اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [26] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نكمل ما توقفنا عنده، وذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، هنا جاءت عدة أسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب الله عز وجل عنها نبيه، وكذلك الصحابة عليهم رضوان الله، وتقدم الإشارة إلى الأسئلة التي وردت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتها، وأن ذلك كان مختصاً في زمن الوحي، وأما بعد ذلك فإن الجهل عي، يعني: أنه مرض وشفاؤه السؤال، فينبغي للإنسان أن يسأل عما أشكل عليه.
وقول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222]، يعني: يسألك أولئك الذين سألوك من قبل عن المحيض، ولهذا عطف ذلك بالواو، والذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: إنه ثابت بن الدحداح كما جاء عند ابن جرير من كلام الضحاك مرسلاً، وقيل: إن الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسيد بن حضير و عباد بن بشر على خلاف في ذلك، والأظهر أن هذا السؤال جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدة، كما جاء عند الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت اليهود بالمدينة إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجالسوها فجاء الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه، فأنزل الله عز وجل عليه قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] )، فأنزل الله عز وجل عليه ذلك بعد سؤال الصحابة، وأما بالنسبة لـأسيد وعباد فإنهم إنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقعة الحائض بعد نزول الآية، وهذا ظاهر في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله، ولم يكن هذا السؤال منهما مرتين، وإنما هو مرة واحدة بعد نزول هذه الآية، فكان الصحابة عليهم رضوان الله سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عموماً، ثم جاء أسيد و عباد بن بشر فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المواقعة مخالفة في ذلك لليهود، وقيل: إن اليهود والنصارى على ضربين، ولم يكونوا على عمل واحد في مسألة إتيان الحائض وقربها، فإن اليهود والمجوس كانوا يفارقون الحائض ولا يقاربوها على الإطلاق، سواءً كان ذلك بالمجالسة أو بالمؤاكلة، أو بالمضاجعة، فكانت المفارقة في ذلك بجميع أنواعها عند اليهود والمجوس.
وأما بالنسبة للنصارى فإنهم كانوا يجامعون الحائض زمن حيضها، فجاء أسيد و عباد بن بشر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، يعني: عن تلك الحالين، وإن كان التوسط بين فعل اليهود وفعل النصارى، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ [البقرة:222]، المفارقة هي الاعتزال، وهذا هو ظاهر الآية، وعلة ذلك هي ورود الحيض، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.
الحيض والمحيض كالعيش والمعيش، والمراد بالحيض: هو الدم الذي يخرج من المرأة في زمن عادتها، ولهذا يسمى الحيض بالحيض لوروده على سبيل الدوام من غير توقف على المرأة، وإنما يأتيها في أيام دون أيام، ويسمى الماءً والنبع إذا كان كثيراً يقال: حاض الماء أو السيل أو نحو ذلك إذا سار وجرى، ولهذا تسمى الحياض بالحياض لاحتوائها الماء، وتسمى المرأة الحائض؛ لأنها حوت شيئاً من سائل دم نجس يخرج منها فسميت حائضاً.
والحيض لها أسماء في لغة العرب منها حائض وطامث وفارك وعارك وكابر وضاحك، وغير ذلك من الألفاظ، وكذلك تسمى بالنفساء تجوزاً، فتسمى الحائض نفساء، والنفساء تسمى حائضاً، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر قال: ( أنفست ) يعني: بذلك الحيض.
والحيض أمر جعله الله عز وجل على بنات آدم.
واختلف في الحيض، هل هذا الحيض هو أمر جعله الله عز وجل على بنات آدم منذ أول الخليقة، أم هو أمر أحدثه الله عز وجل لأمة من الأمم ثم بعد ذلك أصبح عادة في النساء؟
على قولين: أولهما وأشهرهما وأصحهما: أن ذلك كتبه الله عز وجل على بنات آدم عموماً، وهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم )، وجاء من حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله، وهذا دليل على أن الله عز وجل كتبه على بنات آدم عموماً، ولا يستثنى من ذلك أحد ولا حقبة زمنية على الإطلاق.
