العلماء بقواعد علوم الحديث، أو يسمونها مصطلح الحديث، مصطلح الحديث هو أشبه بالقواعد التي يأخذها طالب العلم حتى تكفيه مئونة البحث في أكثر المسائل، ولهذا الشريعة لو أراد طالب العلم أن يجعل لها قواعد لوجد أن جل الشريعة أو أكثر الشريعة لها قواعد في سائر أبوب الدين، فثمة قواعد للتفسير، وثمة قواعد في اللغة، وثمة قواعد في الفقه، وثمة قواعد في الحديث، وغير ذلك من أبواب العلوم، هذه القواعد قواعد تختلف من جهة ما يندرج تحتها، منها ما يصل إلى درجة الأغلبية، ومنها ما يصل إلى درجة التوسط بين الأغلب في هذه الأبواب، والتوسط في باب والاضمحلال أو العدم في باب دون باب، ولهذا هذه القواعد إذا أخذها طالب العلم على أنها مطردة يقع في الوهم والغلط، وربما صادم كثيراً من الأئمة في سائر أبواب العلم، ولهذا يجد طالب العلم أن كثيراً من المتفقهة بأبواب الفقه يخالفون كلام الأئمة الأوائل، لماذا؟ لأنهم أخذوا بهذه القواعد، كقاعدة مثلاً أن الأمر يقتضي الوجوب، أو قاعدة أن النهي يقتضي التحريم، هذه القاعدة لو أردنا أن ننظر إليها فيما يقول العلماء ويطلقونه نجد أنها أغلبية، ولكن ليس كل أمر يفيد وجوباً، وليس كل نهي يفيد تحريماً، إذاً كيف نخرج هذا ونفصل المتبقي من هذه القاعدة؟ نفصله بالنظر إلى قرائن الحال المحتفة بالدليل إلى عمل السلف، إلى فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ينظر أيضاً إلى فتاوى الأئمة عليهم رحمة الله، إلى أدلة هذا الباب المقترنة فيه، هذه المسائل يستطيع طالب العلم أن يخرج نفسه من الاطراد في القواعد العلمية في أبواب الفقه أو أبواب الحديث، أو ما يسمى بالقواعد العامة فيما يتعلق بالأصولية، أو النظريات أو الضوابط أو القواعد الفقهية، أو ما يسمى بقواعد الحديث، أو مصطلح الحديث وغير ذلك، يخرج من ذلك بالبحث والنظر والتقصي لجزئيات مسائل الدين.

وينبغي أن يعلم أن بعض القواعد التي يضعها العلماء في علوم الشريعة هي أيضاً محل تسليم أنها ليست أغلبية، بل هي متوسطة، منها ما يكون على هذه القاعدة شطراً، ومنها ما يكون خارج هذه القاعدة، هذا القدر من يميزه؟ يميزه طالب العلم المتمكن الذي آتاه الله عز وجل قوة السبر والنظر في مسائل الدين قدر الإمكان، وألا يسلم لهذه القواعد، ولكن ينبغي أن يعلم وأن يضع طالب العلم نصب عينيه قاعدة عريضة أنه لا يوجد قاعدة في الدين مطردة في كل حال في سائر أبواب الدين، في أبواب الفقه وأبواب التفسير وأبواب الحديث وغير ذلك، لا يوجد قاعدة مطردة إلا ويند عنها جملة من مسائل هذا العلم، من قال: إن اليقين لا يزول بالشك على الإطلاق، فهذا في أبواب الفقه غلط، ولكن يوجد مسائل تند عن هذه القاعدة، ومن قال مثلاً في أبواب الحديث: كل ضعيف حديثه ضعيف فهذا غلط، ومن قال كل ثقة حديثه صحيح فهذا غلط، ومن قال مثلاً: إن كل حديث منقطع ضعيف فهذا غلط، ولكن يقال: إن المسألة أغلبية، وثمة قواعد هي مجال أخذ ورد من الأئمة في سائر أبواب الدين فيما يتعلق بالتفسير والفقه والحديث، وهذا هو موضع الخلاف عند العلماء عليهم رحمة الله.

أبرز اهتمامات طالب علم الحديث

استيعاب طالب الحديث لأدلة الفقه

نحن نتكلم في أبواب الحديث، ولا نحب أن نتوسع في هذا فنخرج إلى أبواب الفقه، ولكن ينبغي أن نشير إلى أن علم الحديث لا يمكن أن يتجرد بحال لا رواية ولا دراية عن علم الفقه، ومن أراد أن يكون بصيراً بعلم الحديث فلا بد له من استيعاب الفقه استيعاباً تاماً، أن يكون عارفاً بأدلة الفقه مستحضراً لها، وهذه الأدلة من جهة الأصل أصولها خمسمائة حديث كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة، وأشار إلى هذا ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب إعلام الموقعين، قال: الدين خمسمائة حديث، وفرزها وتفصيلها خمسة آلاف، وقد أشار إلى هذا المعنى سفيان و عبد الرحمن بن مهدي ، وكذلك يحيى بن سعيد و شعبة بن الحجاج و الإمام أحمد و علي بن المديني وغيرهم من الأئمة.

