اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحجاب في الميزان للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل قد أنعم على خلقه بالنعم الكثيرة المتوافرة التي لا يحصى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وإن من أعظم النعم التي أنزلها الله عز وجل على هذه الأمة أن أنزل عليها كتاباً بيناً فيه شفاء لكل الناس، شفاء من الأمراض والأسقام المعنوية والحسية، كما أنزل الله عز وجل القرآن على هذه الأمة لتبرأ من جميع الأدواء والعلل الظاهرة والباطنة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، أي: ما أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه إلا لأجل السعادة في الدارين.
وأن من أعظم النعم على هذه الأمة أن جعل الله عز وجل دينها يسراً، ورفع عنها الأغلال، والمشقة التي كانت على الأمم السابقة، فما أراد الله عز وجل بهذه الأمة عسراً، وإنما أراد الله بها يسراً: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فرفع الله عز وجل عن هذه الأمة الحرج، وأنزل عليهم اليسر، فكان القرآن بأحكامه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء فيها هي من اليسر الذي يجب الأخذ به واعتباره على هذا الوجه، لا أنه يحمل على خلاف ذلك، وذلك أن الشريعة ما جاءت إلا لأصحاب الفطر السوية السليمة فأخذوها كما جاءت بالتسليم من غير انحراف في الفهم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].
ومن النعم الظاهرة التي أنعم الله عز وجل بها على بني آدم أن أنزل عليهم لباساً وريشاً يستترون به ويتجملون به، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، قال غير واحد من المفسرين: إن اللباس هو ما يستر به الإنسان عورته، وأما الريش فهو شيء أكمل من ذلك وهو ما يتجمل به الإنسان من متاع وأثاث، وما يضعه الإنسان من الكماليات على جسده ليتجمل به عند الآخرين، فأنزل الله عز جل هذه النعمة على الناس كافة، لكي يكون موضع شكر في حالهم على الدوام، فإن الإنسان إذا كان ممن يماس النعمة على وجه الدوام، كان تأمله وتدبره فيها أكثر من غيرها، بخلاف ما يطرأ عليه من النعم فتكون عنده محل استغراب.
ولهذا لما كانت النعمة على هذه الحال حذر الله سبحانه وتعالى من نقيضها أن يكون الإنسان سبباً لزوال هذه النعمة من تلقاء نفسه سواءً برأي أو باتباع إغواء إبليس، ولهذا كان عقوبة آدم عليه السلام أن أنزله الله عز وجل من الجنة إلى هذه الأرض، وكان أول عقوبة أن بدت لهما سوأتهما، ولهذا بيّن الله عز وجل صراع آدم وزوجه عليهما السلام مع إبليس حينما منعه الله عز وجل أن يأكل من الشجرة فلما أطاع إبليس بقوله ورأيه، حينما طمعهما بطول البقاء أبدى الله عز وجل لهما سوأتهما.
قال العلماء في معنى قوله سبحانه وتعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، إن الله عز وجل قد أنزل على هذه الأمة لباسين وريشاً، أما اللباسان: فلباسان في الظاهر، ولباس من جهة المعنى، فالظاهر هو الحسي وهو ما يستر الإنسان به عورته, وأما الباطن فهو المعنوي وهو الدين والتقوى الذي أمر الله عز وجل بلزومها، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وذلك أن الإنسان إذا تزود بالتقوى ستر ظاهره، وإذا لم يتزود بالتقوى فإنه لا يستر ظاهره، فإن أعظم ما يكون عليه الإنسان أن يستر باطنه بتقوى الله عز وجل، فإذا كان كذلك ستر عورته الظاهرة، فإن هذا لازم لذلك كالشجرة إذا سقاها الإنسان خرجت خضراء مورقة، وإذا لم يسقها لم تخرج كذلك، فإن القلب إذا كان حياً كان بقية الجسد كذلك، وإذا كان ميتاً كان الجسد كذلك.
وأما الريش فأنزله الله عز وجل ليتجمل به الإنسان ويتكمل به.
وأما أفضل اللباس على الإطلاق فهو ما أجمع عليه العقلاء من إصلاح باطن الإنسان بتقوى الله سبحانه وتعالى، ومراقبته، ولهذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام تقوى الله عز وجل على أي شيء يتقيه الإنسان من الفتن، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله عز وجل مستعملكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الله واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل قبل أن يتقي الإنسان الفتن الظاهرة الأخرى من فتنة النساء وغيرها مع شدة خطرها على الإنسان؛ لأن الإنسان إذا كان له وازع من قلبه حمله ذلك على مراقبة الله عز وجل في السر والعلانية سواءً كان في غيبة عن الناس أو في شهادة، وهذا هو أعظم ما يجعل الإنسان على استقامة في حاله كلها.
وكلامنا في هذا اليوم هو عن نعمة عظيمة جليلة أنعم الله عز وجل بها على عباده من بني آدم أن جعل الله عز وجل لهم من اللباس ما يسترون به أبدانهم، وجعل الله عز وجل ذلك نعمة, وجعله من الآيات التي لا يتدبرها ولا يتأملها إلا الذين يعقلون، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من مخالفة أمره في مواضع متعددة، وخص بذلك العقلاء من الرجال والنساء، فأمر الله سبحانه وتعالى النساء بستر العورات على وجه العموم، وأمر الرجال بأن يأخذوا زينتهم تكملاً، فإذا كان ذلك الأمر في أخذ الزينة، فما دون ذلك من باب أولى؛ قال الله سبحانه وتعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وهذا على وجه الأمر، قال غير واحد من العلماء: إن ظاهر ذلك يقتضي الوجوب.
فلا يليق بالإنسان أن يبتذل، ويأخذ الرديء من اللباس عند الذهاب إلى بيت من بيوت الله، فإنه يأثم بذلك كما ذهب إلى هذا بعض الفقهاء من الحنابلة والشافعية والظاهرية.
فالكلام في هذه المحاضرة عن: (الحجاب في الميزان), والحجاب من جهة الأصل هو الاستتار، ويغلب استعمال كثير من الناس في هذا العصر حمل الحجاب على معنى من معانيه، وهو في الأصل الاستتار على وجه العموم، سواءً استتر الإنسان ببناءٍ أو بلباسٍ أو يضرب له خيمة، أو دار، أو يستتر بحائط، أو أي شيء من أنواع اللباس، فإن هذا كله داخل في أنواع الحجاب، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، أي: من وراء ساتر، فهذا الحجاب الذي أخبر الله عز وجل عنه في هذه الآية هو الساتر الذي ربما لا يماس المرأة، فيكون حينئذٍ حائلاً بينها وبين من يسألها متاعاً، وأما المعنى الذي يحمله كثير من الناس عليه من تقييد معنى الحجاب ببعض أحكام، أو ببعض ما دل الدليل عليه، فهو وإن كان صحيحاً من جهة لغة العرب، إلا أن فيه تقييداً لهذا النص، فمن نظر إلى نصوص الكتاب والسنة، وجد أن الله أمر النساء بالاحتجاب عن الرجال إلا لضرورة، وألا تخرج المرأة إلا لحاجة ومن ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصحيح وغيره من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: ( قد أذن الله لكن أن تخرجن لحاجتكن )، وجاء من غير وجهٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو هذا المعنى وجاء أتم بياناً خارج الصحيح، وسنتكلم في هذه المحاضرة على الحجاب بجميع أنواعه، ونأتي بالأدلة من الكتاب والسنة على جهة الإجمال؛ لأن استيفاء ذلك متعذر، ولا يمكن إدراكه لورود الأدلة الكثيرة المتضافرة على هذا الأصل العظيم.
وكذلك وجود من يخالف في فهم هذه الأدلة من بعض الفقهاء من الأئمة من السلف والخلف، فإيراد الأدلة في جميع مسائل في هذه المحاضرة مما يشق ولا يمكن استيعابه، وكذلك إيراد أدلة المخالفين في بعض المسائل مما يشق أيضاً، وإنما سنورد ما يندرج في الجملة من الأدلة في بعضها، نورد أظهرها وأقواها حجة، ثم نبين الراجح منها والمرجوح، ثم نبين وجه الرجحان ووجه الدليل غير الراجح، وهذا كله بالأدلة البينة الظاهرة من الكتاب والسنة، وما كان من الأدلة فيه ضعف فإننا سنبين ضعفه ومن ضعفه من الأئمة ومن رد ذلك، ومن كان محتجاً بأحد من الأدلة نبين قوله وإن كان هذا القول لا ينسب لأحد بيناه، خاصة أن هذه المسائل قد دخل فيها كثير ممن ينتسب إلى الجهالة، ولا ينتسب إلى العلم، ودخل في ذلك جملة من أهل العلم بحسن ظن، ودخل في ذلك أيضاً جملة ممن ينتسبوا إلى العلم ربما رغبة ورهبة مسايرة لبعض الأهواء المعاصرة، كما كان ذلك في كثير من القرون، وهذا سيأتي بيانه بإذن الله.
إن من نعم الله عز وجل أن جعل العقلاء أصحاب الفطر السليمة على هداية من ربهم واستقامة في هذا الجانب، وإدراك هذه النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى على عباده، فإن من نعم الله عز وجل الظاهرة البينة أن جعل الأحكام ظاهرة بين الرجال والنساء، وجعل العلاقة محدودة بضوابط معلومة، حدها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي أن يعلم ما تقدمت الإشارة إليه أن معنى الحجاب في كلام الله عز وجل، وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في اصطلاح السلف، وفي لغة العرب أيضاً من جهة الأصل، هو أعم مما يطلقه كثير من أهل العصر بتحديده على بعض الوجوه، وهذا ما أحدث خلطاً في كثير من مسائله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن من لم يعرف اصطلاح الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، حمل هذه المصطلحات الواردة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يفهمه أهل عصره على خلاف مراد الله عز وجل، وفهم رسوله، وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
وهذا ما أحدث الخلط في كثير من المسائل عند كثير من طلاب الحق، فيحيلون كثيراً من مسائل الدين على ما يفهمه أهل العصر من هذه الألفاظ، مع الجهالة البينة باصطلاح الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى في فهم الأدلة؛ فلهذا كان لزاماً أن نبين معنى الحجاب من جهة النصوص: من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقدمت الآية المشيرة إلى أن معنى الحجاب هو أن تحتجب المرأة أو الرجل بجسده، وأن هذا يطلق عليه حجاباً وإن لم يكن مماساً، فالحجاب كما جاء عن غير واحد من العلماء من أهل العربية كـأبي عبيدة وغيره هو ما استتر به الإنسان سواء كان لباساً من خمار أو جلباب، أو غير ذلك مما يستتر به الرجل، أو المرأة فإنه يسمى حجاباً، وبهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالحجاب، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على هذا المعنى العام، ولهذا حينما يأمر الله عز وجل النساء على وجه العموم، وخاصة أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله تعالى بالاحتجاب، فإنه يأمرهن من جهة الأصل بعدم الخروج إلا لحاجة، وما كان لحاجة فإنهن يخرجن مع التقيد باللباس والحشمة، ولما كان كذلك على هذا المعنى، وجهل كثير من أهل العصر هذا المعنى، ظنوا أن الحجاب المراد به التستر فحسب، وظنوا أن المرأة إذا كانت متسترة جاز لها أن تخرج متى شاءت لحاجة أو لغير حاجة، لضرورة أو لغير ضرورة، وجاز لها مخالطة الرجال، فيقولون: إذا خرجت متحجبة متسترة، فلا ضير في ذلك.