وقول في ذلك ولا أعلمه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا إنما أول ما بدئت به نساء بني إسرائيل، وهذا جاء فيه بعض الأخبار الموقوفة، كما جاء من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله، أنها قالت: ( كانت النساء من بني إسرائيل يصلين مع الرجال، وكانت المرأة تتخذ نعالاً من خشب فتتشرف إلى خليلها، فكتب الله عز وجل عليهن الحيض )، وجاء ذلك عن عبد الله بن مسعود من حديث أبي مرة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله موقوفاً عليه، وهذه الموقوفات، موقوف على عائشة ، وعن عبد الله بن مسعود ، وحديث عبد الله بن مسعود الموقوف أصح من أثر عائشة الموقوف، لأن أثر عائشة قد جاء من حديث معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ورواية معمر عن هشام فيها كلام.
وإن كان ذلك المعنى مستقيماً للشاهد الوارد عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، والله سبحانه وتعالى قدر ذلك على بنات آدم، وجعلهن يختلفن من جهة طبائعهن، ولهذا كانت مسائل الحيض هي من المسائل المشكلة عند الفقهاء؛ لأن الأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قليلة، الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي لا يدانيه شك من جهة ثبوته أربعة أحاديث في الحيض، وما عدا ذلك فهو محتمل الإعلال، ومنه ما هو غالب الظن برده.
ولهذا كان الأمر يُرجع فيه إلى عادة النساء، وعادة النساء في ذلك يختلفن ويتباين، والسبب في ذلك لأمور:
الأمر الأول: ما يتعلق بطبائعهن، أن الله عز وجل جعل المرأة تختلف طبيعةً عن غيرها، فتجد المرأة تختلف عن أختها، وأختها تختلف عن أمها، وهكذا.
فالله عز وجل جعل الطبائع في ذلك مختلفة، ويتشابهن بقدر قربهن، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة تشابه النساء قال: ( تتحيض كما تحيض نساؤها ) يعني: أنها كما تجري على ذلك النساء، وهذا تختلف فيه طبائع النساء، فربما كانت المرأة عادتها في ذلك عشرة أيام، وتكون أمها في ذلك الدون كالخمس، ولكن الغالب أن أهل البيت يتقاربن.
الأمر الثاني: هو أن العالم يتعذر عليه سبر أحوال النساء لبعده عنهن بخلاف أحوال النساء، والفقه في الرجال هو أظهر من الفقه في النساء، ولهذا بعد عن الإنسان إدراك هذه المسائل، ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: بقيت في كتاب الحيض تسع سنين، يعني: حتى أدركت هذه المسائل كما نقله عنه القاضي ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة، ومراده من هذا أن الإنسان لا يمكن أن يتفقه بمسائل الحيض إلا وقد سبر أحوال النساء بكثرة سؤالهن، ومعرفة أحوالهن، وكثرة ما يرد إليه من أحوال السائلات ونحو ذلك، وثمة مسائل عديدة مما لم يرد فيه دليل في الشريعة بحسمه بعينه، كالمرأة في ذاتها من جهة أمد حيضها، من جهة أقله وأكثره، وبدئ الحيض ومنتهاه وغير ذلك.
والنساء في الحيض على أنواع:
أولها: من لها عادة أي: عادة تستطيع المرأة أن تضبط أمرها، فهذه تسمى بالمعتدة، يعني: لها عادة وتجري على هذه العادة من غير أن تخرم عادتها بشيء مما ينقضها، وهذه هي أسهل المسائل، أن ترجع المرأة إلى عادتها.
الحالة الثانية: المبتدئة التي ليس لها عادة، وهي شبيهة بالمرأة المتحيرة من جهة المآل، فالفتاة التي تبتدئ بحيضها لا تستطيع أن تميز أمرها، فهذا أول أمرها، والعلماء غالبهم يحيلونها في ذلك إلى أقرب نسائها من جهة الحيض إلا إذا كان دون ذلك، فإنها إذا طهرت بعده فإنها لا تعد حائضاً ولو كانت تشارك أهل نسائها بالعدد، فإن قصورها عن العدد في ذلك ورؤيتها للطهر موجب لها برفع الحيض عنها، ونزول التكاليف عليها.
