اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [25] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تكلمنا في المجلس السابق على قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، قال الله سبحانه وتعالى بعدما بين الميزان بين الخمر والميسر في باب المنفعة والإثم، وذكرنا إشارة أن الله عز وجل استعمل فيما يعود على الناس بالخير في لفظه أو اصطلاحه النفع، والنفع يقابله الضر، وأما بالنسبة لما يلحق الإنسان من شر في ذلك فإنه استعمل الإثم، ولو قلنا بالاطراد في ذلك، فإن الاطراد والمقابلة هو قولنا: نفع وضر، وإثم وأجر، أو ثواب وعقاب.
الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لعباده أن المنفعة بالخمر والميسر إنما هي عاجلة لا آجلة يستمتع بها الإنسان في لحظتها ويغنم، وأما بالنسبة لضررها فإن الضرر في ذلك ظاهر من جهة آجل أمره، ولهذا استعمل جانب الإثم، كذلك من العلل في استعمال لفظة الإثم في هذه الآية، أن الإنسان ربما يغيب عنه من علل أحكام الله جل وعلا ما يجب عليه أن يفوض الأمر إلى الله، ولهذا أمر أن يسلم الإنسان علة التحريم لله سبحانه وتعالى، وألا يكلها إلى نظره، وهذا يشير إليه قوله جل وعلا: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، وأشار إلى مسألة الدنيا والآخرة، أي: أن العلة متعلقة بالأمرين، ويأتي الإشارة إلى هذا.
ثم ذكر الله عز وجل قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، بعد أن بين الله سبحانه وتعالى الخمر والميسر وباب الموازنة فيهما من جهة النفع والإثم، وبين الله عز وجل رجحان الإثم والشر في ذلك، بيّن الله عز وجل حكم ما يسألون عنه، وهو ما ينفقون، وسؤالهم عن الإنفاق تقدم معنا في قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، تقدم الكلام معنا في هذه الآية، وهذا إما أن يكون سؤالاً جديداً من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون هذا هو السؤال السابق، فأراد الله عز وجل مزيد بيانه وربطه بذلك الأمر لعلة وحكمة، وهذه العلة والحكمة أن الله عز وجل حينما بيّن أمر الموازنة والنفع في مسألة الخمر والميسر أنهم سألوا في غير هذا الموضع عن النفقة، والإنفاق في ذلك يكون طلباً لأجر الله سبحانه وتعالى، فأنتم تسألون رغبة لرضا الله عز وجل في بيان الخير في موضع الأموال، فلا يليق بمن سأل ذلك السؤال أن يعترض على رجحان تحريم الميسر هنا، أو رجحان سيئته، فينبغي إن كان دافعه في ذلك مرضاة الله جل وعلا أن يتوقف عند المتشابه على أقل أحواله، وتقدم معنا الإشارة أن قول الله جل وعلا: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، أن هذا ليس من القطع بالتحريم، ولكنه من قرائنه.
والعلماء عليهم رحمة الله تعالى قد اختلفوا في ذلك: هل هذه الآية من قطعيات التحريم؟ أم هي من القرائن والإشارات؟
والإلماح برفع درجة مرتبة الخمر والميسر من الحل والإباحة إلى مرتبة المتشابه عندهم مما ينبغي للإنسان أن يجتنبه، وهذا ظاهر في حديث النعمان بن بشير كما في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات )، نقل الشارع ذلك من الحلال المسكوت عنه؛ لأن السكوت عن بيان شيء من المأكول والمشروب يدخله في أصل الحل؛ لأن الأصل في المأكول والمشروب هو الحل.
كذلك في المعاملات الأصل فيها الحل، فنقلها الله عز وجل من دائرة الحل إلى دائرة المتشابهات، فينفر منها أهل الورع كما ينفرون من الحرام، فأراد الله عز وجل أن يبين جواب ذلك السؤال في مسألتهم عن الإنفاق، وهو العفو، أي: ما زاد أو فضل من أموالكم فأنفقوه لله جل وعلا، وهذا فيه إجابة لبعض التساؤل لأنه ربما بعض الناس يخطر في باله خاصة في نزول تلك الآية، أنهم إنما يقولون: إنما نتعامل بالميسر بطيب نفس منا، وهذه العلة قد ترد في أذهان البعض، وكذلك فإننا ننفق ما فضل من أموالنا، ولا نفرط في قوت أبنائنا وبناتنا وأزواجنا، ومن أوجب الله عز وجل علينا النفقة، أراد الله عز وجل أن يبين أن ثمة أمراً هو أولى من ذلك وهو الإنفاق، إذا كان لديكم فضلة مال في أوجه الخير في سبيل الله جل وعلا.
وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، العفو المراد به الفضل، كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد، جاء عن عبد الله بن عباس كما رواه الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس ، وجاء عن قتادة وكذلك مجاهد وغيرهم من المفسرين، وهذا هو الأظهر والأشهر من أقوال المفسرين من السلف، أن المراد بالعفو هو ما فضل عن مال الإنسان وقدرته.
وهذا فيه إلماحة إلى أنه إذا كان ثمة فضل وتريدون أن تسابقوا إلى الخير، فهو الإنفاق في سبيل الله لا أن تهدروا الأموال فيما لا ينفع، فهو في أقل أحواله أمر مفضول مرذول لا ينبغي للإنسان أن يضع ماله فيه؛ لأنه إهدار في غير مرضاة الله جل وعلا.
وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا أغلق على الإنسان باباً أن يفتح له باباً من أعمال البر حتى لا يتحير، كأن يكون الإنسان يسأل عن مسألة من المسائل في أمور العمل من التجارة ونحو ذلك، فيقال له: إن هذا الأمر محرم، ثم يشار إلى أمور أخرى، أمور الحلال مباحة؛ لأنه ربما الشيطان يضيق على عقل الإنسان المباح، ويستحضر في ذهن الإنسان الأمر المحرم، أو يسأل الإنسان عن وظيفة أو عملٍ أو نشاط معين، أو يعمل في مجال ربوي أو نحو ذلك، فيقال: الأمر في ذلك مباح أن يعمل الإنسان في تجارة أو يعمل في حرفة من نجارة أو صناعة أو تجارة، أو الضرب بأمور النقدين أو ماشية من بهائم الأنعام، أو الزرع والحرث، يعرض له أمور المباحات حتى يضيق ما يوسع الشيطان من ضده من الأمور المحرمة، وهذا هنا إنما جاءت الإجابة لهذه العلة، أي: أن الله عز وجل حينما حرم عليهم أن يضعوا فضل أموالهم فيما يزعمون في أمور الميسر فيرونها فضلاً، فإن ثمة ما أولى من ذلك أن يضعوها فيه وهو مرضاة الله جل وعلا، فينفق الزيادة.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن ما يكون للإنسان من جهة نفقته فهو على نوعين: الأمر الواجب عليه وهو نفقته على ما أوجب الله عز وجل عليه النفقة من والديه وأبنائه وبناته وزوجه، ومن يعول، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسلم وغيره: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يملك قوته )، وجاء عند النسائي في كتابه السنن، هذا بيان أنه يجب على الإنسان أن ينفق على سبيل الفرض بلا منة على ما أوجب الله عز وجل عليه، وذلك على ما تقدم من الوالدين إن احتاجا والذرية إن احتاجا والزوجة وجوباً ولو لم تحتج إلى الإنسان، إذا كانت المرأة غنية بنفسها، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها، بخلاف الذرية، فإنها إن اغتنت والوالد والوالدة إن اغتنت فإن الإنسان لا يجب عليه أن ينفق عليه، أما بالنسبة للزوجة فيتعين ولو كانت قادرة، بالنسبة للأب وللابن فإن الابن إن كفى نفسه فإنه لا يجب على الأب أن ينفق عليه، فإذا ظهرت كفايته عنده على اليقين فإن النفقة في ذلك لا تجب عليه، بخلاف الزوجة فإن كفاية الزوجة إذا ظهر أن عندها مالاً أو ورثت مالاً من أبيها أو من أحد أرحامها فإنه يجب عليه ولو علم في ذلك الكفاية، إذا احتاجت إلى مطعم أو مشرب أو مسكن، بخلاف الابن إذا احتاج إلى مطعم وهو غني، أو احتاج إلى ملبس وهو غني، فإنه لا يجب على الأب أن ينفق عليه، وهذا بالنسبة للوالد بخلاف لو طلب الوالد من ابنه مالاً ولو كان مكتفياً، فهذا من المواضع الأخرى التي ينفق الإنسان بها على والده طاعة لا نفقة.
وأما النوع الثاني: وهو ما يكون من الأمور المستحبة مما ينفق الإنسان من أمور الصدقات، من إكرام الضيف في القدر الزائد مما لا يجب عليه، وإكرام الضيف منه الواجب ومنه المستحب، من الإحسان إلى الجار، وعموم الصدقات التي يتصدق بها الإنسان، فهذا لا ينفق الإنسان بالنوع الثاني إلا وقد سد النوع الأول، يعني: مما وجب عليه، ويدخل في الأمور الواجبة من النفقة مما يجب على الإنسان في ذمته من أمور الأموال، ولو كان لحظ نفسه لا لحظ غيره، وذلك من الكفارات، إذا وجب على الإنسان كفارة، فيجب عليه من عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكفارة اليمين وغير ذلك.
فنقول حينئذٍ: إنه يجب عليه أن ينفق ذلك وألا يصرفها إلى العفو من فضائل المال من الصدقة وغير ذلك، فتدخل من جملة النفقة الواجبة المتعينة عليه.
وأما بالنسبة لما زاد عن حاجة الإنسان وما أوجب الله عز وجل عليه، فإن الإنسان ينفق منه.
واختلف العلماء في أصل ذلك: هل هو واجب أو مستحب؟
بمعنى: أن الإنسان أوجب الله عز وجل عليه نفقة فيما زاد عن ماله إذا بلغ نصاباً بمقدار جعله الله عز وجل مقدراً، وذلك من أنصبة الزكاة، وهذا في النقدين وفي الماشية، وفي عروض التجارة وفي الزروع والثمار، يجب على الإنسان أن يخرج منها مقداراً حده الله عز وجل، وهذا فرض، وأما ما عدا ذلك فهل يجب على الإنسان في ماله شيء من هذا أم لا؟
نقول: هذا من مواضع الخلاف، ويأتي موضعه بإذن الله عز وجل في غير هذا، ولكن نقول: إنه لا يجوز للإنسان أن ينفق شيئاً من ماله، وقد كان عليه شيء من الأمور المتعينة من أمور النفقة.
