اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح المنظومة البيقونية [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا ورسولنا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
قال الإمام البيقوني عليه رحمة الله:
[ ومرسل منه الصحابي سقطوقل غريب ما روى راوٍ فقط ]
تكلم هنا على معنى الإرسال، وشيء من أحواله، وقلنا: إننا نتكلم على شيء من حكم العلماء عليه، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى جعلوا المرسل من قسم الضعيف؛ وذلك للعلة الظاهرة في إسناده، وهي سقوط الراوي بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام: إما أن يكون تابعياً، وإما أن يكون تابعياً وصحابياً، والعلة في كونه من قسم الضعيف ليس هو سقوط الصحابي؛ لأنه لو سقط الصحابي ما ضرت الجهالة بالصحابي، وإنما العلة في ذلك أنه قد يكون بين التابعي والصحابي تابعي آخر، فالعلماء عليهم رحمة الله يجعلون المرسل من قسم الحديث الضعيف، وجهالة الصحابي لا تضر، والعلماء يتفقون على أن الصحابة عدول، وأما ورود بعض الجهالات في ذكر الصحابي في بعض الأسانيد، كأن يقال: كان رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن رجل صحب رسول الله، أو أن رجلاً قال لرسول الله، ونحو ذلك من الروايات، فعامة العلماء على أن هذا لا يضر، وهناك بعض المتكلمين وبعض أهل الظاهر يقولون برد الحديث بجهالة الصحابي، وهذا القول قال به أبو إسحاق الإسفراييني و ابن حزم الأندلسي فإنهم يقولون برد الحديث بجهالة الصحابي، وردهم في ذلك ليس طعناً في الصحابة عليهم رضوان الله، وإنما لاحتمال يظنونه وهو: أنه قد يقول التابعي إن هذا صحابي ولو سماه لنا لكان غير صحابي.
وهذا من الوجوه التي يرد بها بعض الفقهاء الحديث المرسل، وكذلك أيضاً يردون بها جهالة الصحابي، وذلك مثلاً كحديث حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: حدثني رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، هذا نص بالصحبة، وأما إذا روى التابعي عن رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره باسمه، فهذا اختلف العلماء عليهم رحمة الله في هذا على ما تقدم، عامة العلماء على قبوله، باعتبار أن الراوي التابعي هو أعلم بطبقة الصحابة منا، وأن مثل هذه الأحاديث وهذا الجزم من التابعي لا يرد بالظن.
ومن العلل التي يردون بها الحديث لجهالة الصحابي قولهم: قد يكون من المنافقين ويظن أنه من الصحابة، ولو سمي لنا لعرفنا ذلك وأدركناه، وهذا أيضاً ظن، ونقول: إن الأصل في الصحابة العدالة، والتابعون هم أعلم الناس بالصحابة عليهم رضوان الله، كما أن الصحابة هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد بينه وبينهم قرون متعددة أن يأتي ثم يقول: إني أدرك ما لا يدركون من معرفة الطبقة التي أدركوها.
والمرسل على ما تقدم الأصل فيه أنه في حكم الضعيف، وهذا ظاهر صنيع الأئمة عليهم رحمة الله، وأما ما يذكره بعض الفقهاء وبعض المحدثين عن الإمام الشافعي رحمه الله من الاحتجاج بالحديث المرسل، الذي يرويه تابعي كبير، أو تابعي من الثقات المأمونين الذين لا يروون إلا عن ثقة، وذلك كـسعيد بن المسيب .
وهنا نقول: إن ما جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله فهو احتجاج وليس تصحيحاً، وذلك لأن الأئمة عليهم رحمة الله ربما يطلقون الاحتجاج ولا يريدون به التصحيح، وربما أرادوا به التصحيح والحكم في ذلك العمل، يعني: ما يجرون عليه من جهة الاحتجاج، ونعرف مذهب الشافعي بطريقته من جهة الاحتجاج بالمراسيل، نجد أنه يخرج جملة من المراسيل في كتابه الأم عن سعيد بن المسيب خاصة، ولا يحتج بها ويردها، ومن ذلك ما رواه أبو داود في كتابه المراسيل عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ضرب أباه فاقتلوه )، لا يحتج به الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك لإرساله، فهم يحتجون به إذا لم يوجد ما يخالفه، أو وجدوا ما يعضده، وخاصة إذا وافق أصلاً من الأصول، إما القياس أو البراءة الأصلية، أو عمل الصحابة، أو عضد بمرسلٍ من المراسيل.
وأما قول العلماء: مراسيل فلان أصح المراسيل، فهذا يوجد كثيراً، ونقول: إن مرادهم بذلك ليس الصحة الاصطلاحية، وإنما يريدون بذلك صحة نسبية، وذلك بالنسبة للمراسيل، هي صحيحة بالنسبة لما هو ضعيف من المراسيل، فيطلقون على مراسيل بعضهم كمراسيل سعيد بن المسيب، بأنها صحيحة، أو قول بعضهم عن الحسن، كما جاء عن أبي زرعة يقول: نظرت في مراسيل الحسن البصري فوجدت لها أصلاً إلا أربعة أحاديث، إذاً: هذا دليل على أنهم يبحثون في الطرق، ولا ينظرون للمرسل مجرداً، فمرادهم بمراسيل فلان صحيحة، أو مراسيل فلان أصح المراسيل يعني: بالنسبة لهذه المراسيل، وليس المراد بذلك هي الصحة الاصطلاحية.
إذاً: فهي داخلة عندهم من جهة الأصل في الحديث الضعيف.