الثالثة: المتحيرة التي ليس لها زمن معلوم، ويكون لها خمسة في شهر، وستة في شهر، وسبعة في شهر، أو ربما لها يومان في شهر، وهكذا، فهذه امرأة متحيرة، ولا تستطيع أن تميز ذلك الدم.
والرابعة: المميزة التي تميز دمها من جهة لونه إلا أنه لا عادة لها، فهي تعرف في ذاتها لون الدم الذي هو دم الحيض، والدم الذي ليس بدم الحيض، وإنما هو دم عرق، فنقول: إن هذه ترجع إلى معرفتها، ويشكل في ذلك إذا كانت المرأة لها عادة وتميز ذلك الدم، فخرج ذلك الدم من جهة لونه عن عادتها، فهل تقدم العادة أو التمييز في ذلك؟
على قولين عند العلماء، هذا من مسائل الخلاف عند الفقهاء عليهم رحمة الله.
الخامسة: الآيسة، ويختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في نهاية ذلك الذي تيأس فيه المرأة في حدها من جهة نزول الدم عليها، وما هو الحد في ذلك من جهة السن العمري، وإذا نزل عليها بعد ذلك هل يعد ذلك من الحيض أم لا يعد؟
ومسائل الحيض تختلف عن مسائل النفاس من جهة أقله وأكثره، وخلاف العلماء في ذلك، وكذلك من جهة رؤية الطهر في هذه، وهذه من المسائل التي يرجع فيها إلى مظانها، والكلام في ذلك يطول.
وخبرة الإنسان يرجع فيها إلى معرفة النصوص الواردة في ذلك، وسبر أحوال النساء.
والله جل وعلا حينما قدر على نساء أو بنات بني آدم الحيض، وقدر عليهن عند الولادة النفاس، الله عز وجل منعهن من قضاء الصلاة، وأمرهن بقضاء الصيام، وهذا مما لا خلاف فيه إلا عند الحرورية من الخوارج كما جاء في الصحيح من حديث معاذة عن عائشة عليها رضوان الله، وهذا من المسائل المحسومة، وهي محل إجماع.
ولكن يختلف العلماء عليهم رحمة الله في المرأة الحائض والنفساء إذا تركت الصلاة، معلوم أنها تركت الصيام بعذر، وعذرها في ذلك كحال المريض والمسافر، فهي تقضي بعد ذلك.
أما بالنسبة للصلاة التي لا تقضيها، فهل تؤتى الأجر أم لا تؤتاه؟
هذا من مواضع الخلاف عند العلماء، وهما قولان عند الشافعية، والأظهر في ذلك أنها تؤتى الأجر بإذن الله، وهذا القول هو الأرجح، وقد ذكر القولين عليه رحمة الله في أوائل كتابه المنهاج، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرهن بأداء الصلاة حال عدم العذر، وعند ورود العذر أمرهن بالترك، وهذا نوع من المرض الذي جعله الله عز وجل والأعذار التي تأتي على بنات آدم من غير اختيار، فإذا كان العذر باختيار الإنسان ثم يجعل الله عز وجل له الأجر كحال السفر، فهو عذر يبيح للإنسان أن يدع الصيام ويبيح له أن يقصر الصلاة، فصلاة الإنسان في سفره ركعتين على خلاف صلاته في حال الإقامة، ويكتب الله جل وعلا له ما سقط من صلاته، وهي الركعتان كحاله في حال الإقامة، والله عز وجل يكتب له ذلك، كما جاء في حديث أبي موسى في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم ).
على هذا المرأة إذا كانت في عذرها هذا وهي في حال إقامة ومن غير اختيارها، فإن الله عز وجل أرجى بأن يكتب لها الأجر من المسافر في سفره إذا أسقط شيئاً من صلاته، جعلها الله عز وجل له تامة، وما يسقط عنه ولا يقضيه بعد ذلك في حال إقامته، من السنن الرواتب، فإن الإنسان لا يؤديها في حال سفره، ويستثنى من ذلك: من ركعتي الفجر، وما يتعلق بالنوافل المطلقة من قيام الليل وصلاة الوتر، فما يفعله الإنسان في حال إقامته يكتبه الله جل وعلا له في حال سفره، ولا يجب عليه أن يقضيه إذا كان يؤديه، إلا ما دل عليه الدليل من أمر القضاء من مسألة الصيام.