وهذا معارض لما ثبت من جهة الأصل أن الله سبحانه وتعالى أمر النساء بأن يقرن في البيوت، وألا يخرجن إلا لحاجة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن التبرج وخروج المرأة لإبداء زينتها من جهة الأصل من عادة الجاهلية الأولى، فقال جل وعلا: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] فهذا دليل على أن ثمة جاهلية، وأن أشد هذه الجاهليات هي الجاهلية الأولى التي فيها ابتذال النساء.
وقد جاء عن غير واحد من المفسرين كـعبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم ، و ابن المنذر وغيرهم، أن المراد بالجاهلية هذه هي: ما كان بين نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، قالوا: فإن المرأة كانت تمشي نصف عريانة، بل قيل: إن لها زوجاً وعشيقاً.
وقيل: بأن المراد بذلك ما كان بين آدم ونوح، وهذا مروي عن الحكم بن عتيبة، كما رواه ابن جرير وغيره.
وقد جاء عن عامر بن شراحيل الشعبي أن تلك الجاهلية هي: ما كان بين عيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، وما كان بعد ذلك فإن أمر النساء على استقامة، وكن مستترات، وقيل: أن المراد الجاهلية الأولى هي ما كان بين موسى وعيسى كما جاء هذا عن بعض المفسرين، كما بيّن ذلك ابن جرير الطبري وغيره.
والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أشار بقوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، أن ثمة من كان من السالفين على استقامة في حال الحجاب والتستر، سواءً ممن كان على هدى ورشاد من أتباع الأنبياء، أو كانوا من غير أتباعهم ممن كان على فطرة سوية، ومن نظر إلى نصوص الشريعة والآثار المروية في ذلك عن السلف الصالح ممن يحدث عن بني إسرائيل، أو ممن يروي والغالب أنه لا يروي إلا بشيء من أمور الغيب مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أن كثيراً من أمور أصحاب العصور الأولى كانت على استقامة حال من التستر وغيره، وقد جاء هذا في قوم صالح، وشعيب، وعيسى وموسى عليهم الصلاة والسلام، وقد روى ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم و ابن المنذر وغيرهم من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] جاءت وقد غطت وجهها.
قيل: إن هذه هي ابنة شعيب ، كما جاء هذا عن بعض المفسرين، والأشهر أنها ليست ابنة شعيب، وقيل إنها ابنة يثرب صاحب مدين، وقيل: إنها ابنة أخي شعيب عليه الصلاة والسلام، وعلى كل فإن هذا الأمر يدل على أن النساء في ذلك الوقت كن يحتجبن ويستترن عن الرجال، وجاء هذا أيضاً في قوم صالح، كما ذكر ابن عساكر وغيره في قصة من عقر الناقة حينما جاءته أم غم جاءت إلى قدار سالف وهو الذي عقر الناقة فقالت: اعقرها وأعطيك أحسن بناتي وأجملهن، فلما أراد أن يعقر الناقة أتت بابنتها إليه، فكشفت عن وجهها فرآها كأجمل النساء، فافتتن بها فنحر الناقة وعقرها، فأحل الله عز وجل عقابه بهذه الأمة.
وكذلك ما جاء عن اليهود في مصنفاتهم وغيرهم من بيان قيمة الحجاب، وتستر النساء، وعدم مخالطتهن للرجال، بل وتغطية وجوههن.
وكذلك ما وجد في أشعار الجاهليين ممن كان قبل الإسلام من بيان الاستتار، فقد وجد هذا في أشعار عدة منهم سواءً بإطلاق الخمار أو النقاب، أو الحجاب على وجه العموم، ولهذا فقد ذكر النابغة امرأة النعمان بن المنذر حينما مرت أمامه، وسقط خمارها من غير قصد، فقال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطهفتناولته واتقتنا باليد
أي: أنها تناولت خمارها بيد، واتقت الرجال بيدها الأخرى خشية أن يروها حينما سقط خمارها من غير قصد، وهذا قد جاء عن غير واحد، كما جاء عن من يتغزل بـمية حينما كان يتمنى رؤيتها من بين النساء، وكانت تحتجب كسائر النساء، فقال:
جزى الله البراقع من ثيابعن الفتيان دوماً ما بقينا
يوارين الملاح فلا نراهاويوارين القباح فيزدهينا
وظاهر هذا أن نساء الجاهلية كنا يستترن بالنقاب، وبالخمار عن وجوه الرجال، وهذا إذا عرف في الجاهلية، فهو كذلك قد عرف في صدر الإسلام، وكان من جهة الأصل معروفاً مشتهراً، إلا أنه ليس على الإطلاق، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدر الأول أصحاب غيرة شديدة، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يأذنون لأحد من النساء أن تشكف وجهها، بل قد وقعت معركة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود من بني قينقاع لأنهم تسببوا في كشف وجه امرأة فوقع الشر بينهم كما جاء في بعض الروايات.
فقد روى ابن عساكر وكذلك الخطيب وغيرهم من حديث عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: لما كانت امرأة من المسلمين قد ذهبت إلى بني قينقاع تبيع حليباً لها، وقد غطت وجهها، فأراداها واحد منهم أن تكشف وجهها فأبت، فذهب إليها من خلفها، فعقد إزارها في ظهرها، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا فانتصر لها أحد المسلمين، فقتل اليهودي فقاموا عليه فقتلوه، ثم وقع بينهم وبين المسلمين ما وقع، وهذا جاء عن أبي عون ، وجاء من غير طريقه كما جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، من وجه آخر بنحو هذه القصة.
وجاء في جملة من الحكايات عن بني إسرائيل في بيان أهمية ذلك, وتستر النساء على وجه العموم.
وأما من جهة النصوص الظاهرة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأدلة في ذلك ظاهرة بينة، وما ينبغي الإشارة إليه أن الأدلة في كلام الله عز وجل من جهة المعنى والإجمال الواردة في هذا الباب دالة على المعنى الإجمالي وهو وجوب أن تستتر المرأة عن أعين الرجال قدر إمكانها، وألا تظهر إلا ما لا بد منه، ولهذا فقد كان عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك كما كن المهاجرات والأنصاريات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أنزل الله عز وجل قوله جل وعلا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما روى البخاري و مسلم : ( رحم الله النساء المهاجرات حينما أنزل الله عز وجل: (( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ))، قطعن مروطهن واختمرن بها )، قال غير واحد من شراح الحديث: إن المراد بذلك أنهن قطعن المروط، وغطين بهن الوجوه، وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين.
ومما جاء في ذلك في كلام الله سبحانه وتعالى جملة من الآي، نورد جملة منها، ثم نبين معانيها، ثم نبين بعد ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مما يدل عليه، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين، ثم بعد ذلك نبين ما ورد عن الأئمة الأربعة وغيرهم، ثم نبين الأدلة الواردة التي يستدل بها بعض العلماء في بعض فروع هذه المسائل مما يخالفون فيه، ونبين هذه الأدلة مع بيان صحتها وضعفها ونناقش الأدلة التي ليست بصحيحة، ونبين احتمال الرب في حال صحة بعض الأحاديث، ونبين جملة من أسماء الأئمة الذين تكلموا على هذه المسائل.
وقبل الشروع في ذلك نتكلم على جملة من المسائل مما اتفق عليه العلماء مما تقدمت الإشارة إليه على وجه الإجمال.
أولاً: قد دل الدليل من جهة الإجمال على أهمية الاستتار والعفاف والستر، وأن الإنسان ينبغي قدر إمكانه أن يحترز من النساء، فقد قد جاءت الأدلة كثيرة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مخالطة النساء والدنو منهن، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان عاقبة التكشف والتعري، كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث إسرائيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : ( صنفان من أهل النار لم أرهم قط، أناس معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت لا يرحن ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ).
فقوله عليه الصلاة والسلام: ( كاسيات عاريات مائلات مميلات ) مائلات أي: بأنفسهن، مميلات لغيرهن بما يبدينه من زينتهن، فإنهن قد أملن الدين وأملن الأخلاق فانحرف هؤلاء بانحرافهن، وهذا يظهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ( واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، ولهذا حرم النبي عليه الصلاة والسلام جملة من دواعي الفاحشة من النظر المحرم، بل بين النبي عليه الصلاة والسلام أن النظرة الأولى للإنسان، وأنه لا يجوز أن يستغفل، وبيّن عليه الصلاة والسلام نظر الفجاءة كما جاء في حديث جرير في الصحيح: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النظرة )، بل قال غير واحد من العلماء: إن هذا محل إجماع، بل قال ابن مفلح في الفروع: إن النظر لشهوة محرم، ومن أنكره فقد كفر، ومراده بذلك أنه ظاهر في كلام الله سبحانه وتعالى، ومن أنكره فقد أنكر شيئاً بيناً من كلام الله عز وجل، فهو متواتر ومن أنكر المتواتر البين من جهة اللفظ أو المعنى فإنه كافر بالله سبحانه وتعالى خارج عن الملة.
ومن هذا المعنى نهى الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام في جملة من الأخبار أن تلبس المرأة ما يشف جسدها أو يصف عضوها، وهذا محل اتفاق عند العلماء، حكى اتفاق العلماء على ذلك غير واحد، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في المسند والبيهقي من حديث أسامة بن زيد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له ثياباً قبطية، فلما لم يرها عليه سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أهديتها لزوجتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مرها فلتضع تحتها شيئاً فإني أخشى أن تصب إضامها )، وقد حسن هذا الخبر غير واحد من الأئمة.
وقد جاء عند ابن سعد من حديث هشام بن عروة عن المنذر بن الزبير أنه لما قدم من العراق أهدى إلى أسماء بنت أبي بكر عليها رضوان الله تعالى ثياباً قبطية وكانت قد عميت فمستها بيدها فقالت: أف أعيدوا إليه كسوته، وراجعها في ذلك فقالت عليها رضوان الله تعالى: إنها تشف، وإذا لم تشف فإنها تصف. أي: تصف الجسد.
وقد جاء في ذلك عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما جاء في سنن البيهقي وغيره: أنه نهى النساء عن لبس الثياب القبطية؛ لأنها تصف الأجساد، أو تشفها، أي: أنها تبدي الجسد من ورائها، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلبس الغلاظ من الثياب، حتى لا يظهر جسد المرأة، وهذا محل إجماع عند العلماء، ولا خلاف عندهم في ذلك.
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب ما تلبسه المرأة وتستتر به، وهل له لون معين أم لا؟ الوارد في ذلك عن الصحابيات عليهن رضوان الله تعالى أنهن كن يلبسن السواد، وقد جاء هذا عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما روى مسدد في مسنده من حديث إسماعيل بن أبي جعفر عن أمه وأخته أنهما دخلتا على عائشة عليها رضوان الله تعالى، وعليها خمار أسود، فسألنها عن تخمر المرأة وهي محرمة، فأخذت بخمارها من على صدرها ووضعته على وجهها، وقد جاء هذا في حديث أم سلمة لما أنزل الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قالت: خرجن النساء وكأنهن الغربان عليهن أكسية سود، وجاء هذا عند عبد الرزاق في مصنفه وغيره، وجاء وهذا ما يفهم من خبر أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى كما في الصحيح، وإن لبست المرأة غير ذلك فلا حرج فيه، إذا كان عليه الوصف تاماً والابتداء بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا.
