اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الأحاديث المعلة في الجنائز [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ففي هذا الدرس السادس من جمادى الآخرة من عام (1435هـ) نكمل شيئاً مما يتعلق بأبواب الجنائز من أبواب الصلاة في الأحاديث التي تكلم عليها العلماء بالإعلال، والتي عليها شيء من مدار الأحكام.
وأول هذه الأحاديث: هو حديث جابر بن عبد الله : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يزاد عليه، وأن يقعد عليه، وأن يكتب عليه ) .
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث من جهة أصله ومتنه صحيح، ولكن فيه زيادة ضعيفة، وهذه الزيادة هي زيادة الكتابة على القبر.
وكذلك أيضاً فإن إسناده الذي جاءت به هذه الزيادة إسناد معلول، فهذا الحديث يرويه ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله وذكر فيه زيادة الكتابة عليه، وزيادة الكتابة على القبر جاءت في حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله، و سليمان بن موسى لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئاً، وأشهر وجه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن الكتابة على القبر: هو هذا الحديث من حديث سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله تفرد بالرواية عن سليمان بن موسى ابن جريج ،و ابن جريج ثقة حافظ موصوف بالتدليس، و سليمان بن موسى لم يسمع من جابر بن عبد الله ، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف، وما فيه من زيادة الكتابة على القبر، وأما أصل الحديث من أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، وأن يبنى عليه، فهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح، وكذلك أخرجه أبو داود و الترمذي و النسائي و غيرهم، من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، ولكن لم يذكر الكتابة به، وعدم إخراج الإمام مسلم رحمه الله لهذه الزيادة في هذا الحديث أمارة على إعلالها، وذلك أن زيادة الكتابة جاءت من غير طريق سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله ، وإن كان طريق سليمان بن موسى هو أشهر الطرق، ولكن جاء من بعض الوجوه من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ذكر الكتابة، واختلف في هذا الحديث على ابن جريج ، وأكثر الرواة لا يذكرون الكتابة في هذا الحديث.
رواه عن ابن جريج جماعة رواه أبو عوانة ، و حجاج بن محمد المصيصي ، و حفص بن غياث ، و عبد الرزاق بن همام كلهم يروونه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ولا يذكرون الكتابة.
وقد أخرج هذا الحديث الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث حجاج بن محمد المصيصي ، ومن حديث عبد الرزاق عن ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة.
وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله من حديث حفص بن غياث عن ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة.
وقد جاءت هذه الزيادة عن ابن جريج من حديث ثلاثة من الرواة:
أولهم: من حديث حفص بن غياث عن ابن جريج عن جابر بن عبد الله، حفص بن غياث اختلف فيه في روايته لهذا الحديث عن ابن جريج ، وأكثر الرواة لا يذكرون زيادة الكتابة في حديث جابر بن عبد الله من حديث حفص بن غياث، وقد رواه عن حفص بن غياث جماعة من الثقات فرواه أبو بكر بن أبي شيبة ، و عثمان بن أبي شيبة ، و مسدد ، و يزيد بن هارون كلهم يروونه عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، ولا يذكرون الكتابة فيه.
وخالفهم في ذلك سلم بن جنادة بن سلم عند الحاكم في المستدرك عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، وذكر حديث جابر وفيه قال: ( ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر ).
ورواية سلم بن جنادة ، وإن كان ثقة لكنه يخطئ، وهي معلولة من وجوه ثلاثة:
أول هذه العلل: أن سلم بن جنادة قد تفرد بهذه الزيادة عن حفص بن غياث ، وهو في طبقة متأخرة، وتأخر الطبقة في التفرد عند العلماء إعلال، وكيف وهذه الطبقة من طبقة التدوين، لا من طبقة الحفظ والسماع، فرواية سلم بن جنادة هي في زمن التدوين، وهذه الطبقة طبقة سلم بن جنادة هي طبقة المصنفين من الأئمة عليهم رحمة الله تعالى من أصحاب المدونات، والزيادة إذا جاءت في حديث، وتفرد بها راوٍ في هذه الطبقة فهذا دليل على الرد.