وقول الله جل وعلا: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219]، بعد أن ذكر الله عز وجل أمر الموازنة بين الخمر والميسر في مسألة المنافع والآثام التي تلحق الإنسان في دينه ودنياه، أشار الله عز وجل إلى أن بيان هذه الأحكام لا يمكن أن تتضح للإنسان إلا بمزيد تفكر، والتفكر على نوعين: تفكر في أمر الدنيا وهي أمور الماديات، وتفكر في أمر الآخرة، ولا ينبغي للإنسان أن يعجل أمر الدنيا ونتيجتها على أمر الآخرة وعاقبتها، ولهذا لما ذكر الله عز وجل المنافع وهي عاجلة الإنسان مما يستمتع به في الدنيا وكذلك الآثام وهي تتعلق بأمر الآخرة غالباً، فإن الإثم لا يطلق إلا على أمر الآخرة، وكل إثم يلزم منه شر في الدنيا، وأما بالنسبة لمنافع الدنيا فلا يلزم منها ثواب في الآخرة، ولهذا جاء استعمال الإثم في هذه الآية، فذكر المنافع، أي: أنها تنفعكم في الدنيا ولا يعني أنها تنفعكم في الآخرة، فالإنسان يستمتع بالمأكل والمشرب وسماها هنا منافع، لكن يؤجر عليها بالآخرة؟
لا يؤجر إلا على ما احتسب وما حث الله عز وجل عليه، فاستعمل لفظ المنافع، أي: أنه لا يلزم من ذلك أن يكون ثواباً عند الله، وذكر الإثم إشارة إلى أنه لا بد أن يتلازم الإثم في الآخرة مع الشر في الدنيا، فاجتمع على الإنسان الأمران، وهو ضر الدنيا وضر الآخرة، بخلاف ما هم عليه، فهو منفعة دنيا مجردة لا تنفع بالآخرة، وهذه مسألة الاحتياط أنه ينبغي للإنسان أن يحتاط في الأمرين: فيما يتعلق بأمور الإيمان من جهة الأصل حتى لو وجد الإنسان في نفسه حسكة في مسألة من المسائل ونحو ذلك، يأخذ في ذلك جانب الاحتياط، ولهذا الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله بعضهم يسلم ويشحذ ما يدفعه إلى الإيمان شحذاً لأن العاقبة في ذلك سلامة في الدنيا ونجاة في الآخرة، بخلاف الذي يلحد في جنب الله سبحانه وتعالى
فهو إلى خسار، ولهذا يقول أبو العلاء المعري مشيراً إلى هذا:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
يعني: إن صح قولكما أنه لا يوجد رب فأنا سالم في الدنيا، وبعد الموت لا شيء عليّ، وأما لو صح قولي فإنكم في الدنيا سالمون وفي الآخرة خاسرون، فأيهما أولى بالاتباع؟ من جهة النظر الأولى بالاتباع قولي، إذا كنتم تسلمون من جهة العقل، ولهذا الله سبحانه وتعالى استعمل الأمرين هنا، مسألة النفع ومسألة الإثم، أي: أنه نفع عاجل وقتي، وأما بالنسبة للآخرة فثمة إثم ينتظر الإنسان، والعاقل في ذلك هو الذي يرجح جانب الإثم في هذا، هذا في حال عدم إيمان الإنسان بذلك أنه يشحذ ما يدفعه للإيمان، فكيف بمؤمنين قد نزلت عليهم تلك الأوامر الإلهية فينبغي عليهم ألا يقدموا شيئاً على مراد الله عز وجل، وهم يؤمنون به سبحانه وتعالى.
ولهذا ذكر الله عز وجل هنا التفكر، قال: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، وإنما تضل العقول هو أنها تقصر في تفكيرها إما بالجانب المادي فيغيب عنها الجانب الأخروي فتخرج بنتيجة مخالفة عن مراد الله سبحانه وتعالى، فأمر الله عز وجل الناس أن يفكروا بالأمرين، بعاجل الناس وما يتعلق بأمور الماديات، وهي أمر الدنيا، وأن يتفكروا بأمر الآخرة.
والتفكر بأمر الدنيا على نوعين أيضاً: وهو عاجل وهو ما يسمى بالنظر القاصر، وأن ينظر الإنسان إلى النتائج التي تظهر له مثلاً في أول أمره، ويغلب جانبها من متعة الشهوات أو المسامع ويغيب ما يأتي بعد ذلك، فالإنسان يكون لديه نشوة بالانتصار لنفسه بالضرب أو القتل أو أخذ المال أو نحو ذلك، ويغيب ما يأتيه بعد ذلك من العقاب أو سوء السمعة أو غير ذلك، فثمة للدنيا عاجل وآجل، وأما أمر الآخرة فهو واحد، فنتيجته العاجلة هي نتيجته الآجلة على حد سواء، ولهذا أمر الله عز وجل البشر أن يتفكروا في الدنيا والآخرة، أي: في أمريهما حتى تصح النتائج عندهما، والنتائج في ذلك الناس يتباينون فيها بحسب تناول العقول لها، منهم من يتناول الأدنى ويعظمه ويزهد في النتائج، وهذا يخرج الإنسان بنتيجة ضعيفة جداً.
في هذا إشارة إلى أن الله عز وجل خاطب العقول بالتأمل والتفكر والتدبر بحال العاجل والآجل، وأنه ينبغي للإنسان أن يزن بينهما وأن لا يغلب لحظة من لحظاته على أمر سرمدي أو أمر مستديم أو أمر ما هو أطول من ذلك، ويرجع في ذلك الإنسان بحسب قوة عقله وتفكره وكذلك تدبره في المصالح والموازين.
وكذلك في هذا إشارة إلى أن العقل الصحيح لا يخالف النص الصحيح من كلام الوحي، وهذا ظاهر أن الله عز وجل حينما بيّن أمر الموازنة بمسألة النفع والضر، ثم بيّن الله عز وجل الغاية من ذلك؛ أنه ينبغي للعاقل أن يرجح ما رجحت كفة سيئاته من جهة التحريم، وما غلب من جهة منافعه يغلبه من جانب الإباحة.
ثم أرشد الله عز وجل إلى مزيد تفكر، وفي هذا إشارة أن الإنسان إذا وجد في عقله معارضة لحكم الله فليتهم النظر، إما أنه نظر نظرة مادية مجردة وغيّب أمر الآخرة، فلم تتضح له الصورة كما أراد الله عز وجل، وبهذا نعلم أن اقتصار الإنسان على واحدٍ منهما بالتفكر يعطل مراد الله عز وجل من حكمه، فالله عز وجل ما أمر الإنسان أن يتفكر بالآخرة حتى لا تتعطل الدنيا، وما أمر الإنسان أن يتفكر بالدنيا مجرداً حتى لا تتعطل الآخرة، وإنما أمر بالتفكر بالأمرين حتى يتضح له الأمر، وهذا مرتبط بما يأتي بعده من سؤالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليتامى، وذلك أنهم ربما زهدوا بالعناية بهم والتجارة بأموالهم خوفاً من أمر الآخرة، وفي ذلك نفع لهم ولغيرهم في أمر الدنيا، فأمر الله عز وجل بالموازنة بالأمرين.
ثم قال الله عز وجل فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، اليتيم هو من لم يبلغ ممن مات أبوه، ويطلق اليتم على من مات أبوه، وأما موت الأم فلا يسمى يتيماً؛ لأن المراد من ذلك هو الكفالة والرعاية، والكفالة والرعاية إنما تكون من قبل الأب، وهي متعلقة بأمور الأموال، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر اليتامى، والمراد من ذلك أمر أموالهم لا أمر رعايتهم وكفالتهم والإنفاق عليهم؛ لأن الإنفاق عليهم من الإنسان من ماله مما لا يسأل عنه عادة لمعرفة ذلك واستقراره في النفوس، والفطر المجبولة على إعانة الضعيف فكيف إذا كان الإنسان ضعيفاً وعطل المعين له من الأب ونحوه.