وأما ما تستره المرأة، وقد اتفق العلماء على أنها يجب عليها أن تستر جميع جسدها على خلاف في بعض الأجزاء مما يأتي الكلام عليه، فاتفق العلماء على أن المرأة يحرم عليها أن تظهر شعرها، حكى إجماع العلماء على ذلك غير واحد منهم ابن المنذر ، وابن حزم الأندلسي في كتابه الإجماع، وغيره من الأئمة أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر شعرها على الإطلاق، وهذا المقرر في سائر المذاهب الفقهية: المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة، وكذلك مذهب الظاهرية، بل قد نص الفقهاء من أرباب المذاهب البدعية من جهة الاعتقاد كالرافضة والإباضية وغيرها على أنه يحرم على المرأة أن تظهر شيئاً من شعرها، فيكون حينئذٍ هذا من النصوص القطعية المتواترة.
وأما النقاب وستر المرأة لوجهها من جهة الأصل وتقرير هذه المسألة، فينبغي أن يعلم أن النقاب كما أنه موجود في الجاهلية، فهو كذلك موجود في صدر الإسلام على هيئته بإظهار المرأة لعينيها، ومن نفى ذلك فإنه دليل على الجهل الظاهر البين، كما تقدمت الإشارة إليه ببيان أشعار الجاهليين، وكما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما ذكر ابن سعد في الطبقات من حديث أم سلمة أنها دخلت على أمهات المؤمنين، وهن منتقبات، وسمت منهن عائشة عليها رضوان الله تعالى، و زينب و جويرية ، وغيرهن عليهن رضوان الله تعالى، وكذلك ما يذكره الفقهاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام النقاب في جملة من المواضع في عورة المرأة عند الرجال، وسترها، وكذلك في مسائل المناسك، وتنقب المرأة في الإحرام، وقد عقد غير واحد من العلماء فصولاً في لبس المرأة نقابها في حال طوافها، كما ترجم لذلك الفاكهي في كتابه أخبار مكة فقال: باب ذكر طواف المرأة متنقبة، وأورد في ذلك عشرة من الأخبار، عن عبد الله بن عباس و عائشة و عطاء بن أبي رباح و مجاهد بن جبر و جابر بن زيد وغيرهم من السلف أنهم يرون طواف المرأة وهي متنقبة، وإن كانت محرمة إذا كانت لا تجد ما تغطي بها وجهها، وقد جاء ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ستأتي الإشارة إليه.
أما من جهة النصوص الواردة في كلام الله سبحانه وتعالى، فقد أمر الله عز وجل نبيه بأن يأمر النساء بأن يغضضن من أبصارهن، فقال الله عز وجل: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تغض المرأة بصرها، وأن تحفظ فرجها، وأن تضرب بخمارها على وجهها ظاهره من جهة الأصل أنه يجب عليها أن تستتر ولا تظهر زينتها إلا ما كانت الضرورة داعية إليه.
وقد استدل غير واحد من العلماء بقوله سبحانه وتعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] على أهمية وجوب ستر الوجه، فقد جاء هذا عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عن عبد الله بن مسعود ، وغير واحد من المفسرين من التابعين، كـالحسن البصري و إبراهيم النخعي و عكرمة ، و السدي و قتادة ، وكذلك عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.
وكذلك قوله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، قال العلماء: المراد بذلك الحجاب على وجه العموم، فإذا أمرت المرأة بألا تسأل إلا من وراء حجاب يستر جسدها وإن كانت متحجبة، فستر وجهها من باب أولى، قد جاء هذا المعنى عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانه كذلك عن غير واحد من التابعين، وأئمة السلف.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، هذا فيه نهي أن تبدي المرأة شيئاً من زينتها إلا ما ظهر منها، قال غير واحد من المفسرين: إنه لا يجوز للمرأة أن تبدي وجهها وقد نص على ذلك عبد الله بن مسعود ، كما روى ذلك ابن جرير الطبري ، و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و ابن أبي شيبة من حديث أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، قال: أمر الله عز وجل النساء ألا يخرجن إلا لحاجة فإن خرجن يغطين وجوههن، ولا يبدين إلا عيناً واحدة، وروي نحو هذا التفسير عن السدي عليه رحمة الله، وروي كذلك عن إبراهيم و عامر ، وسيأتي الكلام على هذا المعنى.
وأما ما ورد في السنة مما يدل على وجوب تغطية المرأة وجهها فما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بأن تغطي المرأة وجهها، وأصرح الأدلة في ذلك خارج الصحيح، ما رواه الطحاوي وغيره من حديث عبد الرحمن الحبلي عن عقبة بن عامر أنه قال: ( نذرت أختي أن تذهب إلى البيت الحرام ماشية، وألا تختمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرها ولتركب ولتختمر )، قال الطحاوي عليه رحمة الله بعد أن أخرج هذا الخبر: لأن كشف الوجه حرام، فأمرها لأمر الشريعة له بذلك.
ومن الأدلة الواردة في هذا ما جاء في البخاري من حديث الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و علقمة و عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة عليها رضوان الله تعالى في قصة الإفك لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من المريسيع وتخلفت عليها رضوان الله تعالى في طلب عقدها فنامت قالت: وتخلف منا صفوان عليه رضوان الله تعالى، فلما جاء رأى سواد إنسان نائم قال: فمشى إليه يعني: وهي نائمة فرآني وكان قد عرفني قبل أن يضرب الحجاب، قالت عليها رضوان الله تعالى: فما استيقظت إلا على استرجاعه، يعني: أنه يذكر الله عز وجل لإيقاظها، قالت: فخمرت وجهي، ثم خفض بعيره لي فركبته، وفي قولها عليها رضوان الله تعالى: وكان قد رآني قبل أن يضرب الحجاب، ضرب الحجاب من جهة الأصل لأمهات المؤمنين ولغيرهن، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بأن يأمر نساءه وبناته، ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا كان هذا الأمر على وجه العموم فيدخل فيه أمهات المؤمنين، ويدخل فيه أيضاً غيرهن، وفي قولها عليها رضوان الله تعالى (فخمرت وجهي) إشارة إلى تغطيته.
وكذلك ما جاء في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( لا تباشر المرأة المرأة لزوجها تنعتها كأنه ينظر لها )، فقد استدل بهذا غير واحد من العلماء على وجوب تغطية المرأة لوجهها، قالوا: ومعنى ذلك أن الله عز وجل لما حرم على المرأة أن تصف المرأة أمام زوجها كأنه ينظر إليها، إشارة إلى أن الرجل لا يمكن من رؤية المرأة كحال النساء، مما يدل على أنها تستتر من الرجال.
ومن الأدلة الواردة في ذلك ما جاء عن غير واحد من السلف من تأويل الآي، وقد نص غير واحد من الأئمة كـالحاكم في كتابه المستدرك: أن ما جاء من التأويل عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصل أن له حكم الرفع، وقد حمل ما تقدم من الآي عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى و عبد الله بن عباس على وجوب أن تغطي المرأة وجهها، واستنبطوا ذلك من كلام الله عز وجل، فيقال حينئذٍ: إن ما جاء من الموقوف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع، ويكون هذا من جملة الأدلة المرفوعة، وإن كان قد ورد فيه ما يخالف ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى مما يأتي الإشارة إليه بإذن الله، وجاء نحو هذا التأويل عن غير واحد من المفسرين من السلف، فقد جاء عن القاسم بن محمد كما رواه ابن أبي شيبة من حديث أفلح عن القاسم بن محمد ، وجاء هذا أيضاً عن عكرمة ، و إبراهيم ، وعن عامر ، وجاء عن السدي ، و قتادة ، و الحسن ، وروي عن بعضهم ما يخالف ذلك.
وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المرفوع فمن ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أم سلمة أنها قالت: ( كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينصرفن وما يعرفن من الغلس )، قد استدل بهذا غير واحد من العلماء على أن النساء لا يعرفن من الغلس، واستدل من قال بخلاف ذلك أن النساء لما كن لا يعرفن من الغلس دليل على أنه إذا أسفر عرفن، ويقال: إن معرفة المرأة بغير غلس تكون من خلال مشيتها وما يظهر منها، وهذا معلوم، خاصة في البلاد الصغيرة والأحياء المعروفة، فإن المرأة تعرف بذهابها ومجيئها، ولهذا قال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى لما برزت سودة فقال: قد عرفناك يا سودة يعني: بذهابها وإن كان قد تحجبت، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأن يأمر نساءه بأن يحتجبن عليهن رضوان الله تعالى، فأنزل الله عز وجل الحجاب على أمهات المؤمنين.
وأما ما جاء من أدلة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه العموم بأمر النساء بألا يخالطن الرجال، وأن يحتجبن فيقال: إنه من جهة العموم دليل على ما تقدمت الإشارة إليه، وأن الأدلة الواردة في ذلك هي من جهة الأصل تدل على المعنى العام بوجوب الاستتار ووجوب الحجاب.
إذا علم هذا يعلم أن القاعدة المتقررة في الشريعة، وقد نص عليها غير واحد من العلماء أن ما كان معلوماً ومشتهراً، وكان عليه العمل فإنها تقل النصوص الواردة فيه؛ لأن العمل كان على ذلك، ولهذا قد حكى غير واحد من العلماء: أن عمل السلف كان على ذلك من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولا يعلم عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد يصح، ولا عن أحد من التابعين الترخيص للمرأة بأن تخرج سافرة، ويظهر هذا بترخيصهم للقواعد من النساء بأن يضعن ثيابهن كما هو ظاهر في كلام الله سبحانه وتعالى، أن رخص الله عز وجل للقواعد من النساء أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة.
لما رخص الله عز وجل للنساء القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، يقال: إن الزينة لا تخلو من أمرين: إما أن تكون هذه الزينة متعلقة بالوجه، فيقال حينئذٍ: إن الله عز وجل أمر النساء أن يضعن ثيابهن وحينئذٍ يكن قد احتجبن قبل ذلك حينما تكون المرأة شابة، فلما كانت من القواعد وضعت الثياب عن وجهها، وإذا كان كذلك علم حكمها قبل أن تضع الثياب، فلهذا قال الله عز وجل: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60]، ويعلم أنهن قبل ذلك عليهن جناح أن يضعن الثياب، وإذا قيل: بأن الزينة غير ذلك بأن تبدي القاعدة من النساء شعرها، فيقال: إنه لا قائل بذلك من أهل العلم، بل يجب على القواعد من النساء أن يغطين شعورهن، ويعلم أن الزينة التي رخص الله عز وجل بإبدائها بالنسبة للقواعد، وأنهن غير متبرجات بزينة يعلم أن المراد بذلك قدراً زائداً، والقدر الزائد هو ما تقدمت الإشارة إليه بقوله سبحانه وتعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، أي: غير مظهرات شيئاً من الحسن.