وهذا إذا كان في مثل هذه الصورة فهي في الحائض من باب أولى، ولكن يشكل على البعض وهو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشار إلى أن نقصان الدين أنها إذا حاضت لم تصل ولم تصوم، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى النساء أن يقضين الصلاة، وأمرهن أن يقضين الصيام، ومعنى ذلك: أن المرأة إذا تركت الصيام قد وجد عندها عذر في ذلك كحال الإنسان في حال سفره أو مرضه، وتركه في ذلك لوجود العذر قائم فيه لا يسمى نقصاناً في ذاته من جهة ورود الأجر، وأما قصوره من جهة العمل، فهذا ظاهر، فإن الإنسان الذي لا يؤدي العمل فيختلف من جهة أثره على إيمانه، فالإنسان إذا كان مسافراً سفراً على سبيل الدوام ويفطر أو يقصر الصلاة، بخلاف الإنسان الذي في حال الإقامة، فإن أداءه للسنن الرواتب نوع من تجديد الإيمان، وحضور ذلك في قلب الإنسان بخلاف الإنسان الذي يدع ذلك ولو كان معذوراً، فهو يؤتى الأجر ولا يؤتى الأثر، وأثر ذلك ما يجده الإنسان من صلة دائمة مع الله سبحانه وتعالى، كذلك الإنسان في حال مرضه ربما يصاب بشيء مقعد، فكلما كان قبل إقعاد الله عز وجل له يكتب له ذلك الأجر على سبيل الدوام ولو بقي عشراً وعشرين عاماً، إذا كان حبسه عن ذلك أمر جعله الله عز وجل عليه، ولكن يجد الإنسان في قلبه عدم اتصال مع الله سبحانه وتعالى، وربما عدم زيادة إيمان، وهذا هو أثر العبادة، وأثر ذلك هو يحرمه الإنسان كما تحرمه المرأة في مسألة حيضها ونفاسها، يحرمه الإنسان كذلك في مسألة مرضه وعذره الذي يلحقه عند تركه للعبادة، وهذا هو المراد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما غلب أمر المرأة من جهة نقصان دينها على الرجل مع ورود النقصان المشابه عنده بالنسبة للمرض والسفر؛ لأن هذا الأمر أمراً مستديماً على النساء وليس مستديماً على الرجال، يعني: لا بد أن يأتي المرأة أمر الحيض إذا كانت من أهل التكليف.
إذاً: فهو أمر مستديم، وهذا النقصان على المرأة أظهر، أما بالنسبة للرجل فلا يلزم من ذلك السفر، وربما بقي الإنسان حولاً وحولين ولم يكن من أهل السفر، وربما سافر ولم يجب عليه أن يفطر لنشاطه وقوته، وعلى هذا نقول: إن هذا النقصان هو أظهر في أمر النساء.
وقول الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، أخبر الله عز وجل أن المحيض أذى، وقيل: إن المراد بالأذى هو القذر، ويستدل العلماء بذلك على نجاسة دم الحيض؛ لأنه لا يسمى الطاهر أذىً، وهذا محل اتفاق عند العلماء أن دم الحيض نجس، وقال بأن المعنى في الأذى هو القذر جماعة من المفسرين، كما جاء ذلك عن قتادة و مجاهد بن جبر ، وغيرهم من المفسرين.
قال: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ [البقرة:222]، السؤال من الصحابة عليهم رضوان الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيض وحالهم مع المرأة؛ ذلك أن الصحابة في المدينة يتأثرون بأهل الكتاب بخلاف أهل مكة، فصلتهم بأهل الكتاب ضعيفة، أما المدنيون فإنهم يقيمون بين ظهراني أهل الكتاب، والمدينة يوجد فيها اليهود، أما النصارى فندرة أو معدومون، واليهود من جهة أمرهم مع الحائض فإن المرأة إذا حاضت عندهم لم يجالسوها ولم يؤاكلوها فضلاً عن مضاجعتها وقربها، وهذا بقي من التأثر في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا عليه قبل ورود أحكام الشريعة.