ولهذا نقول: إن الصحابة عليهم رضوان الله لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليتامى أجابهم الله عز وجل في ذلك قال: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، السؤال هنا ظاهر في الأموال، ولهذا ذكر مسألة الإصلاح يعني: إصلاح الأموال.
كانت العرب تتسامح في الجاهلية في أمور أموال اليتامى، فيخلطونها في أموالهم من غير تمييز، فربما مالت بعض النفوس لاستنفاق مال اليتيم لحظ النفس، ولحظ ذرية الآخرين أو الأزواج ونحو ذلك؛ حتى يضيع أو يهدر مال اليتيم، ويضيع حقه في هذا، وبيّن الله سبحانه وتعالى في ذلك هذا الأمر أنه رخص للناس أن يتعاملوا بمال اليتيم بما يصلحه، ولهذا قال الله عز وجل: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ [البقرة:220]، يعني: أن المنفق ينبغي أن يتعامل بمال اليتيم من جهة التجارة والمضاربة، ومن جهة الخلطة بما يغلب على ظنه أن يكون ذلك لصالحهم لا لصالح الإنسان مجرداً، وهذا فيه نوع من الموازنة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد شدد في أمر مال اليتيم في غير هذا الموضع، كما في سورة الإسراء وغيره: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، هذه الآية وغيرها قد هيبت الصحابة من التعامل مع اليتيم.
كذلك في آية النساء في قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، هيبت هذه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك ما جاء في آية الإسراء، وما جاء في آية الأنعام تهيبوا ذلك مال اليتيم، ثم أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد سؤالهم ذلك هذه الآية؛ إشارة إلى أنه يجوز لهم أن ينفقوا من مال اليتيم عليهم وعلى أنفسهم بمقدار ما لا يضر بمالهم، وألا يكون ذلك لحظ أنفسهم، وكذلك مغالبة أو تربصاً وترصداً، فأنزل الله عز وجل ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية بياناً لأمر الموازنة.
وذلك أن العرب كانوا على فئتين: فئة ينفرون من مال اليتيم ويتشاءمون منه ولا يقربونه، ويتقون الشؤم من أن تمتد إليه أيديهم، وذلك بأخذ دينار على سبيل السهو والغلط، أو تختلط أموالهم فربما تمحق في ذلك البركة، فأنزل الله عز وجل هذه على رسوله صلى الله عليه وسلم موازنة بين الأمرين: بين الذين يتسامحون ويسرفون في ذلك، وبين الذين يشددون ويحتاطون، ولهذا قالت عائشة عليها رضوان الله كما جاء عند ابن جرير وغيره، من حديث حماد عن إبراهيم عن عائشة عليها رضوان الله، قالت: إني لا أحب أن يكون مال اليتيم عرة. يعني: مما يستقذر، يأنف الإنسان من قربه حتى أخالط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي، يعني: أن يكون معي في ذلك، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، يعني: تعاملوا معهم من جهة المال كتعامل إخوانكم الأحياء الراشدين من جهة المال، فلا يأخذ الإنسان من مال أخيه إلا بالمعروف، فلا يأخذه مغالبة أو ترصداً أو محاولة للمكر أو الاستنفاق والاستهلاك، فبيّن الله عز وجل هذا الأمر من أمر الموازنة.
وهذه الآية قيل: إنها جاءت بعد نزول آية الإسراء، وقيل: إنها جاءت بعد نزول آية النساء، والمعروف والمشهور أن آية النساء إنما نزلت بعد سورة البقرة، هل آية النساء جاءت على سبيل الإفراد بعد ذلك؟ الأظهر والله أعلم والأشهر أن سورة النساء إنما نزلت بكاملها بعد سورة البقرة بكاملها، وأن ذلك إنما جاء لآية الإسراء لما تهيب الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من ذلك.
وفي قول الله جل وعلا: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، هذا فيه إشارة إلى أمر النيات، أنه ينبغي للإنسان أن يصلح قصده، وأن الخلطة في ذاتها لا بأس بها لمن احتاط، وأن الإنسان إذا أصلح نيته وأنه لم يخالط مال اليتيم بماله إلا لأجل دفع الظنة أو ربما دفع الحرج الذي ربما يجده اليتيم في نفسه أو نحو ذلك، وأنه لا يريد من ذلك استهلاكاً لمال اليتيم أو مغالبة له، فربما كان ماله يسيراً، ومال اليتيم في ذلك كثيراً، فأراد أن يخلط ليأخذ من مال اليتيم؛ لأن الله عز وجل أشار إلى علم باطن في ذات الإنسان، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، يعني: أن ثمة شيئاً في باطن الإنسان إذا أحسن الإنسان قصده من جهة التعامل فلا يضره لو وجد شيئاً يسيراً من أمر المغالبة مما لا يتعمده الإنسان من جهة أن يكون له نصيب في ذلك.
وفي قول الله جل وعلا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، المراد بالعنت هنا هو المشقة، وهذا في قول الله عز وجل: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128]، المراد بذلك ما يشق عليكم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد بالمسلمين وبالصحابة عليهم رضوان الله تعالى على سبيل الخصوص المشقة، وإنما يريد بهم اليسر، فالله عز وجل لا يريد المشقة عليهم بأن ينفروا من مال اليتيم فيلحق في الأيتام ضر ويلحق فيهم ضر، أراد بهم أن ينتفعوا أن يأخذوا من مال اليتيم بالمعروف، ولهذا يقول الله جل وعلا مشيراً إلى أنها من المتشابهات ينبغي للإنسان أن يحترز منها، قال: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، يعني: يأكل من مال اليتيم بما هو يُعرف، يعتاد بغير هلكة لماله، بما يقوم من رعايته، والإتيان بشأنه، وإهدار وقته، أو نحو ذلك، يأخذ منه بما يتعارف عليه الناس.