أصول الدين وكذلك الفروع العامة هي قرابة الخمسة آلاف حديث، ولا بد أن يكون طالب العلم ضابطاً لها عارفاً للصحيح من الضعيف، ويكون أيضاً ملماً بمعرفة فقه الطبقات الأولى عارفاً بفقه الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، عارفاً أيضاً باختصاص وميزة البلدان بعضها عن بعض، عارفاً لميزة أهل الحجاز ومراتبهم، فيعرف مرتبة التلقي وأن فلاناً يأخذ الفقه من فلان، فنجد مثلاً من المكيين أن سفيان بن عيينة يأخذ من عمرو بن دينار ، و عمرو بن دينار يأخذ من سعيد ، و سعيد يأخذ من ابن عباس ، ونجد في مدرسة مثلاً المدينة أن الإمام مالكاً يأخذ من الجماعة كـابن شهاب الزهري و سعيد بن المسيب، ويأخذ عن سعيد و ربيعة و أبي الزناد وهؤلاء يأخذون من الفقهاء ممن كان قبلهم كـسالم و نافع وغيرهم، وهؤلاء يأخذون مثلاً من عبد الله بن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك ينظر إلى مدرسة الكوفيين وكذلك البصريين واليمانيين والعراقيين على وجه العموم والشاميين والخراسانيين ويعرف امتياز كل بلد عن بلد آخر، واختصاص كل أهل بلد في باب دون البلد الآخر، ثم إن أهل البلد منهم من يمتاز لباب دون آخر في الفتيا، وهذا يفيد طالب العلم في أبواب النقد الجرح والتعديل، يستطيع طالب العلم أن يميز أن هذا الراوي قد تفرد بهذا الحديث وهو ليس بمدني، وهذا ينبغي أن يكون في فقه المدنيين، فلما تركوه دل على ما ذكرته ولو كان ثقة، كذلك في أبواب المناسك أن يكون هناك حديث لم يروه مكي على الإطلاق، ولم يؤت به فهو دليل على نكارته، وغير ذلك من مسائل الدين مما يطول الكلام عليه، ولهذا أؤكد أن طالب علم الحديث إذا لم يقرن علم الحديث وعلم العلل بمعرفة الفقه، حقيقة على الطريقة السليمة التي تورد لطالب العلم تمكناً في أبواب الفقه حقاً فإنه حينئذٍ لا يخرج عن التقليد، وإن زعم أنه ملك آلة النقد أو الجرح والتعديل، أو أراد أن يحكم الحديث فهو مقلد بكل حال، ومن نظر إلى كثير من المحدثين في الأعصار المتأخرة وجد قلة قليلة بين هذين الأمرين، بين معرفة الرواية والدراية، والتوسع في الدراية، ومعرفة أيضاً مراتب أهل الفقه واختصاص البلدان، وذلك أن لهذا أثراً في المروي من جهة الصحة والضعف.

المعرفة التفصيلية لأحوال الرواة

وهذا أيضاً له أثر في معرفة طبقات الرواة، وهذا يلحق مسألتنا المتعلقة بمعرفة الرجال، فطالب العلم كما أنه يعرف مسألة في الإطلاق العام على الراوي هل هو ثقة، أو هل هو ضعيف؟ فلا بد من معرفته بالتفصيل، كثير من الناظرين في كلام الأئمة عليهم رحمة الله على راوٍ من الرواة يحرصون على استخلاص كلمة عامة على هذا الراوي هل هو ثقة أو ضعيف؟ وكأنه يريد نتيجة رجل في مروياته يروي خمسة آلاف حديث أو ألفين أو ثلاثة آلاف، أو مائة أو مائتين أو أكثر أو أقل من ذلك، يريد كلمة واحدة يقبل فيها الكل أو يرده، هذا غلط، وهذا لا يكون محدثاً وناقداً، عمر كامل لهذا الرجل قضاه ستين أو سبعين سنة، تقلب فيه بين الضبط وبين اختصاص ومعرفة أهل البلد، ودراية في باب من الأبواب لا يمكن أن تجمع هذه العناية في علم الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو علم الدراية أن تجمعها في عبارة واحدة، وهي الثقة أو الضعف، بل لا بد أن يبحث طالب العلم وإن أراد خبرة ودقة لمعرفة الحق من الصواب أن يحاول عكس هذه الطريقة السائدة، أن يشرح هذه الكلمة إلى عدة ألفاظ، إلى عدة معانٍ، هذه الكلمة الثقة يحاول أن يوجد عبارة أخرى أنه مثلاً ضعيف، أو متوسط الصدق، أو عدل، أو أن يجعل مراتب التعديل إلى ما هو أعلى من ذلك، فيجعله ضابطاً لروايته عن شيخ معين، وهو في دائرة الثقة حتى يعرف ما يتفرد به الراوي عن غيره، وأن يكون متميزاً في باب دون باب؛ لأنه لا يكاد يوجد راوٍ من الرواة إلا وله مخالفة، ولهذا يوجد للأئمة عليهم رحمة الله مصنفات في أبواب ما يسمى بالغرائب والأفراد، وقد جمع الإمام الدارقطني عليه رحمة الله في غرائب الإمام مالك ، وكذلك غرائب الإمام شعبة عليه رحمة الله يعني: التفردات، هذه التفردات منها ما هي من التلاميذ تفردوا بذلك عن الإمام مالك، هذا هو الأكثر، ومنها ما لا يحتمل فيه تفرد الكبار، ولا يقبل من ذلك؛ لأن الشريعة من جهة الأصل ما أنزلت حتى ينفرد بها راوٍ من الرواة خاصة إذا كان الجيل متأخراً، وذلك أن أحكام الشريعة جاءت حتى يتلقفها الصحابة ويعملوا بها، ويتلقفها التابعون ويعملوا بها، ويتلقفها بعض التابعين ويعملوا بذلك، لكن أن ينفرد تابع تابعي بسنة ولا توجد عن غيره، ولو كان ثقة وصاحب ديانة، فالقلب ينقبض من ذلك، كذلك أيضاً ينظر إلى مسألة مهمة وهي أن مسائل الدين أيضاً تتجزأ منها مسائل كلية، ومنها مسائل من أعلام المسائل لا بد أن تعرف، فمسائل الصلاة وهي عبادة واحدة منها ما لا يقبل أن يتفرد به راوٍ ولو كان ثقة كمسألة الجهر بالبسملة، النبي عليه الصلاة والسلام يصلي الصلوات الخمس للصحابة، والجهر بالبسملة مرتين في صلاة الفجر، ومرتين في المغرب، ومرتين في صلاة العشاء إلى غير ذلك من الصلوات الجهرية كصلاة الجمعة، وكذلك صلاة العيدين وغير ذلك، فهذا الجهر إذا لم ينقل ويشتهر ويروه الجماعة فلا عبرة به، أما أن يتفرد به راوٍ في بلد من البلدان عن راوٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك يوجس خيفة، ويعلم أن أمثال هذه الرواية قطعاً تكون غلطاً، ولا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه لا يمكن أن يجهلها أحد لحرصهم على هذا الأمر عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد يقول قائل: إن الجهر بالبسملة مسألة فرعية، نقول: نعم، فرعية، لكن اعلم أن هذا أمر لا بد أن ينقل وأمر مشهور بخلاف مسائل هي آكد من هذه المسألة من جهة الاعتقاد، ولكن قد تخفى على بعض الناس كمسائل الطلاق التي فيها تحليل وتحريم خروج، ومسائل مهمة قد ينفرد فيها راوٍ؛ لأن الطلاق لا يقع في اليوم، وإنما لو أراد الإنسان أن يجمع أصل المدينة وأراد أن يجمع الصلاة في عام واحد لوجد أن حالة أو حالتين أو ثلاث أو أربع أمر يسير قد ينفرد به الراوي دون غيره.