وفي هذا إشارة إلى أن الخلطة مع أهل الملل الضالة والمنحرفة تغرس في ذلك أثراً وتقليداً في نفوس الناس، مع أن أهل المدينة الأصل فيهم الوثنية إلا أهل الكتاب من اليهود، وهؤلاء تأثروا بشيء منهم، وكانوا من الأوس والخزرج وأضرابهم من أهل المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأهل الكتاب بينهم، ويتأثرون بشيء من أحكامهم وعبادتهم، وتسلل منهم شيء في ذلك؛ لأن اليهود هم أصحاب كتاب وتشريع بخلاف الوثنية ليس لديهم تشريع، وإنما هو انحراف طرأ عليهم عن الحنيفية، ولم يكن لديهم كتاب يجددون به دينهم، ولو كان محرفاً، أما بالنسبة لليهود فلديهم كتاب يقرءونه ويتلونه ويعلمون أنفسهم ومن حولهم، وربما تأثر بهم من الأوس والخزرج أقوام، وهذا من المسائل التي تأثر بها أهل المدينة باليهود.
وأما بالنسبة للنصارى كما تقدم، فإنهم يجيزون مجامعة الحائض، أما بالنسبة لليهود فإنهم لا يقربونها، وأما في قول الله جل وعلا: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] حينما بين أذى الحيض، وفي ظاهر السياق الموافقة على نجاسة الحيض كما كان عليه أهل الكتاب، ولكن الأمر فيه جاء على التفصيل، فلا يكون ذلك مفارقة تامة، فيظن الإنسان أن بدن الحائض نجس في ذلك، وإنما جاءت الشريعة بتفصيل ذلك، فبين الله سبحانه وتعالى نجاسة الدم ابتداءً، ثم أمر باعتزال النساء في المحيض، وهذا يظهر منه صفة السؤال الذي ورد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن السؤال إنما ورد إلى النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو عن مواقعة، فجاء الأمر هنا لا فيما يتعلق بمماسة بدن المرأة، وإنما بمواقعتها، فقد جاء عند ابن جرير الطبري وغيره من حديث خصيف عن مجاهد بن جبر أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان المرأة، وهي حائض، فأنزل الله عز وجل عليه قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222].
وجاء عن مجاهد بن جبر أن الصحابة عليهم رضوان الله سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان المرأة وهي حائض في دبرها، فأنزل الله عز وجل عليه ذلك الأمر، وبين الله عز وجل تفصيل ذلك كما يأتي، قال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، نهى الله عز وجل عن قرب المرأة وأمر باعتزالها حتى تطهر المرأة، فيفهم أن المراد بالاعتزال والنهي عن القرب أن الله سبحانه وتعالى أمر بالإتيان بعد ذلك، قال الله جل وعلا: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، يعني: أنه ينبغي للإنسان إذا أتى المرأة أن يأتيها من حيث أمره الله عز وجل من قبلها لا يأتيها من دبرها، يعني: أن السؤال هو سؤال عن مواقعة لا سؤال عن مماسة البدن ولا نجاسة البدن أو الثياب أو المخالطة، فجاء الأمر على هذا التفصيل في كلام الله سبحانه وتعالى، فبَّين الله عز وجل نجاسة دم الحيض، والاعتزال، ثم فسر الله عز وجل الاعتزال المراد به هنا أن المراد به هو اعتزال مواقعة لا اعتزال مماسة وقرب.
واختلف العلماء في قدر الاعتزال الذي أمر الله عز وجل به على عدة أقوال:
القول الأول: هو اعتزال ما لم يجامع، يعني: أن ما كان من غير الجماع وهو موضع نجس قال: قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فإذا كان الإنسان لا يصاب من أذى المرأة من نجاسة دم حيضها، فإنه يجوز له أن يدنو منها أو يباشرها، وأن يمس أي موضع، هذا ذهب إليه جماعة من العلماء، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعاً من حديث عائشة، وصح هذا عن عائشة عليها رضوان الله تعالى موقوفاً عليها من حديث مسروق عن عائشة عليها رضوان الله أنها سئلت: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: كل شيء إلا الجماع، يعني: أن الله عز وجل بين أن بدن المرأة إنما هو في حال حيضها، أما عدم حيضها فهو طاهر، وأن العلة في ذلك هي في وجود الدم فإذا أمن الإنسان من مماسته لبدنه، فإن الأمر في ذلك على الترخيص، وهو المراد به في مسألة الاعتزال.