والله عز وجل إنما دفع المشقة؛ حتى يجمع بين القلبين: القلب النافر فيأتي به، والقلب الذي يقوم باستهلاك واستنفاق مال اليتيم والإضرار به، فأراد الله عز وجل أن يدفع المشقة عن الأول في ذاته، وأراد في الثاني أن يدفع المشقة عن أمر اليتيم؛ لأنه لو دُفع الثاني لم يحرص أحد على تناول مال اليتيم، والمتاجرة به، فإن غالب أموال العرب إنما هي من الماشية: من الإبل والبقر والغنم، أو من الزروع والحرث، والزروع والغراس تحتاج إلى من يقوم بها، والنقدان إنما اشتهرت في الناس بعد ذلك، ولم تكن على توفرٍ في أيدي العرب، وإنما كانت أشياء يسيرة، فكانوا يبيعون الزروع ببعضها، ويبيعون بهيمة الأنعام ببعضها والأراضي ببعضها يقومون بعضها ببعض ثم يبيعونها، فلما كانت أموال الأيتام على هذه الحال، واليتم لا يزول غالباً بعامٍ أو عامين، وإنما يحتاج إلى أعوام، ما يدل على أنه لو بقي بين يديه شيء من النقدين الذهب والفضة لاستنفذه الإنسان واحتاج إلى من يدير ماله من الزراعة، ومن رعي الماشية والعناية بها، وبيعها أو بيع صوفها وحلبها وغير ذلك، وهذا يحتاج إلى كفالة.
ثم الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220] إشارة إلى أن الله عز وجل قادر على جعل العنت والمشقة في الناس، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد في ذلك اليسر للطرفين للأيتام وكذلك لمن كفلهم، وحكيم سبحانه وتعالى بأن جعل الإنصاف والعدل واليسر في الناس، فالله عز وجل أحكم دينه وشريعته، وجعلها ظاهرة بينة لمن أرادها.
وهل يدخل كافل اليتيم الذي يقوم بعنايته والمتاجرة بماله والقيام بشأنه؟ إذا كان يأكل بالمعروف فهو يأخذ أجرته هل يكون ذلك ممن كفل يتيماً؟
نقول: كفالة اليتيم على مراتب:
المرتبة الأولى وهي أعلاها: أن يكفل الإنسان اليتيم من ماله وعند اليتيم مال يغنيه، فهذا أعلى المراتب، فهو يرى ماله وزهد فيه، وأنفق عليه من ماله بطيب نفس منه، وهذا أعلى المراتب وأهمها، واليتم في النساء أعظم من اليتم في الرجال، فالبنت اليتيمة أعظم ثواباً في كفالتها؛ لأن رعايتها من أبيها أعظم عند الله عز وجل من رعاية أخيها، فهي كذلك في كفالتها، فكفالة اليتيمة من البنات أعظم عند الله عز وجل من كفالة اليتيم من الأبناء.
المرتبة الثانية: أن يكفل الإنسان يتيماً بماله هو وليس عند اليتيم مال تتشوف نفسه إليه، وهذا بعد ذلك مرتبة، ثم يكون في ذلك مسألة كفالة الإناث أعلى مرتبة من كفالة الذكور.
المرتبة الثالثة: أن يكفل الإنسان يتيماً ويكون عند هذا اليتيم مال ويأكل منه بالمعروف، ويقوم على رعايته وشأنه وتربيته كحال أبنائه.
ولماذا قلنا هذا مع أنه ينفق عليه من ماله؟
نقول: إن الشريعة قد بينت ثواب كفالة الإنسان لابنه، مع أن نفسه لا تتكلف في ذلك كتكلفها بكفالة غيرها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عال ثلاث جوار كن له حجاباً من النار ) وهن بناته، فجعل الله عز وجل في ذلك ثواباً للإنسان، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً جاريتين، وهن من الإنسان، والإنسان ينفق على أبنائه وبناته من غير وجود منة ولا مشقة، وربما أنفق الإنسان على ذريته ويجد من ذلك مشقة إلا أنه يجد لذة لكفاية ما أوجب الله عز وجل عليه، وإذا كان في ذلك قد جعل الله عز وجل عليه ثواباً فكيف فيمن انفك عنه، ولو كان من ماله، فنقول: إن الإنسان في ذلك يثاب على ذلك، ويدخل في مرتبة الكفالة إلا أنه دون ذلك مرتبة.
وقول الله جل وعلا: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، هذه الآية جاءت ببيان نكاح المشركات على سبيل العموم، والنكاح هو الزواج، وأصل النكاح هو الإمتزاج، وكأن الرجل والمرأة لم يكونوا على صلة قبل ذلك من جهة الالتقاء، فسمي نكاحاً لدنو بعضهما مع بعض، ولهذا تسمى الأشجار المتقاربة من بعضها والأغصان المتقاربة من بعض، يقال: تناكحت الأشجار إذا تقاربت، وهذا يدل على أن الرجال والنساء الأصل فيهم المفاصلة والمفارقة.
وقول الله جل وعلا: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، المشركات في ذلك يدخل أمور الوثنيات، ويدخل في هذا أهل الكتاب، ويدخل في هذا من باب أولى الملحدون الذين لا يؤمنون بوجود خالق.
هذه الآية هل هي عامة فتحمل على عمومها؟ أم جاءت بلفظ العموم وأريد بها الخصوص؟ أم هي عامة وأريد بها العموم ثم نسخت؟
ثلاثة أقوال للعلماء في ذلك:
القول الأول: إن هذه الآية جاءت بلفظ العموم وأريد بها العموم ثم نسخ منها أو خصص منها ما رخص الله عز وجل به من نكاح المحصنات من أهل الكتاب، وهذا كما جاء في سورة المائدة، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.
وهذا القول هو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين من السلف والخلف: أن الله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية مبيناً تحريم نكاح المشركات بجميع أنواعه.
ثم أنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام التخصيص في ذلك، وهل التخصيص يدخل في دائرة النسخ؟ على اختلاف في اصطلاح العلماء في هذا، هل الخاص يعد ناسخاً للعام أم يعد مخصصاً له؟
ثمة خلاف عند الفقهاء والمتكلمين في هذا الباب.
والشرك يطلق في الأصل على أهل الأوثان من عباد الأصنام ويدخل في ذلك غيرهم من المجوس ممن يعبدوا النار، وأهل الكتاب؛ لأنهم جعلوا مع الله عز وجل شركاً آخر، ولكنه غلب استعماله على مشركي العرب.