كذلك فإن مثل هذه الزيادة الأولى ألا يتفرد بها سلم بن جنادة، فـسلم بن جنادة يخطئ في الحديث، وليس بالحافظ، وقد خالف كذلك جماعة من الثقات الكبار كـأبي بكر بن أبي شيبة و عثمان بن أبي شيبة ، وكذلك خالف مسدد وغيرهم في هذا الحديث عن حفص بن غياث فهم أوسط وأعرف الناس بحديث حفص وتفرده بهذه الرواية أعني سلماً أمارة على النكارة والرد.
ومن وجوه النكارة وجه رابع يضاف إلى هذه الثلاثة: أن هذه الزيادة لم يخرجها أصحاب الأصول، وإنما تفرد بها الحاكم في المستدرك، ومفاريد الحاكم من الأحاديث المسندة كاملة فضلاً عن زيادة يخالف بها غيره من أصحاب المصنفات لا يكاد يسلم منها شيء صحيح فضلاً عن زيادة أخرجها لم يخرجها أصحاب المدونات، وقد ذكرنا مراراً أن العلماء عليهم رحمة الله من أصحاب الحفظ والمدونات الأولى: أنهم إذا رووا حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام بأسانيد، ثم جاء في طبقة متأخرة عند بعض المصنفين زيادة في حديث من الأحاديث على تلك الأحاديث فهذا شبيه بالمنكر، فإما أن تكون النكارة من سلم بن جنادة ، وإما أن تكون من بعض النساخ خاصة أن رواية سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله رواية اشتهرت بالمدونات، فربما خلط بعضهم رواية سليمان بن موسى برواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، فوقع في ذلك خلط أدخل هذا المتن بذلك الإسناد.
وثمة قرينة تؤيد هذا الاحتمال، وإن كان لا يقطع به، وهذه القرينة: أن هذه الزيادة جاءت في حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله من غير رواية حفص بن غياث مما يدل على أنها تتداول هذه الرواية في أفواه بعض الرواة، فربما سبق في المتن دمج الإسناد عليه، وذلك أن من الرواة من رواها عن ابن جريج وقد ذكرنا أن هناك ثلاثة من الرواة رووا هذه الزيادة عن ابن جريج أولهم حفص بن غياث وتقدمت الإشارة إلى هذا.
الثاني ممن روى هذه الرواية: أبو معاوية الضرير يروي هذه الزيادة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه ).
فهذه الزيادة أيضاً رواها أبو معاوية الضرير، وأبو معاوية الضرير هو ثقة في الأعمش وحافظ لحديثه، لكنه يضطرب في غيره.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: ثقة في الأعمش يضطرب في حديث غيره لا يحفظه حفظاً جيداً، وقال هذا غيره من الأئمة، وروايته هنا عن ابن جريج ، وقد تفرد بهذه الرواية عن رواية الثقات من أصحاب ابن جريج على ما تقدم من الكبار: كـأبي عوانة ، و حجاج بن محمد ، و عبد الرزاق ، و حفص بن غياث في المشهور بالرواية عنه.
فهذه الرواية نقول: ليست من المحفوظ، رواية أبي معاوية الضرير عن ابن جريج .
الراوي الثالث الذي روى هذه الزيادة عن ابن جريج: هو محمد بن ربيعة وقد أخرج روايته الترمذي رحمه الله في كتابه السنن عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، ولكن الإسناد لا يصح إليه، فإنه يروي هذا الحديث عبد الرحمن بن الأسود ، و عبد الرحمن بن الأسود مجهول، ولا يفرح بهذا الوجه، ونقول: إنه وجه ضعيف، لا يصح من جهة الإسناد إلى ابن جريج .