كيف نعرف المرسل الذي يحتج به، والمرسل الذي لا يحتج به؟
يعرف هذا بجملة من القرائن:
القرينة الأولى: أن يكون الذي أرسل من التابعين الكبار، وذكرنا أنه كلما تقدم طبقة فهو أقوى وأمتن وأدق وأحوط ممن روى بعد ذلك، فمن أدرك النبي عليه الصلاة والسلام زمناً ولم يره، هو أقوى من جهة الرواية ممن جاء بعده، ومن أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة فإنه أيضاً أقوى إرسالاً ممن أدرك الثلاثة، ومن أدرك الثلاثة أقوى وأحوط ممن أدرك الاثنين، وهكذا ينزل في ذلك بحسب الطبقة.
القرينة الثانية مما يعرف به صحة الإرسال: هو تعدد المخارج، فالمرسل قد يروى من وجه، ويروى من وجه آخر، أو يروى من ثلاثة أوجه أو أربعة، ولو اختلف في ذلك اللفظ، فتعدد المخارج قرينة على تعدد الطرق، ولكن في النظر في تحديد المخارج ينبغي لطالب العلم أن يتأمل، بأن يكون المرسلون للحديث أرسلوا الحديث من مخارج لا تلتقي بضعيف، وذلك أن يكون مثلاً مخرج الحديث ليس في بلد واحد، كأن يكون حديث مرسل بصري ويماني وحجازي وشامي ونحو ذلك، فيكون ثمة طرق متعددة في الغالب أنها لا تلتقي من جهة الشيوخ، بخلاف الذي يروى مثلاً من مدرسة واحدة، أو في بلد واحد وشيخهم واحد، فتجد مراسيل الكوفيين تتعدد، يرسل مثلاً علقمة، ويرسل إبراهيم، ويرسل أيضاً ممن حولهم مثلاً من أهل البصرة كـالحسن و قتادة، هذه في الغالب تجد أن شيوخهم في ذلك يتقاربون، وكلما يتسع تتباعد مخارج الرواية؛ فإن هذا قرينة على تعدد الطرق، وأنها لم تلتقِ براوٍ ضعيف.
وثمة أيضاً أمر آخر من جهة معرفة تعدد المخارج: أن يسبر طالب العلم شيوخ التابعين الذين أرسلوا، يسبر المخارج، ينظر في الحسن البصري، هل يلتقي مثلاً مع ابن سيرين، ويلتقي مع الشعبي، أو يلتقي مثلاً في بعض الذين يرسلون بالمدينة في الزهري، أو مثلاً سليمان بن يسار وغيرهم، هل يلتقون بشيوخ ضعفاء أو لا يلتقون؟ وكلما كان طالب العلم في ذلك أكثر سبراً للشيوخ والطبقات، فإنه حينئذٍ يكون أعرف بصحة المرسل من عدمه، ولهذا الأئمة يتابعون ويتتبعون مخارج المراسيل، ولهذا يقول بعضهم في مراسيل الحسن البصري : تتبعت مراسيل الحسن البصري فوجدتها صحيحة إلا أربعة، يعني: لها أصول صحيحة إلا أربعة، وهذا إشارة إلى أنه يتتبع ويجد ما يعضده من المخارج.
الأمر الثالث مما يعرف به قوة المرسل من عدمه: أن يكون المرسل أقرب إلى مواضع الوحي من الحجاز كمكة والمدينة، فمراسيل المدنيين أقوى من مراسيل غيرهم من العراقيين والشاميين واليمانيين والمصريين؛ لأن المدنيين لا يأخذون إلا من شيوخ المدينة غالباً؛ لأن المدرسة عندهم، فالأحاديث التي تدور في البلدان خرجت من عندهم، فهم يأخذون منها، حتى أورث بعض الرواة نوعاً من الأنفة أن المدني لا يأخذ من البعيد؛ لدخول العجمة عند الأبعدين، عجمة اللسان، كذلك ضعف الرواية والتدليس والابتداع، الذي انتشر في الناس، فأصبحت المدينة هي أكثر المدن أو بقاع معاقل العلم نقاوة وصفاء من جهة الصدق والكذب، ومن جهة البدعة، فإنهم أصدق الناس وأكثرهم اتباعاً للسنة وأبعدهم عن العجمة، ولهذا نقول: إن البلدان التي تأخرت فيها العجمة أفضل من غيرها وأدق، كذلك أيضاً فإن شيوخهم في ذلك لو سقطوا فإنهم أولى من غيرهم.
الرابع مما يعرف به صحة الحديث المرسل: أن يعضده حديث مرفوع ضعيف، هو مرسل في ذاته، لكن ثمة حديث موصول ضعيف يعضد ذلك المرسل، أو موقوف مروي عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله، فإذا وجد حديث مرسل، وعضده مرفوع ضعيف، أو عضده موقوف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا قرينة على قوته والأخذ به، وأعلى ذلك ما جاء عن صحابي ولا يعرف له مخالف، أو كان في المسألة إجماع، وجاء في هذا مرسل، ولهذا نجد في كلام بعض العلماء إذا حكموا على مسألة من المسائل بحكم يأتون بحديث مرسل، وليس الاعتماد منهم على هذا الحديث المرسل، وإنما يعتمدون على الإجماع، ولكن عند العلماء أن النص المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أقوى وأولى بالذكر من الإجماع؛ وذلك لأن النص يظهر منه الوحي، فضلاً عما دون الإجماع من قرائن الاحتجاج.