القول الثاني: إن هذه الآية جاءت عامة ولكن أريد بها الخصوص، فآية المائدة هي آية أخرى، وليست مخصصة لهذه الآية، وثمة تقارب بين القول الأول والقول الثاني.
القول الثالث: إن هذه الآية جاءت عامة وهي على عمومها ولم تنسخ، فجعلوا نكاح أهل الكتاب محرماً، وهذا قول قلة من السلف، ويخالفون في ذلك النص وما عليه عامة السلف، وهو قول عامة الفقهاء أيضاً.
جاء ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله كما رواه شهر بن حوشب عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أن طلحة بن عبيد الله تزوج امرأة يهودية، وأن حذيفة بن اليمان تزوج امرأة نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً، فقالوا: إنا نطلقهن ولا تغضب، فقال عمر بن الخطاب : لو جاز طلاقهن جاز نكاحهن، ولكن آخذهم منكم صاغرين، يعني: بلا طلاق، لو جوزنا الطلاق لجوزنا النكاح من البداية، وهذا إسناده ضعيف عن عمر بن الخطاب ؛ لأن فيه شهر بن حوشب.
والثابت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله هو القول بجواز نكاح نساء أهل الكتاب، جاء ذلك من حديث شقيق عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، قال: ( يتزوج المسلم النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة )، وهذا إسناده عنه صحيح، كما جاء في المصنف وعند ابن جرير وغيره.
والأشهر هو المعنى الأول: أن هذه الآية جاءت عامة ثم خصص الله عز وجل من ذلك أهل الكتاب.
وفي قول الله عز وجل: حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] في قوله: حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] إشارة إلى أن الحرمة ليست أبدية، وإنما العلة هي وجود الشرك، وإذا كانت هذه العلة مقيدة بوجود هذا الوصف، فإن المسلم إذا نكح مسلمة ثم أشركت، فإنه يحرم عليه أن تبقى معه؛ لأن النهي هنا علق بوصف الشرك، فإذا وجد هذا الوصف في المرأة، سواء كان ابتداءً أو كان ذلك بعد النكاح فإن النكاح لا يجوز ويجب عليه أن يفارقها.
قال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، الأمة هي المملوكة، وأراد الله عز وجل أن يبين أن نكاح الإماء المؤمنات خير من الأحرار المشركات، وأن الأمر يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى، والعدل معه جل وعلا، كما يأتي بيانه بإذنه تعالى.
وفي قوله جل وعلا: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يغلب رغبته على حكم الله جل وعلا، فقد يعجب الإنسان بامرأة لمالها أو لحسبها أو لجمالها أو لحظ من حظوظ الدنيا، فإن ذلك ينبغي ألا يقدمه على حكم الله عز وجل، لأن الله جل وعلا قد قضى في ذلك أمراً فيجب على الإنسان أن يسلم، وهذا من الأمور التي يختبر فيها إيمان الإنسان، فيما يتعلق بالأمور القلبية والميل.
والله عز وجل قد أثبت أمر الإعجاب، أن الإنسان ربما يعجب بكافر، إما يعجب بصنعته، أو بحرفته، أو بأمانته، أو بصدقه، أو بجماله، أو بقوامه، أو لماله وثرائه، أو ذكائه، أو غير ذلك، ولكن يجب عليه أن يعلم أن الله عز وجل قد جعل هذه المقاييس مادية والإيمان بها صحيح، ووجودها صحيح، ولهذا الله عز وجل بيَّن وجودها في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] يعني: أنها موجودة، وما أمر الله بنزع ذلك الشيء الذي يجده الإنسان في نفسه؛ لأن نزع ذلك من الأمور المحالة، أن يرى في ذلك الإنسان حذقاً في صناعته، أو حسناً في قوامه، أو ملكة في ماله، وهو صاحب شراء في المال أو نحو ذلك، هذا أمر وجوده في ذلك قدري.
ولهذا نقول: الله عز وجل قد جعل في قلوب الناس ميلاً إلى الجمال، وميلاً إلى المال، وميلاً إلى ما يحسنه الإنسان من العقل أو نحو ذلك، ولكن الله عز وجل ما أمر بنزعه، وإنما أمر بجعله مرجحاً في حكم الله سبحانه وتعالى، والمرجح في ذلك أمر الله جل وعلا، ولهذا قال: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، يعني: ولو كان الإعجاب في ذلك ظاهراً موجوداً، فإنه يحرم على الإنسان أن يتناول ذلك، لأن العبرة ليست استحساناً وذوقاً مادياً، وإنما هو حكم في ذلك إلهي؛ لأن العبرة هي تقديم أمر الله على أمر غيره.
وكذلك في هذا اختبار لأمر المحبة الإلهية، هل تقدم محبة الله أم محبة العبد للعبد الآخر؟
فإذا غلبت محبة الإنسان فإنه ينفر من ذلك امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن المشرك إنما عدل في أمر المادة، وأما أمر الله عز وجل فظلم نفسه في ذلك؛ لأن الشرك في هذا ظلم عظيم، ولهذا يقول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح قال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهذا هو الإشراك مع الله عز وجل، قد سماه الله سبحانه وتعالى ظلماً، وكذلك في قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] يعني: بشرك أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الله سبحانه وتعالى بين أن الإشراك معه جل وعلا ظلم، فالذي ظلم مع الله عز وجل ينبغي ألا يقدم وإن عدل مع الإنسان.
وتقديم الإنسان لهذا الأمر المادي دليل على ضعف إيمان الإنسان وضعف الصلة بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
الإنسان إذا عدل معه أحد في تعامله، في بيعه وأدى له الأمانة وأنصفه من جهة التجارة، وأهدى له، وأعطاه، ووهبه، وأثنى عليه، وكساه، وأعطاه، ولكنه ظلم أباه، فقام بالتعدي على أبيك بماله والإساءة إليه، وسبه وشتمه، فلو أحسن إليك لكرهته، لقوة الصلة بينك وبين أبيك؛ لأنه أولى من إنصافه لك، فالإنسان الذي يقول: هذا عدل معي وأنصف، ولا يلتفت إلى ظلمه مع رب العالمين؛ أمارة على ضعف صلته بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإعجاب هو الميل فطري، وليس هو الميل الذي يتكلف الإنسان أثره، والميل الذي يغرس في ذات الإنسان من حب الإنسان للحسب والنسب والمال والجمال والعمل وغير ذلك.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] هنا غاير في الاستعمال، قال في أول الآية: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] الخطاب للرجال، هذا فيه دليل على أنه لا نكاح إلا بولي.