وفي بعض المدونات في كتب السنة يذكر الإسناد عن ابن جريج ويخلط فيه الوجهان، فيقال: عن ابن جريج عن سليمان بن موسى وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله فيذكر المتن وفيه الكتابة على القبر، ولا يميز لفظ سليمان بن موسى ولفظ أبي الزبير، سليمان بن موسى الرواية عنه في ذلك واحدة أنها بذكر الكتابة تقدمت الإشارة إلى هذا.
وأما الرواية عن أبي الزبير فعامة الرواة الثقات على عدم ذكر الكتابة على القبر، ولكن في بعض المصنفات يدمج إسناد سليمان بن موسى وإسناد أبي الزبير عن جابر بن عبد الله فيقال: عن ابن جريج عن سليمان بن موسى و أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ثم يقول: وأن يكتب عليه.
فيظن أن سليمان بن موسى و أبا الزبير يتابع بعضهما بعضاً على أصل الحديث، لكن لا على هذه الرواية، ويؤيد هذا: أن الأئمة عليهم رحمة الله في كتب المسانيد والمعاجم إذا رووا الحديث وفصلوه نجد أن رواية سليمان بن موسى فيها الكتابة، ورواية أبي الزبير ليس فيها كتابة إلا من وجه خطأ، ونقول: إن الخطأ المنقول في رواية أبي الزبير بذكر الكتابة له عدة احتمالات، ذكرنا من هذه الاحتمالات الخلط بين رواية سليمان بن موسى ورواية أبي الزبير.
ومنها: أن الوهم في هذا ربما يكون من النساخ، فيضيفون الزيادة في ذلك الإسناد، فيظن أن الحديث روي بهذا اللفظ من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله .
وأما بالنسبة للكتابة على القبر فهل يقال بجوازها أم لا؟ والحديث في ذلك ضعيف.
نقول: أخرج أبو داود في كتابه السنن من حديث كثير بن زيد المزني عن المطلب أن رجلاً حدثه قال: ( لما دفن عثمان بن مظعون عليه رضوان الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحجارة، قال: فعجز من أمره النبي أن يحملها، قال: فذهب النبي عليه الصلاة والسلام فحملها، قال المطلب: فأخبرني من رآه، أنه رأى بياض إبطي النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة، فوضعها على قبر عثمان ، فقال: أعلم بها قبر أخي لأدفن عنده بعض أهله ).
وفي هذا معان منها: أن دفن الإنسان عند رجل فاضل من الأمور المستحبة.
ويؤخذ من هذا الأصل: أن الإنسان يحرص على أن تكون ميتته في بلد مسلم، أن يكون دفنه عند مسلمين، وإذا كان في بلد المسلمين أن يكون عند فاضلين.. وهكذا، ويؤيد هذا أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله سأل عائشة أن يدفن بجوار صاحبيه.
وفي هذا من المسائل: أن النبي عليه الصلاة والسلام علم القبر حتى يعلمه بعد ذلك، والكتابة علامة قد تكون كتابة بالحروف، أو رموز، أو يضع الإنسان رقماً واحداً اثنين سبعة أو نحو ذلك فهي علامة، إذاً: فالنهي الوارد في حديث جابر بقوله: ( وأن يكتب عليه ). ليس المراد بذلك الكتابة المقروءة، ولكن العلامة المفهومة كأن يضع الإنسان دائرة أو يضع الإنسان إكساً أو نحو ذلك فهذا كتابة.
وعلى هذا نقول: إن أصلها وارد، وأما الكتابة بالحروف المقروءة فهذا لم يكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولا في زمن الصحابة.
وقد أخرج ابن عبد البر رحمه الله في ترجمة علي بن الحسين أن علي بن الحسين حفر في داره فوجد حجارة مكتوب عليها رملة بنت صخر وهي أم حبيبة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وهذه كانت على قبرها، وهذا ظني، ولكن نقول: ما جاء في حديث المطلب كاف في جواز تعليم القبر، وأما ما ينهى عنه من الكتابة على القبر، فهو الكتابة إذا تضمنت تعظيماً كأن تكون الكتابة على رخام منصوب، أو على ألواح، فهي خرجت عن التعليم إلى التعظيم، فأنت تريد أن تعرف القبر وتميزه عن غيره لا أن تعظم القبر.
