اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أبواب السنة [2] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله: [ باب اجتناب البدع والجدل.
حدثنا سويد بن سعيد، وأحمد بن ثابت الجحدري، قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر بن محمد، عن جابر بن عبد الله، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ثم يقول: أما بعد، فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكان يقول: من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي ).
حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون المديني أبو عبيد، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما هما اثنتان: الكلام، والهدي، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآت، ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر، وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا وإياكم والكذب فإن الكذب لا يصلح بالجد ولا بالهزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه يقال للصادق: صدق وبر، ويقال للكاذب: كذب وفجر ) ].
وإنما كان الغالب في وصف الهداية أن يكون بالقول والفعل كان ما ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام هدي، وكذلك ما ينسب للأنبياء: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وأما ما يتعلق بكلام الله عز وجل فهو كلامه سبحانه وتعالى، وأمر الله عز وجل به نبيه، وأيضاً أمر به سائر الأمة، ولهذا عند الاجتماع يقال: كلام الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ ( ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله عز وجل كذاباً ).
حدثنا محمد بن خالد بن خداش، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، قال: حدثنا أيوب (ح)
وحدثنا أحمد بن ثابت الجحدري، ويحيى بن حكيم، قالا: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات [آل عمران:7] إلى قوله: (( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[آل عمران: 7]، فقال: يا عائشة، إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عناهم الله، فاحذروهم ) ].
الجدال هو المحاورة، والمحاورة هي الجدال، ولهذا لما ذكر الله عز وجل التي تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]، فسماها الله عز وجل محاورة، وهي من جهة الأصل مجادلة، وقد غلب في الاصطلاح جعل المجادلة شبيهة بالمناظرة التي تكون من طرفيين متساويين، والمحاورة هي دونه، ولكن المجادلة تؤدي إلى شيء من الخصومة، أو يكون بمناقشة الظواهر مع الإقرار بالبواطن، ولهذا ينهى عن الجدال، والحوار في ذلك أقرب إلى الحق من الجدال.
قال: [ حدثنا علي بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فضيل (ح)
وحدثنا حوثرة بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بشر، قالا: حدثنا حجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون [الزخرف:58] ).
حدثنا داود بن سليمان العسكري، قال: حدثنا محمد بن علي أبو هاشم بن أبي خداش الموصلي، قال: حدثنا محمد بن محصن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عبد الله بن الديلمي، عن حذيفة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً، ولا صلاةً، ولا صدقةً، ولا حجاً ولا عمرةً، ولا جهاداً، ولا صرفاً ولا عدلاً، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين ) ].
فسر الإمام أحمد رحمه الله: (لا يقبل الله لصاحب بدعة توبة)، قال: لا يوفق للتوبة؛ لأنه يفعل بدعته تديناً، ولهذا يتوب العاصي وقلما يتوب المبتدع، بل تتضخم لديه البدعة وتنمو.
قال: [ حدثنا عبد الله بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن منصور الحناط، عن أبي زيد، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ).
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، وهارون بن إسحاق، قالا: حدثنا ابن أبي فديك، عن سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك الكذب وهو باطل، بني له قصر في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها ) ].
ولا يؤتى الإنسان الجدل إلا وهو صاحب بدعة، ويورثه ذلك اعتداداً برأيه، وبحثاً وشكاً في اليقينيات، حتى يصل الى الشك بأصول اليقينيات، حتى يشك الإنسان فيما يراه بعينه، وقد بلغت كثير من الطوائف في الشك بمثل هذا، والله سبحانه وتعالى قد كفى الإنسان الجدال والمراء بالوصول إلى الغايات، فبين الله عز وجل له ذلك.
وأشبه الفلسفة بالحبل المتشابه الطويل الذي يبحث الإنسان عن طرفيه والله عز وجل أعطاه طرفه الأول وأعطاه طرفه الثاني، ثم يبحث، فإذا ابتعد به ثني الحبل عن طرفه شك، وإذا قرب من الطرف تيقن، ثم يتقلب من شك ويقين حتى يصل، وربما مات ولم يصل، ولهذا الفلاسفة دخلوا في أمور الفلسفة كحال تتبع الإنسان في الحبل يذهب ويجيء يريد بذلك أن يثبت اليقينيات القطعيات التي أثبتها الله في كتابه بعقله المجرد، فتقرب به منه الحقيقة وتجتمع القرائن موافقة لكلام الله ثم تبتعد به مرة أخرى، ثم تقرب به، ثم تبتعد مرة أخرى، ولا يحصل من ذلك شيء.