إذاً: مسائل الدين ينظر فيها إلى ذات المسألة، وينظر إلى بلد الراوي، وإلى ذات الراوي أيضاً الذي تفرد بهذه الرواية وينظر إلى قرائن مختلفة، وبهذا يظهر حقاً وصواباً طالب العلم الذي يستطيع أن يجعل جل الرواة على مراتب متنوعة، ومن الرواة من هو ثقة لا يستطيع طالب العلم أن يخرجهم من دائرة التوثيق، نقول: لا يخرجون من دائرة التوثيق، ولكن يخرجون من مرتبة واحدة من التوثيق إلى مراتب، قد يكون ثقة، ولكنه في راوٍ من الرواة ثقة ضابط، وثقة يقدم على غيره، قد لا تستفيد هذا في ذات الراوي، ولكن تستفيد في راوٍ آخر يخالفه، فإذا خالفه هذا تعلم أن هذا من أهل الاختصاص في هذا الراوي، فلا يوجد راوٍ من الرواة على مرتبة واحدة مطردة في كل حال، ولكن هذا يتباين من حال دون حال.

الاعتناء بعلم العلل

ومن المسائل المهمة في أبواب الرواية: أن يعتني طالب العلم بما يسمى بعلم العلل، وعلم العلل هو من العلوم الواسعة, وهو من جهة التفصيل قد يخرج عن أبواب الجرح والتعديل للراوي، الجرح والتعديل هو أشبه بالقواعد العامة المتعلقة بذات الراوي، ولكن علم العلل هو باب شامل لدقائق وقواعد النقد للمرويات، وهي متنوعة جداً، وأبواب واسعة تحتاج من طالب العلم أن يكون سابراً للمرويات، سابراً أيضاً لحال الرواة، كذلك معرفة الفقه له أثر في أبواب العلل، أن تعل الرواية أو لا تعل.

الطريقة الصحيحة لدراسة الفقه

وينبغي أن يعلم -وهذا من المهمات التي ينبغي أن يكون طالب العلم على عناية بها- أن دراسة الفقه ينبغي أن تكون بالطريقة الصحيحة، والطريقة الصحيحة أن يدرس الفقه من مصدر التلقي، ومصدر التلقي هو النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك ينزل إلى الصحابة، إلى التابعين، إلى أتباع التابعين كالأئمة الأربعة، ثم يتوسع طالب العلم بما شاء إلى أصله، وهذا يختلف فيه قدرات الناس.

الطريقة السائدة التي يسلكها كثير من طلاب العلم أنه يأخذ الفقه بطريقة عكسية، ولهذا يولد كثير من المسائل التي يخالفون فيها الدليل فيقفون حيارى، ثم يقع طالب العلم في رد الأدلة أو الرمي جزافاً بالترجيح، أو النفي ونحو ذلك، وهذا يوقع كثيراً من طلاب العلم في مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام، أو المجيء بأقوال لم يقل بها أحد.