ويظهر هذا من أمر الله سبحانه وتعالى النساء ألا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يبدين من زينتهن، فنهى الله سبحانه وتعالى النساء أن يضربن بالأرجل حتى يعلم ما يخفين من الزينة، والزينة التي تخفيها المرأة بقدمها هو خلخالها، فإذا كانت المرأة منهية عن إسماع صوت الخلخال بالنسبة للرجال، فإنما كان دون ذلك من باب أولى.
ويظهر هذا من تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النساء، وكذلك تعامل الصحابيات عليهن رضوان الله تعالى، ومن هذا ما جاء عن الصحابيات عليهن رضوان الله تعالى من احتجابهن حتى في المناسك، كما جاء في رواية الإمام مالك عن هشام عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نحج مع أسماء بنت أبي بكر فنخمر وجوهنا ونحن محرمات ، فإذا كان هذا في حال الإحرام فإنه في حال غيره من باب أولى، وقولها عليها رضوان الله تعالى: نخمر وجوهنا يعني: حكاية الإجماع.
ومعلوم أن المرأة محرم عليها أن تغطي وجهها بنقاب، فلما كان كذلك ورخص لها دل على أنه لا يرخص في فعل المحرم إلا لفعل ما هو آكد منه من جهة الوجوب، وهذا ما ورد عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما رواه ابن أبي خيثمة من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أمه أنها دخلت على عائشة عليها رضوان الله تعالى فسألتها عن امرأة امتنعت أن تخمر وجهها وهي محرمة، قال: فأخذت عائشة خمارها من على صدرها، ووضعته على وجهها، إشارة إلى أنه ينبغي لها أن تغطي وجهها حتى وإن كانت محرمة، ولهذا قد نص غير واحد من الأئمة على أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها حتى حال إحرامها عند الرجال الأجانب.
وجملة الأدلة الواردة في هذا الباب داخلة في هذا المعنى.
وقد جاء عن غير واحد من السلف: الإنكار على النساء السافرات اللاتي يكشفن وجوههن، وجاء هذا عن بعض الفقهاء، كما روى صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي عن أبيه عن عبد الله أن عبيد بن عمير عليه رضوان الله تعالى رأى امرأة قد كشفت وجهها، فقال: استتري يا أمة الله، وكان قد رآها في طوافها، وجاء هذا عن أبي حازم كما رواه ابن عساكر وغيره من حديث أبي الوليد عن عبد الملك بن حبيب عن أبي حازم ، وكان من جلة التابعين أنه رأى امرأة كاشفة فقال: لو استترتي ولم تفتني الرجال، وجاء أيضاً عن غير واحد من الفقهاء كـسوار بن عبد الله القاضي ، فإنه كان من قضاة البصرة لا يأذن لامرأة أن تدخل عليه إلا وقد غطت يديها فضلاً عن وجهها، وكان هذا هو الذي عليه العمل بالبصرة ومصر والحجاز، وهذا هو المحكي في هذه القرون.
وأما ما ورد عن الأئمة الأربعة الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد و أبي حنيفة في ذلك، فالإمام مالك عليه رحمة الله، وأبو حنيفة وكذلك الشافعي لا يعلم لهم نص صريح في هذه المسألة، والعلماء عليهم رحمة الله كما نص على ذلك بعض الفقهاء من الشافعية فقال: ولا يعلم عن السلف ولا عن الأئمة كـمالك وأبي حنيفة و الشافعي أنهم تحدثوا عن عورة المرأة إلا في الصلاة، ولعل هذا من استقرار المسألة وبيانها، وأظهر ما جاء عن الإمام مالك عليه رحمة الله في هذه المسألة ما سئل كما جاء في المدونة عن الرجل يبت امرأته يعني: ثلاثاً، فقال: لا تكشف وجهها له، وجاء ذلك أيضاً في كتابه الموطأ، أنه سئل عن المرأة تأكل مع غير ذي محرم فأذن بذلك، واستدل به من قال: إن المرأة تكشف وجهها فإنه يبعد أن تأكل من غير كشف الوجه، فيقال: إن هذا لا يؤخذ على إطلاقه، وإنما يفسره قول الإمام مالك الآخر، فإن الإمام مالك عليه رحمة الله كما حكى ذلك عنه أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن قال: وأما المرأة فلا حرج عليها أن تأكل مع غلامها الوق، يعني: القبيح، أما صاحب المنظرة فلا، وإن كان غلاماً لها.
وقد جاء أيضاً في العصرية كما رواه ابن القاسم عن الإمام مالك عليه رحمة الله أنه قال: لا حرج على المرأة المتجالة أن تجلس عند الصانع يصنع لها، أما الشابة فلا، ويمنعهن من ذلك ويضربهن عليه، وظاهر كلام الإمام مالك عليه رحمة الله في النقل الأول بأنه رخص للمرأة أن تأكل مع غير ذي محرم إذا حضر زوجها يظهر أنه أراد بذلك المتجالات وهي القواعد من النساء التي تبدي ذلك من جهة الأصل، ومجمل قوله يبينه المفصل من قوله.
والمالكية من جهة الإطلاق يشددون في هذا، والمتقرر في مذهب الإمام مالك : منع الرجل من أن يسلم على المرأة الشابة، بل قد نص .. كما في كتابه المدونة أن الرجل لا يعز المرأة الشابة، ولا يبذل لها السلام، وهذا هو المتقرر والمشتهر في مذهب المالكية، كما نقله الأبي عن ابن .. قال: والمشتهر عند المالكية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، وقد نص على خلاف ذلك جملة من الفقهاء من المالكية وغيرهم.
وليعلم أن الفقهاء من الأئمة الأربعة لا ينصون على هذه المسألة، وإنما يتكلمون على عورة المرأة في الصلاة، ويتكلمون على عورتها في الحج، ويندر، بل لا يكاد يوجد عن أحد من الأئمة النص على هذه المسألة بخصوصها، وهذا يدل على أن الحكم متقرر، وأنهم حينما أمروا المرأة أن تغطي وجهها في حال إحرامها دل على أنها فيما عدا ذلك من باب أولى، وهذا يظهر أيضاً حينما رخص النبي عليه الصلاة والسلام للرجل أن ينظر إلى وجه من يريد خطبتها، فدل على أن المرأة كانت تحتجب قبل ذلك، وكذلك في هذا الموضع ما جاء عن الأئمة أنه مرخص بالاتفاق للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها حال إحرامها إذا لم يماس الجنس، وأما إذا مس بشرتها فإن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة، وحكى اتفاق العلماء على ذلك غير واحد من الفقهاء من الشافعية في العراق في كتاب .. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما أن المرأة تغطي وجهها في حال إحرامها، شريطة ألا يمس بشرتها، وأما إذا مس البشرة فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الحكم كذلك، وهذا قول جمهور العلماء من الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة على خلاف عند جمهور الحنفية بمنعها من ذلك شريطة ألا يمس بشرتها شيء من ذلك.
وأما الإمام الشافعي عليه رحمة الله ففي كتابه الأم في المرأة المحرمة: إذا طافت نهاراً تغطي وجهها أي: تسدل حجابها على وجهها، يريد بذلك أنها إذا طافت من الليل ولا يراها الناس فإنها لا تغطي وجهها، وفي قوله عليه رحمة الله في كتابه الأم: إذا طافت نهاراً غطت وجهها، دليل على أنه يتأكد عليها تغطية وجهها، وينبغي أن يعلم أيضاً حال النظر في كلام الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم، أن العلماء حال كلامهم على هذه المسألة يفرقون بين العورة من جهة ذات العضو، والعورة من جهة النظر، لهذا يقول بعض الفقهاء من الشافعية وغيرهم: وجه المرأة ليس بعورة، ولا يريدون بذلك أنه لا يجب تغطيته، ولهذا يقول الرازي ، وكذلك أبو بكر الجصاص وهو من الحنفية، والطحاوي، والعراقي وغيره، يشيرون إلى أن وجه المرأة ليس بعورة، ولكنهم يجعلونه عورة من جهة النظر، فهم يفرقون في العورة من جهة الكشف ومن جهة النظر، قالوا: فإذا كانت المرأة تعلم أن ثمة رجالاً ينظرون إليها كانت حينئذٍ موضع عورة فيجب عليها أن تستر ذلك.
وعليه ما يستدل به كثير أو ممن يحتج بأقوال الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم حال كلامهم عن عورة المرأة في الصلاة، أو في الحج، أو كلامهم على وجه الإطلاق أن وجه المرأة ليس بعورة، أي: أنهم يريدون بذلك أنه لا يساوي عورة المرأة التي تغطيها على وجه الإطلاق، فلا تبديه إلا لزوجها كالسوءتين، فإنها عورة، لا تبديها إلا لزوجها، ولا يقال: إنها تكشفها لناسها، فإن هذا لا قائل به.
وعليه يعلم أن ما يذكره الفقهاء من إطلاق العورة على الوجه في نصوص الفقهاء من الشافعية والحنفية والمالكية، وكذلك الحنابلة أنهم لا يريدون بذلك العورة من جهة النظر.
وأما النصوص الواردة عن أئمة الفقهاء من أتباع المذاهب الفقهية الأربعة فإن النصوص عنهم قبل تقريرها يجب أن يعلم أنه لا يعلم خلاف عن أحد من العلماء من المتقدمين أو من المتأخرين على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم أنهم قالوا: بأنه يتأكد في حق المرأة أن تكشف وجهها، أو يجوز لها أن تكشف وجهها على التساوي بين الأمرين، أو أنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند الافتتان بها، بل إنهم يجمعون على التأكيد بأن تغطي المرأة وجهها، بل يوجبون أن تغطي المرأة وجهها عند الافتتان بها، حكى إجماع العلماء على ذلك غير واحد كـإمام الحرمين، وهو من الشافعية، وكذلك ابن حجر العسقلاني كما في كتابه الفتح، وكذلك ابن رسلان ، وهو من الأئمة الشافعية حكى إجماع العلماء على وجوب تغطية النساء لوجوههن حال الفتنة متى وجدت، وأنه يرخص للمرأة القاعد أن تكشف وجهها، وقد نص على هذا المعنى غير واحد بصياغات متعددة، من جهة التأكيد على ذلك تارة على وجه الإلزام، وتارة على وجه التأكيد، وبيان أنه من أعظم المروءة، ومخالفة ذلك من قوادح المروءة نص على ذلك غير واحد من أتباع المذاهب الأربعة، فمن مذهب أبي حنيفة نص على ذلك الإمام الطحاوي في كتابه وشرحه معاني الآثار، و أبو بكر الجصاص في كتاب أحكام القرآن، و الزمخشري في كتابه التفسير، وغير واحد من الأئمة من المتأخرين كـابن عابدين وغيرهم من فقهاء الشام كـعلاء الدين الحنفي نصوا على أن النساء يغطين وجوههن، وكذلك من فقهاء المالكية كما تقدمت الإشارة إليه مما ورد من النصوص عن الإمام مالك ، وكذلك سحنون ما أشار إليه في كتابه المدونة، وكذلك ما جاء من الأمر بتغطية المرأة لوجهها عن ابن غنيم في كتابه الفواكة الشهية، بشرح رسالة ابن أبي زيد حينما بين أن المرأة يجب عليها أن تغطي وجهها، وقد أشار إلى هذا المعنى أبو بكر بن العربي وكذلك ابن حيان، وغيرهم من أئمة الفقهاء من المالكية، بل أن عادة النساء في بلاد المالكية في الأزمنة المتقدمة على هذا الأمر.