ولهذا يتمنى من مات منهم أن يموت على عقائد العجائز؛ لأن الشريعة ما جاءت لتحير، وإنما جاءت لتدل وتهدي، الشرائع ما جاءت لتحير الناس، بل تدلهم وتهديهم، أن يأخذها الإنسان بأسهل سبيل، هذه القاعدة التي اختلت عند كثير من الناس اختلت لوازمها، فاختلوا من جهة البحث، والنظر، وضعف لديهم التسليم.
قال المصنف رحمه الله: [ باب اجتناب الرأي والقياس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، وعبدة، وأبو معاوية، وعبد الله بن نمير، ومحمد بن بشر (ح)
وحدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن مسهر، ومالك بن أنس، وحفص بن ميسرة، وشعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) ].
وفي هذا إشارة إلى أن الذي يوجد العالم ويرفعه هو الله، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، الجاهل الذي يصنع منه عالم يرفعه العامة، والناس، والغوغاء، والظلمة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا لم يبقي عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، ولهذا ولاية العالم لا يسقطها أحد؛ لقيام موجبها وعدم رفعه وهو العلم، ولهذا يقول ابن حزم رحمه الله: أن كل ولاية تسقط إلا ولاية العالم، لا يسقطها إلا من رفعها، وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو هانئ حميد بن هانئ الخولاني، عن أبي عثمان مسلم بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه ).
حدثنا محمد بن العلاء الهمداني، قال: حدثني رشدين بن سعد، وجعفر بن عون، عن ابن أنعم -هو الإفريقي- عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العلم ثلاثة، فما وراء ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة ) ].
ومعنى (أن إثمه على من أفتاه): إذا كان متيقناً أنه على صواب فذاك ارتجل فتيا على خلاف الصواب فقلده، أما إذا كان شاكاً بصدقه، أو غير متيقن بعلمه فإنه لا يجوز له أن يقتدي به وأن يحمله الأمانة؛ لأنه يحتملها معه كذلك.
قال: [ حدثنا الحسن بن حماد سجادة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: حدثنا معاذ بن جبل، قال: ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه ).
حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا ابن أبي الرجال، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون، وأبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا ) ].
وحديث عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل مع وروده من عدة أوجه إلا أن مداره على متروك، ويروى أيضاً في المراسيل إلا أنه أيضاً في حكم المطروح، وألحقه بعضهم بالوضع.
قال المصنف رحمه الله: [ باب في الإيمان.
حدثنا علي بن محمد الطنافسي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وستون أو سبعون باباً، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول: لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان ).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان (ح)
وحدثنا عمرو بن رافع، قال: حدثنا جرير، عن سهيل، جميعاً عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا سهل بن أبي سهل، ومحمد بن عبد الله بن يزيد، قالا: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: ( سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال: إن الحياء شعبة من الإيمان ).
حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش (ح)
وحدثنا علي بن ميمون الرقي، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ) ].
وذلك أن الكبر إذا وجد في الإنسان بمقدار ينصرف الإنسان عن الحق؛ لأن الكبر يملأ القلب بالوهم، فكلما ازداد القلب امتلاء بالوهم لم تصل إليه الحقيقة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لهذا ثمة تلازم بين الكبر والترف، فإذا أترف الإنسان وتعلق بالجزئيات عظم فيه الكبر، ولهذا إنما صرف المشركون رأيهم عن قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك بنو إسرائيل في عدم اتباعهم وفرعون لعدم اتباعه لموسى بسبب الكبر.
وكذلك الرجل الذي يعظ أخاه في الحياء، النبي عليه الصلاة والسلام رد ذلك ولم يأمره بأخذ حقه؛ لأن الأصول الكلية لا تسقط بأمثلة، ولهذا يضر بالإنسان الحياء في بعض الأحيان فيفوت حقه، هذا لا يجيز للإنسان أن يضرب أصل الحياء فيلغيه، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير )، وهذا قاعدة على أن الأصول لا تضرب بالأمثلة الخاطئة، ولا بالوقائع الخاطئة، فهذا لم يحسن جانب الحياء ولا الفصل بينه وبين الضعف، ففوته، وأراد أن يضرب أصل الحياء فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وهذا من وجوه الأهواء أيضاً في إلغاء الأصول بجمع الأمثلة الشاذة المخالفة للقاعدة لتضرب بها القاعدة، وهذا ما يفعله كثير من أهل الأهواء والبدع في كل زمن وفي يومنا هذا.