وكثير من طلاب العلم حينما يتلقى علوم الشريعة ومسائل الفقه، فيتلقى مثلاً الفقه عن شيخه، ثم عن شيخ شيخه، في الغالب أنه يكسل عن الرجوع إلى القرون المفضلة التي تفسر هذا الدليل، أعلم الناس بالدليل بالوحي من القرون هم القرن الأول، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمران : ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )، هذه الخيرية من أجل ماذا؟ من أجل الاتباع، والاتباع لا يمكن أن يتحقق إلا وقد تولد الفهم في ذهن الإنسان للدليل، والدليل إذا فهمه الإنسان وطبقه تحققت فيه الخيرية، والدليل على هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، أما أن يكون جاهلاً وتتحقق به الخيرية فهذا من المحال، لهذا إذا عرفنا أن الخيرية في الصدر الأول هي على هذا النحو وهذا الفهم فينبغي العناية بكلامهم.

قد يقول قائل: إن هذا فيه تهوين لكلام المتأخرين؟ نقول: لا. بل فيه زيادة اهتمام بكلام الأئمة الأوائل، لا حرج أن يتوسع طالب العلم في فقه المتأخرين، لكن بعدما يعتني بفقه الأوائل، وذلك أنه يولد لطالب العلم بصيرة وعناية بكثير من المسائل.

من هذه المسائل التي يمثل لها في معرفة الدليل، ويستطيع طالب العلم أن يحكم فيها بوضوح إذا سلك هذه الطريقة، لو أراد طالب العلم أن يدرس مثلاً الإطلاقات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كمسألة الإقامة في الصلاة، يذكر بعض العلماء في المذاهب الأربعة مسألة وهي الترديد خلف الإقامة، هل يستحب ذلك أم لا؟ يأتي التفريع والاستحباب في ذلك، فمنهم من يقول: إن الترديد خلف الإقامة من المستحبات لعموم الإطلاق في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم المؤذن )، كذلك فإن الإقامة تسمى أذاناً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بين كل أذانين صلاة )، يعني: بين الأذان والإقامة، فهي داخلة في هذا العموم فيستحب، هذا هو الاستدلال بالعمومات، أخذ الدليل وأخذ يستدل بماذا؟ بقواعد موضوعة، هذه القواعد التي يأخذها طالب العلم، ويريد أن يحكمها على الحديث، لا يحكم الحديث وفهم السلف على هذه القواعد.

نقول: لو أن طالب العلم أخذ الدليل، وأرجع المسألة إلى الدليل، ثم الصحابة فالتابعين فأتباعهم ثم يتوسع، ويعرف الأقوال المخالفة للدليل عند للمتأخرين، لو نظرنا إلى الدليل الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، الدليل هو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، هذا دليل وهو أمر، نأتي حتى نفهم هذه المسألة إلى أفعال الصحابة، ونسبر أفعال الصحابة، نجد أن الإمام مالكاً عليه رحمة الله قد روى في كتابه الموطأ من حديث موسى بن طلحة أنه قال: رأيت عثمان عليه رضوان الله تعالى أمير المؤمنين وهو يسأل الناس والمؤذن يقيم للصلاة، يسأل الناس عن أحوالهم، السؤال عن الأحوال والإقامة فيها ترصد، فيها حدر أي: إسراع، والرجل يتحدث مع الناس وهو على منبره، هل يمكن أن يقال: إنه خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يوجد وقف للسؤال واغتنام هذه الفرصة بالسؤال، ألا يوجد فرصة أيضاً بعد الصلاة مما يدل على أن هذا ليس من مواضع الترجيح، به يعلم أن هذه المسألة المولدة في كتب الفقه لا أصل لها، كذلك أيضاً من هذه المسائل مسألة ما يسمى بوجوب الترديد خلف المؤذن، هل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب؟ هل هو واجب أم لا؟ لو نظرنا إلى هذا لوجدنا أنه قد جاء عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعمر وغيره، أنهم كانوا يتكلمون والمؤذن يؤذن، فهذا يحسم هذه المسألة وهذا في شهود الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قلنا بأن الأمر على الوجوب لكان مخالفة فيها إثم، وأمر محرم، ولا يمكن أن يصدر عن عمر وغيره في حضور الجماعة من الصحابة، وبه يعلم أن الأمر مستحب وليس على الوجوب، ونعلم أن بعض الأقوال المولدة عند بعض الفقهاء من المتأخرين أقوال اعتمدت على قواعد، وهي أقوال شاذة لا يعضدها دليل.

وكثير من الأقوال التي تنسب للمذاهب الفقهية الأربعة نجد أن أئمة المذاهب الأربعة لا يقولون بها؛ إما أنهم خالفوا صراحة، أو أنه لم يرد عنهم شيء من بحث هذه المسألة أصلاً، فوردت ولم تبحث، وإنما بحث ما وافق الدليل مما كان موافقاً لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا نعلم أن من أراد أن يتفقه في هذا الباب وأن يكون متبصراً فيه أن عليه أن يعرف الدليل الصحيح والضعيف، وأن يعرف المروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل باب، وأن يعرف ما جاء عن التابعين وأتباعهم والأئمة الأربعة، ثم بعد ذلك يتوسع وينظر في كلام شيوخه، ويعتضد بذلك، وأن يستأنس بهذه الأقوال، ونحن نجد في الأعصار المتأخرة كثيرا ًمن الأقوال الشاذة التي لا قائل لها، بسبب ماذا؟ بسبب أننا نأخذ الدليل مجرداً، ثم نأخذه بأفهامنا، أو نستدل بقواعد عامة، وبإمكاننا أن نأخذ بكلام خير القرون الذي يحسم كثيراً من مسائل الخلاف في هذا الباب.