كذلك من الفقهاء من الشافعية ما يربو على عشرين إماماً، أكدوا على ذلك وأهميته، منهم الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما تقدمت الإشارة إليه، وكذلك ابن المنذر في كتابه الأوسط، وإمام الحرمين، وكذلك ولي الدين العراقي و ابن حجر العسقلاني ، و أبو حامد الغزالي ، وكذلك جلال الدين المحلي و جلال الدين السيوطي ، والإمام الخطيب الشرييني ، والإمام البيضاوي وغيرهم من أئمة الشافعية، بل إن منهم من يؤكد ذلك كـأبي حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، حيث قال: إنه يجب على المرأة إذا كانت مكرهة على الزنا بغير رضاها، ألا تسترسل وتكشف وجهها لأنها مكرهة على الزنا، فتملك تغطية وجهها، بل إنه حال تقريره لمسألة أن ينكر الرجل المنكر، وإن كان يقع في حرام أعظم منه، قال: إنه يجب على الزاني إذا زنى بامرأة وهي كاشفة لوجهها أن يأمرها بتغطية وجهها، وأنكر ورد على من يخالفه في هذا القول، وهذا يدل على أنه يشدد في هذه المسألة، ويبين أن هذا من المنكرات.
بل قد نص عليه رحمة الله في كتاب إحياء علوم الدين على أن كشف الوجه معصية مستقلة عن الزنا، فإذا زنى الإنسان وجب عليه أن ينكر على المرأة كشفها لوجهها، وهذا القول وإن كان من جهة النظر مما لا يستساغ إلا أنه يريد بذلك تقرير المسألة من جهة إنكار المنكر، إذا كان الإنسان متلبساً بحرام، وأن قول الله سبحانه وتعالى معاتباً لمن كان واقعاً في فسوق: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، أن هذا لا يأتي على مثل هذه الحال، وإنما هو عتاب للإنسان أن يغادر وأن يقلع عن سائر المعاصي.
وأما الفقهاء من الحنابلة فإن هذا الأمر مما هو مشتهر عنهم، ولا أعلم نصاً عن الإمام أحمد عليه رحمة الله في هذه المسألة وأنما ذكره بعض الفقهاء أنه قال: إن المرأة كلها عورة حتى ظفرها، قال بعض الفقهاء: إن مراده بذلك يعني: في الصلاة، ولا يجوز لها أن تكشف في الصلاة إلا وجهها، قالوا: ولا يريد بذلك أنها على وجه الإطلاق، فلا أعلم الإمام أحمد عليه رحمة الله نص في هذا إلا في مسألة الصلاة ومسألة الحج، أن المرأة تسدل خمارها على وجهها إذا طافت حال رؤية الرجال لها.
وقد نص على ذلك من فقهاء الحنابلة غير واحد من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية و ابن القيم و ابن رجب ، و يوسف عبد الهادي و الزركشي في شرحه، وكذلك الخرقي و البهوتي وغيرهم من الأئمة، على أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب.
وتقدمت الإشارة إلى أن العلماء قد أجمعوا على أن المرأة إذا كانت تعلم أنه يفتتن بها وجب عليها عند سائر المذاهب، بل قد نص غير واحد من العلماء أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها في هذه الأزمنة يعني: في أزمنتهم لغلبة الفساد، فكيف لو رأوا ذلك في أزماننا، ونص أيضاً غير واحد من فقهاء الحنفية على أن من أسباب جواز ضرب الرجل لامرأته في قوله سبحانه وتعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، إذا كشفت المرأة وجهها لغير محرم لها.
نص على ذلك ابن نزيل في كتابه البحر الرائق، وصاحب كتاب غمز البصائر في شرح الأشباه والنظائر وأن ذلك مما يجوز للرجل أن يضرب زوجته عليه إذا كشفت وجهها لرجل لا يحل لها.
وأما ما يرد عند كثير من الفقهاء سواءً من المعاصرين، أو من فقهاء الأئمة من أتباع المذاهب الفقهية الأربعة الذين يستدلون ببعض النصوص الواردة في كلام الله عز وجل، أو في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما جاء عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحدٍ من أئمة التابعين فيستدلون به على خلاف ما تقدم تقريره من أنه لا حرج أن تكشف المرأة وجهها، واستدلوا ببعض النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من هذه النصوص ما جاء في الصحيح من حديث سليمان بن يسار ويرويه عنه ابن شهاب عن عبد الله بن عباس عن الفضل ( أنه لما كان رديف النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ومزدلفة جاءت امرأة من خثعم، وجاء في الخبر أنها كانت امرأة وضيئة، قال: فطفق الفضل ينظر إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه يمنة ويسرة )، استدلوا بذلك على أن المرأة كانت كاشفة لوجهها، والفضل ينظر إليها، وهذا الخبر في الصحيح.
أولاً: يقال: إن هذا الخبر في الصحيح، وأن المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حدثاً كما جاء في بعض الروايات، وأن أباها قد رغب برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها عارضاً له عليها، كما جاء هذا مسنداً عند أبي يعلى بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ( أن ذلك الرجل قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية يريد أن يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عله أن يتزوجها، فلما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه ) وفي رواية (عن أمه) وإسناد هذا الخبر صحيح عن عبد الله بن عباس .
وقد استدلوا أيضاً: أن هذه المرأة كانت محرمة، والمحرمة لا يجوز لها أن تغطي وجهها، وأن الفضل رآها قبل ذلك خلسة ومعلوم أن حال المرأة في ذلك الوقت تختلف عن حالنا، فالناس كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالحج يجيئون رجالاً وركباناً فكان منهم فئام كثير جاءوا ركباناً لا يملكون من الخيام أن يضربوها، فتستتر نساؤهم بالحجب عن الرجال، وكانت الحال مختلفة، فربما رآها قبل ذلك، وأنها كانت وضيئة، ويدل على ذلك أن راوي الخبر وهو عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى لم يشهد الواقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و الفضل ، لأنه كان قد تقدم قبل ذلك إلى منى حينما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الضعفة، وإنما يحكي ذلك عن الفضل، وأنه ربما قد رآها قبل ذلك.
ومن الأجوبة في هذا الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قدم معه في حجه فئام كثير من الحدثاء حدثاء عهد بالإسلام، مما كانوا يتلبسون ببعض المخالفات مما يشق على المنكر أن يتتبع الآلاف من أحواله، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من أمهات المؤمنين وغيرهن، كن يسبلن الجلاليب على وجوههن وإن كن محرمات كما جاء ذلك عن أسماء و عائشة عليهما رضوان الله تعالى، وكذلك جاء ذلك عن حفصة عليها رضوان الله تعالى، كما جاء عند ابن أبي شيبة من حديث هشام قال: سألت أم الحميد ابنة سيرين قال: كيف كانت تخمر حفصة المرأة في كبرها؟ قالت: كانت تصنع بها كما تصنع بالمرأة حية، تخمر رأسها، ثم تغطي وجهها، وإسناده عن حفصة عليها رضوان الله تعالى صحيح.
وما يستدل به أيضاً في هذا الباب ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالناس العيد من غير أذان ولا إقامة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف إلى النساء فخطبهن ووعضهن، وذكرهن وقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قال: فقامت امرأة من النساء سفعاء الخدين، فقالت: يا رسول الله! ولم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير ).
فقد جاء في هذا الخبر وصف المرأة بقوله: (وكانت سفعاء الخدين)، فيقال من جهة الرواية: إن هذا الخبر قد جاء من حديث عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر ، و أبي سعيد وليس فيه ذكر هذا الوصف، وجاء من غير طريق عبد الملك بن أبي سليمان فقد رواه ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس ، ولم يذكر فيه: (سفعاء الخدين)، و عبد الملك بن أبي سليمان الراوي عن عطاء مما يخالف في روايته ابن جريج ، وإذا خالف ابن جريج فإنه يقدم في ذلك، كما نص على ذلك غير واحد من النقاد كالإمام أحمد عليه رحمة الله، فقد جاء في مسائل ابنه صالح أنه سأله عن أوثق أصحاب عطاء ، فقال: أوثق أصحاب عطاء ابن جريج ، و عبد الملك بن أبي سليمان يحدث أشياء يخالف فيها ابن جريج ، فإذا حدث بذلك فإن ابن جريج يقدم في روايته عن عطاء عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فيعلم أن رواية عطاء التي تفرد بها عبد الملك بن أبي سليمان وهي من مفاريده مما خالف فيها من هو أوثق منه، وقد نص غير واحد من الحفاظ كالإمام أحمد و يحيى بن معين وغيرهما أن أوثق أصحاب عطاء هو ابن جريج فهو مقدم في هذا، ويؤيد هذا أنه قد جاء هذا الخبر من حديث عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر ، وجاء من حديث أبي سعيد ولم يأت فيه هذا الوصف.
ومن الأجوبة في ذلك أيضاً أن المرأة ربما كانت قد رئيت من غير قصد فرآها جابر بن عبد الله حينما كانت خلف الرجال، ومعلوم أن النساء يؤمرن بكشف الوجوه في الصلاة، فإذا كن خلف الرجال في الصلاة، فربما نظر الإنسان نظر فجأة فرآها، ولا يحمل أمثال هذه النصوص الظنية على أمور ثابتة قطعية من هدي الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من أمهات المؤمنين أمراً، وكذلك عملاً، وكذلك هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه.
كذلك أيضاً في قوله: سفعاء الخدين، هذا وصف معناه يطلق على المرأة إذا كانت مبتذلة تشقى بنفسها ومعيشتها، فإنه يغلب عليها هذا الحال فوصف هذا الأمر بمعرفته بغلبة الحال، وإن كانت النفس تميل إلى عدم صحة هذه الرواية من جهة الأصل، فهي غير محفوظة.
ومما يستدل به في هذا الباب حديث أسماء ، وقد جاء في المسند والسنن من حديث الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة ، عن خالد بن جريج عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه أسماء وعليها ثياب رقاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يظهر منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهها وكفيها )، وهذا الخبر منكر لا يصح من جهة الإسناد؛ لأنه قد جاء من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، ويرويه عنها خالد ، وعنه قتادة، و خالد لم يسمع من عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما نص على ذلك .. في كتابه السنن، وكذلك أبو حاتم ، كذلك أيضاً قد تفرد سعيد بن بشير برواية هذا الخبر عن قتادة عليه رضوان الله تعالى، كما قال ذلك ابن عدي في كتابه الكامل، حيث قال: لا يعرف من روى هذا الخبر عن قتادة إلا سعيد بن بشير ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة، وكذلك قد تفرد بالرواية عن الوليد بن مسلم ، وهو معروف بالتدليس ولم يصرح بالرواية في هذا الخبر، فدل على ضعف هذا الخبر.