قال: [ حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا خلّص الله المؤمنين من النار وأمنوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا، أشد مجادلةً من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، فأدخلتهم النار، فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم، فيقولون: ربنا أخرجنا من قد أمرتنا، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل ).
قال أبو سعيد: فمن لم يصدق هذا فليقرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] ].
وهذا من نوادر المواضع التي يذكر فيها توثيق الراوي في الإسناد، وفي سنن ابن ماجه ثمة مواضع يسيرة تأتي معنا، وليس لـابن ماجه رحمه الله شيء يذكر في الجرح والتعديل، بخلاف غيره من أصحاب الكتب الستة، كـالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، أقل أصحاب الكتب الستة الإمام مسلم، ثم ابن ماجه، وأكثرهم في ذلك البخاري رحمه الله، ثم بعد ذلك الإمام النسائي، وأبو داود، فـالترمذي، فالإمام مسلم، فـابن ماجه آخرهم.
قال: [ حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا حماد بن نجيح -وكان ثقةً- عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله، قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً ) ].
وهذا فيه إشارة إلى أن الأطفال والصغار يعلمون القناعات قبل الأدلة، ولهذا علمهم الإيمان بلا دليل، ثم تعلموا الأدلة من القرآن، لما في تعلم الدليل من الكلفة، وأيضاً ليتعلموا التسليم والانقياد لما أمر الله عز وجل به.
قال: [ حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا علي بن نزار، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية ).
حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه، قال: ( كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، قال: فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، قال: صدقت، فعجبنا منه، يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك، قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فما أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها -قال وكيع: يعني: تلد العجم العرب- وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البناء. قال: ثم قال: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، فقال: أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ذاك جبريل، أتاكم يعلمكم معالم دينكم ) ].
وفيما فعله جبريل في إسناد ركبتيه إلى ركبتي النبي أصل في ثني الركب عند العالم، وكلاهما شريف، فالعلم إنما جاء إلى رسول الله بواسطة جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال ولا خلاف أنه سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً عليه الصلاة والسلام أفضل من جميع الملائكة عليه الصلاة والسلام، وقد أسند جبريل ركبتيه إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام ووضع يديه على فخذيه، إشارة إلى الأدب مع المعلم.
قال: [ قال أبو الحسن القطان: حدثنا يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: حدثنا كهمس مثله.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك، قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا تطاولت رعاء الغنم في البنيان، فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير [لقمان:34] ).
حدثنا سهل بن أبي سهل، ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي، قال: حدثنا علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان ).
قال أبو الصلت: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرأ.
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحد حتى يحب لأخيه -أو قال: لجاره- ما يحب لنفسه ) ].
المصنف رحمه الله يروي عن غير واحد ممن اسمه محمد بن إسماعيل وليس منهم البخاري، فإنه لم يرو عن البخاري شيئاً، ولم يرو كذلك عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، مع أنه أدركهم، وهذا الحديث حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى حديث موضوع، لأن في إسناده متهم.
قال: [ حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ) ].
وتعريف الإيمان على أنه معرفة بالقلب، وقول اللسان، وعمل بالأركان عند العلماء، يقولون: الإيمان قول وعمل، ويقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد، وذلك أن الإيمان لا يثبت إلا بهذه الثلاث، بل هو هذه الثلاث، ولا نقول: هي أجزاء، ولا شروط، ولا واجبات، ولا أركان، بل نقول: إن الإيمان هو هذه الثلاث، كصلاة المغرب ثلاث ركعات، فإذا انتفى واحدة منها لا تسمى صلاة المغرب. كذلك الإيمان، فإذا ثبتت من جهة الإيمان ثبتت أيضاً عند انتفاء واحدٍ منها بالكفر، والمرجئة إنما وقعوا في الإرجاء بسبب اختلال الأصل عندهم في هذا الباب، فاختلوا من جهة إثبات هذه الثلاث في الإيمان، إما جعلوها شروطاً، أو جعلوها واجبات، أو جعلوا بعضها مكملاً للإيمان، فإذا اضطربوا من جهة إثبات هذه في الإيمان اضطربوا من جهة لوازمها من جهة وقوع المكفر في الفعل، هل يرجع إلى قلبه أم لا؟ نقول: الكفر يثبت بالاعتقاد، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وبواحد منها؛ لأن الإيمان يثبت بهذه الثلاث جميعاً.