الخامس: أن يعضده أصل من الأصول من غير النصوص، وذلك كالقياس، أو يجري عليه العمل، فهذا أيضاً مما يعضد القول بالحديث المرسل ويرجحه، وهذا أيضاً نسبي، فإذا وجدت مراسيل فلان من الناس كبعض الرواة مثلاً كـالحسن أو ابن شهاب أو غيرهم، تجد أن هذه الروايات التي يرسلونها عن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سبرتها ووجدت أن لهم عشرين أو ثلاثين مرسلاً، فقمت بالنظر فيها، وجدت أن أكثرها توافق الأصول، هذا تستطيع به أن تحكم حكماً على هذه الأحاديث إما بالقبول وإما بالرد.
السادس في هذا: أن يكون على هذا فتيا التابعين، فيجري عليه العمل إذا لم يوجد نص عن الصحابة، ولم يوجد حديث ضعيف، وكان عمل التابعين على ذلك، فهذا يعضد القول بالحديث المرسل؛ ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يقدمون الحديث المرسل على قول التابعي، مع أنهم عضدوا الحديث المرسل عند تقوية الحديث بقول التابعي وذلك لأن هذا يعضد هذا، ولكن المرسل أولى بالذكر؛ لأنه أقرب إلى القوة، وأقرب إلى قول المشرع.
والأصل -على ما تقدم- في المراسيل الرد ما لم تجتمع في ذلك القرائن، ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله حتى من التابعين يردون المراسيل كـسعيد بن المسيب رحمه الله، وكذلك ابن شهاب الزهري، فإنهما كانا يقولان: يحدثوننا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة، يعني: يروون بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذين يروون هؤلاء يسقطون وهم من طبقة التابعين، فيردون بذلك روايتهم، وهذا هو الأصل.
المراسيل لها مظانها في كتب المراسيل ككتاب المراسيل لـأبي داود، وأيضاً من مظانها: المصنفات كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي وغيرها، فإنها تورد من المراسيل شيئاً كثيراً.
تقييد المصنف رحمه الله بأن المرسل هو ما سقط منه الصحابي، هذا في الصورة الظاهرة، وأما من جهة الحقيقة فقد يسقط صحابي، وقد يسقط منه معه تابعي، وقد يسقط أكثر من تابعي مع صحابي، وقد يسقط أكثر من صحابي مع تابعي، أو أكثر من تابعي، أو يسقط أكثر من صحابي، وذلك كأن يروي تابعي عن صحابيين فيسقطهما جميعاً، وقد يروي تابعي عن تابعي عن صحابيين، وهكذا، ولكن ذكر الصحابي هنا باعتبار أن الصورة الظاهرة هي سقوط وخلو حلقة الصحابي من الإسناد.
وقوله: (وقل غريب ما روى راوٍ فقط).
الغرابة في الإسناد هي التفرد، فبعض العلماء يجعل الغرابة والتفرد والنكارة بمعنى واحد، وبعضهم يجعل النكارة أشد، والغرابة هي المعنى العام الاصطلاحي في ذلك، وبعضهم يجعلها في حكم المترادف.
والحديث الغريب عند أهل الاصطلاح على نوعين: غريب مطلق، وذلك بأن يكون في جميع الطبقات، في طبقة الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين ومن روى عنهم، فهو في كل طبقة غريب.
وغريب نسبي، وذلك بالنسبة إما إلى صحابي، أو إلى تابعي، أو إلى تابع تابعي، وهكذا، وإن اختل في بعض الطبقات، ولكن لا بد أن يكون في طبقة واحدة أو في طبقتين، أو في ثلاث، ولكن لا بد أن يكون في طبقة أخرى يخالف ذلك العدد، فيكون فيه أكثر من اثنين أو ثلاثة، أو أكثر من هذا.
وأما بالنسبة للغرابة المطلقة كما في حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله عليه في حديثه: ( إنما الأعمال بالنيات )، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب، فهو غريب من هذا الوجه، وغرابته في ذلك في رواته محمد بن إبراهيم و يحيى بن سعيد و علقمة و عمر بن الخطاب، فلا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ إلا من طريقهم.
ولكنه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ بأسانيد وطرق ضعيفة لا يعتد بها، جاء من حديث جابر وغيره.
وأما الغرابة النسبية، فهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، منها في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله وغيره ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر ).
ثمة كتب مصنفة في الأحاديث الغريبة، أحاديث الأفراد، صنف في هذا جماعة من العلماء، منها ما هي في أبواب الغرابة التامة ككتاب الأفراد والغرائب للدارقطني، ومنها ما هي كتب في غرائب راوٍ من الرواة، وذلك كغرائب شعبة، وغرائب مالك أيضاً للإمام الدارقطني رحمه الله وغيرها، وأكثر الأئمة عناية بالغرائب هو الإمام الدارقطني رحمه الله، فهو يعتني بها عناية كبيرة، ومصنفاته في ذلك شاهد عدل على هذا.
وأكثر العلماء إطلاقاً للفظ الغريب هو الترمذي رحمه الله في كتابه السنن، وهو من الأئمة المتقدمين، وربما يطلق هذه العبارة وحدها فيقول: حديث غريب، وربما يطلقها ويقرنها مع غيرها، فيقول: حديث حسن غريب، أو حديث صحيح غريب، أو حديث حسن صحيح غريب، أو حديث غريب حسن، وغير ذلك من الألفاظ، وله اصطلاح في ذلك يرجع إليه في مظانه كما تقدم الإشارة إليه.
والغرابة في الحديث قد تكون إسنادية، وقد تكون متنية، ولكن مراد المصنف رحمه الله هنا بالغرابة الإسنادية، ولهذا قال: (وقل غريب ما روى راوٍ فقط).