وهذا له أثر في أبواب العلل كما تقدم الإشارة إليه، من هذه الآثار أنه لو كانت مسألة قد أطبق عليها السلف من الصحابة والتابعين وأجمعوا على ذلك، ودل دليل عن النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر الإسناد السلامة على ما يخالف الإجماع، وهو متأكد من جهة الأمر، فنعلم أن هذا الحديث منكر وضعيف، ولا يمكن أن يجمع الصحابة على خلافه، وهو حازم في هذا الأمر، وكذلك أيضاً ربما يكون بعض الأعمال الموقوفة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تعضد الأحاديث المروية التي فيها نوع ضعف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بشديد، خاصة إذا كان الراوي الذي روى المرفوع هو الذي جاء عنه الموقوف، والأمثلة على ذلك كثيرة، وليس هذا محل بسطها.

كذلك أن طالب العلم كما تقدم الإشارة إليه في أبواب الدراية يفرق بين البلدان، أعظم فقه وأنزه فقه على الإطلاق هو فقه الحجاز، مكة والمدينة، أعني في الصدر الأول، فقه المكيين والمدنيين متباين، المدنيون يقدمون على المكيين في سائر الأبواب إلا في أبواب المناسك يقدم المكيون على المدنيين، ولهذا إذا أردنا أن ننظر في مسألة من مسائل الدين في أبواب الفقه، وكذلك في أبواب العلل لو كان لدينا مسألة عامة يستنبط منها طالب العلم استدلالاً في مسألة من المسائل، نقول: دع الاستنباط وانظر إلى فقه السلف في ذلك، إن رأيتهم مجمعين فدع الاستنباط جانباً، فإن هذا شبيه بالنص، وقريب من الاستدلال إذا كان إجماعاً عن السلف الصالح في ذلك، وهم أيضاً على مراتب في هذا، كما أنه في أبواب الفقه، كذلك أيضاً في أبواب التفسير، منهم من هو من أهل الاختصاص في هذا، وهم ليسوا على طبقة معينة، نجد أن عبد الله بن مسعود من أصحابه من يعتني بالتفسير أكثر من غيره كـمسروق بن الأجدع وغيره، ونجد أن من أصحاب عبد الله بن عباس من يعتني بباب من الأبواب كـعكرمة مثلاً في أبواب أسباب النزول، ومنهم من يعتني بالمفردات كمجاهد بن جبر ، ومنهم من يعتني بلغة العرب، وهذا قد جاء عن جماعة من أصحاب عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى كـمجاهد بن جبر ، ومنهم من يعتني بمسائل أحكام الفقه الحلال والحرام، وهذا كما جاء عن سعيد بن جبير وغيره من التابعين، وهكذا كل صحابي له من أصحابه من هو أهل الاختصاص بباب، فيستطيع طالب العلم أن يرجح عند الاختلاف.

وهذا كما أنه يفيد طالب العلم في باب الترجيح عند الاختلاف فيما يتعلق بالفقه، كذلك أيضاً له أثر في أبواب التعليل.

ضرورة معرفة طالب علم الحديث لأحوال رجال الحديث

ومن المهمات أيضاً في أبواب الحديث ومعرفة ما يسمى بالجرح والتعديل: أن يعرف طالب العلم التفصيل الذي تقدم الإشارة إليه، كما أن على طالب العلم أن يعتني بمعرفة الخلاصة بالنسبة للراوي فعليه أن يعتني بمعرفة بلد كل راوٍ، وأن يعتني كذلك بمعرفة حاله قدر إمكانه، فما من راوٍ من الرواة إلا وله أحوال، لا يوجد راوٍ له حالة واحدة على الإطلاق، بل يوجد له أحوال، فقد يكون مكياً ثم انتقل إلى المدينة، سواءً فيما يتعلق بالبلدان، أو فيما يتعلق بالعناية بأبواب العلم، أو فيما يتعلق مثلاً بالملازمة، كأن يكون لازم شيخاً ولم يلازم الآخر، أو يكون معتنياً مثلاً بالبصريين ولم يكن معتنياً بالكوفيين، حتى الأئمة الكبار لا يوجد أحد لديه علم مطلق بالرواة، تجد الإمام أحمد عليه رحمة الله لا يعل مثلاً في فقه العراقيين، ولكن في فقه المصريين هناك من هو أمكن منه وأفقه، كذلك أيضاً في أبواب معاني الأحكام هناك من هو عارف بفقه أهل اليمن، ومن هو عالم في فقه مثلاً المدنيين وهناك من هو أعلم منه بفقه العراقيين أو الشاميين وغير ذلك، ولهذا طالب العلم إذا أراد أن ينظر في كتب الرجال عليه أن يميز حال الراوي بحسب البلد وبحسب المرتبة أيضاً التي هو عليها من جهة العدالة والضعف، كذلك أيضاً من جهة حاله مما تقلده وتولاه من ولاياته.