قال: [ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عفان، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش (ح)
وحدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ).
حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض )، قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل الله: فَإِنْ تَابُوا [التوبة:5] قال: خلع الأوثان وعبادتها: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة [البقرة:277]، وقال في آية أخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين [التوبة:11] ].
أراد المصنف رحمه الله من إيراده لحديث عبد الله بن مسعود: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )، أن يرد على الخوارج والمعتزلة، الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة، وبالنسبة للمعتزلة الذين يجعلونه بمنزلة بين المنزلتين، وقد أثبت الله عز وجل إيمانه وعدم كفره.
قال: [ قال أبو الحسن القطان: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس مثله.
حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو جعفر، عن يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ) ].
وهذا أصل في إثبات جهاد الطلب، ومعلوم أن الجهاد على نوعين: جهاد دفع، وجهاد طلب، وجهاد الطلب دليله جملة من الأدلة في كلام الله وكذلك أيضاً في السنة، ومنها هذا الحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهد )، إذاً: أمر بالبداءة بذلك وهو جهاد الطلب، ولا أعلم من أنكر جهاد الطلب من الأئمة من السالفين والمتأخرين إلا في زماننا.
قال: [حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ).
حدثنا محمد بن إسماعيل الرازي، أنبأنا يونس بن محمد، حدثنا عبد الله بن محمد الليثي، حدثنا نزار بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعن جابر بن عبد الله، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء، وأهل القدر ).
قال أبو الحسن: حدثنا أبو عثمان البخاري سعيد بن سعد، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة، قال: حدثنا إسماعيل -يعني ابن عياش- عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن مجاهد عن أبي هريرة وابن عباس، قالا: الإيمان يزيد وينقص.
قال أبو الحسن: حدثنا أبو عثمان البخاري، حدثنا الهيثم، حدثنا إسماعيل، عن حريز بن عثمان، عن الحارث، أظنه عن مجاهد، عن أبي الدرداء، قال: الإيمان يزداد وينتقص ].
وهذه الأخبار التي يوردها المصنف رحمه الله في زيادة الإيمان ونقصانه إيراد ما جاء في كلام الله، والثابت في الصحيحين من زيادة الإيمان ونقصانه أحرى وأولى بالإيراد، ولكن لما كان الكتاب في هذا إنما هو إيراد للأحاديث المرفوعة، وكذلك أيضاً الموقوفة كان إيراد هذه الموقوفات يرى أنه سداً واعتضاداً لا احتجاجاً واعتماداً، وإلا الظاهر في كلام الله عز وجل والقطع في ذلك فيه غنية.
قال المصنف رحمه الله: [ باب في القدر.
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، ومحمد بن فضيل، وأبو معاوية (ح)
وحدثنا علي بن ميمون الرقي، حدثنا أبو معاوية، ومحمد بن عبيد، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قال عبد الله بن مسعود: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، أنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقول: اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها ).
حدثنا علي بن محمد، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت أبا سنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن الديلمي، قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يفسد علي ديني وأمري، فأتيت أبي بن كعب ].
وذلك أن تفكر الإنسان فيما لا يستطيع أن يصل فيه إلى غاية ونتيجة يوصله إلى الحيرة، ومن ذلك مسألة القدر، ولهذا يقول أبو حنيفة عليه رحمة الله: هذه مسألة مقفلة ضاع مفتاحها، ويقول ابن تيمية رحمه الله: ما من أحد من الناس إلا وفي نفسه حسكة من هذه المسألة، يعني: أنه لا يجد حلاً لاسترسال تفكيره بمسائلها، ولهذا ينبغي للإنسان في ذلك أن يؤمن وأن يسلم؛ لأنه لا يدرك كل شيء، وعقله وإدراكه في ذلك محدود، وذلك كبقية حواسه من جهة سمعه وبصره ونحو ذلك، فالإنسان لا يستطيع أن يسمع كل شيء، كما أنه لا يستطيع أن يدرك كل الحقائق، كذلك البصر لا يستطيع الإنسان أن يتأمل فيه كل شيء، فإذا نظر إلى الشمس في الظهيرة أحرقت عينه، وزادته تحيراً، كذلك الإنسان لا يستطيع أن يسمع الضجيج الشديد، فربما أضره، كذلك التفكر في بعض الحقائق التي لا يدركها الإنسان تضره وتفسد عليه عقله، ولهذا نقول للإنسان في ذلك: أن يسلم فيما أخبر الله جل وعلا به ويؤمن.