ثم إن مما يدل على وهم سعيد بن بشير في هذا أنه قد خولف في روايته هذه، وروى هذا الخبر هشام الدستوائي ، و معمر بن راشد الأزدي عن قتادة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصواب.
إذاً: فلا يصح هذا الخبر من جهة الإسناد، وقد جاء من وجه آخر عند البيهقي و الطبراني من حديث ابن لهيعة عن عياض عن إبراهيم عن أبيه قال: أظنه عن أسماء ، وهذا الخبر في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو مضعف لا يحتج به عند عامة العلماء إذا روى عنه غير قدماء أصحابه، وعند المحققين منهم أنه لا تقبل روايته على وجه الإطلاق، وقد تفرد بهذا الوجه، وقد جاء هذا الخبر مرسلاً أيضاً من حديث ابن جريج عن عائشة وهو من جملة المعضلات، ويرويه عنه حجاج ، وقد روى هذا الخبر ابن جرير الطبري في كتابه التفسير، ومعضلات ابن جريج شبيهة بالموضوعات، ولهذا قال الإمام أحمد وعليه رحمة الله: معضلات أو مراسيل ابن جريج شبيهة بالموضوعات، أي: أنه ربما تفرد بشيء يكون في حكم الموضوع، وعليه لا يمكن أن يعضد مرسل أو معضل ابن جريج مرسل قتادة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى؛ لأن قتادة من متوسطي التابعين، ويغلب أنه بينه وبين عائشة أكثر من اثنين، فإنه قد يروي هذا الخبر عن خالد عن عائشة ، و خالد لم يسمع من عائشة وحينئذٍ فيكون سماعه منها بعيداً جداً، فضلاً عن رواية ابن جريج وهو متأخر عن ذلك، وهو من أتباع التابعين.
ومن الأدلة التي يستدل بها من قال بخلاف ما تقدم تقريره ما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث عمرو بن مالك عن عبد الله بن عباس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم من يتقدم في الصفوف، ومنهم من يتأخر؛ لأن في النساء امرأة حسناء، فيتأخر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظرون إليه من آباطهم، يقول عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى: وكانت من أحاسن النساء من لم أر مثلها حسناً، وهذا الخبر قد تفرد به عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.
وهذا الخبر يرويه عن عمرو نوح بن قيس ، وقد خولف فيه فقد رواه جعفر بن سليمان عن عمرو عن أبي الجوزاء مرسلاً، ولم يروه مسنداً، وهذا هو الصواب، صوب ذلك الإمام الترمذي عليه رحمة الله تعالى في كتابه السنن، وقد روى هذا الخبر من هذا الوجه الإمام عبد الرزاق في كتابه المصنف، فدل على أن هذا الخبر منكر من جهة الإسناد، ولهذا علق عليه الحافظ ابن كثير في كتابه التفسير، فقال: وهذا الحديث شديد النكارة، ومما يدل على نكارة متنه أن سبب النزول في هذه الآية التي أشار إليها عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر:24] أنها من سورة الحجر، وسورة الحجر مكية، ولم يكن حينئذٍ صلاة يشهدها النساء، فدل على نكارة هذا الخبر، ومما يدل على نكارته أيضاً أن هذه السورة مجمل ما فيها من آيات هي من قصص الأمم السابقة، وكذلك وعظ المشركين وتذكيرهم بالله سبحانه وتعالى وهذا لم يكن في المدينة، وإنما كان في مكة، فدل على أن هذه الرواية منكرة من جهة الإسناد ومن جهة المتن.
ومما يستدل به أيضاً: من يقول بخلاف ما تقدم تقريره ما رواه ابن جرير الطبري في كتابه تهذيب الآثار من حديث عكرمة عن عمران بن حصين قال: (جاءت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إلى وجهها، فرأيت الدم قد ذهب من وجهها ) قالوا: ففي هذا دليل أنه قد نظر إلى وجهها، وهذا الخبر مع نكارة إسناده ومتنه فإنه من جهة الإسناد معلول، فـعكرمة لا يصح سماعه من عمران بن حصين عليه رضوان الله تعالى، فإن عكرمة لا تصح له رواية ولا أعلم من ذكر روايته عن عمران بن حصين ، فإن النقاد يذكرون روايته عن سعد بن أبي وقاص ، ويقولون: لم يسمع عكرمة من سعد بن أبي وقاص ، و سعد توفي بعد عمران بن حصين بسنتين أو نحو ذلك، فلم يسمع من عمران من باب أولى.
ومما يستدل به من قال بهذا القول ما جاء في الصحيح من حديث جرير : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النظرة إلا نظر الفجأة ) وكذلك قوله سبحانه وتعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31]، وقوله جل وعلا: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، قالوا: فلما أمر الله عز وجل المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم دل ذلك على أن النساء كاشفات وجوباً، وإلا لو كن مستترات لما كان ثمة أمر، لكن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم حال رؤية العورات على وجه العموم، سواءً كانت عورات الرجال أو عورات النساء، وكذلك أن يحفظوا فروجهم على الإطلاق، سواء تمكن الإنسان من المنكر أم لم يتمكن، ومع وجود المنكر واضطرار وقوعه في أحوال الناس، فإن الناس ليسوا على السواء، ولو قيل: بأن الله عز وجل قد أمر النساء بالاحتجاب، ثم أمر الرجال بإطلاق البصر مع تيقن وجود المخالف من النساء والرجال على مر العصور، لما كانت الشريعة حينئذٍ كاملة، ولهذا فقد روى البخاري من حديث سعيد بن أبي الحسن عن الحسن البصري أنه سئل قال: إن نساء العجم يكشفن وجوههن وصدورهن وشعورهن، فقال: اغضض بصرك، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ، مما يدل على أن ذلك يقع وينصرف على وجه العموم إلى النساء المقصرات في هذا الباب، وكذلك نساء المشركين، فإن المؤمنين مخاطبون بأن يغضوا أبصارهم وألا يطلقوها على العورات على وجه العموم، سواءً كان ذلك مما يتعلق بالنساء أو بالرجال.
ومما يستدل به القائلون في هذا الباب أيضاً، تلك المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها، قالوا: فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم نظره ثم أطلق، قالوا: فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها دل على أنها كاشفة.
والجواب: أن هذا لا يستلزم من ذلك شيئاً، فربما أن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى جسدها، ومعلوم أن من دواعي النكاح أن ينظر الإنسان إلى جسد المرأة فيعلم حالها من طول وقصر، وبدانة ونحافة، فإن هذا من دواعي النكاح، وربما أنه نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يبدو منها عادة من كفيها فإن هذا مما ينظر إليه الإنسان عادة فيعلم حال ما خفي من المرأة، والاستدلال بأمثال هذه الأمور الظنية لا يقاوم الأدلة الصريحة الواردة في ذلك.
ومن الأدلة التي يستدلون بها ما جاء عن المفسرين في تأويل قول الله عز وجل: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] فقد جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: الوجه والكفين، جاء هذا عنه من عدة طرق، منها ما رواه البيهقي في كتابه السنن من حديث أحمد بن عبد الجبار عن حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، وهذا معلول بعلل:
أولاً: قد تفرد به أحمد بن عبد الجبار، وقد ضعفه الإمام أحمد و يحيى بن معين وكذلك الإمام النسائي ، وكذلك قد رواه عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة غير يحيى بن معين ، فلا يصح من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر كما رواه ابن جرير الطبري من حديث مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، وقد تفرد به مسلم وهو ضعيف أيضاً.
ومما يدل على ضعف هذا الوجه أنه روي عن عبد الله بن عباس ما يخالف ذلك بإسناد صحيح، كما رواه ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم ، و ابن المنذر من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال: أمر الله عز وجل نساء المؤمنين ألا يخرجن إلا لحاجة، فإن خرجن أن يغطين وجوههن، وألا يبدين إلا عيناً واحدة.
وجاء ذلك عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله من وجه آخر من حديث سعيد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن المرأة تغطي وجهها حال إحرامها، وكيف تغطي ذلك؟ قال: فأخذ بردائه وغطى وجههه، قال: وأبدى عيناً واحدة.
وجاء من وجه آخر من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس بنحو ذلك، وروي أيضاً عن بعض أصحاب عبد الله بن عباس بنحو هذا المعنى من المختصين بأقواله كـطاوس بن كيسان فيما رواه الشافعي وكذلك البيهقي من حديث ابن جريج عن عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه قال في المرأة المحرمة: تغطي وجهها؟ قال: تسدل الخمار على وجهها، ولا تضرب به .
وكذلك ما جاء عن عبيدة السلماني وهو من الطبقة المتقدمة من التابعين كما رواه ابن جرير الطبري من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني أنه قال في قول الله عز وجل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] قال: تغطي وجهها ولا تبدي إلا عيناً واحدة، وأشار إلى هذا إلى أن المرأة تغطي وجهها ولا تبدي إلا ما ترى به الطريق، وروي نحو هذا المعنى كما تقدم عن غير واحد من المفسرين كالسدي و عكرمة و الحسن و عامر وغيرهم من المفسرين.
وروي نحو هذا التفسير الأول الذي رواه مسلم عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كما رواه ابن جرير الطبري من حديث هشام عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال في الزينة: الوجه والكفان.
ويقال: على فرض ثبوت ذلك عن عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس ، فقد اختلف المفسرون بمراد عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر بتأويل ذلك بقوله: الوجه والكفان. هل ينصرف إلى قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، وأن هذه من الزينة التي لا تظهر، أم هو مما استثني: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]؟ وإذا كان مما استثني بقوله: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] هل هو للبعولة وللأزواج، ولما يحل للمرأة أن تظهر ذلك عادة، أم هو لسائر الناس؟ فقد جاءت الرواية عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه خاص بأهلها ممن يدخل عليها، كما رواه ابن جرير الطبري من حديث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: وما عدا ذلك يعني: الكحل والخضاب والخاتم، قال: لا تبديه إلا لمن دخل عليها من ناسها، يعني: من أهلها. وأنها تحتجب فيما عدا ذلك، ويدل عليها الرواية الصريحة كما تقدمت الإشارة إليه، وثبت هذا المعنى عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى كما تقدمت الإشارة إليه بإسناد صحيح عند ابن جرير الطبري ، و ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال في الزينة: إنها الثياب.
وقد ذكر العلماء في الزينة الواردة في هذه الآية عدة معاني، وخلاصة ذلك أنها لا تخلو من معنيين: إما ظاهر لا يتصل ببدن المرأة ولا يلزم منه رؤية شيء من بدنها، وإما باطن يلزم منه رؤية شيء من بدنها، أو ما يكون مما يماس البدن، وأما الظاهر فالمراد به الثياب، وهو ما يظهر عادة من المرأة، فيجوز للمرأة أن تظهر ذلك من ثيابها، ولا حرج على المرأة أن تظهر الثياب، وأن تبرز فيها، وإن كانت من جهة الثياب هذه حسنة، إذا كانت لا تشف، ولا تصف الجسد، فإنه لا حرج عليها في إبدائها؛ لأنها مما استثني كما جاء النص عليه عن غير واحد من المفسرين.