نجد أن بعض الأئمة يقول: فلان بن فلان الفلاني المصري، ثم المكي، أو يقول: فلان بن فلان القاضي ونحو ذلك، هذه الألفاظ لها أثر في الجرح والتعديل، فكونه قاضياً لها أثر من جهة التخفيف في روايته في أبواب القضاء، في أبواب المواريث، في أبواب الحدود، يخفف فيها ما لا يخفف في غيره، نجد مثلاً وخاصة في أبواب المجهولين حينما يوصف فلان بن فلان المؤذن، أو فلان بن فلان إمام مسجد كذا، هذه لها أثر في التعديل، ولهذا الإمام أحمد عليه رحمة الله لما سئل عن أبي مريم قال: قيم وخادم مسجد بالكوفة، ويريد بهذا أن الناس لا يجعلون شخصاً في هذا المكان إلا وقد أمنوه من جهة الديانة، وهذا نوع تعديل، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يستخرج من وصف هذا الراوي من العبارات ما تفيده في أبواب الجرح والتعديل وأن يجعل حديثه على مراتب متنوعة حتى يستطيع طالب العلم أن يستخلص منها مراتب لهذا الراوي، أو توثيقاً أو تضعيفاً.

أهمية الحفظ بالنسبة لطالب علم الحديث

من الأمور المهمة في هذا الباب ما يتعلق بمسألة حفظ المرويات، وحفظ المرويات لا بد لكل طالب علم من محفوظ، ولهذا من رام علماً ولم يحفظ فيه شيئاً فإنه لا يمكن أن يتحصل له مقصود، وهذا أمر معلوم، فلا بد لكل باب من أبواب العلم من متن يحفظه طالب العلم، سواءً ما يتعلق بعلم الحديث، أو علم الفقه والتفسير، وكذلك العقائد، كذلك أيضاً أن يكون له أكثر من محفوظ في علم الآلة، وفي ذات العلم بنفسه على الأقل، وأن يتنوع أيضاً بحسب حاجته لهذا الباب دون غيره.

ومن المهمات أيضاً في مسألة المحفوظ: أن يعلم أن المحفوظات ينبغي أن يحفظها طالب العلم بروية، لا بعجلة، ولهذا لا أميل إلى المحفوظ فيما يسمى بالدورات، أن تعقد دورات على شهر وشهرين، ثم يحفظ طالب العلم هذا المتن ثم ينصرف، أولاً بالتجربة أن ما يحفظه طالب العلم على قبيل العجلة فإنه يزول منه على العجلة أيضاً، وهذا مشاهد، وإنما الحفظ بالتروي كما كان السلف يصنعون ذلك، وهذا هو الأولى، وذلك لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا يورث تمكيناً للعلم في ذهن الإنسان إذا حفظ على التروي، يحفظ شيئاً ثم غداً شيئاً، ثم الذي يليه، والذي يليه، فيمر عليه حول فيحفظ ما يستطيع الإنسان أن يحفظه في دورة مثلاً في شهرين أو في ثلاثة، وذلك لأن الحفظ بالتروي أرسخ في ذهن الإنسان، والعجلة تورث الغلط من جهة المحفوظ، ومن جهة ضبط الألفاظ، كذلك ضبط المحفوظ من جهة استيعاب المادة على وجه العموم ورسوخها في ذهن الإنسان.

الأمر الآخر: أن ذلك مما يورث العجب عند كثير من طلاب العلم الذين ينخرطون في الدورات فيحفظون المتون، يورث ذلك عجباً في نفوسهم، مما يزهدهم في مجالس العلم، وهذا ملموس، ولهذا حذر من ذلك عبد الله بن عباس أن تحفظ المتون على ما يسمى بالعجلة، وعدم التروي.

قد روى الإمام أحمد و الخلال في كتابه السنة من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس ، ومن حديث أيضاً علي بن بذيمة علي بن الأصم أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى جاءه رجل فسأله قال: ما فعل الناس؟ قرأوا من القرآن كذا وكذا، فقال عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وكان غلاماً، قال: لو لم يفعلوا لكان خير، فنهره عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، قال عبد الله بن عباس : فخرجت إلى داري مهموماً كئيباً، ثم لما بلغتها ودخلت الدار قيل لي: إن أمير المؤمنين عند الباب، قال: فخرجت، فقال لي: ما الذي قلت؟ وما الذي أردت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما أردت إلا خيراً، ولكنه إذا أخذوا القرآن قال: ولا أحب أن يتسارعوا هذه المسارعة بالقرآن؛ فإنهم إذا أخذوا القرآن وأسرعوا فيه احتقوا، وإذا احتقوا اختصموا، فإذا اختصموا اختلفوا، وإذا اختلفوا اقتتلوا، فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: لله أبوك، ما زلت أكتمها حتى قلتها.