قال: [ فقلت: أبا المنذر! إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني به، فقال: لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد ذهباً -أو مثل جبل أحد- تنفقه في سبيل الله، ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله. فأتيت عبد الله فسألته، فذكر مثل ما قال أبي، وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة. فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قالا. وقال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهباً -أو مثل جبل أحد ذهباً- تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار ).
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع (ح)
وحدثنا علي بن محمد، حدثنا أبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، قال: ( كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عود، فنكت في الأرض ثم رفع رأسه، فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قيل: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا ولا تتكلوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] ) ].
ولهذا نستطيع أن نقول: إن التوكل على نوعين: توكل مشروع وتوكل ممنوع، أما المشروع فهو الاعتماد على الله عز وجل فيما يلزم من ذلك عدم قضاءٍ بيّنٍ في أمر الله سبحانه وتعالى لأحد بعينه في علم الإنسان، فالإنسان في ذلك يتكل على الله عز وجل في هذا الأمر، وأما الممنوع فهو ما يتعلق بتعطيل المقصد الذي أمر الله عز وجل به، إما بالضرب في الأرض، أو بالعلم، أو بالعمل، أو غير ذلك مما أمر الله عز وجل به وحث عليه.
قال: [ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد الطنافسي، قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ربيعة بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ].
في حديث أبي هريرة إشارة إلى أن تغير الناس يقع عند المصائب، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا )، وهذه المراجعات التي تطرأ على الإنسان عند نزول مصيبة، أي أنه يظن أن الطريق أمان فإذا نزلت به مصيبة قام بالمراجعة ليسلم، فيأخذ القناعة بناءً على السلامة، وهذا خطأ، ولهذا نقول: إن الله جل وعلا ما جعل كرامة المؤمن في سلامة الدنيا، ولكن جعل كرامة المؤمن في سلامة الدين.
قال: [ حدثنا هشام بن عمار، ويعقوب بن حميد بن كاسب، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة بذنبك، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنةً؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثاً ).
حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن ربعي، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: بالله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وبالبعث بعد الموت، والقدر ).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع، قال: حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: ( دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان الثوري، عن زياد بن إسماعيل المخزومي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هريرة قال: ( جاء مشركو قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت هذه الآية: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:48-49] ) ].
ولهذا نقول: إن نفي القدر كفر، ويؤدي إلى ما هو أكفر منه وهو نفي العلم، فنفي العلم أشد كفراً من نفي القدر وهو لازم له.
قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن عثمان مولى أبي بكر، حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه: ( أنه دخل على عائشة فذكر لها شيئاً من القدر، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه ) ].
ولهذا نقول: إن الإنسان ليس له أن يقطع أنه يستطيع أن يتفكر بكل شيء، ولهذا نقول لمن يقول: لا بد أن أتفكر بكل شيء حتى أقتنع به، نقول له: انظر إلى الشمس، فهل تستطيع أن تنظر إليها في وقت الظهيرة، فإذا لم يستطع فيقال: كيف تريد أن تفكر بكل شيء وأنت لا تستطيع أن تنظر لكل شيء؟ لأن الفكر إنما هو ناتج عن شيء من النظر، فإذا لم يكن الإنسان يستطيع أن يطلق بصره لكل شيء، ولا يصغي سمعه لكل شيء؛ لأذية ترجع إليه ومزيد تحير، كذلك أيضاً في جانب التفكر.
قال: [ قال أبو الحسن القطان: حدثناه حازم بن يحيى، حدثنا عبد الملك بن سنان، حدثنا يحيى بن عثمان، فذكر نحوه.
حدثنا علي بن محمد، حدثنا أبو معاوية، حدثنا داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: بهذا أمرتم، أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم ).
قال: فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا يحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، فقام إليه رجل أعرابي، فقال: يا رسول الله، أرأيت البعير يكون به الجرب فيجرب الإبل كلها؟! قال: ذلكم القدر، فمن أجرب الأول؟ ).
حدثنا علي بن محمد، حدثنا يحيى بن عيسى الخزاز، عن عبد الله بن أبي المساور، عن الشعبي، قال: ( لما قدم عدي بن حاتم الكوفة، أتيناه في نفر من فقهاء أهل الكوفة، فقلنا له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عدي بن حاتم! أسلم تسلم، قلت: وما الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، حلوها ومرها ).
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل القلب مثل الريشة، تقلبها الرياح بفلاة ) ].