أما مجرد التعليم إذا كان هذا بالكتابة أن يوضع على حجارة علامة أو ينحت كتابة، أو يضع لوناً من الأصباغ، أو نحو ذلك، فهذا مما لا بأس به.
أما أن يكون ذلك على رخام منصوب أو على ألواح مرفوعة، فهذا ينهى عنه، لأجل تعظيم القبر لا لذات الكتابة، ولا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر، ولا عن أحدٍ من التابعين، وإنما جاء ذلك عن بعض الفقهاء من أتباع التابعين، وعلى هذا نقول: إن أصل الكتابة جائز ما لم يتضمن تعظيماً لصاحب القبر، أو تعظيماً لهذه البقعة؛ وذلك بنصبها أو على ألواح، أو نحو ذلك، فهذا ينهى عنه.
وعلى هذا نقول: إنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في النهي عن الكتابة على القبر.
الحديث الثاني في هذا: هو حديث جعفر بن محمد عن أبيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ماءً ).
وجاء في لفظ من حديث جعفر بن محمد عن أبيه: ( إن رش الماء على القبر كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
هذا الحديث أخرجه الشافعي في الأم، وكذلك ذكر في المسند، وعند البيهقي رحمه الله في السنن، من حديث جعفر بن محمد عن أبيه، على اختلاف في لفظه.
رواه عن جعفر بن محمد جماعة: رواه إبراهيم بن محمد الأسلمي وهو ضعيف الحديث جداً ومتروك، ورواه سليمان بن بلال ، ورواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وهؤلاء يروون هذا الحديث عن جعفر بن محمد ، والحديث عن جعفر بن محمد صحيح، وذلك لرواية سليمان بن بلال ، وكذلك رواية الدراوردي ، ولكنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ومحمد هنا يرويه عنه رجلان: يرويه عنه جعفر بن محمد ، ويرويه عنه عبد الله بن محمد يروونه عن محمد وهو ابن عمر بن علي بن أبي طالب ، و محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب من طبقة أتباع التابعين.
وعلى هذا نقول: إن الحديث مرسل، وهو حديث ضعيف.
وقد جاء في وجوه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم الماء وحصبه بالحصباء ).
وجاء في بعض الروايات: ( إن رش الماء كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ).
وهذا كله من جهة المعنى واحد، وكله له حكم الرفع، منه ما هو صريح، وما هو في دلالة التضمين قوله: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره.
وهذا الحديث حديث مرسل، ولكن هذا الحديث جاء في أحد وجوهه عن جعفر بن محمد برواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي يرويه عن جعفر بن محمد.
جاء هذا الحديث من حديث الدراوردي موصولاً عند الطبراني في المعجم من حديث أحمد بن عبدة الضبي يرويه عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو الذي يروي عن جعفر بن محمد -لكن رواه هنا من وجه آخر- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه رش على قبر ابنه إبراهيم ماءً ).