والمراد من هذا: أن المسارعة في حفظ المتون العلمية ولو كان قرآناً بالدورات مما لا أؤيده أن يحفظ بتروي، قدر الإمكان، ما يحفظه غيرك في شهرين أو ثلاثة احفظه في سنة، ولا تقل: فلان سبقني، وهذا بالتجربة، ولهذا ألمس من بعض طلاب العلم أنفة من حضور مجالس العلم، لماذا؟ لأنه حضر بضعة دورات وحفظ بعض الكتب، وظن أن العلم ما معه من محفوظ، وهذا غلط.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحفظ العلم بالتروي، شيئاً فشيئاً ولا يحفظه على عجل، وهذا إذا كان في القرآن كما قال ابن عباس ، قال: ما أحب أن يتسارعوا هذه المسارعة، وفي قوله: احتقوا. يعني: كل يدعي الحق؛ لأنه ظن أن العلم محفوظ، والعلم ليس هو المحفوظ فقط، بل هو الفهم، ولهذا إذا حفظ الإنسان وتروى وفهم شيئاً فشيئاً تمكن، متى يمتاز؟ يمتاز عند الوصول وراء النهاية، حينما ينتهي مما لديه ويفرغ من محفوظه يقارن بين الذي حفظ على عجلة، والذي حفظ بالتروي فيعلم ميزة هذا على هذا، أما العجلة في الحال فإن ذاك قد حفظ كما يقول عن نفسه ومن جهة الأصل لم يحفظ.

أهمية الإخلاص في طلب العلم

ولهذا كثير من الناس أو من طلاب العلم الذين يحفظون في الدورات، ويأخذون الإجازات فتراهم بعد عام أو عامين ولم يبق لديهم شيء، وكأن المراد من هذه الدورة أن يحصل على لقب حافظ لذلك المتن، ثم ينتهي، وهذا هو الجناية، وكذلك له أثر على نية الإنسان وإخلاصه، النية مطلب بها يوفق الإنسان ويعاني، فإذا حرم الإنسان النية حرم الخير كله، فيكون حينئذٍ طلبه للعلم لغير الله، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ( أول من تسعر بهم النار: القارئ الذي يقرأ القرآن, ويقال له: قرأت القرآن ليقال: قارئ )، وعامل النية يجهله كثير من الناس، بل قد يسلك الرياء بالإنسان مسالك خطيرة جداً حتى لو أودت بنفسه، وقد يجد الإنسان في نفسه همة وإقبالاً على باب من الأبواب، أو عمل من الأعمال، ويتفانى في ذلك ولو كان على إزهاق نفسه، ولهذا أول من تسعر بهم النار ثلاثة: قتيل في سبيل الله، وما الذي دفعه إلى ذلك؟ ليقال: جريء، ليقال: شجاع، والحديث في صحيح الإمام مسلم , ويعجب الإنسان من هذه الرواية، كيف يكون الإنسان يقتل نفسه ويزهق نفسه حتى يقال له بعد موته: جريء! ولكن لأن هذا من أمور الغيب أمور الباطل التي لا يذهب ملكها من نفوس الناس إلا صاحب الوحي المبلغ عن رب العالمين عليه الصلاة والسلام بإذن ربه، والأمر يعلمه الله جل وعلا حينما تبلى السرائر بين يديه، فإذا بليت السرائر وأخرج المكنون في صدور الناس، علم من طلب العلم لله عز وجل، ومن طلبه لغيره.

ومما ينبغي أن يعلم أيضاً أن طالب العلم إذا أخلى نفسه من العبادة وذكر الله عز وجل ينصرف وينقطع به الطريق، ولهذا لا بد أن يكون مع العلم إيمان، والإيمان هو الطاعات، ولهذا كثير من النكوص عن طريق الحق يلحق بكثير من السائرين بسبب أنهم طلبوا العلم وسعوا في تحصيله، وما سعوا في تحصيل الإيمان، تحصيل الإيمان هو العبادة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : لا يمكن أن يرتد من جمع بين الإيمان والعلم على الإطلاق، ومن المحال، وإذا روي في عالم أو صالح في ظاهره، أو طالب علم أنه نكص عن طريق الحق فليعلم أنه وجد فيه إيمان ولم يوجد لديه علم، أو وجد لديه علم ولم يوجد لديه إيمان، أما من جمع بين هذين الأمرين، فمن المحال أن ينتكس عن طريق الحق، ومن أعظم المثبتات في أبواب الإيمان هي عبادة السر، عبادة السر هي من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله جل وعلا، لماذا عبادة السر من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله؟ لأن الإنسان لا يمكن أن تشوب نيته شائبة على الإطلاق، فإن الإنسان إذا انفرد وخلا بنفسه وتعبد لله عز وجل وصلى، وذكر الله عز وجل كان مخلصاً لله جل وعلا تاماً.