وأما المعنى الآخر: فهو إما ما يكون من جسد المرأة وهو الوجه والكفين، وتقدم الكلام عليه، وإما أن يكون ما يلزم منه رؤية شيء من بدن المرأة، وهو ما نص عليه غير واحد من المفسرين، كرؤية الخاتم والخلخال، والقلادة، وكذلك الكحل والخضاب، قالوا: فيلزم من رؤية الخضاب رؤية الكف، ويلزم من رؤية الكحل رؤية العينين، ويلزم من رؤية الخلخال رؤية الرجل، وهذا من جهة الأصل ليس بلازم على الإطلاق، فإن الرجل قد يرى كحل المرأة المتنقبة، ويميزها عن غيرها وأنها كانت مكتحلة، كما جاء في حديث سبيعة الأسلمية عليها رضوان الله تعالى في الصحيح حينما رآها أبو السنابل وقد تكحلت واختضبت، وقد احتج بهذا الخبر من قال: بأنها كاشفة وجهها، وفي هذا نظر، فإن الخضاب يكون في اليد، وقد ترى المرأة بخضابها، وقد ترى مكتحلة بنقابها، ولا يرى وجهها.
والاستدلال بأمثال هذه الأدلة الظنية التي لا تستلزم كشف المرأة لوجهها مع ظهور الأدلة وتفسير السلف من الصحابة وغيرهم على ما تقدمت الإشارة إليه، مما هو أظهر وأشهر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بأن يصار إليه، وأما ما ينبغي في هذه المسألة من جهة النظر والنقد حال تحمل الإنسان أدلة المخالفين، فإنه ينبغي أن يعلم أن أمثال هذه المسائل قد تكلم فيها العلماء، وطلاب العلم، وأنصاف المتعلمين، وكثير من الفسقة والشهوانيين، لهذا تنوع خطاب العلماء في هذه المسائل من جهة التقرير والنقد والمباحثة، بين تغليظ وردع، باختلاف الباحثين في هذه المسائل، وليعلم أنه ما من أحد حتى وإن كان من أرباب الفرق الضالة فضلاً عمن كان من أهل العلم ممن يستدل بشيء من فروع هذا الدين، إلا وله من الأدلة الظاهرة من كلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما له فيه مستمسك، ولهذا يقول الشاطبي عليه رحمة الله: ما من أحد من أهل الفرق الضالة إلا وله من الأدلة من كلام الله، بل إنه حتى من الفساق يستدلون بكلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم من الأدلة الظاهرة تسويغاً لأقوالهم، وهذا إذا علم فينبغي حال تقرير هذه المسائل أن يكون الإنسان عالماً بأدلة المخالفين، عالماً بالراجح والمرجوح، وعالماً بوجه الرجحان عند القول بالراجح، وكذلك وجه عدم رجاحة القول المرجوح، ونقده والتماس العذر للمخالفين بأدب عند النقاش، ومعرفة حال المخالف في هذه المسألة، ويعلم أن هذه المسألة قد خاض فيها كثير من أرباب الهوى خاصة في أزماننا، واحتجوا بحجج واهية، وتمسكوا بأدلة متنوعة كاجتزاء كلام الأئمة في عورة المرأة في الصلاة، أو في الإحرام، ونحو ذلك، أو التمسك بأدلة ورواية تاريخية ونحو هذا.
ومن الغرائب استدلال كثير ممن يستدل على خلاف ما تقدم تقريره بقضايا في التاريخ، وأن عمل الناس كان على خلاف هذا القول.
أولاً: يعلم أن عمل الناس لا يمكن أن يضبط بحال، حتى يعرف أحوال القرون قرناً قرناً، وأما إذا كان الإنسان يستدل بأحوال الناس للمشاهدة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه سيأتي في هذه الأمة كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : ( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت )، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صنفان من أهل النار لم أرهما )، وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء لا يرون، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد بين أن الناس في آخر الزمان يعبدون اللات والعزى كما جاء في الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى )، فإذا عبدت اللات والعزى وهي متعلقة بالتوحيد مناقضة لأصل الإسلام، فهل يستدل الإنسان بشيء من وقائع العصر؟ لا شك أن مثل هذا يفتقر إلى دراية بمعرفة مراتب القرون وأحوالهم قرناً قرناً، ولهذا فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه ربما يأتي عصر من العصور ولا يعلم فيه من دين الإسلام شيئاً، كما روى الإمام ابن ماجه في كتابه السنن من حديث ربعي عن حذيفة عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة إلا شيخ كبير وعجوز يقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله، قال ربعي : وما تنفعهم لا إله إلا الله؟ قال: تنجيهم من النار .. ).
فإذا علم أن المنكر قد يشيع في الناس، وأن أركان الإسلام قد تخفى على أناس في هذه الأرض في جيل من الأجيال كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يحتج بقول وفعل أناس في مجتمع وبيئة من الناس؟! لا شك أن هذا لا يحتج به، ثم إنه ليعلم أن القرون الماضية التي سبقت قرون الاستعمار، وغزوات الغرب على بلاد الإسلام كانوا على ستر وحياءٍ تام، كما نص على ذلك أهل المعرفة، فإن بلاد الأندلس كما حكى ذلك أبو حيان كانوا على ستر حيث قال: وكان عادة أهل الأندلس أن النساء يغطين وجوههن، ولا يبدين إلا عيناً واحدة، وكذلك ما ذكره ياقوت الحموي في بلاد قابس، قال: وكان عادة النساء أن تستر المرأة وجهها فلا تعرف في طريقها، وكذلك النساء في بلاد مصر، كما ذكر المقريزي المصري في كتابه اتعاظ الحلفاء بأخبار الخلفاء، قال في عام ثلاثمائة وخمسةَ وتسعين من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام أمر بمصر أن تضرب الأجراس، وأن ينادى ألا تخرج المرأة كاشفة لوجهها، وألا يدخل رجل حمام إلا بمئزر.
وكذلك أيضاً في بلاد المغرب كما حكى ذلك أبو بكر بن العربي والقرطبي في كتابه التفسير، حينما أشار إلى أن عادة النساء أنهن كن يغطين وجوههن، بل إن هذا معروف عند سائر أهل الفطر السليمة حتى من أرباب الملل والديانات، سواءً في بلاد العجم التي لم يصل إليه الإسلام، فإن السفور فيهم لم يظهر إلا بعد ذلك، سواءً كان في بلاد الهند أو السند، أو المغرب الأقصى، فإن كثيراً من نسائهم كن على حجاب وستر تام.
ويكفي أن نساء المسلمين في أقصى ما وصلت إليه بلاد المسلمين في بلاد الأندلس كن على حجاب وتغطية للوجوه حتى بعد ورود المستعمرين إليهم بعشرات السنين، حتى أكرهوا من قبل المستعمر على ذلك، وينبغي أن يعلم أن أحوال كثيرٍ من بلاد المسلمين في الشام وفي مصر، وفي العراق، وفي المغرب، وفي البلاد التي قد طمس فيها الإسلام كالأندلس، أنها قد تغيرت عن حالها بفعل المستعمر وأهل الأهواء، وأن أحوال تلك البلاد كانت تنقص شيئاً فشيئاً سواءً بعمل المستعمرين، أو بعمل الدعاة الذين دعوا إلى باطل ممن تأثروا بدعوات المستعمرين، ونحن في زماننا هذا نشهد شيئاً من ذلك من الدعوات الظاهرة إلى كشف العورات، والتقليل من شأنها حتى اعتاد كثير من الناس رؤية النساء ساترات ظاهرات شعورهن، وهذا لا شك أنه عين المنكر الذي قد أجمع العلماء عليه، وليعلم أن أكثر من يورد هذه المسائل في وسائل الإعلام خاصة هو ممن لا يقيم للمجمع عليه حرمة، فيناقشون في الفروع من تغطية المرأة لكفيها ووجهها، وهم لا يرون بإظهار بقية الأجساد شيئاً، وينبغي حال نقاشهم لأمثال هذه المسائل أن ينظر إلى حالهم، فإن كانوا من أرباب الإنصاف والعلم فيعاملون بنقاش وأدب خلاف، وإن كانوا من أهل الأهواء، وهذا الغالب على الطارقين أمثال هذه المسائل خاصة في أزماننا، فينظر إلى المسائل الأخرى إذا كانوا ممن يقيمون للإجماع وزناً، كانوا من أهل الإنصاف، وإذا كانوا ممن لا يقيمون الإجماع وزناً كانوا من أهل الأهواء، ولهذا كان كثير منهم يدعو إلى أمثال هذه المسائل، وأن أمثال هذه المسائل من المسائل الخلافية، ويقرر ويورد الأدلة وهو لا يرى بل لا يغار على أحد من أهله إذا كشفت شعرها أو أبدت شيئاً من محاسنها، بل ربما يسعى إلى ذلك ويدعو إليه.
لهذا ينبغي ألا يخدع كثير من أهل الإنصاف والعلم بالنظر إلى هذه المسألة باعتبار أنه قال بها بعض العلماء، فيوردون أمثال هذه الأقوال في مواضع هي أبعد ما تكون عن مسائل الخلاف، بل إن إظهار هذه المسائل خاصة في زمننا مما لا ينبغي للعاقل المنصف إظهاره، بل ينبغي أن يبين وأن يقرر إجماع الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية وأن هذه النصوص مما أجمع العلماء على أنه يجب على المرأة أن تستر جسدها كله حال وجود الفتنة ولا أظهر من الفتنة منها في زمننا هذا، وكما يعلم أن الأمة في زمننا هذا خاصة تعيش نوعاً من الاستعمال الثقافي بوسائل الإعلام المتنوعة غزواً للفكر، وهدماً للدين، وتقليلاً للمسائل الثابتة، وتهويناً لشرائع الدين، وإثارة لمسائل الخلاف وإظهارها، ووصف من يخالف في هذه المسألة بعدم الإنصاف أو التشديد أو الغلو ونحو هذا.
ولهذا يوجد في كتابات أهل الأهواء من يصف هذا الحجاب أنه حجاب البلدة الفلانية ونحو ذلك، وهذا مع جهلهم بالتاريخ كما تقدمت الإشارة إليه فإنهم جاهلون بالنصوص الواردة في كتب التاريخ قبل الإسلام، وفي أشعار العرب والنصوص من كلام الله عز وجل، وتأويل المفسرين من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام.
وينبغي أن يعلم أيضاً أنهم ربما قللوا من شأن الحجاب على وجه العموم بوصم أنه من عادة أهل التشدد، أو من عادة أهل البادية ونحو ذلك.