أما الغرابة المتنية فأن يؤتى بلفظ ولا يوافق عليه الرواة، إما من بلد آخر، أو من مدرسة أخرى، وذلك كأن يكون مثلاً هذا المتن لم يرد إلا من حديث أنس، أو لم يرد مثلاً من حديث فلان، ولو جاء متعدداً من طرق متعددة إلا أنه غريب بالنسبة لهذه المسألة، فتفردوا بروايتها من هذا الوجه، أو بهذه الواقعة.
ولهذا يذكر العلماء أحاديث غرائب يتفرد بها أهل الكوفة، أو أهل البصرة، أو أهل دمشق، أو أهل مصر، أو أهل الحجاز، فيقولون: هذا حديث كوفي، أو هذا أحديث بصري، أو هذا حديث دمشقي وغير ذلك، فيريدون بذلك الأحاديث المفاريد في هذا.
والأصل في هذا أنه نوع علة، ولهذا نجد أن بعض العلماء كـأبي داود رحمه الله في كتابه السنن يذكر بعد إخراجه للأحاديث يقول: هذا حديث خراساني، أو هذا حديث مصري، أو هذا حديث عراقي، يريد بذلك أن رجاله ومخارجه إنما تكون من العراق، فهو غريب من هذا النحو، فجاءوا بمعنى لم يكن موجوداً عند الأئمة، وهذا يوجد في البلدان.
وأصح الأحاديث الغريبة من جهة المعنى وكذلك من جهة الإسناد هي الغرابة الحجازية، وذلك في مفاريد أهل المدينة من جهة الإسناد، وكذلك أيضاً من جهة المعنى؛ والسبب في ذلك أنه معقل العلم، ومهبط الوحي، فالوحي نزل من هناك، فإذا لم يتفردوا بشيء هم فمن يتفرد؛ لأنهم هم محل العلم والرواية، وكلما بعد الناس عن معقل العلم فإن التفرد والغرابة أظهر في الرد؛ للبعد عن معقل الإسلام خاصة في المسائل العظيمة الجليلة القدر.
ولهذا لا يتفردون ويخرجون عن الحجاز في هذا، ويكون حديثهم في ذلك صحيحاً في مسائل الصلاة أو الصيام أو الطهارة أو الحج، أو غير ذلك من المسائل الظاهرة، لكن قد يتفردون ببعض الأعمال، أو ببعض الفضائل التي ليست من الأصول ولا من أعلام المسائل، كتفردهم بالأخبار بأشراط الساعة، أو بأخبار المغازي، أو بالفتن، أو بفضائل البلدان، كأن يتفرد مثلاً أهل اليمن بحديث في فضل اليمن، أو يتفرد أهل الشام بحديث في فضل الشام ونحو ذلك، فهذا يقبله العلماء؛ لأنه لا يتعلق بالأحكام ولو تفردوا به، أو جاءوا بأحاديث الفتن؛ لأن الفتن لا يلزم منها عمل وتشريع، ولهذا يشددون في التشريع ما لا يشددون في غيره.
قال رحمه الله:
[ وكل ما لم يتصل بحالإسناده منقطع الأوصال ]
ذكر المصنف رحمه الله فيما تقدم المتصل، وذكر هنا المنقطع، وجعل المنقطع ما وجد فيه انقطاع في أي طبقة من طبقاته، وأنه يوصف بالانقطاع، وعند المتقدمين الانقطاع والإرسال بينهما تقارب، وذلك لتقاربهما اللغوي، وربما تجَّوز العلماء فوصفوا الحديث المنقطع اصطلاحاً وصفوه بالمرسل، ووصفوا المرسل اصطلاحاً بالمنقطع، وهذا يرد كثيراً، وذلك لوجود الانقطاع في إسناده.
وهنا ذكر المنقطع، والأصل في المنقطع أنه من أقسام الضعيف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، وإنما هو أغلبي، وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن قواعد علوم الحديث إنما هي أغلبية وليست مطردة، وهذا في كل العلوم حتى في علم الحديث وعلم الفقه، وعلم العربية، وعلم التفسير، وغير ذلك، إنما هي أغلبية لا مطردة، وهذا بمجموعها.
وقد يوجد الحديث ويكون منقطعاً وإسناده صحيح، كما يوجد المتصل ويكون ضعيفاً مع اتصاله وصحة رواته، والسبب في ذلك أن العلماء إنما ردوا الحديث المنقطع وجعلوه قسيماً للضعيف لوجود جهالة فيه.
إذاً: فالأصل في رد الحديث المنقطع هو الجهالة، والجهالة على ما تقدم على نوعين، جهالة عين وجهالة حال، وأشد أنواع الجهالة هي جهالة العين، فالانقطاع هو نوع من أنواع جهالة العين، وعلى هذا نقول: إن الأصل في الحديث المنقطع أنه مردود ما لم تنتفِ هذه الجهالة، وانتفاء هذه الجهالة يكون بحالين:
الحالة الأولى: أن تنتفي عيناً وتعرف عيناً.
والحالة الثانية : أن تنتفي عيناً وتعرف بلا عين. يعني: بلا تحديد، وإنما تعرف بالوصف بأنها ثقة أو نحو ذلك، وهذا مثاله ما يأتي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عبد الله بن مسعود، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه وهذا انقطاع، وجدت جهالة عين، ولكن أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يروي عن أبيه بواسطة أهل بيت أبيه، وأهل بيت أبيه هم أزواج عبد الله بن مسعود والقريبون منه من أبنائه، وكذلك أيضاً من كبار مواليه وهم ثقات.