وذلك لضعف الإنسان لأن الأفكار والآراء أقوى منه، والدلائل والبراهين أقوى من أن يستوعبها القلب، وهو أمر يسير أعطاه الله عز وجل شيئاً وحجب عنه أعظم من ذلك، ومن أراد أن يستوعب كل شيء فهذا لديه نقض في إيمانه، باعتبار أنه يريد أن يشارك الله في علمه، وإلا فما الفرق حينئذ بين الخالق والمخلوق، ولهذا الله عز وجل أعطى الإنسان شيئاً يسيراً من العلم يقيس على هذا اليسير ولا يتجاوزه إلى ما عداه.
قال: [ حدثنا علي بن محمد، حدثنا خالي يعلى، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: ( جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي جاريةً أعزل عنها؟ قال: سيأتيها ما قدر لها، فأتاه بعد ذلك، فقال: قد حملت الجارية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قدر لنفس شيء إلا هي كائنة ).
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق للخطيئة يعملها ).
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عطاء بن مسلم الخفاف، حدثنا الأعمش، عن مجاهد، عن سراقة بن جعشم، قال: ( قلت: يا رسول الله! العمل فيما جف به القلم، وجرت به المقادير، أم في أمر مستقبل؟ قال: بل فيما جف به القلم، وجرت به المقادير، وكل ميسر لما خلق له ).
حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) ].
وهذا الحديث ضعيف، ولكن فيه تشبيه بالمجوس هنا، باعتبار أن المجوس يؤمنون بوجود خالقين، فهم يؤمنون بالنور والظلمة، باعتبار أن النور هي خالقة للخير، والظلمة كذلك هي خالقة الشر، وذلك أن الذين ينفون القدر يقولون: الله عز وجل لم يقدر شيئاً، إذاً: فمن خلق أفعال العباد؟ قالوا: خلقوا أفعالهم، فقد جعلوا خالقاً مع الله، فالله عز وجل خلقهم ولم يخلق أفعالهم، وهم خلقوا أفعال أنفسهم، فآمنوا بوجود خالقين، فكان فيهم شبه من المجوس.
ومسألة القدر هي من المسائل التي ضلت بها الطوائف قبل الإسلام وبعده، والطوائف في ذلك متنوعة، البابليون في العراق وكذلك في شمالها يقولون: إن مسألة القدر يتعدد المؤثرون المتدخلون المتصرفون فيها، فينسبون ذلك للأفلاك، هذا يتصرف بكذا، وهذا يتصرف بالبشر، وهذا يتصرف بالبهائم، وغير ذلك، والمجوس ينتشرون في بلاد فارس ونحو ذلك في هذه المسألة، وطائفة الرافضة ممن تأثر بهذه العقيدة، وهي مسألة نفي القدر.
وكذلك العقلانيون من الفلاسفة، كـأرسطو وأفلاطون وغيرهم، فإنهم في هذه المسألة لما تحيروا قالوا بوجود خالق، ولهذا فإن أرسطو يؤمن بوجود خالق، ولكن من جهة تدبير أمر الكون قال: إن الخالق أوجد المخلوقات ثم جعل لها نظاماً وناموساً تسير عليه، وهو ما يسمى بالحتمية عند الكلاميين، قالوا: فجعلها تسير وفق نظام لا تخرج عنه ثم تركها، إذاً: الكون يدير نفسه، وهذا أيضاً على نحو تلك العقيدة.
والمتكلمون ممن ينتسبون للإسلام جروا على طريقة المشائين من أصحاب أرسطو، كـابن سينا والفارابي والكندي، وغيرهم ممن يسمون بالمشائين ويسيرون على طريقة المشائين، أرسطو كان له أصحاب يأخذون منه عقيدته الكلاميه وفكره الكلامي، وذلك أنه يعلم غالباً وهو يمشي ذاهباً وراجعاً، ويعلم من حوله، فسموا بالمشائين، أصحاب أرسطو، ثم من أخذ عنهم ممن جرى على هذه العقيدة من الفلاسفة المنتسبين للإسلام كـابن سينا والفارابي، وكذلك الكندي، وغيرهم من الفلاسفة جروا على هذا الأمر، قالوا: ثمة حتمية سببية أجراها الله وهي تدير نفسها ولا شأن للخالق بها، ويجري على هذا المنوال الفلاسفة المتكلمون أيضاً في زماننا هذا من متكلمي الليبرالية وبعض الملاحدة من الماركسيين والعلمانيين وغيرهم.
نقف على هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أبواب السنة [2] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net