أولاً: ليعلم أن هذه اللفظة وهي وصم الحجاب بأنه من عادة أهل البادية لم يعلم هذا إلا بعد أن نال الاستعمار بلاد المسلمين، فحينما دخل الاستعمار بلاد مصر، بلاد المغرب، وبلاد الأندلس وظهر منهم من وصم ذلك بهذا الوصم، ثم جاء من تبع هؤلاء على هذا النهج، ويكفي أن نساء المسلمين في أقصى ما وصل إليه المسلمون من البلاد كن على حجاب تام وستر تام، حتى جاء المستعمر فطمس تلك المعالم على وجه الإكراه تارة، وعلى وجه الترغيب بمطامع الدنيا تارة أخرى، وإذا كان هذا بأقاصي الدنيا فهو لمن كان دون ذلك من باب أولى ممن كانت فيه الخلافة قائمة نحواً من ثمانية قرون، فمن قدم إلى هذه البلدان ورآها وجد أن الإسلام قد طمس فيها أصولاً وفروعاً، مع تمسك المسلمين في بلاد الأندلس خاصة بالحجاب، وتغطية الوجه أكثر من سبعين عاماً.
ولعل فيما تقدم الكلام عليه كفاية بالإيراد والنقاش.
وبالجملة أن ما ذكرناه من أدلة هو من جهة الأصل داخل فيها، فإن الإطناب في إيراد الأدلة مع اتحادها من جهة الحجة والاحتجاج عند العلماء ليس من عادة العلماء في إيراده ومناقشته، وإنما يورد ذلك إذا انفرد أحد الأئمة بإيراد هذا الدليل، ولم يحتج بغيره فإنه يبين على وجه الخصوص، وبالجملة فإن من استدل بالأدلة فإنه يشترك من جهة الاستدلال والاستنباط على ما تقدمت الإشارة.
السؤال: نريد تعريف مصطلح الاستعمار الثقافي؟ وهل هو نفسه الغزو الفكري؟ وما الفرق بينهما؟
الجواب: الغزو الفكري، الغزوة والغزو يقال في حال وجود الصراع القائم، ولكن من نظر إلى لفظة استعمار وجدتها مشتقة من العمارة، وهذا لفظ استشراقي، وهو أقرب إلى الهدم، ولكن هو اصطلاح قد جرى فلا حرج من استعماله لمعرفة المعنى، والاستعمار المراد بذلك إتيان الكفرة إلى بلاد المسلمين، وحكمهم فيها، وإنما قيل بالاستعمار الثقافي لانفراد أهل الضلال والزيغ بنشر الثقافة في كثير من بلدان المسلمين، ومن نظر إلى الاستعمار -وإن كان قد خرج من بلاد المسلمين- وجد أنه متأصل في جذورهم, حتى إن الحجاب واللغة المشوهة له بقيت فيهم على حال لم تتغير، وظنوا أن آبائهم على هذه الحال، ولهذا كثير من بلدان المسلمين التي قد طالها الاستعمار سواءً مصر وقد طالها الاستعمار مرتين، استعمار الفرنسيين ثم استعمار الإنجليز أو المغرب التي طالها الاستعمار الفرنسي يجد أن هذا الاستعمار باق فيها، وإن ذهب المستعمر، ومن الغريب أنني كنت في بلاد المغرب قبل نحو عشر سنوات وكان المغاربة يحتفلون بالاستقلال وكانت اللوحات بالفرنسية، يحتفلون باستقلالهم عن فرنسا، وكانت اللوحات في الشوارع باللغة الفرنسية، إذاً هو استعمار، لكن قمتم بالنيابة وذهب المستعمر وغرس أبناءه فقاموا بالنيابة.
ولهذا يجد كثير من الناس والمصلحين في البلاد التي دخلها الاستعمار يجد هذه البلدان يصل إليها الحجاب مشوهاً، أو فهموه مشوهاً، ويوجد عند كثير من النساء تقوى وصلاح وديانة لكنها من جهة فهم الشرع خاصة في باب الحجاب؛ لأنه يركز عليه المستعمر؛ لأنه هو وسيلة الفساد، وهو ضوابط الفساد؛ لأنه يصد عن دين الله عز وجل ويلهي؛ لأنه انغماس في الشهوات فتجد أن كثيراً من النساء تغطي الشعر، لكنها لا تغطي الوجه، وربما كشفت عن ساقيها، أو لبست البنطال، وهذا فهم للحجاب مشوه، لم يأت على قول أحد من الفقهاء فظنوا أن الحجاب هو تغطية الوجه، وقد حدثني أحد الفضلاء وكان في عمل إلى أحد البلدان التي نالها الاستعمار وكان هناك امرأة قد أبدت شيئاً من فخذها، يقول: فأنكرت عليها وكان اليوم يوم الإثنين، وكانت صائمة يوم الإثنين، وهي تظن أنه لا يوجد شيء اسمه حجاب، وإنما هو عادة، فجعلت التدين هو بقية أحكام الشريعة، وهذا باق إلى يومنا هذا في كثير من البلدان، ولهذا هذه الأحكام في تلك البلاد إما أن يكون الحجاب بلغ إليهم مشوهاً، وهذا مشاهد في كثير من البلدان الإسلامية فإن المرأة تضع الحجاب وتكشف عن الساق، أو عن الركبة، أو تلبس تنورة إلى الركبة، وقد غطت شعرها، وهذا ليس حجاباً، وكذلك من تلبس البنطال وقد غطت الشعر فهذا لا شك أنه انحراف في فهم النصوص.
السؤال: يقول: ما الراجح في نظر المرأة إلى الرجال؟
الجواب: مذهب جمهور العلماء أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل بلا شهوة، أما إن كان لشهوة فيحرم، بخلاف نظر الرجل إلى المرأة فإنه لا يجوز على قول جمهور العلماء، بل عامتهم.
السؤال: هل ينكر على المخالف في هذا؟
الجواب: نعم ينكر على المخالف في هذا، كما أنكر السلف في ذلك كما تقدم عن عبيد بن عمير أنه رأى امرأة فقال: استتري، وكان من كبار الفقهاء، يقول مجاهد بن جبر وهو من أئمة الفقهاء: نفتخر بفقيهنا وقاضينا: فقيهنا عبد الله بن عباس ، وقاضينا عبيد بن عمير ، وقد روى عنه كبار التابعين كـمجاهد بن جبر و أبي حازم و عطاء وغيرهم.
السؤال: ما الفرق بين الأثر والخبر؟
الجواب: من جهة الاصطلاح لا فرق بين الأثر والخبر، وبعضهم يجعل الخبر أعم، والأثر ما كان موقوفاً، والذي يظهر والله أعلم من استعمالات العلماء أنه لا فرق بين هذا وهذا، ولكن ثمة فرق من جهة الاصطلاح بين الأثر والحديث.
السؤال: امرأة تلبس الحجاب الشرعي ولكن من باب العادة وليس من باب العبادة؟
الجواب: لا تثاب على ذلك، وتصون نفسها، ويرتفع الإثم عنها.
هذه وثيقة تاريخية معي عن الأندلس بعد الاستعمار هذه النص الذي سأنقله هنا هو من كتاب الموريسكيون الأندلسيون، والكاتبة من أسبانيا اسمها مرسيدس غارتيا أرينال، وهو كتاب تاريخي مترجم يحكي حال المسلمات بعد الاستعمار بسبعين سنة في الأندلس التي هي أسبانيا الآن.
تقول الترجمة: في عام ألف وخمسمائة وسبعة وستين ميلادي أذيعت في غرناطة سلسلة بنود وأوامر أهمها ما يلي:
حظر اللباس الموريسكي، الموريسكيون هم المسلمين الذين دخلوا في المسيحية، حظر اللباس الموريسكي على الرجال والنساء وإلزام النساء بالإضافة إلى ذلك بكشف الوجه؛ -لأنهن كن قد غطين الوجوه- في الزفاف، وفي كل أنواع الاحتفالات تمنع رقصة السمرة وإقامة الليالي، أي: تقوم الليالي بمصاحبة الآلات الغنائية، ويجب أن تضل أبواب البيوت مفتوحة، وتمنع النساء من التخضيب بالحناء، ويحظر استعمال الأسماء والألقاب الإسلامية.
قال: ويحظر على الموريسكيين أن يكون لهم عبيد من المقاتلين الغرباء، وعلى الأحرار من هؤلاء المقاتلين مغادرة غرناطة في غضون ستة أشهر، تقول: كما نرى لم تكن تلك الإجراءات مجرد وسائل قمع، بل كانت تهدف إلى إلغاء وجود الموريسكيين كجماعة مختلفة ثقافياً، وتقول: وفي عام ألف وخمسمائة وسبعة وستين لم يكن هناك مجال للتأجيل أرسل أحد أعيان الموريسكيين إلى محكمة غرناطة مذكرة ننقل نصها، والمذكرة مودعة في مكتبة مدريد الوطنية، يقول: في اعتباره أهمية القضية يحاول تصوير هذه الخصائص على أنها مجرد عادات محلية، أي: أنها تصور للمسلمين أنها ليست ديناً بل عادات، وأن يسعى إلى أن يقبل اللباس الموريسكي، كما يقبل الزي الخاص بقشتالة، أو أراغون، وأن تقبل اللغة العربية كما تقبل اللغة الغارثية، هذا الكلام يدل على أنهم حددوا ذلك حتى في اللغة وهي اللغة الوحيدة التي استثنوها، وهذا التاريخ الذي ذكر له ألف وخمسمائة وسبعة وستين، يعني بعد سبعين، يعني: أن النساء بعد سقوط الأندلس بسبعين سنة بقين على الحجاب.
يقول: وكشف النساء لوجوههن وذلك لارتكاب المعصية إذا رأوا الجمال أن يشتهونه، وهذا هو ما يدعو إليه أرباب الدعوات المعاصرة تارة كما فعل أسلافهم تارة بتصوير كثير من الأحكام الشرعية على أنها عادة، أو عادة بلد فلاني، ولا تخص بهذا البلد، وكذلك قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، آباؤنا على هذا الشيء، كل أمة يأتي الله عز وجل بنبي يبعث إليها ويجدد الدين، يستدلون بالآباء، ولا يعرفون ما حدث من توحيد قبل ذلك، لهذا كل نبي يأتي إلى قومه ويحاججهم يجد حجتهم واحدة: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
السؤال: هل صحيح أن كشف الوجه لم ينتشر إلا في الاستعمار الفرنسي لمصر؟
الجواب: نعم، كشف الوجه أصلاً في مصر ما عرف إلا بعد الاستعمار، ولهذا يقول ابن حجر وهو مصري: ومن عادة النساء قديماً وحديثاً ألا يخرجن سافرات الوجوه، وهذا في القرن التاسع، وأشار إلى هذا المعنى غيره من فقهاء الشافعية قبل ذلك، وهذا يدل على أن هذا مما جلبه الاستعمار.
السؤال: وهل للمرأة أن تلبس البنطال أمام زوجها؟
الجواب: نعم، للمرأة أن تلبس البنطال أمام زوجها، ولها أن تتعرى أيضاً.
السؤال: يقول: ما حكم كشف المرأة لشعرها أمام محارمها؟
الجواب: لا حرج في ذلك.
أما لبس المرأة أمام الأجانب عنها البنطال، فإن هذا محرم بالإجماع؛ لأنه يصف جسدها، وتقدمت الإشارة إلى هذا المعنى، في كلامنا هذا نحن لا نتكلم عن عورة المرأة بالنسبة للمرأة، أو عورة المرأة عند محارمها؛ لأن هذا ليس من مباحث هذه المحاضرة، ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحجاب في الميزان للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net