هذا الحديث ظاهر إسناده السلامة، وقد صححه بعض المتأخرين، ولكن يظهر لي أن هذا الحديث منكر بهذا الإسناد أيضاً، وعلته إسنادية لا متنية، وذلك أن رش الماء على القبر مسألة يسيرة، وأما تفرد هذا الإسناد بهذا المتن فهو منكر، ووجه النكارة: أن هذا الحديث يرويه الدراوردي عن جعفر بن محمد ، وجاء عن عبد العزيز بن محمد من وجوه، ولم يرو إلا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا رواه أصحاب المدونات: كـأبي داود في كتابه المراسيل فإنه يرويه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا رواه عبد الله بن محمد أيضاً عن أبيه، واعتمده الأئمة من أصحاب الرواية كالإمام الشافعي رحمه الله، والإمام أحمد وغيرهم فيروونه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه، وسند هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أقوى من سند جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فلما تفرد الطبراني رحمه الله بهذا الإسناد من راوٍ روى حديث جعفر بن محمد من وجوه متعددة ولم يرو غيره، مما يدل على أن رواية الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة منكرة في هذا الحديث، ولو كان للدراوردي رواية لرش الماء على قبر إبراهيم لكان أولى بالرواية من رواية جعفر بن محمد ، ولرواه الأئمة واشتهرت، ثم إن إسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إسناد مشهور في الحجاز والعراق، ومثله لا يخفى، وأيمن هو أولى من الدراوردي عن هشام بن عروة من هذا الحديث، مما يدل على أن هذا الحديث لم يرد عن الدراوردي إلا عن جعفر بن محمد ، وأما روايته عن هشام بن عروة فخطأ ووهم، و أحمد بن عبدة الضبي الذي يروي عن الدراوردي هذا الحديث هو ثقة، ومن رجال الصحيح، لكن شيخ الطبراني في هذا الحديث اتهم بالخطأ مع وصفه بالصدق، فقد وصفه بذلك الدارقطني رحمه الله، وهو زهير بن محمد الإيلي يروي هذا الحديث عن أحمد بن عبدة الضبي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
ومن وجوه النكارة لهذا الحديث: تفرد الطبراني بإخراجه لهذا الحديث، و الطبراني يخرج الغرائب من الأسانيد والمتون، وإن كان اختصاصه في ذلك أن يخرج الغرائب من الأسانيد، ولكنه أيضاً يورد الغرائب من المتون في معاجمه.
وتفرد الطبراني رحمه الله بمثل هذا المتن مما لا يوجد في الأصول، ولا يوجد في إسناد مشهور أمارة على النكارة.
ثم من وجوه النكارة: أن أحمد بن عبدة الضبي من شيوخ ومن رجال مسلم ، ولو كان عنده هذا الحديث ما تركه مسلم؛ لأنه أصل في بابه، خاصة أن الإسناد على شرط الشيخين وهو حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على نكارة هذا الحديث.
ومن الأحاديث التي جاءت في رش الماء على القبر: هو حديث جابر بن عبد الله أيضاً: ( أن بلالاً رش الماء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وابتدأ به من رأسه إلى قدميه ).
هذا الحديث يرويه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أبي عتيق عن جابر بن عبد الله عن بلال .
وهذا الحديث تفرد به الواقدي من هذا الوجه، و الواقدي متهم بالكذب، اتهمه أبو حاتم الرازي ، و النسائي ، و علي بن المديني ، بل قال علي بن المديني رحمه الله: روى ثلاثين ألف حديث لا تعرف عند الأئمة بالرواية، وهذا أمارة على الوضع والاختلاق، وكذبه في ذلك معروف عند المحدثين بالتجربة، ومعروف كذلك بالتفرد.
وثمة مسائل في أبواب الرواية هنا وهي، هل رواية الواقدي في التاريخ تقبل؟ نقول: رواية الواقدي في التاريخ وغيره لا تقبل، لأنه متهم بالكذب، بل يجزم بعض الأئمة بكذبه، وعلى هذا سواءً روى في التاريخ أو غيره، وإنما الذي يتسامح فيه في التاريخ هو خفيف الضبط أو ضعيف الرواية الذي لا يتعمد الكذب.
وأما من عرف كذبه في باب من الأبواب فلا يقبل حديثه في غيره.
ومن هذه المعاني أيضاً: هل هذا الحديث من السير بحيث لو رواه غير الواقدي لاغتفر وقبل، أم من الأحكام؟
يجمع العلماء على أنه ما اختاره الله لنبيه في تغسيله وتكفينه ودفنه أنه وحي، ولو لم يكن من الوحي المنطوق إلا أنه من الوحي الذي أمر الله سبحانه وتعالى به الصحابة على وجه الإلهام، فيكون ذلك الفعل ولو لم ينص عليه بالوحي نصاً إلا أنه له حكم الوحي، لأن الله لا يختار لموتة نبيه إلا الأفضل والمشروع، ولهذا نقول: موضع دفن النبي صلى الله عليه وسلم وحي، وطريقة تغسيله وحي، وكذلك أيضاً رش الماء عليه لو صح وحي، ووضع الحصباء عليه وحي.