ولهذا العلماء يقبلون رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، فهي جهالة عين من جهة الأصل، ولكنها زالت هذه الجهالة ولم تعرف عيناً، ولكنها عرفت وصفاً أنها ثقة، لكن لا نستطيع تحديدها؛ ولهذا يقبلونها، فتجد سائر الأئمة على قبول أمثال هذه الرواية.
ونظير هذا أيضاً رواية إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود، و إبراهيم النخعي لم يسمع من عبد الله بن مسعود شيئاً، وإنما يروي عن جماعة ولا يسميهم، ولهذا قد روى عنه الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا حدثتكم عن عبد الله بن مسعود وسميت رجلاً فهو عمن سميت، وإذا رويت عن عبد الله بن مسعود ولم أسم رجلاً فهو عن غير واحد، يعني: أروي عن جماعة فاستثقل ذكرهم جميعاً فأذكره عن عبد الله بن مسعود مباشرة، وأخبر بهذه القاعدة لديه.
إذاً: لا نستطيع تحديده عيناً، ولكن ارتفعت الجهالة لمعرفتنا بالوصف وهي الثقة والعدالة، فأصحاب عبد الله بن مسعود معروفون وهم ثقات، وعلى هذا نقول بصحة الرواية التي يرويها إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ولو كان منقطعاً، ومثل ذلك ما يرويه عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، وكذلك أيضاً التفسير الذي يرويه رواة التفسير عن مجاهد بن جبر كـابن أبي نجيح، وكذلك ليث وغيرهم، يروون التفسير عن مجاهد بن جبر، و مجاهد بن جبر لم يحدث بالتفسير كاملاً أحداً، وإنما هو كتاب، وكتابه هذا عند القاسم بن أبي بزة، فأخذوا عنه تفسيره من القاسم بن أبي بزة عن مجاهد بن جبر، فمن أخذ التفسير عن مجاهد هو من هذا الكتاب، هذه جهالة عين، وعرفت عيناً، ولهذا الانقطاع في ذلك مغتفر.
فالأمثلة السابقة هي لجهالة العين التي لم تعرف عيناً، والثانية إنما هي لجهالة العين التي عرفت عيناً.
ويلحق بهذا أيضاً في كلام بعضهم: ما يرويه طاوس بن كيسان عن معاذ بن جبل ؛ وذلك لأنه أعلم الناس وأبصرهم بالرواية عن معاذ بن جبل، وهو أيضاً من أعلم الناس بالفقه كونه يمانياً، و معاذ بن جبل مكث في اليمن ونشر الفقه هناك، فاعتنى به، ولهذا قد أخرج البخاري رحمه الله، أو علق البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح رواية طاوس عن معاذ بن جبل .
وكذلك أيضاً يلحق بهذا ما يرويه سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب، فالأصل في رواية سعيد بن المسيب عن عمر إرسال، والعلماء يتفقون على أن سعيد بن المسيب لم يسمع أكثر مرويه، وإنما اختلفوا في القليل هل سمع أم لا؟ وأكثر العلماء على أنه لم يسمع منه، وبعضهم أثبت السماع شيئاً يسيراً، والأئمة يقبلون روايته؛ لأنه أعلم الناس بفقه عمر وأدراهم بقضائه.
وقد كان عبد الله بن عمر وهو صحابي إذا جهل شيئاً من فقه أبيه بعث إلى سعيد بن المسيب يسأله عن ذلك، وهذا تعديل من صحابي لتابعي، ولهذا نقول: إن الانقطاع في ذلك مغتفر، ولو لم نعلم الجهالة بعينها، ولهذا نجد الإمام أحمد، و علي بن المديني، و البخاري، و الترمذي وغيرهم، يحتجون برواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب، حتى إن الإمام أحمد لما سئل -كما سأله أبو طالب - عن رواية سعيد بن المسيب عن عمر قال: إذا لم يقبل سعيد بن المسيب فمن يقبل؟! يعني: لعدالته، وكذلك أيضاً لأنه يتحرى في روايته، وهذا خاص برواية سعيد عن عمر وليست عامة بكل رواية لـسعيد في المرسلات، ولهذا أنكر علي بن المديني مرسل سعيد بن المسيب عن أبي بكر، فإذا أنكره عن أبي بكر فهو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد نكارة.
قال رحمه الله:
[ والمعضل الساقط منه اثنان ]
الإعضال: هو شدة المرض، ولهذا يقال: فلان فيه مرض عضال يعني: مرض شديد، ويقال: علة عضال، ومشكلة معضلة يعني: لشدتها، والمعضل هو ما سقط منه اثنان من الرواة، منهم من قيد ذلك بالتتابع بأن يكونوا في طبقة واحدة في موضع واحد، ومنهم من قال: سقط منه اثنان في طبقة بموضع واحد أو في غيرها؛ للاشتراك في قوة الانقطاع، ولهذا نقول: قد يكون المرسل معضل، وقد يكون المنقطع معضل، وقد يكون أيضاً المعلق معضلاً لتوفر الوصف فيه، فالإعضال هو سقوط اثنين، فإذا سقط من جهة المصنف فهو معلق ومعضل، وإذا سقط من جهة النبي عليه الصلاة والسلام.
فرواه تابعي، وغلب على الظن أن الذي أسقط تابعي وصحابي فهو معضل كذلك؛ لأنه سقط صحابي وتابعي من الرواية، كذلك أيضاً إذا سقطا من وسط الحديث كذلك، وإذا تفرقا أيضاً يدخل في هذا الأمر.