القول الثاني: قيل: إن المراد بذلك هو ما بين سرتها إلى ركبتها، باعتبار أنه لا يأمن الإنسان فيما دون ذلك أن يصل إليه شيء من الأذى، جاء هذا عن جماعة من الفقهاء، وروي هذا عن عبد الله بن عباس و عكرمة ، وروي عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى خلاف ذلك.
القول الثالث: قالوا: هو عدم المماسة، ألا يمس الإنسان المرأة ولكن يؤاكلها ويدنو منها، ولكن مس البدن لا فيبتعد، جاء هذا عن عبيدة السلماني ، كما رواه ابن جرير الطبري من حديث محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة السلماني عما يجوز للمرأة، فقال عبيدة السلماني: لحاف واحد وفراشين، يعني: يبتعد الإنسان عن مماسة المرأة.
وأصح الأقوال هو القول الأول أنه يحرم عليه أن يجامعها وأن يبتعد عن موضع الأذى، فإذا ابتعد عن موضع الأذى وأمن من وصول النجس إليه، فإنه حينئذٍ يجوز له من المرأة وبدنها في ذلك على حد سواء، وهذا الذي ذهب إليه جمهور السلف، وهذا الذي يعضده ظواهر الأدلة، وهو ما جاء مفسراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض، ويضع شيئاً على فرجها.
وفي قول الله جل وعلا: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، هذا فيه إشارة إلى أنه ما من امرأة إلا وتحيض، ولهذا جاء اللفظ على سبيل العموم، والنساء في ذلك يطلق على المرأة عند بلوغها، قيل: بلوغها في ذلك هي التسع، تسمى امرأة، وما دون ذلك تسمى من النساء تجوزاً، وإذا كانت على سبيل الانفراد فتسمى طفلة أو جارية، وإذا كانت ضمن نساء تشترك معهن في لفظ النساء.
في قول الله جل وعلا: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، جاء ذلك على قراءتين، قيل: (حتى يطهرن) وقيل: (حتى يطّهرن) وأصل ذلك (حتى يتطهرن)، وأدغمت التاء بالطاء وحذفت التاء؛ لأن مخرجهما واحد، والله سبحانه وتعالى نهى عن إتيان المرأة حال حيضها، وجعل أمد ذلك هو حتى تطهر المرأة من حيضها، وجاء لفظ التطهر في موضعين، قال: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] يعني: إذا طهرت المرأة وانقطع الدم فإنه يلزم من ذلك أن تتطهر، فجعل الله عز وجل أمر انقطاع الدم ليس كافياً في ترخيص إتيان المرأة حال انتقاض وضوئها، أو عدم اغتسالها، وأن مجرد الانقطاع لا يجوز للرجل أن يجامع المرأة.
اختلف العلماء في المراد بالتطهر هنا على عدة أقوال:
أولهما: أن المراد بذلك هو الاغتسال، اغتسال المرأة كاغتسالها من الجنابة، وقد ذهب إلى هذا جماهير الفقهاء، وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر، وقال به جماعة من الفقهاء كـمالك و الشافعي وأحمد ، وغيرهم من الأئمة.
القول الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى أن المراد بذلك هو الوضوء، وهو قول أبي حنيفة عليه رحمة الله، واختلف الفقهاء في مسألة عدم وجود الماء، هل يجزئ عن ذلك التيمم؟ على قولين عند الفقهاء.
القول الثالث: قالوا: إن المراد بذلك أن تتطهر وأن تنقي موضع النجس، وأن الترخص في ذلك يكون بعد تطهيرها لموضع النجس ولو لم تتوضأ، وهذا هو أضعف الأقوال.
وأرجحها في ذلك أن تغتسل المرأة غسلاً تاماً، وهذا هو الظاهر من تكرار أمر التطهر في قول الله جل وعلا: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222]، يعني: تطهرن مما هن فيه.