ومن المحبطات في هذا الباب: أن الشيطان في تلبيسه لا يزال بالعبد يراوده حتى يخبر بما فعله في السر، فيكون حينئذٍ كأنه فعل في علانية، كذلك ما جاء في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله )، ذكر منهم عليه الصلاة والسلام: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، كثير من الناس إذا كان مع الجماعة يقرب من الحق، وهذا حال أكثر الناس وجل الناس إلا يسير، والنفوس تعظم، لهذا النبي عليه الصلاة والسلام حرص على الجماعة، وقال: ( عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )، لأن الشيطان من المنفرد أقرب من غيره، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل الجماعة في سائر الأبواب أفضل، في أبواب الصلوات، في أبواب العلم، في أبواب الجهاد، وغير ذلك، الجماعة أولى من الانفراد، ولكن إذا حصل للإنسان انفراد فذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فهذا لا يمكن أن يتحقق من شخص إلا بقلب أقبل على الله عز وجل بكليته؛ لأن الإنسان حينما تدمع عينه وحده فهذا دليل على أنه أقبل على الله عز وجل إقبالاً لا يمكن أن ترده شائبة تلحق في القلب، ولهذا ما يشكل على كثير من الناس حينما يقولون مسألة النية والرياء، علاجها عبادة السر، لا يمكن أن يكون لدى الإنسان عبادة سر ثم يشتكي من النية والرياء والسمعة أبداً على الإطلاق، والذين يشتكون في هذا لو سئلوا: هل لديك عبادة سر لا يعلمها أحد؟ لا زوجة ولا أخ ولا أخت، ولا والد، على الإطلاق، من يشتكي من هذا ليس لديهم من هذا رصيد على الإطلاق، ولهذا قد روى ابن عساكر وغيره عن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى أنه جاءه رجل فقال: إني أخاف النفاق على نفسي، وفي رواية قال: أسألك بالله هل أنا من المنافقين؟ فقال حذيفة بن اليمان : أتصلي إذا خلوت؟ وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم، قال: فما جعلك الله منافقاً، الطائع الحق الذي مخلص لله جل وعلا يفرح بالخلوة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يأتيه الرياء في حال خلوة، ففي داره زوجته وإخوانه وإخوته وذريته، وفي الطرقات والمساجد الناس، لكن من يفرح بالخلوة كما يفرح صاحب المعصية بخلوته عن أنظار الناس، إذا وجد خلوة استقبل القبلة وصلى، وكأنها فرصة يغتنمها فهذا صاحب الإخلاص والطاعة، ولكن الذي عمله كله على نية يعاني من ذلك عناءً شديداً في مسألة الرياء والسمعة، العناية في هذا الباب مطلب مهم جداً، لماذا؟ لأن كثيراً من السائرين في طلب العلم، وفي سائر أبواب الدين ينكصون عن ذلك بسبب هذا الأمر، بسبب عدم الإخلاص، وأعظم مثبت للإخلاص هو عبادة السر، أن يعتني الإنسان فيها عناية فائقة، في أبواب الصلاة، في الزكاة، في الصيام، في الصدقة، في الإحسان إلى الغير، أن يذهب الإنسان إلى مواضع الفقراء ويتصدق عليهم ولا يعلم بذلك أحد، أن يصوم في خلواته وفي سفره، إذا لم يصاحبه أحد يصوم لله عز وجل؛ لأن هذا أعظم أثراً في قلبه، وكذلك مما يثبت الإنسان على الحق.

كذلك مما يعينه على الإخلاص باب عظيم من أبواب الدين وهو ما يسمى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القوة في الحق، والجلادة فيه، لماذا؟ لأن هذا الرجل قد تجرد من حظ النفس، لا ينتظر مدحاً ولا ينتظر ذماً، فسلم قلبه من ذلك، وسلمت جوارحه أيضاً، فلا يرجو إلا ما عند الله، ولا يخاف إلا مما جعله الله جل وعلا لأهل عقابه.

أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل الاتباع، ومن أهل الإسناد والسنة، والإيمان والعلم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يأخذ بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

الأسئلة

كيفية دراسة علم العلل

السؤال: يقول هنا: كيف يدرس طالب العلم علم العلل؟ هل يكون بعد التوسع في علم المصطلح؟

الجواب: أولاً: ذكرنا أن العلوم متداخلة بعضها مع بعض، علم الفقه مع علم الحديث فكيف العلم بالواحد، فلا بد أن يشرك هذا بهذا، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتمرس، يتمرس في النقد والتعليل بذاته، ويعرض على أهل الاختصاص، فيقوم بتخريج الأحاديث وتطبيق القواعد الفقهية، وكذلك طرائق العلماء بالتعليم، ثم ينظر إلى النتيجة، ويخرج من ذلك جملة ومئات من الأحاديث حتى يتمكن.

سبب الوقوع في البدع والأقوال الشاذة

السؤال: يقول: ظهر عند المتأخرين بعض الأقوال الشاذة لعدم فقههم بأقوال خير القرون ومن تبعهم، أليس الأصل هو اتباع الحق بدليله؟

الجواب: أولاً: مسألة التقليد والأخذ عن الأشياء والنظر في المختصرات هذا هو موضع من مواضع الإشكال، وهذا ما أورث كثيراً من المتأخرين الوقوع في الشذوذ والمخالفات، ويظنون أنهم أخذوا الأدلة ثم حكموها، وبعض الناس يظن أن الأقوال الشاذة أو الابتداع هو في عدم الدليل، قد يكون لديه دليل لكنه خالف في جعل الأمر على هذا النحو، ولهذا تجد مثلاً بعض القواعد العامة حينما تطبق على دليل تأخذه عن مساره بخلاف ما كان عليه السلف، وهو قد اعتمد على قاعدة عامة هي أغلبية، ولكنها ليست مطردة في كل حال، فهذا نوع من المخالفة وإن دل عليه دليل.

الحكم على حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)

السؤال: يقول: ما صحة حديث: ( الجنة تحت أقدام الأمهات

الجواب: أصله في مسلم ( الزم رجليها فثم الجنة ).

وفي هذا القدر كفاية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مقدمة في علم الحديث للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net