التدليس: هو ستر العيب، وإخفاؤه، وذلك بإظهار الحسن وإخفاء القبيح، والمراد في ذلك هنا أن يظهر الراوي من حديثه السماع أو ما يفهم منه السماع، ويبطن ويخفي الانقطاع، ولهذا ذكر المصنف رحمه الله هنا التدليس في سياق الانقطاع، قال: (وما أتى مدلساً نوعان)، التدليس على نوعين.
قال رحمه الله: [ وما أتى مدلساً نوعان:
الأول الإسقاط للشيخ وأنينقل عمن فوقه بعن وأن
والثاني لا يسقطه ولكن يصفأوصافه بما به لا ينعرف ]
وقد اهتم به العلماء قديماً، وحذروا منه وبالغوا في ذلك؛ لأنه إخفاء علة، والعلة الظاهرة من العلل في الحديث هي أيسر من جهة النظر من التدليس؛ لأن العلة الظاهرة مأمونة فيعرفها المتمرس وغير المتمرس لظهورها، بخلاف العلة الخفية في ذلك الذي يتعمد في إخفائها، فهذه تمرر حديثاً في صورة الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو خطأ، وهذا فيه تمرير للحديث بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يشدد العلماء عليهم رحمة الله في هذا، حتى إن شعبة بن الحجاج يقول: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلس، يعني: لأني إذا دلست كذبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة أمره وخطورة أثره على الدين؛ لأنه يلزم من ذلك محاولة ستر عيب الحديث ليصح الحديث ويؤخذ به ويعمل؛ لأن الأحاديث الضعيفة إذا ستر العيب فيها يتعبد الناس فيها ويتدين، وربما كانت في الحدود وأقيمت فيها الحدود، وربما كانت في المواريث وقسمت أموال وأخذت أموال لأجلها وسلبت في ذلك حقوق.
فإذاً: يلزم من ذلك ابتداع، ويلزم من ذلك ظلم للناس إما في أبشارهم، وإما في دمائهم، وإما في أعراضهم، فعظم في ذلك لعظم الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وصنف العلماء عليهم رحمة الله في أبواب التدليس مصنفات، منهم من صنف في ذكر المدلسين وأحوالهم، فصنف في ذلك الإمام النسائي رحمه الله، ومنهم من صنف في ذلك نظماً في ذكر المدلسين على اختلاف أنواعهم، فللعلماء جملة من المصنفات بين منظوم ومنثور، صنف في ذلك النسائي على ما تقدم، و السيوطي، وكذلك السخاوي، وكذلك أيضاً السبكي عليهم رحمة الله جميعاً، صنفوا في هذا الباب، في أبواب التدليس.
النوع الأول قال: (الأول الإسقاط للشيخ وأن ينقل عمن فوقه بعن وأن)، يعني: أن الراوي أسقط شيخه الذي يحدث عنه؛ لأنه لو ذكره لم يحتج به لضعفه، ويروي عمن بعده بعن وأن، وإنما قال بعن وأن؛ لأنه لو قال: حدثنا وأخبرنا لكان كاذباً، والكذب في ذلك ترد به رواية الراوي في هذا الموضع وغيره، بخلاف المدلس، فإنه ترد روايته فيما دلس فيه، وتقبل فيما لم يدلس فيه؛ لأن ذلك تدليس وإخفاء متأول بخلاف الكذب الصريح.
وهنا في قوله: (الإسقاط للشيخ وأن ينقل عمن فوقه بعن وأن)، إنما ذكر الشيخ، ولم يذكر الشيخ وشيخ شيخه؛ لأنه يخرج من كونه تدليساً لوضوحه وجلائه، ولا يستطيع الإنسان حينئذٍ أن يخفيه بعن وأن؛ لأنه واضح أنه لم يروِ عنه، ولهذا العلماء يقولون: إن التدليس ما يكون في ظاهره الاتصال وباطنه الانقطاع، وأما الانقطاع البيّن الذي يروي راوٍ عن راوٍ لم يدركه ولم يسمع منه، فهذا انقطاع عند العلماء عليهم رحمة الله، فلا يدخلونه في دائرة التدليس لوضوحه، فيسمى تدليساً؛ لأنه يمكن ستره، وهذا لا يمكن ستره لوضوحه وجلائه، ولو كان كل إسقاط في ذلك هو تحديث الراوي عن غير شيخه لدخل في هذا سائر أنواع الانقطاع، فيدخل في هذا المرسل والمعضل والمعلق، ولكنهم يجعلون ذلك فيما قرب من جهة الزمن وخفي من جهة العلة، وباطنه انقطاع، فيسقط الراوي شيخه لضعفه، ويروي عن شيخ شيخه وظاهره أنه سمع منه، فربما أدركه زماناً أو ساكنه مكاناً فكان في بلده، أو التقى معه ولو في موضع عارض في موسم حج أو نحو ذلك، أو في قتال في جهاد في غزوة أو نحو ذلك، فيحتمل أنه سمع منه ولم يسمع منه.
يقول هنا: (ينقل عمن فوقه بعن وأن)، يعني: عمن فوق الشيخ.
نقول: إن أشد أنواع التدليس أن يروي الراوي عن شيخ أدركه، وسمع منه ما لم يسمعه منه، وإثبات هذا شاق؛ لأنه أدرك الشيخ وسمع منه، لكن هذه الرواية ما سمعها، فقال عن ولم يقل حدثنا، ويليه بعد ذلك أن يروي عن شيخ أدركه ولم يسمع منه شيئاً، فهذا أقرب إلى المعرفة من النوع الأول، وبعد ذلك أن يروي عن شيخ لم يدركه ولم يسمع منه، ويكون الخفاء في ذلك هو في تقارب أو ضعف الزمن الذي بينهما، ويشتد في ذلك الأمر إذا جهل وفاة شيخ، وجهل مولد التلميذ، فهذا يوقع في شيء من الإشكال، وخفي كذلك العمر، فلا يعرف عمره حتى يضبط ذلك، فإنه إذا عرف العمر، وعرف أحد الأمرين الميلاد أو الوفاة، فإنه يعرف الباقي منهما للزومه.