الأمر الأول في النكاح توجه للرجال، وما وجه الخطاب بعد ذلك للنساء، فقال: ولا تنكحن المشركين حتى يؤمنوا، وإنما وجه الخطاب للرجال في الحالين؛ لأنهم يزوجون أنفسهم، ويزوجون أولياءهم من النساء فقال الله جل وعلا: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، هذه الآية فيها إشارة إلى النكاح بولي، وهذه المسألة هي على الخلاف المعروف، جماهير العلماء على ذلك، وهذا أظهر دليل في القرآن على أنه لا نكاح إلا بولي، فالخطاب توجه إلى الرجال ولم يتوجه إلى النساء، ولهذا الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يخاطب في أمر النساء وجه الخطاب للرجال، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32].. فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ [النساء:25]، إشارة إلى أن النكاح يكون بالولي، وهذه الآيات دليل على أنه لا نكاح إلا بولي، يذهب إلى هذا عامة السلف، جاء عن عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود ، وذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز و سعيد بن المسيب و الحسن ، وكذلك مالك و أحمد والشافعي ، و الليث و سفيان الثوري، وأكثر العلماء على ذلك، ذهب قلة من السلف وهذا مروي عن الزهري، وعامر الشعبي ، وجاء عن أبي حنيفة عليه رحمة الله قال: إنه للمرأة أن تزوج نفسها بشاهدين للكفو، والإمام الشافعي رحمه الله يشدد في هذا، ويقول: إن النكاح بلا ولي ولو بشاهدين ولو بإشهار أنه ليس بنكاح صحيح، لا يقع فيه إرث، ولا يكون فيه نسب، قال بذلك بعض الفقهاء من الشافعية، والأدلة في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في هذا جملة من الأدلة، منها ما رواه أبو إسحاق عن أبي بردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نكاح إلا بولي )، وهذا الحديث قد اختلف في وصله وإرساله، فقد جعله مرسلاً جماعة من الرواة رواه شعبة بن الحجاج وسفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه في ذلك إسرائيل ، فرواه عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نكاح إلا بولي )، واختلف العلماء في ترجيح الوصل والرفع في ذلك، وقد جاء في ذلك من حديث الزهري عن عروة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي )، وجاء عند الدارقطني من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزوجوا المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، فالزانية هي التي تزوج نفسها ). وقال الدارقطني : إسناده صحيح.
قال ابن المنذر رحمه الله في كتابه الأوسط: وقول أبي حنيفة مخالف للسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك عندي في أن النكاح بلا ولي هو نكاح باطل، وأنه لا يقع فيه ميراث لو تم في ذلك.
وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، هنا الأمر مقيد كما أنه قيد في نكاح المشركات، كذلك قيد هنا في المشركين بالوصل، فإذا زال الشرك فإنه حينئذٍ يجوز للرجل أن يزوج المسلم بعدما كان مشركاً بدخوله للإسلام، وهذا مما لا خلاف فيه، وفيه أن الرجل إذا زوج موليته مسلماً ثم أشرك، فإن العقد في ذلك يفسد بمجرد شركه، ويكون حينئذٍ الأمر محرماً؛ لأن الأمر مرتبط بالبداءة والاستدامة، أن يبدأ بالإسلام، وأن يكون مستديماً باقياً على ذلك، على خلاف عند العلماء فيمن ارتد ثم رجع في أثناء العدة هل يبدأ بعقد جديد أم يبقى على عقده ذلك؟
نقول: هذا من مواضع الخلاف، ولكن العلماء يتفقون على أن المشرك إذا أشرك وتحته امرأة مسلمة أنه يحرم عليه أن يطأها، أو تمكنه من نفسها، ولا الولي أو أبوها أن يمكن ابنته من الرجل بعد ردته وشركه، فإذا عاد في ذلك فعودته على نوعين: إذا عاد بعد العدة فإنه يعود على الصحيح بعقد جديد، وإذا عاد قبل ذلك فهذا موضع خلاف، وكلا الأمرين محتمل.
وقول الله جل وعلا: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة:221]، يعني: أنك تزوج ابنتك عبداً من العبيد ليس من الأحرار خير من أن تزوجها مشركاً، وهذا فيه كسر لنظرة المادة التي تغلب على الإنسان، ولهذا في قول الله جل وعلا: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، يعني: أنه ربما يعجبكِ أحد من الناس لهذا المنظار، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه مهما زوج الإنسان من ضعفاء الناس وممن يزدريهم الناس بنظره، فإن ذلك أحب عند الله عز وجل، فينبغي للإنسان ألا يغلب نظرته المادية في هذا. وفي هذا ينبغي أن نعلم أنه ليس في كل حين يتشوف الإنسان لحكم الشريعة أن يوافق ميله ورغبته، بل ينبغي له أن ينظر إلى حكم الله عز وجل مجرداً، ثم يسلم بما أراد الله سبحانه وتعالى امتثالاً لأمره جل وعلا.
ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين العلة في ذلك في قوله: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، ذلك أن الكفار إنما يهدون الناس إلى النار، ومعنى ذلك جملة من المعاني، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، يعني: أن هؤلاء يهدون إلى الظلمات المفضية إلى الخلود في النار.
وهذا في قوله: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221] إشارة إلى أن الكافر ولو كان صامتاً فهو يدل الناس إلى النار، فربما كان ثمة ارتباط خاصة في الأمور المستديمة من طول الخلطة ونحو ذلك، فربما كان في نظر الإنسان من الاستحسان والخلط بين الاستحسان المادي مع الاستحسان الأخروي، أو ما يتعلق بالاستحسان الديني، فاستحسن الإنسان جماله، أو استحسن ماله، أو صنعته أو حرفته أو عمله، فمال الإنسان إليه، فتأثر بدينه.