واتفق العلماء على حدث الحيض لا يرتفع إلا باغتسال، ولكن من قال: إنه يجزئها الوضوء، أو يجزئها غسل موضع النجس في ذلك، قالوا: لأنها لا تستبيح بذلك عبادة، وإنما المقصود من قول الله عز وجل: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، المراد بذلك هو ذهاب دمها، وأن يبتعد الإنسان عن موضع الدم فلا يقربه، فيكون الحكم كحال ورود الدم فيصل إليه النجس؛ لأن الله عز وجل قال: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فالله عز وجل أمر باعتزالها، فإذا انقطع الدم ولم تغسل عنها أثر الدم بقي حكمها في ذلك بوجود الدم عليها وعدم أمر ورود النجاسة في ذلك، ولهذا نهى الله جل وعلا عن قربها.
وأما من قال بمجرد انقطاع الدم ولو لم تغسل موضع الدم، وأن مجرد الانقطاع مرخص لإتيان المرأة، فهذا قول بعيد، ولا يعول عليه، وهو شبيه بالقول الشاذ.
وفي قول الله جل وعلا: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، هذا على ما تقدم الكلام عليه أنه جاء في سبب نزول هذه الآية أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان المرأة في دبرها عند ورود الحيض، فكأنهم يعلمون بمفارقة المرأة عند حيضها في قبلها، فسألوا عن الإتيان في دبرها، كما جاء عند ابن جرير الطبري من حديث خصيف عن مجاهد بن جبر أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان الحائض في دبرها، فأنزل الله عز وجل عليه هذا، أنه يجب على الإنسان أن يفارقها بجماعه، سواء كان ذلك في قبل أو دبر، ثم حينما رخص الله عز وجل في ذلك، قال: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ [البقرة:222]، يعني: ليس لك أن تأتيها في حال حيضها، ولو كان رخصة لأذن الله عز وجل بذلك، ولهذا قال الله جل وعلا: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].
والأمر هنا في قوله جل وعلا: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] فيه إشارة إلى أن ثمة أمراً منهياً نهى الله عز وجل عنه، وهو إتيان المرأة في دبرها، وهذا من الأمور المحرمة، ومأخوذ ذلك من هذه الآية والآية التي تليها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223]، وهذا يأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل وتفسيره بحول الله.
وفي قول الله جل وعلا: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فيه إشارة إلى ورود موضع نهى الله عز وجل عنه، وهو إتيان المرأة في دبرها، والله جل وعلا قد نهى عن إتيان المرأة في دبرها كما هو صريح في هذه الآية، جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة و خزيمة بن ثابت ، وجاء من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، وجاء في ذلك جملة من الموقوفات، جاء من حديث أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى امرأة في دبرها، أو أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )، وهذا الحديث قد تكلم فيه بعضهم وحسنه بعض الأئمة، وذلك أن أبا تميمة مستور الحال، ولا يعرف له سماع عن أبي هريرة، وجاء من وجه آخر عن خزيمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء من حديث عبد الله بن عباس، ولا تخلو الأحاديث الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام من كلام، ولكن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى استفاض عنهم النهي في هذا.
جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله كما روى النسائي في كتابه السنن من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن إتيان المرأة في دبرها، قال: ذاك الكفر، وإسناده عنه صحيح، وجاء عند النسائي عن أبي الدرداء بإسناد صحيح، وجاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله عند النسائي أنه سئل عن إتيان المرأة في دبرها، قال: أو يفعل ذلك مسلم.
جاء في بعض الروايات عن عبد الله بن عمر القول بالترخيص بإتيان المرأة في دبرها، رواه الإمام مالك رحمه الله عنه عن ربيعة عن ابن يسار عن عبد الله بن عمر أنه قال: لا بأس، وهذه الرواية عن الإمام مالك رحمه الله قيل: إنها من الأغلاط عن عبد الله بن عمر ، وذلك أنه جاء من وجه آخر من حديث الحارث عن ابن يسار عن عبد الله بن عمر، أنه نهى عن إتيان المرأة في دبرها من هذا الطريق.