والثاني يقول: (لا يسقطه، لكن يصف أوصافه بما به لا ينعرف)، يعني: يذكر الراوي لكن يكنيه، فيقول مثلاً عن أبي مريم، أو عن أبي قتادة أو نحو ذلك، ولا يذكر اسمه المعتاد، فيريد بذلك أن يخرجه من دائرة شدة الضعف إلى دائرة الجهالة وخفاء حاله، وهذا أيضاً مردود.
وما الحكم في الحديث المدلس؟ نقول: الحديث المدلس الأصل فيه الرد إذا كان الذي دلسه يوجب الضعف والرد، وأما إذا عرف الواسطة في الحديث الذي دلسه، وجاء متابع له من وجه آخر، فإنه حينئذٍ يقبل إذا كان ذلك يمكن معه الاعتضاد على طريقة المحدثين.
وأما بالنسبة للمدلس فنقول: إن المدلس في ذلك على أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون مكثراً من التدليس، فهذا الأصل عدم قبول روايته؛ لأنه ليس بمأمون، فمن أكثر من التدليس بالنسبة لروايته، فهذا لا يقبل حديثه الذي عنعن فيه ولو عن شيخ سمعه ما لم يصرح بالسماع.
الثاني: من كان مقلاً من التدليس، فهذا الأصل في روايته القبول، ولا يرد كثير حديثه بقليل تدليسه، وذلك كرواية المغيرة عن إبراهيم النخعي، فـإبراهيم النخعي هو مكثر، وروايته عن إبراهيم النخعي كثيرة، وله تدليس عنه، ومن العلماء من يصفه بالكثرة كـابن حجر رحمه الله، ومنهم من يقول: إن حديثه عن إبراهيم كثير، ولو كان تدليسه عنه يوصف بالكثرة إلا أنه دون كثرة حديثه من جهة الرواية.
والثالث: من كان متوسطاً في التدليس، فيقال: إن الأصل في ذلك رد روايته فيما يعنعن به عمَّن يدلس عنه عادة، وذلك لعدم تمييز ذلك، فيلحق في الأول احتياطاً.
وثمة أيضاً أمر مهم في جانب التدليس، وهو أنه ينبغي لطالب العلم في أبواب التدليس أن يهتم بجملة من المسائل:
أول هذه المسائل: أن يعرف نوع التدليس الذي يوصف به الراوي عند الوقوف عليه، ومعنى هذا أن الراوي من الرواة قد يوصف بأنه مدلس ووجد في الإسناد، فلا بد من معرفة نوع التدليس الذي وصف به، فربما يدلس عن شيخ بعينه لا يخرج عنه، وذلك كتدليس الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، فهو يدلس عن الأوزاعي وتدليسه عن غيره نادر أو معدوم، فإذا روى حديثاً عن غيره، فهو يختلف من جهة روايته وتدليسه عن الأوزاعي في هذا.
كذلك أيضاً أن يعرف نوع التدليس، فربما يدلس بنوع لا يدلس به غيره، مثال ذلك: الحسن البصري وصف بالتدليس، ولكن التدليس الذي وصف به أنه يروي عن صحابة لم يدركهم، وهو تابعي، فهو يروي عن صحابة، لكن صحابة لم يدركهم.
إذاً: إذا روى عن تابعي من التابعين وعنعن، فلا ترد روايته؛ لأننا عرفنا النوع الذي وقع فيه، ووصفه الأئمة به، ولهذا نرد عنعنة الحسن إذا حدث عن الصحابة فيمن لم يسمع منهم، ولا نرد عنعنته عن التابعين مطلقاً إلا إذا ثبت خلاف ذلك؛ لأن عنعنته إنما هي عن الصحابة ترد لا عن التابعين، ولهذا لا بد من معرفة النوع، فالعلماء في مصنفاتهم يجملون بوصف الراوي بالتدليس، وقلما يذكرون نوع تدليسه، فيقولون: فلان مدلس، ولا يذكرون نوع تدليسه، فعلى طالب العلم أن يمحص ذلك بالرجوع إلى الأصول، والأصول في هذا هي الكتب التي اعتنت بالحكم على الرواة من الكتب المتقدمة ككتب التاريخ، مثلاً لـابن أبي خيثمة وكتب التاريخ لـابن معين والتاريخ لـيعقوب بن شيبة و ابن سفيان، وكذلك أيضاً التاريخ للبخاري، والجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، وما جاء عن الإمام أحمد من الروايات وكذلك أيضاً في المسائل والعلل، وما جاء عن الدارقطني وعن أبي حاتم من كتب الجرح والتعديل والعلل، وغير ذلك من المصنفات الأصلية.
إذاً يعرف بتتبع هذا الوصف وهل قيدوه بقيد، وما هو النوع الذي وقع فيه؟ لأن التدليس له أنواع، فربما وقع طالب العلم في رد رواية راوٍ وصف بالتدليس، فيرد روايته مطلقاً ويهدرها، وهو إنما وقع في نوع واحد من التدليس، وذلك مثلاً كـمحمد بن مسلم بن تدرس، وهو أبو الزبير يروي عن جابر بن عبد الله، وصف بالتدليس، ولكن تدليسه الذي وصف به، إنما هو عن جابر بن عبد الله، لا يعرف بالتدليس عن غيره، ثم أيضاً إن تدليسه عن جابر بن عبد الله نادر، وربما ينفى لقلته وندرته، وعدم ثبوت رواية بعينها أنه دلس فيها، وعلى هذا ليس لنا أن نرد روايته مطلقاً فيما يحدث به عن الشيوخ، ولم يصرح بالسماع.