وهنا في قوله: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ [البقرة:221]، يعني: في كل حال، إشارة إلى وجود الدعوة بمجرد المخالطة، ولو بأمر يسير، قال: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ [البقرة:221] أي: أن الله سبحانه وتعالى أراد حينما بين لكم ذلك الحكم الشرعي، ونهاكم عن نكاح المشركات وعن إنكاح المشركين، يريد الله سبحانه وتعالى بكم الخير، ويريد بكم العاقبة، وهذا نوع تهديد. أي: أن الله سبحانه وتعالى يرشدكم إلى الرحمة ومرضاته، والله جل وعلا يدعوكم إلى الجنة والمغفرة بإذنه، بامتثال أمره، أي: أنكم إن خالفتم أمر الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يتوعدكم بالنار وعدم الغفران لذلك الذنب لو شاء الله عز وجل.
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، هذا فيه إشارة إلى أن الله عز وجل قد بين الآيات للناس لعلهم يتفكرون في أمر الترجيح في الموازنة، كذلك أن الإنسان الحائل بينه وبين معرفة النتائج هو أن يتذكر الحقيقة، وأن يتأمل، وأن يستبصر، فإنه إذا استبصر وتأمل فإنه أدرك الغاية التي لأجلها جعل الله سبحانه وتعالى في ذلك الحكم ظاهراً، وأن الحكمة والعلة الغيبية الأخروية ينبغي ألا تغيب عن ذهن الإنسان، بل تكون حاضرة معه على سبيل الاستدامة.
كذلك أن الإنسان الحق كامن في نفسه ولكنه يحتاج إلى تذكير، ولهذا يقول الله جل وعلا: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، والإنسان لا يتذكر شيئاً معدوماً، فهو يعلمه إما برجوعه إلى فطرته، أو برجوعه إلى علم سابق لديه.
وهذان الأمران هما اللذان يحاكم الله عز وجل الإنسان عليهما، فالله عز وجل أمره أن يتذكر ما غاب عنه باستدعائه بشيء من القرائن والعلل والأحكام أن ينظر فيها، فالله سبحانه وتعالى كفى الإنسان الغايات، فبين له أحكام الغايات وأتى بها إليه والتي لو فكر فيها ومحص السبيل إليها، لوجد الحكم كما أخبر الله عز وجل عنه، فاختصر الله عز وجل عن الإنسان تسلسل الفكر والنظر ببيان أمره، وعلى الإنسان أن يسلم وأن يتهم عقله في حال مخالفته لأمر الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل لا يدل الأمة إلا على خير في دينها ودنياها، ولا يحذرها إلا من شر في دينها، وكذلك في أخراها.
أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: هل يدخل في كفالة اليتيم رعايته من غير كفالة يقصد ألا يستغله في داره، ينفق عليه بماله ونحو ذلك كالمؤسسات؟
الجواب: إذا كان المال يقوم بهذا ألا يكون شركاً مع غيره، فإن هذا كفالة، الإنسان ربما يكفل يتيماً أو يتيمين أو ثلاثة أو نحو ذلك، ولا يباشرهم بنفسه، فتباشرهم زوجته، أو يباشرهم بنته، أو ابنه، أو نحو ذلك بالرعاية، فلا يلزم أن يباشر الأمر من جهة الطعام والمشرب والملبس والمأكل هو بنفسه، لكن المراد بهذا أن يقوم بكفايتهم، فيسد حاجتهم في أمثال هذه الأمور، فنقول: إذا كان ماله وما ينفقه في ذلك فإنه يدخل في باب الكفالة، أما الشرك في ذلك كما تفعله بعض المؤسسات الخيرية تجعل أسهماً مائة ريال في الشهر، أو تجعل خمسين أو عشرة أو نحو ذلك بحسب الأسهم في مسائل الكفالة، نقول: هذا شرك في كفالة، كالشرك في إعتاق الرقبة ونحو ذلك، لا يؤتى الإنسان أجر رقبة كاملة، وإنما يكون شركاً في هذا.
السؤال: [ ما هو التوجيه الأمثل لوصل الآية ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) ]؟
الجواب: التوجيه فيما أرى أن الله سبحانه وتعالى حينما بين حكم الخمر والميسر وبين أمر الإنفاق؛ أراد الله عز وجل أن يجعل التفكر مرتبطاً بالأمرين، فلو كان الوقف قبل: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219]، لكانت الصلة بالأمر بالتفكر في ذلك منفكة عن الأحكام السابقة، فأمر الله عز وجل بالتفكر حاضاً عليه، وجعل شطر الآية في الدنيا والآخرة تابعاً للذي يليها في مسألة الإنفاق؛ حتى لا يفصل الإنسان بين المعنيين، فالإنسان بحاجة للتفكر في الأحكام السابقة، والتفكر في العلل والأحكام التي تأتي.
السؤال: من تزوج بلا ولي وبشاهدين ماذا يفعل؟
الجواب: يعقد من جديد، إذا قلنا: إنه ليس بزواج نقول: يعقد من جديد.
ولو أفتي في هذا، نقول: من خالف السنة الصريحة الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام والحكم الشرعي خاصة فيما يتعلق بالأبضاع يجب أن يرجع إلى السنة، وأما في مسائل النصوص المحتملة، فيمكن أن يقال في ذلك، أنا لا أعلم من الصحابة من قال بقول أبي حنيفة ، يستمسك بما جاء عن عائشة عليها رضوان الله فيما يرويه عبد الرحمن بن محمد عن أبيه عن عائشة ، لكن فعل عائشة عليها رضوان الله أنها هيأت أمر النكاح ووعدت ولم تعقد، إنما نسب إليها العقد في زواج ابنة أخيها في ذلك تشريفاً أنها هي التي قامت على رعايته، فالمرأة تزوج بنتها رجلاً من الناس، ويقوم على عقد النكاح ابن هذه المرأة، فيقال: زوجت فلانة فلاناً من باب التشريف، خاصة إذا كانت كبيرة سن أو نحو ذلك، ولكن الذي عقد رجل، وهذا من جنس ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله ولا إشكال فيه لمن جمع طرقه استبان له ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [25] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net