كذلك جاء عند النسائي بإسناد صحيح في قوله: أو يفعل ذلك مسلم؟
كذلك أن موضع الوهم كما ذكر ذلك بعض الأئمة أن هذا مما فهم من قول عبد الله بن عمر على خلاف هذا المعنى، وهو أن إتيان المرأة من أمامها أو من خلفها إذا كان ذلك في فرجها أن هذا جائز، فهمه بعضهم هو إتيانها في دبرها، وهذا أنكره ميمون بن مهران على نافع ، فقال: أخطأ نافع أو غلط أو كذب نافع، إنما سئل عبد الله بن عمر عن إتيان المرأة في قبلها من دبرها، هذا هو موضع الوهم عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، ففهم في ذلك ثم نقل عنه ذلك القول، ونقل الإمام مالك رحمه الله تعالى هذه المسألة وعامة الأئمة عليهم رحمة الله وحكي الإجماع في هذا، قد حكاه القرطبي والنووي على تحريم إتيان المرأة في دبرها، وأصحاب الإمام مالك رحمه الله ينفون القول عن الإمام مالك رحمه الله بتجويزه، ومن الأئمة من يثبت القول في ذلك عن الإمام مالك ، وقد ذكر أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن أن هذا القول ثابت عن الإمام مالك رحمه الله، ويقول: إن أصحاب الإمام مالك يحاولون دفعه وهو لا يندفع، يعني: من جهة ثبوته، والنقول في هذا عن الإمام مالك رحمه الله محتملة، ولكن الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الأمر ليس معمولاً به حتى عند أصحاب الإمام مالك ، ولعله فهم فهمه كما جاء في رواية نافع وغيره عن عبد الله بن عمر على خلاف المراد، وإلا فكيف يقول: لا بأس، وهو جاء عنه أنه يقول: أو يفعل ذلك مسلم؟ فهو يقصد مسألة أخرى.
وفي قول الله جل وعلا: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، يأتي مزيد كلام بإذن الله عز وجل في إتيان النساء في أدبارهن، والأحاديث الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في هذه المسألة وحكمها وكلام العلماء في ذلك.
وفي قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، التواب هو الأواب الذي يذهب ويرجع، وهذا أمارة على الإيمان، فكأن الإنسان يقارف الخطأ ثم يرجع إلى الله عز وجل ويتوب إليه.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222]، يعني: الذين يعودون إلى الله سبحانه وتعالى ويئوبون إليه بعد ورود الخطأ منهم، والله جل وعلا يأمر عباده بالتوبة، ويأمر عباده بعدم إتيان المعصية، ونهي الله عز وجل عن إتيان المعصية ليس المراد بذلك هو امتناع ورود المعصية من الإنسان، وإنما المراد بذلك ألا يبقى الإنسان عليها، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في وصيته: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، قال: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) يعني: أن السيئة واقعة منك لا محالة، لكن ينبغي عليك أن تقلع، ثم تأتي بحسنة تكفر تلك السيئة التي وقعت منك، فإن هذا أمارة على قبول التوبة، وصدق الإنابة، وهذا هو معنى قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وكأن الإنسان في ذلك يسرف على نفسه بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى في الوقوع واقتراف المحرمات والمعاصي، وأنه ينبغي للإنسان أن يعود إلى الله ويقبل إليه، فإن الله عز وجل يتوب على من تاب.
وفي قول الله جل وعلا: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، يعني: المبتعدين عن النجس، والمراد بالطهارة هنا هي الطهارة الحسية؛ لأنه ذكر هنا في ثلاثة مواضع، قال: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222]، قال: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] يعني: الذين يبتعدون عن النجس على ما أمرهم الله جل وعلا، فيحبون الطهارة والنزاهة، وإنما حملنا قوله سبحانه وتعالى هنا: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، على الطهارة الحسية؛ لأنه ذكر الطهارة المعنوية في قوله: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222]، وهي الطهارة المعنوية، أي: طهارة الباطن، وطهارة الظاهر هي في قوله: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] الذين يبتعدون عن مواضع النجس، سواءً كان من الحيض، أو كان من مواضع النجاسة على سبيل العموم من أهل الإيمان.
وهذا تربية للإنسان على الطهارتين: طهارة البواطن وطهارة الظواهر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم إلى الهدى والتقى، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [26] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net