إذاً نقول: كيف يعرف بأن الراوي مدلس؟ يعرف تدليس الراوي بأمور:
أولها: ذكر الأئمة له أنه دلس حديثاً، أو أنه يدلس في روايته.
الثاني: بالبحث والنظر، وذلك مثلاً بتتبع الحديث، فيعرف أنه ذكر في موضع عن شيخ، ولم يصرح بالسماع، ثم جاء ذكره في موضع آخر، يعني: أنه دلسه في هذا الموضع، وهذا من قرائن التدليس.
قال رحمه الله:
[ وما يخالف ثقة به الملأ فالشاذ ...].
ذكر هنا مسألتين: مسألة الشاذ والمقلوب.
يقول:
(وما يخالف ثقة به الملأ فالشاذ)
مخالفة الثقة للملأ يعني: الجماعة ينتج عنها الشاذ، هنا قيد الشاذ بمخالفة الثقة للجماعة، لكن قد يخالف الثقة من هو أوثق منه وليسوا جماعة بل واحد، فيوصف بالشذوذ، ولهذا نقول: إن الشذوذ هو من جهة الأصل الخروج عن الجماعة، أو الخروج عمن هو أقوى منه في علم الحديث، فإذا خالف الراوي الثقة من هو أوثق منه، أو خالف الراوي من هم أكثر منه، فهذا شذوذ، وبعض العلماء يسمي الحديث الذي يتفرد به الراوي، ولو لم يخالف غيره في الرواية، فلم يروِ إلا من طريقه يسميه الشاذ؛ لأنه تفرد بالمعنى، فترك العلماء الحديث وأخذه، وكأنه خالفهم بالرواية وخالفوه بالترك.
والشاذ يختلف العلماء في تقييده وضبطه، فالعلماء يتوسعون في هذا الأمر، ثم أيضاً إنه من جهة الاصطلاح استعمال الشاذ عند المتقدمين نادر بالوضع الاصطلاحي، وإنما عندهم استعمال الشاذ فيما هو أعم من ذلك، وهو شبيه بالمنكر والغريب والفرد، ومخالفة الثقة لمن هو أوثق منه وأكثر عدداً والأصل فيها الرد.
وهنا مسألة في زيادة الثقة، إذا زاد الراوي زيادة في الحديث على غيره، فهل تقبل أو لا تقبل؟ نقول: الأصل في زيادة الراوي الثقة الخلاف.
من العلماء من قال بالقبول المطلق، ومنهم من قال بالقبول إذا لم تخالف، يعني: لم تخالف غيره، والصواب في ذلك أنه ليس ثمة جادة لزيادة الثقة، وإنما هي قرائن متعددة بها تقبل زيادة الراوي وبها لا تقبل، فالقرائن في زيادة الثقة متعددة، فمن هذه القرائن:
أولها: أن ينظر إلى ثقة الراوي الذي زادها، هل هو أوثق من ذلك الراوي الذي خالفه أم لا؟
الثاني: أن يخالف الراوي من هم أكثر منه عدداً، فربما يخالف ثقة واحد مجموعة يساوونه، الواحد منهم ليس بأوثق منه، ولكن يساوونه من جهة الثقة والعدالة منفردين، وهم أكثر منه عدداً هذا قرينة على الرد.
الثالث: الاختصاص، الراوي قد يكون مختصاً بالشيخ، لكنه ليس بأوثق من غيره، فإذا زاد في حديثه عنه زيادة أكثر من غيره، فحينئذٍ نقدمه على غيره، ما لم يكثروا كثرة بوفرة، حينئذٍ يقدمون في ذلك عليه.
كذلك أيضاً من القرائن في زيادة الثقة أنه كلما تقدم طبقة الراوي الثقة قبلت زيادته وتفرده في ذلك، وكلما تأخر ردت زيادته وتفرده في ذلك، هذه من القرائن، والقرائن في ذلك متعددة، وقد ذكرناها بأسهل من هذا في موضع آخر، والأمثلة على زيادة الثقة كثيرة من ذلك زيادة في أنه صلى الله عليه وسلم كان ( يعقد التسبيح بيمينه )، فذكر اليمين غير محفوظ، الصواب أنه كان ( يعقد التسبيح بيده )، وقد تفرد بها ابن قدامة، وخالف في ذلك أكثر من عشرة رواة.
يقول رحمه الله: [ والمقلوب قسمان تلا:
إبدال راوٍ ما براوٍ قسموقلب إسناد لمتن قسم ]
يقول: (والمقلوب قسمان تلا)، المسألة الثانية في المقلوب: والمقلوب من القلب وهو وضع الشيء في غير موضعه، ووضع غيره في موضعه، ويقول:
(قسمان: إبدال راوٍ ما براو ٍقسموقلب إسناد لمتن قسم)
وذكر القلب في الإسناد والقلب في المتن، وقلب الإسناد هو إبدال راوٍ براوٍ وهما، إما بتقديم أو تأخير في إسناد واحد، أو وضع راوٍ لا يوجد في الحديث في هذا الموضع وهماً، أو وضع الإسناد لمتن غير متنه، وهذا أيضاً من وجوه الإعلال والرد، فتعاد الأحاديث إلى صوابها، ووجهها.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح المنظومة البيقونية [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net