وهل رش الماء ووضع الحصباء على القبر من السنة؟ نقول: رش الماء والحصباء لا يثبت فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي من عمل السلف، ورش الماء على القبر كان له عند السلف معنى وأصبح عند بعض المتأخرين له معنى، فعند السلف كان لتلبيد القبر حتى يتماسك فينزل ما يكون فيه من فجوات أو نحو ذلك ويسد الثغرات فيتماسك القبر حتى لا ينهار بعد ذلك أو يوطأ، فيخسف ويتأثر القبر فلذلك يضعون ذلك الماء عليه، ثم يضعون عليه تراب، ثم يضعون عليه حصباء حتى تمسك الحصباء القبر من أن تسفه الرياح ونحو ذلك فتمسك الحصباء الرمل الذي يكون عليه.
أما عند بعض المتأخرين وخاصة في بعض البلدان في الشام ومصر ونحو ذلك فإنهم يرون أنها تبريد على صاحب القبر، والدليل على أنهم يرون أنها تبريد أنهم يرشون القبر حيناً بعد حين، ويتعمدون أن يأتوا بالرطوبة عليه في أوقات وخاصة في أوقات الصيف، وهذا بدعة.
وعلى هذا نقول: إن رش الماء على القبر عند دفنه مستحب، وأما بعد ذلك فيقال ببدعيته إلا القبر الذي يرمم من جديد أو نحو ذلك فيأخذ حكم حديث الدفن فيوضع عليه ويرش عليه الماء وتوضع عليه الحصباء؛ لأن القبر تماسك وانتهى، فلا حاجة إلى رش القبر عليه بعد ذلك، ثم أيضاً هذا لم يكن ديدن عمل السلف من الصحابة والتابعين، ورش القبر ووضع الحصباء عليه هو عمل السلف من الصحابة وكذلك التابعين وأتباع التابعين، ولا أعلم أحداً من السلف نهى عن رش الماء على القبر عن الصحابة أو التابعين.
وكذلك الحصباء، بل بعض الأئمة يأخذ من وضع الحصباء على القبر بعض المسائل الفقهية وكأنها أمر مقطوع لديهم كـالشافعي رحمه الله فإنه يقول: ووضع الحصباء دليل على أن القبر مستو، لأن الحصباء إذا وضعت على قبر ليس بمستو سقطت منه، فالقبر إذا كان مرتفعاً على هرم أو نحو ذلك فإذا وضعت الحصباء عليه تدحرجت، وذلك أنه ليس لديه شرفة، فإذا كان لديه شرفة فإنه يسقط، وأما إذا كان مستوياً فإن الحصباء تتماسك عليه؛ لأن له سطحاً، ولهذا لما أخرج الشافعي رحمه الله في كتابه الأم حديث سليمان بن بلال و إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصباء )، قال: والحصباء لا تكون إلا على قبرٍ مستو؛ لأنها إذا لم تكن على قبر مستو بل مرتفع ومشرف فإنه حينئذٍ تسقط ولا قيمة للحصباء على هذا، ولهذا نقول: لا يقال ببدعية رش الماء ولا وضع الحصاء، ولو لم يثبت في ذلك خبر مرفوع؛ لأنه عمل السلف.
وقد أشار إلى هذا المعنى الحاكم رحمه الله في قضية الكتابة، لما أورد حديث جابر بن عبد الله في النهي عن الكتابة، قال: والعمل على خلافه، فما زال الناس يكتبون على القبور علامات ليعرفوها بها.
نكتفي بهذا القدر.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الأحاديث المعلة في الجنائز [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net